الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَلِيمٌ بِتَنْزِيلِ الْكَلَامِ مُلَقَّنٌ
…
ذَكُورٌ لِمَا سَدَّاهُ أَوَّلَ أَوَّلَا
يَبُذُّ قَرِيعَ الْقَوْمِ فِي كُلِّ مَحْفَلٍ
…
وَإِنْ كَانَ سَحْبَانَ
الْخَطِيبَ
وَدَغْفَلَا
تَرَى خُطَبَاءَ الْقَوْمِ يَوْمَ ارْتِجَالِهِ
…
كَأَنَّهُمْ الْكِرْوَانُ عَايَنَ أَجْدَلَا (1)
وكذلك معرفة ما يكثر الدعاء إليه، مثل منافع المدنية ومنافع التعليم، ومثل استحضار الخطيب السياسي لعلائق الأمم وتواريخ حوادثها، ولذكر مفاخر أمته ودولتها، واستحضار ما يذهب به عن سياسته ممن ينتقدها.
الخطيب
يتعلق الكلامُ على الخطيب بأمرين: أحدُهما شروطُه، وثانيهما عيوبُه، لتحصل من معرفتهما ما يجب اتباعه وما يتعين عليه تركه. أما شروطه فكثيرة، منها ما يرجع إلى ذهنه، ومنها ما يرجع إلى ذاته. فأما شروط الخطيب الراجعة إلى ذهنه، فقد أرجعها أرسطو في كتابه في الخطابة إلى ثلاثة أشياء، هي كالأصول لها. أولها معرفة الأقوال التي يحصل بها الإقناع، وثانيها معرفة الأخلاق والفضائل الذاتية، وثالثها
(1) المراد بالملقَّن النبيهُ حتى كأنه يلقنه غيره ما يقول من شدة بداهته، وهذه شنشنة للعرب أنهم يسندون المواهب العقلية لقوات خفية، كقولهم "رجل محدَّث" إذا كان بصيرًا بالعواقب، وقولهم إن للشاعر رئيا يملي عليه، وقولهم في القرآن إنه سحر أو حديث الجن. والقريع الغالب والفحل. ودغفل هو ابن حنظلة النسابة من بني شيبان، كان من البلغاء الخطباء، وقد ذكره الجاحظ في كتاب البيان في مواضع. والكروان طائر كثير الخوف، والأجدل الصقر، وسحبان هو بفتح السين ابن زفر بن إياس الوائلي، أشهر الخطباء كان يضرب به المثل في البيان أدرك الإسلام وتوفي سنة 54 هـ. قيل كان إذا خطب لا يعيد كلمة، ولا يتوقف، وكان معاوية رضي الله عنه يميل إليه ويحضره في مجامع الكلام ولقاء الوفود. - المصنف. انظر الأبيات في: البيان والتبيين، ج 1/ 1، ص 229؛ المرزباني، أبو عبيد الله محمد بن عمران: معجم الشعراء، مطبوع مع كتاب المؤتلف والمختلف لأبي الحسن الآمدي، تحقيق سالم الكرنكوي (بيروت: دار الكتب العلمية، 1402/ 1982، مصور عن طبعة مكتبة القدسي)، ص 481 (وفيه "بتلقين" بدل "بتنزيل"، و"مشهد" عوض "محفل"، و"أبصرن" مكان "عاين"). وانظر الخبر في الجاحظ: كتاب الحيوان، ج 6، ص 152 (بدون أبيات الشعر). والشاعر هو مكي بن سوادة البرجمي البصري، ذكره المرزباني، ولم أقف من أخباره على أكثر من ذلك.
معرفة الانفعالات ومن أي شيء تكون (1). ونحن نزيدها رابعًا، وهو قوة البداهة في استحضار المعاني.
