الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تنبيه: هذه الاستعمالات المذكورة في المسألتين من قبيل المجاز المركَّب المرسل، والعلاقة العامة في جميعها هي اللزوم ولو بعيدًا، وقد تُتطلب لبعض استعمالاته علاقاتٌ أخرى بحسب المواقع.
المسألة الثالثة: قد تُستعمل صيغُ الإنشاء في مَنْ حالُه غيرُ حالِ مَنْ يُساق إليه ذلك الإنشاء، كأمر المتلبس بفعل بأن يفعله نحو:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء: 136]، وكنهي من لم يتصف بفعل عن أن يفعله نحو:{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم: 42].
والقصد من ذلك طلبُ الدوام، فينزل المتصف منزلةَ غير المتصف تحريضًا على الدوام على الاتصاف.
وكنداء المقبل عليك، نحو قولك للسامع:"يا هذا". ونداء مَنْ لا ينادى بتنزيله منزلةَ مَنْ ينادى نحو: {يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس: 30] أي: احضري فهذا موضعك. وهذه مجازات ظاهرة وتفريعها سهل.
هذا نهايةُ القول في الأبواب المختصة بذكر الأحكام البلاغية التي تعرض للمفردات في حال تركيبها. ومن الأحكام ما هو عارض للجمل المؤتلف منها الكلام البليغ تفريقًا وجمعًا، وتطويلًا واختصارًا. وقد خص لذلك بابان: باب
الوصل والفصل
وباب الإيجاز والإطناب والمساواة. وها أنذا شارع فيهما إكمالًا لأبواب علم المعاني.
الوصل والفصل
الوصل عطف بعض الجمل على بعض، والفصل تركه. وحقُّ الجمل إذا ذكر بعضُها بعد بعض أن تُذكر بدون عطف؛ لأن كلَّ جملة كلام مستقل بالفائدة، إلا أن أسلوب الكلام العربي غلب فيه أن يكون متصلًا بعضُه ببعض بمعمولية العوامل
والأدوات، أو بالإتباع، أو بالعطف (1)، فلا تذكر جمل الكلام ولا كلماته تعدادًا إلا في الواقع التي يقصد فيها التعداد نحو قوله:{فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13)} [الغاشية: 12، 13]، أو في حكاية المحاورات نحو:{قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} [هود: 69]، وقولنا: سئل فلان أجاب (2)، أو إملاء الْحُسبان نحو واحد اثنان، أو قصد إظهار انفصال الجمل واستقلالها كقوله تعالى:{إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)} [الدخان: 15، 16]. أو في مواقع الفصل الآتية:
(1) فإن الكلمات المجتمعة إنما يجمعها معنى عامل نحو: كتب زيد الكتاب، وكسوت زيدًا جبة، وأخبرتك زيدًا قائمًا. وكذلك بالأدوات نحو: مررت بزيد، فإن انتهت قوة العامل - أي أخذ من المعمولات ما يقتضيه معناه - توصل إلى غير ذلك بالإتباع من نعت أو بيان أو بدل. وهذه التوابع هي في الحقيقة عين المتبوع في المعنى. أما طريق توصل العوامل لما هو أجنبي عن معمولاتها فذلك منحصرٌ في طريق عطف النسق؛ فإنك إذا أردت أن تعدي "كسا" مثلًا لأكثر من مفعولين، لم تجد مسلكًا لذلك إلا العطف فتقول: كسوتك جبة وبرنسًا وقميصًا. فلا جرم كان عطف النسق هو الذي يجمع الكلمات الأجنبية بعضها عن بعض في المعنى والبعيد بعضها عن أن يصل إليه عملُ العامل. ومثل ما قيل في المفردات يقال في الجمل، بل الجمل للعطف أحوج؛ لأن أكثرها أجنبيٌّ بعضُه عن بعض، إذ الأصل في الجمل الاستقلال. ولذلك لقب عطفها بالوصل؛ لأن له مزيدَ أثر في الربط لشدة تباعد الجملتين. ثم اعلم أن مسائل الفصل والوصل الغرضُ منها معرفة أساليب العرب في ربط جمل الكلام حتى يجيء المتكلم بكلام لا يوقع فهم السامع في لبس. ولذلك كان حق مسائل هذا الباب أن تكون أعلقَ بعلم النحو؛ إذ ليس فيها ما يفيد خصوصياتٍ بلاغية. غير أن الذي دعا علماء البلاغة إلى ذكرها في هذا الفن أمور ثلاثة: أحدها أن النحاة تكلموا على أحكام العطف، ولم يتكلموا على أحكام ترك العطف. ثانيها أنهم تركوا كثيرًا من مسائل المناسبات. ثالثها أنه لمَّا كان العطفُ وتركه قد يُلاحَظ فيهما أمورٌ ادعائية في الشعر والخطابة ناسبَ أن يُذكر مع خصوصيات علم المعاني. - المصنف.
