الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللفظ المشترك في اللغة العربية
(1)
مفرداتُ اللغة العربية، إذا قسناها إلى المعانِي الموضوعة هي لها من حيث كميةُ معاني اللفظ أو ألفاظ المعنى، ثلاثةُ أنواع: مختص ومشترك ومترادف. فالمختص اللفظُ الواحد الدالُّ على معنى لا يدلّ على غيره، ولا يدلُّ غيرُه عليه. والمشتركُ اللفظُ الدالُّ على معنيين فصاعدًا، مستقلٍّ كلُّ معنى منها عن الآخر (يخرج الدال على معنى مركب مثل الرسْف). والمترادف اللفظُ الدالُّ على معنى له لفظٌ آخر يدل عليه (ونعني باللفظ الحروف المخصوصة المحركة بحركات مخصوصة).
فالنوع الأول جارٍ على الغرض الذي وُضعت له اللغة. والنوع الثالث توسعٌ في اللغة نفع أهلَ الشعر والخطابة في ارتجال الكلام، وتسهيل القافية، والسلامة من العِيِّ والإرتاج (الرّتج)(2)، ولعله أن ينفعنا في النهوض باللغة العربية، ولنا في البحث عن أحواله وغاياته فرصةٌ أخرى (3).
والنوع الثاني هو أغربُ الأنواع وقوعًا في اللغة، فهو هدفُ بحثنا اليوم. وهو أن يكون اللفظُ دالًّا على معانٍ متعددة مستقلة دلالةً أولية، أي غير محتاجةٍ إلى تطلُّب علاقةٍ ولا إلى نصب قرينة، سواءً أكان اسْمًا أو فعلًا أو حرف. وذلك مثل العين
(1) نُشر هذا المقال منجَّمًا في الهداية الإسلامية في المجلد 6، الجزء 5، ذو القعدة 1352 هـ (ص 302 - 311)؛ والجزء 6، ذوالحجة 1352 هـ (ص 354 - 361). (وأصلهُ - كما ذكر محرر المجلة - محاضرةٌ ألقاها المصنف في "مؤتمر اللغة والآداب العربية" الذي انعقد بتونس سنة 1350 هـ).
(2)
الإرتاج من أُرتِج عليه، أي استُغلِق عليه الكلام، مأخوذ من رَتَج الباب وأرتجه: أحكم إغلاقه. والرِّتاج: الباب.
(3)
انظر البحث الآتي بعنوان "اللفظ المترادف في اللغة العربية".
للباصرة، والنابعة بالماء، وسيد القوم، وعينُ المال (الذهب والفضة). ومثل الخال لأخي الأم وللظن، قال الشاعر:"وإن كنت للخال فاذهب فخل"(1). ومثل الجد لأبي الأب، وللحظ والبخت. ومثل قضى بمعنى حكم، وبمعنى دفع الدين، وبمعنى مات. ومثل مَنْ للابتداء وللتبعيض وللتقليل، وإن للتأكيد والجواب، ومتى للاستفهام وبمعنى مَنْ الابتدائية. وأعجبُهُ ما كان منه دالًّا على شيئين متضادَّيْن (2)، مثل الجون للأبيض والأسود، والجل للأمر العظيم والأمر الحقير، والسدفة للظلمة والضياء، والتلعة للمرتفع من الأرض والمنخفض.
(1) هذا عجز البيت، وتمامه:
فَإِنْ كُنْتَ سَيِّدَنَا سُدْتَنَا
…
وَإِنْ كُنْتَ لِلْخَالِ فَاذْهَبْ فَخَلْ
والبيت هو الرابع والأخير من مقطوعة أوردها أبو تمام في الحماسة ولم ينسبها لأحد، ولم يخرجها شارحاه أبو علي المرزوقي والخطيب التبريزي. وقد قُرئت خاء (فَخَلْ) بالفتح والضم، وأما اللام فهي ساكنة. المرزوقي، أبو علي أحمد بن محمد بن الحسن: شرح ديوان الحماسة، تحقيق عبد السلام هارون (القاهرة: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1371/ 1951)، ج 1، ص 251 - 252 (الحماسية 67)؛ الخطيب التبريزي، أبو زكريا يحيى بن علي بن محمد بن حسن بن بسطام الشيباني: شرح ديوان الحماسة لأبي تمام، نشرة بعناية غريد الشيخ وأحمد شمس الدين (بيروت: دار الكتب العلمية، 1421/ 2000)، ج 1، ص 186 - 187 (الحماسية 68). ولكن أورده الكتبي ضمن مقطوعة من أربعة أبيات ناسبًا إياها لمحمد بن علي بن حسول الهمذاني الكاتب (توفي سنة 450). الكتبي، محمد بن شاكر: فوات الوفيات، تحقيق إحسان عباس (بيروت: دار صادر، 1973 - 1974)، ج 3، ص 432.