أما الثلاثةُ الأُوَلُ فقد شرحها ابنُ رشد في تلخيص كتاب أرسطو بعضَ الشرح (2)، ونحن نزيدُها بيانًا فنقول: أما معرفة الأقوال المقنعة، فالمراد بها معرفة الأقيسة الخطابية، وذلك يحصل من التمييز بين الأقيسة الصحيحة، والكليات وجزئياتها، والصادق والكاذب، ومراتب أنواع الحجة، وذلك مما دُوِّن له علمُ المنطق. ولا نريد معرفتَه بصناعة المنطق؛ إذ قد كان الخطباءُ خطباءَ قبل تدوينه، ولا يزال الخطباءُ خطباءَ ومنهم من لم يخطر المنطقُ بباله. وإنما المرادُ أن تكون له ملكةُ التمييز، سواء حصلت تلك الملكةُ من سلامة الفطرة وأصالة الرأي، أم من مزاولة الفنون الحِكمية.
ويلحق بذلك معرفةُ الحقِّ والباطل، والمقبولِ والمردود، والصريحِ والخفي، والظاهرِ والمؤَوَّل. ونضرب لذلك مثلًا، وهو كلما كان القولُ أعمَّ معنًى كان أكثرَ تأتِّيًا لأَنْ يُستعمل في مواطنَ كثيرة، وكلما كان أخصَّ كان أوضحَ دلالةً وأقربَ تناولا. ولكلٍّ مقامٌ ووقتٌ ومخاطَب، وهكذا معرفة العلل والغايات. وقد تقدم في جزء صناعة الإنشاء المعنوي من ذلك مقنع، وفي ممارسة علوم البلاغة والمنطق منه مبلغ.
وأما معرفةُ الأخلاق والفضائل فالقصدُ من ذلك التمييزُ بين ما هو فضيلةٌ وضدِّه من الأفعال، ومعرفةُ محاسنِ الأخلاق ومساوئها؛ فإن بمعرفة ذلك تحصيلَ غرضين مُهِمَّيْن: أحدهما رياضةُ الخطيبِ نفسَه على التحلي بتلك الفضائل. وثانيهما
(1) هكذا لخصها ابن رشد حيث قال: "وإذا كانت التصديقات إنما تكون في هذه الصناعة (أي الخطابة) بهذه الوجوه (التي سبق ذكرها) فهو بينٌ أن الذي يقدر أن يقنع الإقناع الممكن في كل واحد من الأشياء إنما هو الذي يكون عالمًا بثلاثة أشياء: أولها معرفة الأقاويل المقنعة، وثانيها معرفة الأخلاق والفضائل، وثالثها معرفة الانفعالات، وذلك بأن يعرف كل واحد من الانفعالات ما هو، ومن أي شيء يكون، ومتى يكون وكيف يكون". ابن رشد: تلخيص الخطابة، ص 18. وانظر: أرسطوطاليس: الخطابة، ص 15 - 98 و 133 - 205.
(2)
ابن رشد: تلخيص الخطابة، ص 18 - 28.
معرفتُه ذلك من حال المخاطَبين ليلقيَ لهم الكلامَ على قدر احتياجهم وبقدر ما تهيأت له نفوسُهم. وكان هذا الثاني موجِبَ اشتراط الاستيطان في خطيب الجمعة عند من اشترطه (1).
واعلم أن الخطيب لا غنًى له عن معرفة أضداد الفضائل أيضًا؛ إذ قد يدعوه الحال إلى بيانها: إما لذم ما تشتمل عليه وتُؤْثِرُه، وإما لمعرفة ما فيها من منافع قليلة لئلَّا يبهته بها مَنْ يريد التضليل بترويجها، فإذا كان عالمًا بتفاصيلها لم يعسر عليه تفنيدُ من يضلل بها. وفي ذلك أيضًا عونٌ على الدفاع عن مرتكب هفوة وصاحب فلتة. وقد يكون الشيء نافعًا في وقتٍ وضدُّه نافعًا في آخر، كالشجاعة وقت الحرب والأناة وقت السلام.
