الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنه التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي، تنبيهًا على تحقيق وقوعه؛ لأن المستقبل مشكوكٌ في حصوله. فإذا أردت أن تحققه عبرت عنه بالماضي، إذ الماضي فعلٌ قد حصل، نحو قوله تعالى:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الزمر: 68](1).
ومنه التغليب، وهو إطلاقُ لفظ على مدلوله وغيره، لمناسبة بين المدلول وغيره. والداعي إليه إما الإيجاز، فيغلب أخف اللفظين، نحو قولهم: الأبوين والعمرين لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وإما مراعاة أكثرية استعمال لفظ أو صيغة في الكلام، فتغلب على اللفظ أو الصيغة المرجوحة، نحو قوله تعالى:{وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)} [التحريم: 12]، وإما لتغليب جانب المعنى على اللفظ نحو:{بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)} [النمل: 55]، ولعل هذا من الالتفات.
فن البديع
البديع هو المحسِّناتُ الزائدة في الكلام على المطابقة لمقتضى الحال. وتلك المحسنات إما راجعةٌ إلى معنى الكلام باشتمال المعنى على لطائف مفهومة تحسنه وتُكسبه زيادةَ قبولٍ في ذهن المخاطب، وإما راجعةٌ إلى لفظ الكلام باشتماله على لطائف مسموعة تُونقه وتوجب له بهجةً في سمع السامع. وقد مر في مقدمة هذا الموجز أن فن البديع هو أولُ ما أُفرد بالتأليف من فنون البلاغة، وأن مدونه هو عبد الله بن المعتز العباسي (2).
(1) شبه المستقبل بالماضي في التحقق، فاستعير للدلالة عليه الفعل الدال على الماضي والقرينة قوله:{يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} [الأنعام: 73؛ طه: 102؛ النمل: 87، النبأ: 18] بصيغة المستقبل. ومن هذا القبيل التعبير عن المستقبل باسم الفاعل أو اسم المفعول نحو: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)} [الذاريات: 6]، {يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} [هود: 103]؛ لأن اسم الفاعل واسم المفعول حقيقة [في] الحال. - المصنف.
(2)
انظر ابن المعتز، عبد الله: كتاب البديع، نشرة بعناية إغناطيوس كراتشقوفسكي (بيروت: دار المسيرة، ط 3، 1402/ 1982).
والمحسِّناتُ البديعية كثيرة لا تنحصر عدًّا وابتكارًا، ويكفي المبتدئَ أن يعرف مشهورَها من القسمين: اللفظي والمعنوي. أما المعنوي فمنه التجريد، وهو أن يُنتزع من أمرٍ ذي صفةٍ أمرٌ آخر مثلُه في تلك الصفة انتزاعًا وهميًّا حتى تصير الذاتُ الواحدةُ ذاتين مبالغة لكمال الوصف في تلك الذات، كقولهم:"لي منك صديق حميم" و"لئن سألت فلانًا لتسألن به بحرًا". ومن هذا مخاطبةُ المرء نفسَه، وذلك كثيرٌ في الشعر كقول النابغة:
دَعَاكَ الهَوَى وَاسْتَجْهَلَتْكَ المَنَازِلُ
…
وَكَيْفَ تَصَابِي المَرْءِ وَالشَّيْبُ شَامِلُ (1)
ومنه طالعُ قصيدة البردة البصيرية "أمن تذكر جيران" البيت (2).
ومنه المبالغةُ المقبولة، وهي ادعاءُ بلوغِ وصفٍ في شدته أو ضعفه مبلغًا يبعد أو يستحيل وقوعُه. وأصدقُها ما قُرن بلفظ التقريب، نحو {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} [النور: 35]، ودونه ما عُلِّق على ما لَا يقع، كقول المتنبي:
عَقَدَتْ سَنَابِكُهَا عَلَيْهَا عِثْيَرًا
…
لَوْ تَبْتَغِي عَنَقًا عَلَيْهِ أَمْكَنَا (3)
(1) ديوان النابغة الذبياني، ص 184 (نشرة ابن عاشور)، ص 115 (نشرة إبراهيم). والبيت هو الأول من قصيدة يرثي فيها النعمان بن الحارث بن أبي شمر بن حُجر بن جبلة الغساني.
