الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابن أخيه أبي جعفر المنصور، فإن ابنَ المقفع كتب له على المنصور عهدًا لم يترك للمنصور فيه مدخلًا للخيانة إلا سده عليه (1).
كيفية الإنشاء للمعنى
الإنشاءُ كاسمه إحداثُ معانٍ منسَّقةٍ ومُفْرَغَة في غرضٍ مطلوب، فإذا أُحْسِنَ وصلُها وجمعُها جاء الإنشاءُ كاملا. وأساسُ ذلك ثلاثةُ أمور: المعنى الأساسي، وتفصيله، وإيضاحه.
أما المعنى الأساسيُّ فهو الموضوعُ الذي يجول فيه الفِكْرُ، ويجيش به الخاطر، وهو غرضٌ إجمالي يجب إحضارُه على إجماله، ثم يشرع في بيانه وإقناع السامعين به. فهو نظيرُ المطلوب في اصطلاح المناطقة، أعني ما يُقام عليه البرهان. وهو في اصطلاح الكتاب ما تترجَم به الرسالة، أو تُعَنْوَنُ به المقالة، مثل قولنا: العلمُ أساس العمران، والاتحاد سبب القوة. ولا نريد من إجماله كونَه بسيطًا، وإنما نريد أنه غيرُ ملحوظٍ فيه التفريعُ ابتداء.
وأما تفصيلُ المعنى، فهو التبصُّرُ في تقاسيمه وفروعه، وتفكيكُه بإطالة النظر فيه، للتنبه إلى ما ينحلُّ إليه من الحقائق، والأدلة، والمرغِّبات أو المنفِّرات.
(1) كان ابن المقفع كاتبًا لعيسى بن علي أخي عبد الله المذكور، وكان عبد الله فد وقعت بينه وبين أبي جعفر المنصور إحنٌ هزمه فيها أبو جعفر المنصور، ففر إلى البصرة متواريًا عند أخيه عيسى، ثم سأل الأمانَ من المنصور فبذل له الأمان ناويًا الغدر به، فسأل عبد الله بنَ المقفع أن يكتبَ له عهدًا وثيقًا على المنصور ليمضيَه له، فكتب له عهدًا لم يُبْقِ للمنصور به مدخلًا إلى الغدر إلا سده عليه. وابن المقفع هو عبد الله بن داذ جنشنش، أصله من خراسان. ولمَّا أسلم سُمِّيَ عبد الله، ولقب أبوه بالمقفع؛ لأن الحجاج ضربه حتى تقفعت يده، أي تشنجت يده. توُفِّيَ عبد الله سنة 173 هـ مغتالًا في دار أمير البصرة المعزول سفيان بن عيينة المهلبي، وشهد له الخليلُ بالعلم والأدب. - المصنف. قيل اجتمع ابن المقفع بالخليل، "فلما افترقا قيل للخليل: كيف رأيتَه؟ فقال: علمُه أكثر من عقله. وقيل لابن المقفع: كيف رأيتَ الخليل؟ فقال: عقلُه أكثرُ من علمه". وفيات الأعيان، ج 2، ص 151.
وأما الإيضاحُ فهو شرح تلك المعاني، وذكر أدلتها وفروعها، ليمكن حينئذ التعبيرُ عنها بوجهٍ سهل التصور للسامعين. فإذا حصل ذلك، لم يبق إلا كسوُ تلك المعاني بالألفاظ، فتسهلُ الإفاضةُ في إنشاء الموضوع المراد على حد ما قيل:"فإن وجدتَ لسانًا قائلًا فقلِ"(1).
نُقِل عن عبد الله ابن المعتز أنه قال: "إن البلاغة بثلاثة أمور: أن تغوص لحظة القلب في أعماق الفكر، وتجمع بين ما غاب وما حضر. ثم يعود القلب على ما أُعمِل فيه الفكر، فيُحكم سياقَ المعاني ويحسن تنضيدها. ثم يبديه بألفاظ رشيقة مع تزيين معارضها واستكمال محاسنها". (2)
واعلمْ أنه قلما يستطيع الكاتبُ أو الخطيب أن يتناولَ الموضوعَ من أوله إلى نهايته دفعةً واحدة، فإن هو كلَّف عقلَه ذلك أرهقه ضَجَرًا، ولا سيما عند تشعُّب
(1) هذا عجز البيت الخامس من قصيدة للمتنبي يمدح فيها سيف الدولة ويعتذر إليه، وذلك في سنة 341 هـ:
وَقَدْ وَجَدْتَ مَجَالَ الْقَوْلِ ذَا سَعَةٍ
…
فَإِنْ وَجَدْتَ لِسَانًا قَائِلًا فَقُلِ
ومطلعُها:
أَجَابَنِي دَمْعِي وَمَا الدَّاعِي سِوَى
…
طَلَلٍ دَعَا فَلَبَّاهُ قَبْلَ الرَّكْبِ والإِبِلِ
البرقوقي: شرح ديوان المتنبي، ج 3، ص 205.
(2)
ذكر لويس شيخو هذا التعريف للبلاغة ناسبًا إياه إلى كل من ابن المعتز والشيباني، وذلك في معرض كلامه على أصول الخطابة. اليسوعي، الأب لويس شيخو: كتاب علم الأدب، ج 2: في علم الخطابة (بيروت: مطبعة الآباء اليسوعيين، ط 3، 1926)، ص 13. وقريبٌ منه ما أورده الحصري:"قال أبو العباس ابن المعتز: لحظةُ القلب أسرع خطرة من لحظة العين، وأبعدُ مجالًا، وهي الغائصة في أعماق أودية الفكر، والمتأملة لوجوه العواقب، والجامعة بين ما غاب وما حضر، والميزانُ الشاهدُ على ما نفع وضر، والقلبُ كالمملي للكلام على اللسان إذا نطق، واليد إذا كتبت، والعاقل يكسو العاني وشي الكلام في قلبه، ثم يبديها بألفاظ كواسٍ في أحسن زينة، والجاهل يستعجل بإظهار المعاني قبل العناية بتزيين معارضها، واستكمال محاسنها". الحصري القيرواني، أبو إسحاق إبراهيم بن علي: زهر الآداب وثمر الألباب، تحقيق صلاح الدين الهواري (صيدا/ بيروت: المكتبة العصرية، ط 1، 1421/ 2001)، ج 1، 146.