(1) اتفق الفقهاء على عدم وجوب صلاة الجمعة على المسافر، وأنها إنما تجب على المستوطن، ولكنهم اختلفوا في شرط الاستيطان بالنسبة للإمام الخطيب، فذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي إلى أنه تنعقد صلاة الجمعة بالإمام المسافر، والمشهور عند المالكية اشتراط الاستيطان، قال بهرام:"ويُشترط كونُه مقيمًا على المشهور". وذهب الحنابلة إلى أنها لا تنعقد، واشترطوا الاستيطان في الإمام الخطيب. وإلى هذا ذهب زفر من الحنفية، حيث قال:"لا تجوز إمامة العبد والمسافر في صلاة الجمعة؛ لأنه لا تفترض عليهما الجمعة، وإنما يصح منهما الأداء بطريقِ التبعية، فلا يجوز أن يكون أصيلًا بالإمامة". انظر: الدميري، بهرام بن عبد الله بن عبد العزيز: الشامل في فقه الإمام مالك، تحقيق أحمد بن عبد الكريم نجيب (القاهرة: مركز نجيبويه للمخطوطات وخدمة التراث، ط 1، 1429/ 2008)، ج 1، ص 135؛ ابن مازة البخاري الحنفي، برهان الدين أبو المعالي محمود بن أحمد بن عبد العزيز: المحيط البرهاني في الفقه النعماني، تحقيق عبد الكريم سامي الجندي (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1424/ 2004)، ج 2، ص 72؛ ابن الهمام الحنفي، كمال الدين محمد بن عبد الواحد السواسي: شرح فتح القدير على الهدية شرح بداية المبتدي، نشرة بعناية عبد الرزاق غالب المهدي (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1424/ 2003)، ج 2، ص 60؛ ابن قدامة المقدسي، موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد: المغني، تحقيق عبد الله عبد المحسن التركي وعبد الفتاح محمد الحلو (الرياض: دار عالم الكتب، ط 3، 1417/ 1997)، ج 3، ص 220 - 222؛ الغزالي، محمد بن محمد بن محمد: الوسيط في المذهب، تحقيق أحمد محمود إبراهيم (القاهرة: دار السلام، ط 1، 1417/ 1997)، ج 2، ص 269 - 270.
وأما معرفةُ الانفعالات ومنشئها، فهي من أكبر ما يعتمد عليه خطيبُ القوم؛ إذ به يميِّز بين ما تنفعل به نفوسُ العامة وما تنفعل به نفوسُ الخاصة وما هو مشترك بينهما، وبين أنواع الانفعالات خيرِها وشرِّها وقوتها وضعفها، وما هو مقبول وما هو مردود. وقد تعرض أرسطو إلى ذلك بما عبر عنه بإثارة الأهواء فقال:"إنها انفعالات في النفس تثير فيها حزنًا أو مسرة"(1)، وقال أفلاطون:"لكل أمر حقيقة، ولكل زمان طريقة، ولكل إنسان خليقة، فالتمس من الأمور حقائقَها، واجر مع الزمان على طرائقه، وعامل الناسَ على خلائقهم". (2)
فعلى الخطيب أن لا يقيسَ الناسَ على حذوِ نفسه؛ فإنَّ منهم مَنْ يساويه، ومنهم مَنْ يفوقُه، ومنهم مَنْ هو دونه. وليس ما يُزَهَّد فيه الفتى - مثلًا - يُزهَّد فيه الصَّبيُّ، ولا ما يخاطَب به الجنديُّ في صف القتال يخاطَب به الحكيم؛ إذ رُبَّ محمدةٍ عند هذا هي مذمةٌ عند الآخر، فنحن ندعو كلًّا منهما إذا أردنا منه انفعالاتٍ بما يناسب اعتقاده. ألا ترى أن حبَّ التعظيم والفخر مثلًا لو زُهِّد فيه الطفلُ في المكتب كما يُزَهَّد فيه الحكيمُ لاستوى عنده العملُ والكسل، ولم يهتم بمنافسة أقرانه فتضآلت مواهبه؟ وكذلك القناعة المحمودة لا يحسن أن يذكرها أو يدعوَ إليها مَنْ يخطب في قوم تكاسلوا عن التجارة، وفشا فيهم الفقر. فإن جاء يخطب فيمن أعرضوا عن تعاطي العلم، أو عن تهذيب النفس لشدة التعلق بالدنيا، حسُنَ أن يتعرض حينئذ لمحامد القناعة وأنها أكبر غنى.