(2)
وتمام البيت:
أَمِنْ تَذَكُّرِ جِيرَانٍ بِذِي سَلَمٍ
…
مَزَجْتَ دَمْعًا جَرَى مِنْ مُقْلَةٍ بِدَمِ
انظر القصيدة كاملة في: ابن عاشور، محمد الطاهر (جد المصنف لأبيه): شفاء القلب الجريح بشرح بردة المديح، تحقيق محمد عواد العواد (دمشق: دار التقوى، 1426/ 2006)، ص 395 - 400.
(3)
السنابك: جمع سنبك، وهو طرف مقدم الحافر. والعِثْيَر: الغبار. والعَنَق: ضرب من السير عليه يسير. والمعنى: عقدت سنابكُ الخيل فوقها غبارًا كثيفًا لو تطلب السير عليه لأمكن من كثافته. وهذا المعنى مأخوذٌ من قول العتابي:
تَبْنِي سَنَابكُها مِنْ فوق أَرؤُسِهم
…
سَقْفًا كَوَاكِبُهُ البِيضُ البَوَاتِيرُ
والبيت من قصيدة يمدح فيها بدر بن عمار، وطالعها:
الحُبُّ مَا مَنَعَ الكَلَامَ الألسُنَا
…
وَأَلذُّ شَكْوَى عَاشِقٍ مَا أَعْلَنَا
البرقوقي: شرح ديوان المتنبي، ج 4، ص 336.
وما عدا ذلك يحسن منه ما تضمن تمليحًا، كقول المتنبي:
كَفَى بِجِسْمِي نُحُولًا أَنَّنِي رَجُلٌ
…
لَوْلَا مُخَاطَبَتِي إِيَّاكَ لَمْ تَرَنِي (1)
ومن التورية - وهي أن يُذكرَ لفظٌ له معنيان قريب وبعيد، ويراد المعنى البعيد اعتمادًا على القرينة لقصد إيقاع السامع في الشك والإيهام. ولم تكن معروفةً في شعر العرب إلا في قول لبيد يذكر قتلاهم ويوري بأبيه ربيعة قتل يوم ذي علق:
وَلَا مِنْ رَبِيعِ المُقْتِرِينَ رُزِئْتُهُ
…
بِذِي عَلَقٍ فَاقْنَيْ حَيَاءَكِ وَاصْبِرِي (2)
وقول عنترة:
جَادَتْ عَلَيْهِ كُلُّ بِكْرٍ حُرَّةٍ
…
فَتَرَكْنَ كلَّ قَرَارَةٍ كَالدِّرْهَمِ (3)
البكر السحابة السابق مطرها والحرة الخالصة من البرد، وقد اشتهر بالإبداع في هذا النوع علي الغراب الصفاقسي (4) المتوَفَّى سنة 1183 كقوله:
جَمَعْتُ هَوَى ظَبْيٍ وَقَدْ كَانَ جَامِعًا
…
لِزَيْتُونَةٍ مِنْ فَوْقِ أَغْصَانِهَا التَوَى
(1) المصدر نفسه، ص 319. والبيت من مقطوعة قالها الشاعر في صباه طالعها:
أَبْلَى الهَوَى أَسَفًا يَومَ النَّوى بَدَنِي
…
وَفَرَّقَ الهَجْرُ بين الجَفْنِ والوَسَنِ
(2)
ديوان لبيد، ص 45. البيت من قصيدة قالها الشاعر في ذكر من فقد من قومه وسادات العرب وتأمل ظاهرة الموت وعدم حيلة الإنسان أمامه. وذو عَلَق جبل في ديار بني أسد، ولهم فيه يوم مشهور، وهو يوم ثنية ذي علق، قتلت فيه بنو أسد ربيعة بن مالك بن جعفر أبا لبيد، وهو ربيعة المقترين الذي ذكره الشاعر في البيت.
(3)
سبق توثيق هذا البيت وبيان ما في روايته من اختلاف.