(2)
من المشترك اللفظي ما يسمى "الأضداد"، وهي الألفاظ التي تدل على معنيين متباينين، أو متعاكسين متناقضين، مثل لفظة "جون" للأسود والأبيض، و "مولَى" للعبد والسيد، و"السليم" للصحيح والملدوغ، و"البصير" للمبصر والأعمى، و"الحميم" للحار والبارد، و"القرء" للطهر والحيض، و"الجلل" للكبير والصغير، إلخ. فهذه الألفاظ وأمثالها تجري مجرى الكلمات التي تقع على معانٍ مختلفة، نظرًا لا تنطوي عليه من تعدد أو اختلاف في الدلالة. والضد - كما يتبين من تقريرات علماء العربية - لا يعني بالضرورة النقيضَ أو العكسَ بصفة مطلقة؛ فهناك ألفاظٌ معدودة من الأضداد وهي لا تفيد معنى التناقض أو العكس المطلق، وإنما يدل كلُّ لفظ منها على معنيين متباينين يربط بينهما رابطٌ معين قريب أو بعيد، كما يحصل لكثير من الألفاظ المشتركة المعاني. ومن أمثلة ذلك كلمة "الظعينة" التي تدل على الهودج وعلى المرأة في الهودج، وكلمة "الكأس" التي =
لا شكَّ أن وقوعَ المشترك في الكلام عجيب؛ لأنه ينافِي الغرضَ الذي لأجله وُضعت اللغة، وهو غرضُ الإبانة عن المراد، وخاصة اللغة العربية؛ فإنها لغةُ البيان. والمشترَكُ يوقِع السامعَ في الحيرة والالتباس بين مختلِف المعانِي، ولا سيما الذي يدلُّ منه على معنيين متضادَّيْن.
من أجل ذلك اختلف علماءُ العربية وأصول الفقه في وجود هذا النوع من الكلام في اللغة العربية، فنفى وقوعَه جماعة، منهم ثعلب اللغوي وأبو بكر الأبهري من الفقهاء. وعلّلوا قولَهم بأن اللغة موضوعةٌ للإبانة، ووجودُ المشترك يُعَدُّ تعمية، وتأولوا ما يتراءى في كلام العرب بتأويلات.
وذهب جماعةٌ إلى أنه لا يقع لِمعنيين متضادَّيْن، قال ابن سيده: نقله أبو علي الفارسي عن بعض شيوخه (1). ومال إلى هذا القول
= تُطلق على الإناء ذاته وعلى ما فيه من الشراب، وكلمة "الغريم" التي تدل على الدائن وعلى المدين، وعلى الخصم أيضًا. وقد تندرج تحت ذلك كلُّ الصيغ الصرفية المماثلة التي تُستعمل للفاعل والمفعول، مثل سميع وعليم وقدير وكحيل وقتيل ودهين وجريح وطريد. وقد اهتم العلماء بهذا الصنف من الألفاظ وخصوه بالجمع والتصنيف، فألف فيها الأصمعي والسجستاني وابن السكيت وأبو الطيب اللغوي ومحمد بن القاسم الأنباري والصغاني وغيرهم كتبًا ورسائل. انظر مثلًا: ثلاثة كتب: الأضداد (للأصمعي وللسجستاني ولابن السكيت، ويليها ذيل كتاب الأضداد للصغاني)، نشرة بعناية أوغست هفنر (بيروت: المطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين، 1913)؛ الأنباري، محمد بن القاسم: كتاب الأضداد، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (صيدا/ بيروت: المكتبة العصرية، 1407/ 1987)؛ اللغوي، أبو الطيب عبد الواحد بن علي: كتاب الأضداد في كلام العرب، تحقيق عزة حسن (دمشق: دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، ط 2، 1996).
