الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم إن لدخول الكلمات المعربة من (1) اللغات غير العربية أثرًا قويًّا في إيجاد المترادف في العربية، مثل الإستبرق والقسطاس.
مذاهب العلماء في إثبات المترادف:
الآن تعلمُ أنه قد ذهب جماعةٌ إلى إنكارِ وقوع المترادف في العربية، قال بذلك ابنُ الأعرابي، وأحمد بن يحيى ثعلب، وتلميذُه أحمد بن فارس. قال ابن الأعرابي:
"كلُّ حرفين أوقعَتْهما العربُ على معنى واحد في كل واحد منهما معنًى ليس في صاحبه، ربما عرفناه [فأخبرنا به]، وربما خفيَ علينا، فلم نُلزم العربَ جهلَه"(2).
وقال ابن فارس: "ويُسمَّى الشيءُ الواحد بالأسماء المختلفة، نحو السيف والمهند والحسام. والذي نقوله في هذا: إن الاسم واحد وهو السيف، وما بعده من الألفاظ صفات. ومذهبنا أن كلَّ صفة معناها غير معنى الأخرى. وقد خالف في ذلك أقوامٌ فزعموا أنها وإن اختلفت ألفاظها، فإنها ترجع إلى معنى واحد؛ وذلك قولنا: سيف وعَضب وحسام. وقال آخرون: ليس منها اسم ولا صفة إلا ومعناه غير الآخر. قالوا: وكذلك الأفعال، نحو مضى وذهب وانطلق، وقعد وجلس، ورقد ونام وهجع. قالوا: ففي قعد معنى ليس في جلس، وكذلك القول فيما سواه. وبهذا نقول، وهو مذهبُ شيخنا أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب". (3)
= شعر أمية بن أبي الصلت"، التجديد (مجلة نصف سنوية محكمة تصدر عن الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا)، المجلد 11، العدد 22، ص 169 - 202.
(1)
في الأصل "في"، والأولى ما أثبتناه.
(2)
وقال: "الأسماء كلها لعلة خصت العربُ ما خصت منها من العلل، (منها) ما نعلمه ومنها ما نجهله". الأنباري، محمد بن القاسم بن بشار: الأَضداد في اللغة، تحقيق محمد عبد القادر سعيد الرافعي (القاهرة: المطبعة الحسينية، 1955)، ص 6 - 7. وما بين معقوفتين لم يذكره المصنف. أما عبارة "منها" في كلام ابن الأعرابي الذي سقناه في الحاشية فزيادة اقتضاها السياق.
(3)
ابن زكريا: الصاحبي في فقه اللغة العربية، ص 59 (باب الأسماء كيف تقع على المسميات). وقد أورد المصنف كلام ابن فارس باختصار وسقناه كاملًا.
ويظهر أن أبا علي الفارسي يميل إلى هذا؛ قال ابن العربي في "أحكام القرآن" في سورة الأعراف (1):
"أخبرنا [. . .] أبو المظفر محمد بن العباس لفظًا، قال: سمعت الأستاذ المُعظَّم عبد القاهر الجرجاني يقول: كنت بمجلس سيف الدولة بحلب، وبالحضرة جماعةٌ من أهل المعرفة فيهم ابن خالَوَيه، فقال ابن خالويه: أحفظ للسيف خمسين اسْمًا، فتبسم أبو علي وقال: ما أحفظ له إلا اسْمًا واحدًا، وهو السيف! فقال ابن خالويه: فأين المهند؟ وأين الصارم؟ وأين الرَّسُوب؟ وأين المِخْذَم؟ وجعل يعدِّد، فقال أبو علي: هذه صفات، وكأن الشيخ لا يفرق بين الاسم والصفة". (2)
وربما احتجوا بما وقع في الكلام من عطف أحد المترادفين على الآخر، نحو قول عدي بن زيد:"وألفى قولها كذبًا ومينًا"(3)، قائلين: إن العطفَ دليلٌ على المغايرة بين المتعاطفين، وسنتعرض له.
(1) ص 330 طبع السعادة.