(4)
هو أبو الحسن علي بن محمد الغراب البارع، شاعر تونسي ذو معرفة بالفقه المالكي، من أهل صفاقس. انتقل إلى حاضرة تونس واتصل بالأمير الحسيني علي باشا بن محمد، وصار من خواصه. ولما قتل علي باشا تحول إلى علي بن حسين باي، ومدحه فعفا عنه وقربه. توُفِّيَ بمدينة تونس سنة 1183/ 1767. له مقامات أدبية، وديوان شعر حققه محمد الهادي الطاهر المطوي وعمر بن سالم وصدر عن الدار التونسية للنشر سنة 1973، ولكن لم يتسن لنا الاطلاعُ عليه لتوثيق البيت الذي أورده المصنف.
فَيَا جَامِعَ الزَّيْتُونَةِ الفَاتِنَ الوَرَى
…
تَفَضَّلْ بِمَعْرُوفٍ عَلَى جَامِعِ الهَوَى
ومنه التلميح - بتقديم اللام على الميم - وهو الإشارةُ في الكلام إلى قصة أو مسألة علمية أو شعر مشهور، كقول أبي تمام:
فَوَالله مَا أَدْرِي أَأَحْلَامُ نَائِمٍ
…
أَلمَّتْ بِنَا أَمْ كَانَ فِي الرَّكْبِ يُوشَعُ (1)
يشير إلى القصة المذكورة في الإسرائيليات أن الشمسَ رُدَّت ليوشع النبي عليه السلام في بعض غزواته لئلا يدخل السبت وهو بصدد فتح القرية (2)، وقول ابن الخطيب شاعر الأندلس:
وَرَوَى "النُّعْمَانُ" عَنْ "مَاءِ السَّمَا"
…
كَيْفَ يَرْوِي "مَالِكٌ" عَنْ "أَنَسِ"(3)
يشير إلى نَسب النعمان ملك العرب، وإلى رواية الإمام مالك عن الصحابي مسقطًا الواسطة، وهو الحديثُ المرسل، أي أن شقائق النعمان روت عن ماء السماء بواسطة الأرض.
ومنه المشاكلة، وهي أن يعمَد المتكلِّمُ إلى معنى غير موجود فيقدره موجودًا من جنس معنى قابله به مقابلةَ الجزاء أو العوض ولو تقديرًا، كقوله تعالى:
(1) والبيت من قصيدة قالها في مدح أبي سعيد محمد بن يوسف. ديوان أبي تمام، ص 178.
(2)
انظر الحديث الذي رواه في هذا الشأن أبو هريرة وتخريجه في: الألباني، محمد ناصر الدين: سلسلة الأحاديث الصحيحة (الرياض: مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، 1415/ 1995)، الحديث 202، ج 1، ص 393 - 402.
(3)
البيت هو السادس من الموشحة المشهورة للسان الدين بن الخطيب، التي يقول في طالعها:
جَادَكَ الغَيْثُ إِذَا الغَيْثُ هَمَى
…
يَا زَمَانَ الوَصْلِ بِالأَنْدَلُسِ
لَمْ يَكُنْ وَصْلُكَ إِلَّا حُلُمَا
…
بِالكَرَى أَوْ خِلْسَةَ المُخْتَلِسِ
ديوان لسان الدين بن الخطيب السلماني، تحقيق محمد مفتاح (الدار البيضاء: دار الثقافة، ط 2، 1428/ 2007)، ج 2، ص 792 - 794.
{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، عبر عن العقاب بالخداع لوقوعه جزاء عن الخداع، وقول أبي الرقعمق (1):
قَالُوا: اقْتَرِحْ شَيْئًا نُجِدْ لَكَ طَبْخَهُ
…
قُلْتُ: اطْبَخُوا لِي جُبَّةً وَقَمِيصَا (2)
عبر عن صنع الجبة والقميص بالطبخ لوقوعه عوضًا عن الطبخ.