(1)
وقد التزم ابن سيده في بداية "كتاب الأضداد" من مخصصه أن يحرر الكلام في هذه المسألة، بناءً على ما انتهى إليه "من تعليل أبي علي الفارسي". وتمام كلام أبي علي كما نقله:"وقد كان أحد شيوخنا يُنكر الأضداد التي حكاها أهل اللغة، وأن تكون لفظةٌ واحدة لشيء وضده". ابن سيده، أبو الحسين علي بن إسماعيل الأندلسي: المخصص (بيروت: دار الكتب العلمية، بدون تاريخ، [مصور عن طبعة الأميرية، 1321)، ج 13، ص 258 - 259. وكلام أبي علي هذا موجودٌ في كتابه =
أبو الفتح ابن جنّي (1)، ونسبه علماءُ أصول الفقه إلى فخر الدين الرازي (2).
وقال جمهورُ العلماء: هو واقع في اللغة. ومِمَّنْ قال بذلك الأصمعي، وابن الأعرابي، وأبو عبيدة، وأبو عبيد، وأبو زيد الأنصاري، والخليل بن أحمد، وسيبويه، وابن فارس، وابن الأنباري، وابن دريد (3). وغلا فريقٌ منهم فقالوا: لولا المشترك لمَا
= "المسائل المشكلة"، وقد قال هو قبله:"وأما القسم الثالث: وهو اتفاق اللفظين واختلاف المعنيين، فينبغي أن لا يكون قصدًا في الوضع ولا أصلًا، لكنه من لغات تداخلت، أو تكون كلُّ لفظة تُستعمل لمعنى، ثم تُستعارُ لشيء، فتكثُر وتغلب حتى تصيرَ بمنزلة الأصل". النحوي [الفارسي]، أبو علي: المسائل المشكلة المعروفة بالبغداديات، تحقيق صلاح الدين عبد الله السنكَاوي (بغداد: مطبعة العاني، 1983)، ص 534. وهذا التعليل لوجود الأضداد هو نفسه ما قرره ابن درستويه، وبهدا يحتمل أن يكون هو المقصود يقول أبي علي الفارسي "أحد شيوخنا"، وإن كان لم يتتلمذ عليه. هذا وقد زعم الجواليقي أن المحققين "من علماء العربية يُنكرون الأضداد ويدفعونها، قال أبو العباس أحمد بن يحيى: ليس في كلام العرب ضد. قال: لأنه لو كان فيه ضدٌّ لكان الكلام محالًا". الجواليقي، موهوب: شرح أدب الكاتب، تحقيق ودراسة طيبة حمد بودي (الكويت: مطبوعات جامعة الكويت، ط 1، 1415/ 1995)، ص 205.
(1)
ابن جني، أبو الفتح عثمان: الخصائص، تحقيق عبد الحميد هنداوي (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1421/ 2001)، ج 1، ص 224 - 230 و 459 - 465.
(2)
وكلام الرازي يؤيد هذه النسبة، فقد قال:"دقيقة: لا يجوز أن يكون اللفظ مشتَركًا بين عدم الشيء وثبوته؛ لأن اللفظَ لا بد وأن يكون بحال: متى أُطلِق أفاد شيئًا، وإلا كان عبثًا. والمشترك بين النفي والإثبات لا يفيد إلا الترددَ بين النفي والإثبات، وهذا معلومٌ لكل أحد". الرازي، فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين: المحصول في علم الأصول، تحقيق طه جابر العلواني (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 2، 1412/ 1992)، ج 1، ص 267.
(3)
ومنهم كذلك أبو علي محمد بن المستنير - المشهور بقطرب - المتوفَّى عام 206، ومحمد التوَّزي المتوفَّى سنة 233، وأبو العَمَيْثَل الأعرابي المتوفَّى سنة 240، وأبو الحسن الهُنائي - المعروف بكراع النمل - المتوفَّى عام 316 هـ. قال ابن فارس:"ومن سنن العرب في الأسماء أنْ يُسمُّوا المتضادَّين باسم واحد، نحو الجون للأسود والجون للأبيض. وأنكر ناسٌ هذا المذهب، وأنَّ العرب تأتي باسم لشيء وضدِّه. وهذا ليس بشيء، وذلك أنَّ الذين رَوَوا أنَّ العرب تسمي السيف مهنَّدًا والفرس طِرْفًا، هم الذين رَوَوْا أنَّ العربَ تُسمِّي المتضادَّين باسم واحد". ابن زكريا، أبو الحسين أحمد بن فارس: الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها، نشرة بعناية أحمد حسن بسج (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 2، 1428/ 2007)، ص 60. وقال الأنباري: =