(1) لم أجد هذا الكلام المنسوب لأرسطو لا في الترجمة العربية القديمة لكتابه "الخطابة" ولا في تلخيصه لابن رشد، ولا في كتاب الخطابة من الشفا لابن سينا.
(2)
لم أجد هذا القول المنسوب لأفلاطون فيما أمكنني الاطلاع عليه من كتب أخبار الفلاسفة والحكماء. وقد أحال المطيري في هذا الصدد على كتاب بعنوان "مقالات في الخطابة لبعض مشاهير كتاب العرب" من تصنيف الأب جبرائل أده (مطبعة الآباء اليسوعيين، 1890، ص 52)، ولم يتسن لي الاطلاع عليه.
وعلى هذا، فالخطيب يخاطب السامعين بمقدار ما يعلم من رتبة انفعالهم بكلامه، فتارةً يتوجه إلى ابتداء المطلوب منهم من غير طلبٍ لوسائله، ويكل لهم السعيَ في وسائل تحصيله، وذلك إن علم أن لا نشوزَ منهم. وتارةً يتطلَّبُ منهم تحصيلَ الأسباب والوسائل إن علم منهم نشوزًا عن المطلوب، ليقعوا في الأمر المطلوب بعد ذلك على غير تهيؤ إليه. مثال ذلك لو أراد أن يدعوَ إلى أمر فيه صلاحٌ عام، نحو تكثير سواد الأمة بالتناسل، ويعلم من المخاطَبين بعضَ الإجفال عن ذلك لما يتوقعون من متاعب تربية البنين والبنات، فيقتضي الحالُ أن يدعوَهم إلى وسيلة ذلك وهو الحثُّ على التزويج، مظهرًا له في صفة السعي لمنفعة شخصية مرغِّبًا فيه بما يعود من حسن الأحدوثة أو بما يحصل من أجر عاجل أو آجل.
وكذلك القولُ في حمل المخالفين على الشيء بالرغبة والرهبة، فإذا كان الخطيبُ معتمِدًا على قوةٍ وعَلِمَ أن للمخاطَبين من الحدة والعصيان ما يُحبط سعيَ الخطيب، فعليه أن يتظاهر بقوته بادئ الأمر ليفل من تلك الحدة، كما فعل الحجاجُ يوم دخوله الكوفة، وبعد وقعة دير الجماجم (1).
(1) أما خطبته يوم دخول الكوفة فهي:
"أَنَا ابْنُ جَلَا وَطَلَاّعُ الثَّنَايَا
…
مَتَى أَضَعِ الْعَمَامَةَ تَعْرِفُونِي
أما والله إني لأحتمل الشر بحمله، وأحذوه بنعله، وأحزبه بمثله، وإني لأرى رؤوسًا قد أينعت وحان قطافُها، وإني لَصَاحبُها، وإني لأنظر إلى الدماء تَرَقْرَقُ بين العمائم واللحى. . . إني والله يا أهل العراق والشقاق والنفاق، ومساوئ الأخلاق، ما أُغمَزُ تَغْمازَ التِّين، ولا يُقَعْقَعُ لي بالشِّنان، [ولقد فُرِرت عن ذكاء، ولقد فُتِّشتُ عن تجربة، وجريت من الغاية]. إن أمير المؤمنين كبَّ كِنانته ثم عَجَم عيدانها، فوجدني أمرَّها عودًا وأصلبها عمودًا، فوجهي إليكم" إلخ. (انظرها في البيان والتبيين وفي كامل المبرد). وأما خطبته بعد دير الجماجم فهي: "يا أهل العراق، إن الشيطان قد استبطنكم، فخالط اللحم والدم والعصب والمسامع والأطراف، فحشاكم نفاقًا وشقاقًا، وأشعركم خلافًا، واخذتموه دليلًا تتبعونه وقائدًا تطبعونه ومؤامَرًا تستشيرونه. فكيف تنفعكم تجربة، أو تعظكم وقعة، أو يحجزكم إسلام، أو ينفعكم بيان؟ ألستم أصحابي بالأهواز حيث رُمتم المكر، وسعيتم بالغدر، واستجمعتم الكفر، وظننتم أن الله يخذل دينه وخلافته؟ وأنا أرميكم بطرفي، =