(2)
ومنه قول الشاعر:
قَالَ لِي: كَيْفَ أَنْتَ؟ قُلْتُ: عَلِيلُ
…
سَهَرٌ دَائِمٌ وَحُزْنٌ طَوِيلُ
- المصنف. البيت في الجرجاني، وقال فيه الشيخ محمود شاكر:"مشهور غير منسوب". دلائل الإعجاز، ص 238.
فعطفُ الجمل إما بالواو المقتضية لأصل التشريك في الحكم المتكلَّم فيه، وإما بحرف آخر يدل على معنى زائد على التشريك أو على ضد التشريك إذا وجد معنى ذلك الحرف نحو الفاء وحتى وأو وبل. وهذا الأصلُ الذي أشرت إليه يُعدَلُ عنه لأحد أمرين: لمانع يمنع منه، أو لشيء يُغْني عنه.
ثم شَرطُ صحة العطف مطلقًا في المفردات والجمل وبالواو وبغيرها، وجودُ المناسبة التي تجمع الجملةَ المعطوفة والجملةَ المعطوف عليها في تعَقُّل العقول المنتظمة بحسب المتعارف (1) عند المتكلمين بتلك اللغة.
وهاته المناسبةُ لا تعدو التماثلَ أو التضاد أو القرب من أحدهما نحو: زيد يكتب ويشعر، {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10)} [الرحمن: 7 - 10]. بخلاف نحو زيد يكتب (2)، وينام، ويعطي، وينظم الشعر، وخرجت من السوق، وأبدع امرؤ القيس في شعره، وإن كان كلُّ ذلك كلامًا صادقًا، حتى كان العطف في المقام الذي لا توجد فيه المناسبة مؤذِنًا بمقصد كمقصد التشبيه في قول كعب:"إِنَّ الأَمَانِيَّ وَالأَحْلَامَ تَضْلِيلُ"(3). فإن الكلامَ على مواعيد سعاد وأمانيها، ولا كلام على الأحلام، فلما عطف الأحلامَ على الأماني علمنا أنه قصد
(1) سيأتي بُعيد هذا ما يبيّن المراد من قولي: "المنتظمة بحسب المتعارف". - المصنف.
(2)
فقوله: "زيد يكتب" إلخ مثال للتماثل، وقوله:"يعطي ويمنع" مثال للتضاد، وقوله {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا} [الرحمن: 7] مثال لشبه التضاد. ويجمع أمثلة القرب من التماثل والتضاد قوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)} [الغاشية: 17]. - المصنف.
(3)
البيت من قصيدة "بانت سعاد"، وتمامه:
فَلَا يَغُرَّنَّكَ مَا مَنَّتْ وَمَا وَعَدَتْ
…
إِنَّ الأَمَانِيَّ وَالأَحْلَامَ تَضْلِيلُ
السكري: شرح ديوان كعب بن زهير، ص 9.
تشبيهَ أمانيه الناشئة عن دعواها بالأحلام في اللذاذة وعدم التحقق. وهذا وجهُ الاحتراز فيما مضى بقولي: "المنتظمة بحسب المتعارف".