(2)
ابن العربي، أبو بكر: أحكام القرآن، ج 2، ص 272 (وقد ساق المصنف كلامَ ابن العربي بتصرف يسير). وانظر السيوطي: المزهر، ج 1، ص 318. هذا ومع ما أُثر عن أبي علي الفارسي مما يفيد ظاهره إنكار الترادف، إلا أن تلميذه ابن جني قد أثبت أنه من القائلين به حيث قال "باب في تلاقي المعاني على اختلاف الأصول والمباني" من الخصائص: "وكان أبو علي رحمه الله يستحسن هذا الموضع جدًّا، وينبه عليه، ويُسَرُّ بما يُحضره خاطره منه"، ثم ذكر نماذج مما كان شيخه يمثل له من باب الترادف: "وقال أبو علي رحمه الله: قيل له حبِيٌّ كما قيل له سحاب، تفسيره أن حبيًّا فعيل من حبا يحبو، وكان السحاب لثقله يحبو حبوًا، كما قيل له سحاب وهو فعَال من سحب؛ لأنه يسحب أهدابه، وقد جاء بكليهما شعرُ العرب". أما ابن جني فقد عد الترادف ميزةً للعربية تشرف بها فخصه بباب "في تلاقي المعاني على اختلاف الأصول والمباني" وصفه بقوله: "هذا فصلٌ من العربية حسن، كثير المنفعة، قوي الدلالة على شرف هذه اللغة". ابن جني: الخصائص، ج 1، ص 474.
(3)
من شعر قاله عدي بن زيد العبادي تصويرًا للقصة المشهورة للزباء ملكة الجزيرة في شمال العراق، التي سعى عمرو بن عدي لقتلها انتقامًا لخاله جذيمة الأبرش الذي قيل إن الزباء غدرت به فقتلته. وعندما وصل إليها عمرو بعد ضروب من التحيل والمتاعب وأوشك على النيل منها، سَمَّتْ نفسَها وقالت قولتها المشهورة:"بيدي لا بيد عمرو". وصدر البيت الذي ذكر المصنف مصراعه الثاني: "وقددت الأديم لراهشيه". أما القصيدة فأولها: =
وعندي أن الذي جر المنكرين إلى إنكاره أمران: أحدُهما أنهم خالوا المترادفَ منافيًا لحكمة الواضع؛ لأنه تحصيلُ حاصل. والثاني ما وجدوه في مترادفات كثيرة مشتقة مع الاختلاف في موادّ اشتقاقها اختلافًا يؤذن باختلاف مدلولاتها، مثل الصارم، والفَيصل، والحُسام، المشتقة من الصِّرم، والفَصْل، والحسْم. وهذا الثاني هو الذي يرمى إليه كلامُ أبي علي الفارسي في مناظرته مع ابن خالويه (1).
وكشفُ شبهتهم أن نقول: أما منافاتُه للحكمة فممنوعة؛ لأن حكمةَ وضع اللغة المتسعة ليست منحصرةً في الإبانة، بل له حكمةٌ أخرى وهي قصدُ التوسع في الكلام، كما قال قطرب (2)، وإيجاد مادة لأدب تلك اللغة. وإن منكري الترادف لمَّا قَصَروا نظرَهم على التوجه نحو حكمة الوضع من جهة حصول الإبانة فقط قد غبنوا العربيةَ حقَّها من الشرف إذ نزّلوها بمنزلة اللغات الساذجة التي قصاراها الدلالةُ على بسيط المعاني الجائشة بالنفس. وليس كذلك معظمُ همِّ اللغات الكبرى، فإنها يُقصد منها أن تكون صالِحةً لأَنْ يتملك المتكلمُ بها مشاعرَ السامع في حال الشعر، والخطابة، والمراسلة، والملح. وإن العربية سيدةُ اللغات، فوجب أن يكون لها
= أَبُدِّلَتِ المَنَازِلُ أَمْ عُنِينَا
…
بِقَادِمِ عَهْدِهِنَّ فَقَدْ بُلِينَا
وآخرها:
وَلَمْ أَجِدِ الفَتَى يَلْهُو بِشَيْءٍ
…
وَلَوْ أَثْرَى وَلَوْ ولد البَنِينَا
العباسي، عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن أحمد: كتاب شرح شواهد التلخيص المسمى معاهد التنصيص (القاهرة: المطبعة البهية المصرية، 1316 هـ)، ج 1، ص 104 - 106.
(1)
سبق توثيقها.
(2)
قال أبو علي قطرب بعد أن ذكر الوجه الأول من الأوجه الثلاثة التي يأتي عليها الكلام في ألفاظ العربية: "والوجه الثاني اختلاف اللفظين والمعنى متفق واحد، وذلك مثل: عَيْر وحمار، وذئب وسيد، وسمسم وثعلب، وأتى وجاء، وجلس وقعد. اللفظان مختلفان والمعنى واحد، وكأنهم إنما أرادوا باختلاف اللفظين - وإن كان واحد مجزيًا - أن يوسعوا في كلامهم وألفاظهم، كما زاحفوا في أشعارهم ليتوسعوا في أبنيتها ولا يلزموا أمرًا واحدًا". قطرب، أبو علي محمد بن المستنير: كتاب الأضداد، تحقيق حنا حداد (الرياض: دار العلوم للطباعة والنشر، ط 1، 1405/ 1984)، ص 69.