هذا وقد يجهل المتكلِّمُ في غرضٍ ضمائرَ الناس، ولا يزن مراتبَ عقولهم، فينبغي له أن يتفطن لما يلوح عليهم من الانفعال، فيفاتحهم بما يثير انفعالَهم من أمورٍ صالحة لأغراض مختلفة، حتى يرى أميالَهم إلى أية وجهة تولي، فيعلم من أي طريقٍ يسلك إليها. ولا بد في هذه المفاتحة من جلب التوريات والتوجيهات ونحوها، مما يمكن تأويلُه ويتيسر له عند إجفالهم تحويلُه حتى لا يسترسل في موضوعه فيعسر عليه الرجوعُ إلى تعديله.
وانظر ما قصَّه الله تعالى في كتابه الحكيم عن مؤمن آل فرعون [غافر: 28 - 29]: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} ، فورَّى في اللوم، أي كيف تفعلون هذا بمن يختار لنفسه ربا؟ {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} ، وهذا ارتقاء في الحجة، {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} ، وهذا تزهيد لهم في قتله بتقديم احتمال الكذب ليظهر أنه قصد الإنصاف، {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} ، وهذا تحضير لنفوسهم إلى ترقب صدق معجزته ووعده، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)} ، وهذا تورية أيضًا، أي إنكم تنتظرون ما يتبين من أمره، فإن الله لا يصدق الكاذب بخارق العادة، {يَاقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} ، وهذا توبيخ وتقريع؛ لأنه قد أوجب بما تقدم انفعالَ نفوسهم لقبوله، أي لا تكونوا سببًا لزوال سلطانكم بالتعرض لسخط الله؛ إذ لا شك أن هذا المؤمن الصالح كان يترقب من
= وأنتم تتسللمون لِواذًا وتنهزمون سراعا. ثم يومُ الزاوية وما يوم الزاوية، بها كان فشلكم وتنازعكم وتخاذلكم، وبراءة الله منكم، ونكوص وليكم عنكم. . ." إلخ (انظرها في البيان والتبيين). المصنف. انظر الخطبة الأولى في: الجاحظ: البيان والتبيين، ج 1/ 2، ص 202؛ المبرد: الكامل في اللغة والأدب، ج 1، ص 314 - 316. أما الخطبة الثانية فهي في: البيان والتبيين، ج 1/ 2، ص 90؛ والبيت لسُحيم بن وثيل، وقد تقدم توثيقه والتعريف بصاحبه. أما "الزاوية فموضع قرب البصرة جرت فيه موقعة بين الحجاج وعبد الله بن الأشعث سنة 82 هـ.
قومه الإجفالَ والتكشُّفَ على إيمانه، فأظهر لهم الكلامَ في مظهر المتردِّد الخائف من حلول المصائب به وبقومه، لا المنتصِرِ لموسى عليه السلام.