وقولي: "ولو تقديرًا"، لإدخال المشاكلة التي لم يجتمع فيها لفظان، ولكن معنى أحد اللفظين حاضرٌ في الذهن، فيُؤتَى باللفظ المناسب للفظ المقدر، نحو قول أبي تمام:
مَنْ مُبلِغٌ أَبْنَاءَ يَعْرُبَ كُلَّهَا
…
أَنِّي ابْتَنَيْتُ الجَارَ قَبْلَ المَنْزِلِ (3)
ومنه تأكيد الشيء بما يشبه ضده، حتى يخيل للسامع أن الكلام الأول قد انتقض، فإذا تأمله وجده زاد تأكدًا، كقول النابغة:
وَلَا عَيْبٌ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ
…
بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الكَتَائِبِ (4)
(1) هو [أبو حامد] أحمد بن محمد الأنطاكي، من شعراء الشام، ومدح ملوك مصر، وكان في زمن كافور، توُفِّيَ سنة 399 هـ. وقبل هذا البيت بيت آخر وهو:
إِخْوَانُنَا قَصَدُوا الصَّبُوحَ بِسَحْرَةٍ
…
فَأَتَى رَسُولُهُمْ إِلَيَّ خِصِّيصَا
- المصنف
(2)
البيت بلا نسبة في الخطيب القزويني: الإيضاح، ص 263؛ الجرجاني: الإشارات والتنبيهات، ص 213؛ العباسي: معاهد التنصيص، ج 1، ص 225.
(3)
ديوان أبي تمام، ص 223. والبيت من قصيدة قالها في مدح أبي الوليد بن أحمد بن أبي دؤاد، وطالعها:
بَوَّأْتُ رَحْلِي في المرادِ المقبِلِ
…
وَرَتَعْتُ فِي أَثَرِ الغَمامِ المسبِلِ
(4)
وهذا الذي سلكه النابغة هو أحسن أنواعه، وهو ما يوهم عيبًا في الظاهر، أو نحو العيب من المدح إذا كان الضد ذمًّا. ومثله أيضًا قول الحريري:
مَا فِيهِ مِنْ عَيْبٍ سِوَى أَنَّهُ
…
يَوْمَ النَّدَى قِسْمَتُهُ ضِيزَى =
ومنه براعة الاستهلال، وهي اشتمالُ أولِ الكلام على ما يشير إلى المقصود منه، كقوله في طالع قصيدة هناء:
بُشْرَى فَقَدْ أَنْجَزَ الإِقْبَالُ مَا وَعَدَا
…
وَكَوْكَبُ المَجْدِ فِي أُفُقِ العُلَا صَعَدَا (1)
وأما المحسنات اللفظية، فمنها التجنيس ويسمى الجناس، وهو تشابه اللفظين في النطق مع اختلاف المعنى. وهو قديم في كلام العرب، كما في المثل العربي القديم:"هذا جناي وخياره فيه، إذ كل جان يده إلى فيه"(2). وفي القرآن منه كثير. وقول أبي تمام:
= بخلاف ما يكون فيه من الإيهام، إلا ذكر لفظ الاستثناء أو الاستدراك، نحو قوله:
هُوَ البَدْرُ إِلَّا أنَّهُ البَحْرُ زَاخِرًا
…
سِوَى أَنَّه الضّرْغَامُ لَكِنَّهُ وبلُ
- المصنف.
وبيت النابغة من قصيدة قالها في مدح عمرو بن الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر بن أبي شمر. ديوان النابغة الذبياني، ص 44 (نشرة ابن عاشور)، وص 33 (نشرة إبراهيم). وبيت الحريري من مقطوعة على لسان زوجة لأبي زيد السروجي أحد شخصيات المقامات، وهي عبارة عن نقد منها للقاضي الذي حكم لزوجها عليها. مقامات الحريري، ص 428 (المقامة العمانية). أما البيت الثاني الذي أورده المصنف في الحاشية، فهو لبديع الزمان الهمذاني. ديوان بديع الزمان الهمذاني، تحقيق يسري عبد الغني عبد الله (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 2، 1424/ 2003)، ص 120.
(1)
البيت - كما قال الخطيب القزويني - لأبي محمد الخازن، يهنئ ابن عباد بمولود لبنته. الإيضاح، ص 324. وفيه "أبشر" عوض "بشرى".
