الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الأول: [الإنشاء] المعنوي
(1)
إنما يُنْشِئُ المنشِئُ معانيَ يُعبِّر عنها بألفاظ، فمادةُ الإنشاء هو المعنى، واللفظ ظرفٌ له. فإذا حاول الكاتبُ حتى ابتكر شريفَ المعاني، أطاعته الألفاظُ، وجاء إثشاؤه متينًا واضحًا. ولأمرٍ مَّا تفاوت البلغاءُ والشعراء من العرب في الإجادة، مع أنهم ينطِقون بلغة واحدة لا يتفاوتون في العلم بها وبخصائصها، وإنما تفاوتُهم في ابتكار المعاني والنباهة في التعبير عنها. وكذلك الأمرُ فيمن بعدهم من المولَّدين، فقد تجد الإمامَ في اللغة لا يستطيع إنشاءَ رسالة ينشئها مَنْ هو دونه علمًا، كما قيل "إن ابنَ دريد شاعر العلماء"، مع أن كثيرًا مِمَّنْ هو دونه أجودُ منه شعرًا بكثير (2).
قال الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز: " [فقد اتضح إذن اتضاحًا لا يدع للشك مجالًا] أن الألفاظَ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظٌ مجردة، ولا من حيث هي
(1) قسم ابن الأثير وغيرُه كتبَهم في الإنشاء إلى قسمين: معنوي ولفظي، تبعًا لتقسيم علماء علم البديع، وهو تقسيمٌ وجيه. ولذلك اتبعناهم. - المصنف.
(2)
كذا قال ابن الأثير في المثل السائر. - المصنف. قال ابن الأثير في سياق كلامه على الصناعة اللفظية والتمييز بين الفصيح والوحشي من الألفاظ: "ومما ترقص الأسماع له ويرن على صفحات القلوب قول يزيد بن الطثرية في محبوبته من جرم:
بنَفْسِي مَنْ لَوْ مَرَّ بَرْدُ بَنَانِهِ
…
عَلَى كَبِدِي كَانَتْ شفَاءً أَنَاملُهْ
وَمَنْ هَابَنِي فِي كُلِّ شَيْءٍ وَهِبْتُهُ
…
فَلَا هُوَ يُعْطِينِي وَلَا أَنَا سَائِلُهْ
وإذا كان هذا قول ساكن في الفلاة لا يرى إلا شيحةً أو قيصومة ولا يأكل إلا ضبًّا أو يربوعًا، فما بال قوم سكنوا الحضر ووجدوا رقةَ العيس [كذا في الأصل، ولعلها: العيش] يتعاطون وحشيَّ الألفاظ وشظف العبارات؟ ! ولا يخلد إلى ذلك إلا إما جاهلٌ بأسرار الفصاحة وإما عاجزٌ عن سلوك طريقها؛ فإن كل أحد ممن شدَا شيئًا من علم الأدب يمكنه أن يأتي بالوحشي من الكلام، وذاك أنه يلتقطه من كتب اللغة أو يتلقفه من أربابها. وأما الفصيح المتصف بصفة الملاحة، فإنه لا يقدر عليه، ولو قدر عليه لما علم أين يضع يده في تأليفه وسبكه. فإن مارى في ذلك ممارٍ، فلينظر إلى أشعار علماء الأدب ممن كان مشارًا إليه حتى يعلم صحة ما ذكرته. هذا ابن دريد قد قيل: إنه أشعر علماء الأدب، وإذا نظرت إلى شعره وجدته بالنسبة إلى شعر الشعراء المجيدين منحطًّا مع أن أولئك الشعراء لم يعرفوا من علم الأدب عشر معشار ما علمه". المثل السائر، ج 1، ص 178.
كَلِمٌ مفردة، وأن الفضيلةَ وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها وما أشبه ذلك". (1) فيدخل في قوله "وما أشبه ذلك" ما ذكرناه هنا، وقد بسط هذا وكرره في مواضع من "دلائل الإعجاز". وقال التفتازاني في شرح قول المفتاح: "وأصلُ الحسن في جميع ذلك أن لا تكون المعاني توابعَ الألفاظ" (2)، ما نصُّه: "إن المعاني إذا تُركت على سجيتها طَلبَتْ لأنفسها ألفاظًا تليق بها، فيحسُن اللفظُ والمعنى جميعًا. وإذا أُتِي بالألفاظ متكلَّفةً وجُعلت المعاني تابعة لها، فات الحسنُ لفواتِ ما هو المقصد الأصلي والغرض الأولي، بل ربما صارت جهةُ حُسْنِ الكلام جهةَ قبحٍ لكون الكلام كظاهر مُمَوَّه على باطنٍ مُشَوَّه". (3)
فيجب على المتعلِّمِ الاهتمامُ أولَ الأمر بإيجاد المعاني، والبحثُ عن الحَسَن منها، ومحاولةُ التعبير عن الحوادث والصفات ومظاهر المخلوقات، فإن ذلك أسهلُ تناولا. ثم يرتقي إلى التعبير عن الوجدانيات النفسية، ثم إلى التعبير عن الحقائق الحِكْمِية ونحوها. ولا ينبغي للمتعلِّم أن يجعل جلَّ عنايته باقتباس آثار الكاتبين ونقل معانيهم؛ لأن اعتمادَ ذلك يُصَيِّره غيرَ قادرٍ على مجاوزة معاني السالفين. نعم، يجوز له ذلك في ابتداء التعلم إذا لم يستطع في وقت من الأوقات إحضارَ معنى أن يأخذ رسالة أو شعرًا، فيحوي معانيه دون ألفاظه، ثم يُكَلِّف نفسَه التعبيرَ عنه.
(1) الجرجاني: دلائل الإعجاز، ص 46. وما بين الحاصرتين من كلام الجرجاني، ولم يورده المصنف.
(2)
أورد المصنف كلام السكاكي بشيء من التصرف، ولفظه:"وأصل الحسن في جميع ذلك أن تكون الألفاظُ توابعَ للمعاني لا أن تكون المعاني لها توابع". مفتاح العلوم، ص 542 - 387 (نشرة هنداوي).
(3)
ساق المصنف كلام التفتازاني بتصرف، ولفظه:"أي: لا تكون المعاني توابع للألفاظ؛ ذلك لأن المعاني إذا تُركت على سجيتها طَلبَتْ لأنفسها ألفاظًا تليق بها، فيحسن اللفظ والمعنى جميعًا، وإن أتى بألفاظ متكلفة مصنوعة، وجعل المعاني تابعة لها كان كظاهر مموه على باطن مشوه، ولباس حسن على منظر قبيح، وغمد من ذهب على نصل من خشب". التفتازاني، سعد الدين مسعود بن عمر: المطول شرح تلخيص مفتاح العلوم، تحقيق عبد الحميد هنداوي (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1422/ 2001)، ص 706.