وإنما تظهر مواهبُ الخطيب وحكمتُه وبلاغتُه في هذا المقام؛ لأن مَنْ تكلم عن احتراسٍ وسوءِ ظنٍّ بسامعيه حاط لنفسه من الغلَط؛ لأن شدةَ الثقة بالنفس تُغَطِّي على عَوارِها فلا يتقيه ربُّها. ومن هذا أن يترك لنفسه بابًا لتدارك فائت، كما قال الحريري في المقامة الثانية والعشرين بعد أن ذكر استرسالَ أبي زيد السروجي في تفضيل كتابة الإنشاء على كتابة الحساب:"فلما انتهى في الفصل إلى هذا الفصل، لحظ من لمحاتِ القوم أنه ازدرع حُبًّا وبُغضًا، وأرضى بعضًا وأحْفَظ بعضًا، فعقب كلامه بأن قال: إلا أن صناعةَ الحساب موضوعةٌ على التحقيق، وصناعةَ الإنشاء مبنيةٌ على التلفيق". (1)
هذا إن كان المتكلِّمُ مفاتحًا بالكلام. فأما إن كان مجيبًا، فقد يلاحظ من أصول المجادلة ما يطول بسطُه هنا. وعلى كل حال فعليه أن يختبئ للمعترضين من الرُّجوم ما يقيه وصمة الإرتاج عليه أو الوجوم.
وأما الأمرُ الرابعُ وهو قوة البداهة في استحضار المعاني - وسماه أبو هلال في الصناعتين بانتهاز الفرصة (2) - فهي من أهم ما يلزم الخطيب؛ إذ ليس يخلو من سامعٍ يدافع عن هواه أو عدوٍّ يترصد سقطاتِ الخطيب ليُرِيَ الحاضرين أنه ليس على حقٍّ فيما قال، أو مجيبٍ يجيب عن تقريع الموعظة، فإن لم يكن الخطيبُ قويَّ البداهة، أسكته المعترضُ أو المجيب. وقد كان عمر مرةً يخطب يوم الجمعة فدخل عثمان فقال له عمر:"أيةُ ساعةٍ هذه؟ ما بال أقوام يسمعون الأذان ويتأخرون! فقال له عثمان: ما زدت على أنْ سمعت الأذان فانقلبت فتوضأت. فقال له عمر: والوضوء أيضًا، وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل".
(1) الحريري: مقامات الحريري، ص 216 - 217 (المقامة الفراتية). وعبارة "الفصل" الأولى في كلام الحريري معناها التمييز بين الحق والباطل في شأن الحساب والإنشاء، وعبارة "الفصل" الثانية المقصود بها الحد أو الغاية التي بلغها الكلام، فحصل بذلك جناس تام.
(2)
العسكري: كتاب الصناعتين، ص 13.
ويعين على ذلك تنبُّهُه لما في كلام المجيب من مجاري الخلل، ومواضع النقد (1).
وأما شروطُ الخطيب في ذاته، فمنها جودةُ القريحة، وهي أمر غير مكتسب وقد قال موسى عليه السلام:{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)} [طه: 27، 28]. وسيأتي لذكر اكتسابها كلام في عيوب الخطباء، قال أبو هلال:"من الناس مَنْ إذا خلا بنفسه وأعمل فكرَه أتى بالبيان العجيب، [والكلام البديع المصيب] ، واستخرج المعنى الرائق، وجاء باللفظ الرائع. وإذا حاور أو ناظر، قصَّر وتأخَّر، فحقُّ هذا أن لا يتعرض لارتجال الخطب"، ومنهم من هو بالعكس (2).
ومنها أن يكون رابطَ الجأش، أي غير مضطرِبٍ في فهمه ولا مندهش؛ لأن الحيرة والدَّهَشَ يصرفان الذهن عن المعاني، فتجيء الحُبسة، ويرتج على الخطيب.