من الثروة، ووسائل الوفاء بآثار تفكير أهلها، وبمقتضيات أحوال الفصاحة والبلاغة في تلك المقامات، أعظمُ حظٍّ وأوفرُه.
ولوجود المترادف عونٌ كبير على الوفاء بذلك الغرض الشريف؛ إذ به يتمكن الخطيبُ من استرساله في ارتجاله، والشاعر من التعجل بإقامة ميزان شعره وتسديد قوافيه، والأديب من مراعاة التفنن اللفظي في مجانسة الكلام ومجانبة ثِقَل إعادة الألفاظ إن هو لُزّ إلى إعادة القول في غرضه، والمراسل كذلك في رسائله، وصاحب المُلَح إليه أحوج. وسأبسط ذلك في المبحث الرابع.
على أنا نعود هنا إلى ما قدمناه في بيان معنى الوضع، فننفي أن يكون ثمة واضعٌ يوصف بالحكمة، ويُحسب عليه الإخلال بها. فإن المتكلمين باللغة إذا تناقلوا استعمالَ بعضهم بعضًا طفحت عليهم اللغات، فيتكون المترادفُ بلا رغم منهم، ثم ينتفعون به.
بيد أن هذا التوجيه وإن كان يدفع النكد عن الواضع، فهو يناكدُ اعتبارَ الوصف الذي لاحظه أبو علي الفارسي ومنكرو المترادف. فوجب السعيُ إلى الاعتراف بأن بعضَ ما يُتوهَّم أنه من المترادف هو غيرُ مترادف، بل هو من الأسماء التي حصلت دلالتُها على معان واحدة باعتبار المآل، فرجع إلى ما أخرجناه من ماهية المترادف عند الكلام على حده بقولي:"وظهر أن ليس من المترادف. . ." إلخ، وأن أهل اللغة تساهلوا في كثير من المفردات بعدِّها من المترادف، وما هي منه على التحقيق. ووجب الاعترافُ بتزييف معظم ما زعمه مُنْكِرُو الترادفِ وأبو علي الفارسي من كون المترادفات مشتملًا بعضها على قيود واعتباراتٍ غير مشتمل البعض الآخر عليها؛ فإني أراها دعوى عريضة.
وأما احتجاجُهم بعطف أحد المترادفين على الآخر فلا حجةَ فيه؛ لأنه من النادر، وهو من أفانين البديع في الكلام، بتخييل معنى التوكيد اللفظي في خيال معنى التأسيس، تنزيلًا له منزلةَ إجراء وصفٍ ثان، ليشير المتكلمُ إلى أن الوصف بلغ من
الشدة في الموصوف مبلغَ إنشاء وصف ثان عنه. ونظيرُه عطفُ المركَّب أو الجملة على معطوف قد أفاد معنى المعطوف عليه دون زيادة، مثل قوله تعالى:{قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)} [الأنعام: 140]، وقول الأعشى:"إِمَّا تَرَيْنَا حُفَاةً لَا نِعَالَ لَنَا"(1).
وأما وجودُ مترادفاتٍ مُؤْذِنةٍ بأوصاف، فلا يقضي بإنكار الترادف من أصله؛ إذ غايةُ ما يقتضي أن يُحَرَّرَ الخلافُ في ثلة من المترادفات، لا بإنكار الترادف كله، إذ لا محيصَ من الاعتراف بأن الجوامدَ الواقعة على معنى واحد هي مترادفة، كالخمر والعُقار، وبأن المشتقات التي أُجرِيت مجرى الأسماء بغلبة الاستعمال صارت في حكم الجوامد، بقطع النظر عن أصل الاشتقاق. فإن الحسام والصارم والفيصل، وإن كانت أسماء مشتقةً من أوصاف، وكانت في الأصل جاريةً مجرى الأوصاف للسيف باعتبار المعاني المشتقة هي منها، فإنه لما كثر ذكرُها بدون موصوفاتها لتعين الموصوف بذكر وصفه نظير وصفه، نظير قوله تعالى:{وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13)} [القمر: 13]، استُغنِيَ بذكرها عن ذكر موصوفها حتى ساوته في الاستعمال، فعوملت معاملةَ الجوامد، فصارت مترادفاتٍ بالاستعمال.