(2)
هذا المثل لعمرو بن عدي وهو ابن أخت جذيمة الأبرش وكان جذيمة قد نزل منزلًا، وأمر الناس أن يجتنوا له الكمأ، فكان بعضهم إذا وجد شيئًا يعجبه فربما آثر نفسه به على جذيمة، وكان عمرو بن عدي يأتيه بخير ما يجده، فعندها قال عمرو (رجز):
هذا جناي وخياره فيه
إذ كل جان يده إلى فيه
يعني: أوثرك على نفسي إذا كان غيري يأكله دونك. الأمثال لأبي عبيد القاسم بن سلّام، تحقيق د. عبد المجيد قطامش، دار المأمون للتراث، ط 1، 1400 هـ/ 1980 م.
مَا مَاتَ مِنْ كَرَمِ الزَّمَانِ
…
فَإِنَّهُ يَحْيَا لَدَى يَحْيَى بنِ عَبْدِ الله (1)
وقول الحريري:
سِمْ سِمَةً تَحْسنُ آثَارُها
…
واشكر لِمَنْ أعطى ولو سِمْسِمَهْ
وَالمَكْرَ مَهْمَا اسْطَعْتَ لَا تَأْتِهِ
…
لتقتنيَ السؤْدَدَ وَالمَكْرُمَهْ (2)
فإن كان التشابه في غالب حروف اللفظين، فهو غير تام، كقوله تعالى:{وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} [الكهف: 104].
ومنه القلب، ويُسمَّى الطرد والعكس. وهو أن يكون الكلامُ إذا ابتدأتَه من حرفه الأخير وذهبتَ كذلك إلى حرفه الأول، يحصل منه عينُ ما يحصل من ابتدائه، كقول القاضي أحمد الأَرَّجاني (3)(نسبةً إلى أَرَّجان - بفتح الهمزة وتشديد الراء المفتوحة - كورة من كور الأهواز، ويجوز تخفيفُ رائها):
(1) ديوان أبي تمام، ص 324. والبيت من قصيدة يمدح فيها يحيى بن عبد الله، وقد جاء في النشرة التي اعتمدنا عليها بلفظ:
مَنْ مَاتَ مِنْ حَدَثِ الزَّمَانِ
…
فَإِنَّهُ يَحْيَا لَدَى يَحْيَى بنِ عَبْدِ الله
(2)
الحريري: مقامات الحريري، ص 501.
(3)
هو ناصح الدين أبو بكر أحمد بن محمد بن الحسين الأرجاني. ولد في أَرَّجان سنة 460 هـ، وتوُفِّيَ عام 544 هـ. طلب العلم بأصبهان وكرمان، وتولَّى منصب نائب قاضي قضاة خوزستان، ثم تولَّى القضاء بأرجان. وصفه الصفدي في "الوافي بالوفيات" بأنه أحد أفاضل الزمان، لطيف العبارة غواص على المعاني، إذا ظفر بالمعنى لا يدع فيه لمن بعده فضلًا. وكان قاضي القضاة القزويني يعظمه، ويعده من مفاخر العجم، واختار مجموعًا من شعره سماه "الشذر الجاني من شعر الأرجاني". في شعره عذوبة لفظ، وسلاسة معنى، وسهولة عبارة. وديوانه مليء بقصائد المدح، تتخللها سخرية مبطنة يسخر فيها من عدم تقدير الناس لعلمه ومن عدم وجود الخل الوفي. عده الذهبي "حامل لواء الشعر المشرق". قيل: إن الذي جُمع من شعره لا يكون العشر مما كتبه، وقيل إنه كان له في كل يوم ثمانية أبيات ينظمها على الدوام.
مَوَدَّتُهُ تَدُومُ لِكُلِّ هَوْلٍ
…
وَهَلْ كُلٌّ مَوَدَّتُهُ تَدُومُ (1)
فهذا البيت إذا ابتدأته من حرفه الآخر إلى حرفه الأول كان مثلَ ابتدائه من حرفه الأول.