ومنها أن يكون مرموقًا من السامعين بعين الإجلال لتُمْتَثَلَ أوامرُه، ويحصُل ذلك بأمورٍ كثيرة منها شرف المحتد قال الشاعر:
لَقَدْ ضَجَّتِ الأَرْضُونَ إِذْ قَامَ مِنْ بَنِي
…
سَدُوسٍ خَطِيبٌ فَوْقَ أَعْوَادِ مِنْبَرِ (3)
(1) من هذا ما حكي أن عبد الرحمن بن معاوية الداخل إلى الأندلس لما فتح سرقسطة، أقبل خواصه يهنئونه، فدخل معهم بعض الجند فهنأه بصوت عال، فقال له الأمير:"والله لولا أن هذا اليوم يوم أسبغ فيه النعمة عليّ من هو فوقي، فأوجب ذلك عليّ أن أنعم فيه على من هو دوني، لأُصْلِيَنَّك ما تعرضتَ له من سوء النكال، مَنْ تكون حتى تُقبل مهنِّئًا، رافعًا صوتَك غير متهيب لمكان الإمارة، [ولا عارف بقيمتها، حتى كأنك تخاطب أباك أو أخاك؟ ] وإن جهلك لَيحملك إلى العَوْد لمثلها، فلا تجد مثلَ هذا الشافع في مثلها من عقوبة. فقال (الجندي): ولعل فتوحات الأمير يقترن اتصالُها باتصال جهلي وذنوبي، فتشفع لي متى أتيت بمثل هذه الزلة، لا أعدمنيه الله تعالى، فتهلل وجه الأمير وقال له: ليس هذا باعتذار جاهل، ثم قال: نبِّهونا على أنفسكم، إذا لم تجدوا من ينبهنا عليها]، ورفع مرتبته [وزاد في عطائه] ". فلولا أن كلام الأمير هيأ له العذر ولقنه إياه لبهت من حينه. - المصنف. انظر الخطبة في: المقري التلمساني، أحمد بن محمد: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق إحسان عباس (بيروت: دار صادر، 1408/ 1988)، ج 3، ص 41 - 42.
(2)
العسكري: كتاب الصناعتين، ص 15.
(3)
البيت من شواهد النحو، وهو من بحر الطويل. وهو لكعب بن معدان الأشقري، وبه جزم محمد محيي الدين عبد الحميد. انظر: ابن جني، أبو الفتح عثمان: المحتسب في تبيين وجوه شواذ =
وكذلك حفظُ العِرض بحيث لا تُحفظ له هنةٌ أو زلة، وقد رُوِيَ عن عمر رضي الله عنه أنه قال:"احذر من فلتات الشباب كلَّ ما أورثك النبزَ وأَعْلَقَك اللَّقَب، فإنه إن يعظُمْ بعدها شأنُك يشتد على ذلك ندمُك". (1) وفي متابعة آداب الإسلام والوقوف عند شرائعه ملاكُ ذلك كله. ومثلُ ذلك رجاحةُ الرأي، وقوةُ العلم والحكمة، قال أبو واثلة يهجو عبد الملك بن المهلب:
لَقَدْ صَبَرَتْ لِلذُّلِّ أَعْوَادُ مِنْبَرٍ
…
تَقُومُ عَلَيْهَا، فِي يَدَيْكَ قَضِيبُ
بَكَى الْمِنْبَرُ الْغَرْبِيُّ إِذْ قُمْتَ فَوْقَهُ
…
فَكَادَتْ مَسَامِيرُ الْحَدِيدِ تَذُوبُ
رَأَيْتُكَ لمَّا شِبْتَ أَدْرَكَكَ الَّذِي
…
يُصِيبُ سَرَاةَ الأُسْدِ حِينَ تَشِيبُ
سَفَاهَةُ أَحْلَامٍ وَبُخْلٌ بِنَائِلٍ
…
وَفِيكَ لِمَنْ عَابَ المُزُونَ عُيُوبُ (2)
فهذه أهمُّ الشروطِ الذاتية، ويعد علماءُ الأدب تارةً صفاتٍ أخرى هي بالمحاسن أشبه، مثل سكون البدن وقت الكلام؛ لأنه دليلٌ على سكون النفس، ولا
= القراءات والإيضاح عنها، تحقيق علي النجدي ناصف وزميليه (القاهرة: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1415/ 1994)، ج 1، ص 218؛ ابن هشام الأنصاري، أبو محمد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله: شرح شذور الذهب في معرفة كلام العرب، ومعه كتاب منتهى الأرب بتحقيق شرح شذور الذهب لمحمد محيي الدين عبد الحميد (القاهرة: دار الطلائع، 2004)، ص 86. وهو بلا نسبة في: السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر: همع الهوامع في شرح جمع الجوامع، تحقيق أحمد شمس الدين (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1418/ 1998)، ج 1، ص 154؛ الأزهري، خالد بن عبد الله: شرح التصريح على التوضيح، تحقيق محمد باسل عيون السود (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1421/ 2000)، ج 1، ص 9. ويروى "من بني هَدَادٍ" عوض "بني سدوس".