وقد يكون التناسب موهومًا، ومجرد دعوى، في المقامات الشعرية واللطائف، كقوله:
ثَلَاثَةٌ تُشْرِقُ الدُّنْيَا بِبَهْجَتِهَا
…
شَمْسُ الضُّحَى وَأبُو إِسْحَاقَ وَالقَمَرُ (1)
وقد يكون التناسبُ غريبًا نابعًا لتناسب شيئين آخرين، كقوله تعالى:{وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6)} [الرحمن: 6]، فإن التناسب أوجده ما يأتي بعده من قوله:{وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا} ، وقوله:{وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10)} ؛ لأن النجم من توابع السماء والشجر من توابع الأرض. ثم يكفي في هذه المناسبة التقارنُ في الغرض المسوق له الكلام.
ولهذا كان العطف بالفاء وثم وحتى أوسعَ في هذه المناسبة المشروطة؛ لأن الترتب أو المهلة أو الغاية كلها مناسبات كافية لتصحيح العطف لأنها دالة على التقارن في الوجود. وهذا التقارن مهيِّئ للمناسبة ومسوِّغٌ للعطف، لكنه يزداد حسنًا إذا قوِيَ التناسب. ولذا كان أصل الفاء التفريع ما لم تبعد المناسبة، ألا ترى كيف حسن العطف في قول عمرو بن كلثوم:
نَزَلْتُمْ مَنْزِلَ الأَضْيَافِ مِنَّا
…
فَأَعْجَلْنَا القِرَى أَنْ تَشْتُمُونَا (2)
(1) البيت لمحمد بن وُهيب الحميري، وقد سبق التعريف به. الأصفهاني: كتاب الأغاني، ج 19، ص 75 (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج 7/ 19، ص 53 (نشرة الحسين).
(2)
هذا تهكم، أي نزلتم بأرضنا لِحَربنا فبادرنا بقتالكم، فجعل نزولَهم ضيافة وقتاله إياهم قِرى، فلما عبر عن المعنيين. - المصنف. البيت هو السابع والثلاثون من معلقته. ديوان عمرو بن كلثوم، تحقيق إميل بديع يعقوب (بيروت: دار الكتاب العربي، ط 2، 1417/ 1996)، ص 73.
وكيف يقبح العطف بالفاء لو قلت: جاء زيد فصفعوه، ويزيدُ قبحًا لو قلت: جاء زيد فنهق الحمار، لبعد المناسبة (1). وكيف يحسن أن تقول: طلع الفجر فأذن المؤذن؟
وقول ابن زمرك (2):
هَبَّ النَّسِيمُ عَلَى الرِّيَاضِ مَعَ السَّحَرْ
…
فَاسْتَيْقَظَتْ فِي الدَّوْحِ أَجْفَانُ الزَّهَرْ (3)
ويكون دونه حسنًا: "طلع الفجر فصاح الديك"، وكيف يقبح أن تقول: طلع الفجر فاستيقظ زيد إذا لم يكن الحديث قبل ذلك على زيد؟
إذا تحققت هذا، فاعلم أنه يتعين الوصلُ إذا أُريد تشريكُ الجملة المعطوفة للجملة المعطوف عليها في حكمها في الإعراب، كعطف الجمل المعمولة لعاملٍ واحد بعضها على بعض (4)، أو التشريك في حكمها في المعنى وإن لم يكن للمعطوف عليها محلٌّ من الإعراب.
(1) لأن الصفع لا يترقب حصوله إثر المجيء، لكنه لتعلقه بزيد كان في رجائه مناسبة، فكان قبحه أضعف من قبح المثال الذي بعده. - المصنف.