وبعضُ هذا النوع أقربُ إلى التوصيف من بعض، وبعضه لم يبلغ مبلغ الأسماء، ألا ترى أن إطلاق المشرفي والمهند على السيف أقرب إلى اعتبار التوصيف فيه من إطلاق نحو الحسام والصارم. ألا ترى أنهم أطلقوا على السيف اسْمًا مركَّبًا
(1) وتمام البيت:
إِمَّا تَرَيْنَا حُفَاةً لَا نِعَالَ لَنَا
…
إِنَّا كَذَلِكَ مَا نَحْفَى وَنَنْتَعِلُ
هذا وليس في صدر البيت عطف، وإن كان قوله:"حفاة" يرادف قوله: "لا نعال لنا". لكن العطف في الشطر الثاني الذي لم يذكره؛ فإن قوله: "وننتعل" يرادف "ما نحفى". والبيت من المعلقة الأولَى للأعشى، التي طالعها:
وَدِّعْ هُرَيْرَةَ إِنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ
…
وَهَلْ تُطِيقُ وَدَاعًا أَيُّهَا الرَّجُلُ
ديوان الأعشى، نشرة عطوي، ص 19؛ ديوان الأعشى الكبير ميمون بن قيس، نشرة حسين، ص 59.
من موصول وصلته في حكم الوصف ولم يجروه على موصوفه؟ ولكنه لم يشتهر بينهم، وذلك في قولهم:"ما ضُمَّتْ عليه الأنامل"، كما في قول النابغة:"وَمَهْرِي وَمَا ضَمَّتْ لَدَيَّ الأَنَامِلُ". (1) وأطلقوا عليه ذا رونق في قول أبي ذؤيب:
فَكِلَاهُمَا مُتَقَلِّدٌ ذَا رَوْنَقٍ
…
صَافٍ إذا مَسَّ الأَيَابِسَ يَقْطَعُ (2)
ولكنه لم يشتهر، فلم يصر مرادفًا للسيف.
وإن الأسماءَ المنقولةَ من المنسوب أدلُّ على سبق الوصفية فيها كقولهم: مشرفي للسيف، وقولهم: رُدَيْني، وخطيّ، وسَمْهَرى، ويَزَنِيّ للرمح، وقولهم: تُبَّعِيّة للدرع، وقولهم: صَرْخَدِيّ وبَابِليَّ للخمر، حتى أصبح لا يطلق المشرفي بدون موصوف إلا على السيف، ولا يُطلق البَابليُّ - مثلًا - بدون موصوف إلا على الخمر، فإذا أردتَ غير الخمر قلت: سحرٌ بابلي، أو رجل بابلي.
وقد يُخرج العربُ الوصفَ عن الوصفية إلى اللقبية، أي إلى اعتباره لقبًا، وما يزالون يتعاهدون الوصفية. وهذا مثلُ إطلاق الليث صفةً بمعنى الوثاب، ولذلك
(1) وتمام البيت:
وَأَنَّ تِلَادِي إِنْ ذَكَرْتُ وَشِكَّتِي
…
وَمُهْرِى وَمَا ضَمَّتْ لَدَيَّ الأَنَامِلُ
ديوان النابغة الذبياني، ص 119 (نشرة محمد أبو الفضل إبراهيم) وص 188 (نشرة ابن عاشور). والبيت من قصيدة قالها النابغة يرثي النعمان بن الحارث بن أبي شمر الغساني.
(2)
ديوان الهذليين، تحقيق أحمد الزين (القاهرة: مطبعة دار الكتب المصرية، 1995)، ج 1، ص 20.
ولفظه فيه بلفظ:
وَكِلَاهُمَا مُتَوَشِّجٌ ذَا رَوْنَقٍ
…
عَضْبًا إِذَا مَسَّ الضَّرِيبَةَ يَقْطَعُ
كما جاء بلفظ "الكريهة" بدل "الضريبة" في رواية السكري. السكري، أبو سعيد الحسن بن الحسين: شرح أشعار الهذليين، نشرة بعناية خالد عبد الغني محفوظ (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1427/ 2006)، ج 1، ص 36. وانظره كذلك في: الضبي، أبو العباس المفضل بن محمد: المفضليات، تحقيق عمر فاروق الطباع (بيروت: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم، ط 1، 1419/ 1998)، ص 419.