(1)
الجاحظ: البيان والتبيين، ج 1/ 2، ص 187.
(2)
المزون هو الذاهب إلى وجهه. - المصنف. الجاحظ: البيان والتبيين، ج 1/ 1، ص 198 - 199، ج 1/ 2، ص 205. والشاعر هو واثلة (لا أبو واثلة) بن خليفة السدوسي.
يوجد هذا في كل خطيب. ومثل ما سماه أرسطو بالسَّمْت (1)، وهو أن يكون على هيئةٍ معتَبَرةٍ في نفوس الجمهور: من لبسه، وحركته، ونحو ذلك. وقد أشار الحريري إلى هذا في المقامة الثامنة والعشرين فقال:"برز الخطيبُ في أُهْبته، متهاديًا خلف عُصْبته"(2)، فأشار إلى لباسه ومشيه.
وأما شروطُ الخطيب في نفسه فأهمُّها اعتقادُه أنه على صوابٍ وحق؛ لأن ذلك يودع كلامَه تأثيرًا في نفوس السامعين، وأقوى له في الدعوة إليه والدفاع عنه. ويحصُلُ ذلك بالتزامه متابعةَ الحق، وبكونه على نحو ما يطلبه من الناس. وانظر ما حكاه الله تعالى عن شعيب:{قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} [هود: 88].
(1) وهو ما يعبر عنه في اللغة اللاتينية بلفظ Circumspectio. قال أرسطو في بيان معنى السمت وإبراز أهميته خلال تعريفه للخطابة ووظيفتها وغايتها: "فأما التصديقات التي نحتال لها بالكلام فإنها أنواعٌ ثلاثة: فمنها ما يكون بكيفية المتكلِّم وسمته، ومنها ما يكون بتهيئة السامع واستدراجه نحو الأمر، ومنها ما يكون بالكلام نفسه قبل التثبيت. فأما بالكيفية والسَّمت فأن يكون الكلامُ بنحوٍ يجعل المتكلِّمَ أهلًا أن يُصَدَّقَ ويُقبل قولُه. والصالحون هم المصدَّقون سريعًا بالأكثر في جميع الأمور الظاهرة، فأما التي ليس فيها أمرٌ قاطع، ولكن وقوف بين ظنَّين، فإن هذا النحو أيضًا مما ينبغي أن يكون تثبيته بالكلام لا بما ذكرناه آنفًا من كيفية المتكلم وسمته. . . بل الكيفية والسمتُ قريبٌ من أن يكون له التصديق بالحقيقة". وقال ابن رشد في شرحه: "فأما التصديقات التي نفعلها نحن ونخترعها فهي ثلاثة أنواع: أحدها إثباتُ المتكلم فضيلةَ نفسه التي يكون بها أهلًا أن يُصدَّق، كما قال تعالى حاكيًا عن هود: {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)} [الأعراف: 68]. وأن يكون عند التكلم بهيئة في وجهه وأعضائه شأنها أن توقع التصديقَ بالشيء المتكلَّم فيه، مثل التؤدة والوقار وغير ذلك. والفضيلة التي شأنها هذا هي التي يعني أرسطو بالكيفية، والهيئة التي شأنها هذا هي التي يعني بالسَّمت". أرسطوطاليس: الخطابة، ص 10؛ ابن رشد: تلخيص الخطابة، ص 17.
(2)
الحريري: المقامات الأدبية، ص 285 (المقامة السمرقندية).