(2)
هو أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد الصريحي (733 - 793) المعروف بابن زمرك، من كبار الشعراء والكتاب في الأندلس، كان وزيرًا لبني الأحمر. ولد بروض البيازين بغرناطة وتتلمذ على لسان الدين ابن الخطيب. ترقى في الأعمال الكتابية إلى أن جعله الغني بالله - صاحب غرناطة - أمينَ سره عام 773 هـ، ثم عينه متصرفًا في رسالته وحجابته. أساء إلى بعض رجال الدولة، فبعث إليه حاكمه من قتله في داره، وقد قتل من وجد معه من خدامه وبنيه. وكان قد حرَّض على أستاذه لسان الدين ابن الخطيب حتى قتل ابن الخطيب خنقًا. وقد جمع السلطان ابن الأحمر شعر ابن زمرك وموشحاته في مجلد ضخم سماه "البقية والمدرك من كلام ابن زمرك"، رآه المقري في المغرب ونقل كثيرًا منه. وقد ترجم له في أزهار الرياض (ج 2، ص 7 - 206) وأورد له جملة كبيرة من قصائده وموشحاته.
(3)
البيت طالع قصيدة من بحر الكامل أنشدها ابن زمرك في مدح السلطان الغني بالله ابن الأحمر. المقري التلمساني: أزهار الرياض، ج 2، ص 35 - 38؛ الصريحي، محمد بن يوسف: ديوان ابن زمرك الأندلسي، تحقيق محمد توفيق النيفر (بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط 1، 1997)، ص 409 - 412.
(4)
شرط هذا العامل أن يفيد حكمًا معتبرًا، فلذلك تعتبر الجمل المحكية بالقول كأنها لم يجمعها عاملٌ إعرابي، فلا يعطف الثانية منها على الأولى، وإنما تأخذ حكم الجمل حين نطق بها قائلها، =
والمراد من الحكم الكيفية الثابتة لمفهوم الجملة المعطوف عليها، مثل حكم القصر في قوله تعالى {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)} [الرعد: 7]، فقد عطف جملة "ولكل قوم هاد" على جملة إنما أنت منذر؛ لأن المقصود تشريكها في حكم القصر، إذ المقصود من الجملتين الردُّ على من اعتقد خلافَ ذلك (1)، وليس للجملتين محلٌّ من الإعراب.
ويتعين الفصلُ إذا أُريد التنبيهُ على أن الجملة الثانية منقطعةٌ عن الأولى، أي غير مشاركة لها لا في الحكم الإعرابي نحو قوله تعالى:{قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 14، 15] لم تعطف جملة "الله يستهزئ بهم" لئلا يظن السامع أنها من قولهم، ولا في مجرد الحكم المعنوي حيث لم يكن إعراب، نحو قوله تعالى:{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى} [الرعد: 7، 8] ، لم تُعطف جملةُ "الله يعلم"؛ لأنه لم يُقصد دخولُها في حكم القصر، إذ لا قصد للرد على معتقد أن الله لا يعلم ما تحمل كلُّ أنثى، إذ لم يكن في المخاطَبين من المشركين وأهل الكتاب من يعتقد ذلك. وكذا قولهم:"مات فلان رحمه الله"، فلو عطف "رحمه الله" لظن أن الجملة الدعائية إخبارٌ عن فعل الله معه.
فالفصلُ في هاته الأمثلة كلها لأجل انقطاع الجملتين بعضهما عن بعض، كما رأيت. ويتعين الفصلُ أيضًا إذا كانت الجملةُ الثانية عينَ الأولى في المعنى، أو في محصل الفائدة؛ لأن العطف يقتضي المغايرة. فالتي هي عين الأولى في المعنى نحو قول الشاعر الذي لم يعرف:
أَقُولُ لَهُ ارْحَلْ لَا تُقِيمَنَّ عِنْدَنَا
…
وَإِلَّا فَكُنْ فِي السِّرِّ وَالجَهْرِ مُسْلِمَا (2)
= إلا إذا أريد التنبيه على تكرر القول نحو: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)} [آل عمران: 173] إذا جعلنا الواو للعطف في المقول. - المصنف.
(1)
أي الذين اعتقدوا أنه غير منذر وكذبوه، والذين اعتقدوا أنه لا رسولَ إلا الرسل الذين مضوا، أو اعتقدوا أنه لا رسول بعد موسى عليه السلام. - المصنف.
(2)
وقد استشهد به ابن هشام ولم ينسبه لأحد. الأنصاري: مغني اللبيب، ج 2، ص 490.