ومنها الاقتباسُ والتضمين. فالاقتباس هو أخذُ شيء من القرآن أو كلام النبوة، والتضمين أخذُ شيء من الشعر المشهور ومزجه مع الكلام نظمًا أو نثرًا، ولو مع اختلاف الغرضين، ولو مع تغيير يسير. فمن الاقتباس قولُ الحريري في المقامة الثانية:"فلم يكن إلا كلمح البصر أو هو أقرب، حتى أنشد فأغرب"(2). ومن التضمين قولُ ضياء الدين موسى بن ملهم الكاتب في هجاء الرشيد عمر الفَوِّي، وكان أصلع وأسنانه بارزة:
أَقُولُ لِمَعْشَرٍ جَهَلُوا وَغَضُّوا
…
مِنَ الشَّيْخِ الرَّشِيدِ وَأَنْكَرُوهُ
هُوَ ابْنُ جَلَا وَطَلَّاعِ الثَّنَايَا
…
مَتَى يَضَعُ العِمَامَةَ تَعْرِفُوهُ (3)
(1) البيت من قصيدة قالها الشاعر يعتذر ويمتدح ذا منصب. ديوان الأرجاني، نشرة بعناية قدري مايو (بيروت: دار الجيل، 1418/ 1998)، ج 2، ص 263.
(2)
الحريري: مقامات الحريري، ص 30.
(3)
البيتان ذكرهما العباسي في معاهد التنصيص، ج 2، ص 177. والبيت الثاني - وهو محل الشاهد - أصله لسحيم بن وثيل، وهو قوله:
أَنَا ابْنُ جَلَا وَطَلَّاعُ الثَّنَايَا
…
مَتَى أَضَعِ العِمَامَةَ تَعْرِفُوني
والشاعر هو سحيم بن وثيل بن عمرو، الرياحي اليربوعي، الحنظلي التميمي. كان فارسًا شجاعًا، وشاعرًا مجيدًا، شريفًا في قومه، ذائعَ الصيت بينهم. شاعر مخضرم تُوُفِّيَ سنة 60/ 680. ذكر ابن دريد أنه عاش أربعين سنة في الجاهلية وستين في الإسلام، فناهز عمره المائة. له أخبار مع زياد بن أبيه، ومفاخرة مع غالب بن صعصعة والد الفرزدق. وتُعَدُّ قصيدتُه التي مطلعها البيت المذكور أشهرَ شعره، فانظرها بتمامها في: الأصمعي، أبو سعيد عبد الملك بن قريب: الأصمعيات، تحقيق سعدي ضناوي (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1424/ 2004)، ص 13 - 15؛ البغدادي: منتهى الطلب من أشعار العرب، ص 763 - 764. وقد ذكره ابن سلام في الطبقة الثالثة من الشعراء الإسلاميين. طبقات الشعراء، ص 174 - 175.
ويجوز فيهما التغييرُ اليسير، كما في المصراع الأخير المتقدم، وكقول أبي القاسم ابن الحسن الكاتبي:
إنْ كُنْتِ أَزْمَعْتِ عَلَى هَجْرِنَا
…
مِنْ غَيْرِ مَا جُرْمِ فَصَبْرٌ جَمِيلُ
وَإِنْ تَبَدَّلْتِ بِنَا غَيْرَنَا
…
فَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ (1)
وهذا آخرُ ما أردتُ إملاءَه في علم البلاغة، وأرى فيه للقانع من هذا العلم مقنعةً وبلاغة. وكان تمَامُه في منتهى شهر رمضان من عام ثلاثة وأربعين وثلاثمائة وألف (1343 هـ) بمرسى جرَّاح بالمرسى.
(1) البيتان نسبهما العباسي إلى أبي القاسم بن الحسن الكاتبي، وذكرهما - دون نسبة - ابنُ عبد ربه (ضمن مقطوعة من سبعة أبيات) والخطيبُ القزويني والسعد التفتازاني (مقتصرًا على البيت الثاني) والمغربي، ولم أعثر لقائلهما على ترجمة فيما اطلعتُ عليه من دواوين اللغة والأدب والمصادر التاريخية. معاهد التنصيص، ج 2، ص 151؛ العقد الفريد، ج 7، ص 49؛ الإيضاح، ص 314؛ المطول شرح التلخيص، ص 424؛ ابن يعقوب المغربي، أبو العباس أحمد بن محمد: مواهب الفتاح في شرح تلخيص المفتاح، تحقيق خليل إبراهيم خليل (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1424/ 2003)، ج 2، ص 59.