الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولعل هذه الوسائل تسد الفوهاتِ التي نبع لنا منها اللفظُ المشترك، وليس فيه حرجٌ ولا اعتداء على ما سبق من الاستعمال؛ لأنا نريد أن نقتصرَ على بعض ما كان متكاثرًا من الألفاظ في هذا الباب في استعمالنا من دون أن نبطل معانِيَ ما سبق استعمالُه منها فيما سلف، ولا أن نحمل الناسَ على جهل معانيه. ألا ترى أن المولَّدين هجروا استعمالَ كلماتٍ كثيرة كانت شائعةً في شعر الجاهلية - مثل المعلقات وغيرها - من دون أن تُجهل معاني تلك الكلمات.
كيفية استعمال المشترك:
إطلاق المشترك على معنى من معانيه هو أصل استعماله، وهو بين لا يحتاج إلى البحث. وبقي النظرُ في أنه هل يُستعمل في جميع معانيه أو عددٍ منها في إطلاق واحد، بأن يُطلقَ لفظُ العين مثلًا ويراد به جميعُ معانيه أو عددٍ من معانيه. وقد منع من ذلك معظمُ علماء العربية، وكأنهم رأوا أن حكمةَ وضع اللغة تُحَتِّم على الناطق بها سلوكَ سُبل البيان بقدر الإمكان.
فعلى فرضِ أنْ وُجد اللفظُ المشترك لسببٍ من الأسباب الماضية، فإن تعددَ المعانِي يدل على أن أهلَ اللغة وضعوه أو استعملوه فيها على شريطة أن لا يُطلَق إلا إطلاقًا موَزَّعًا، نظير وضع أهل العلم، فإنه صالح لأن يُسمَّى به كلُّ أحد من الصنف المعلم به، ولكن على شريطة أنه إذا سُمِّيَ به هذا لا يُطلق على الآخر. ولذلك يقولون في المعارف كلها: إنها كلياتٌ بحسب الوضع، جزئياتٌ بحسب الاستعمال (1). فنحن نقول في المشترك: إنه موضوعٌ لمتعدد، بشرط استعماله في واحد بعد واحد.
(1) قال السيوطي في باب "المعرفة والنكرة": "وعلى التفاوت اختُلِف في أعرف المعارف: فمذهب سيبويه والجمهور إلى أن المضمر أعرفُها. وقيل العَلَمُ أعرفها، وعليه الصيمري، وعُزي إلى الكوفيين. ونُسب إلى سيبويه، واختاره أبو حيان؛ قال: لأنه جزئيٌّ وضعًا واستعمالًا، وباقي المعارف كلياتٌ وضعًا جزئيَّاتٌ استعمالا". السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر: همع الهوامع في شرح جمع الجوامع، نشرة بعناية أحمد شمس الدين (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1418/ 1998)، ج 1، ص 187 - 188.
وجوّز بعضُ علماء أصول الفقه إطلاقَ المشترك على عدة معان في إطلاق واحد، ونُسب هذا إلى الإمام الشافعي وإلى أبي بكر الباقلاني وأئمة المعتزلة (1). غير أنهم لم يستشهدوا له بشيءٍ من كلام العرب، واستأنس لهم المتأخرون بقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56]، بناءً على أن معنى الصلاة من الله غيرُ معنى الصلاة من الملائكة؛ لأن صلاةَ الله إحسانٌ وصلاة الملائكة استغفار. قال تعالى:{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 5]، وهو استشهادٌ قابلٌ للتأويل بإرادة معنى الصلاة الصالح لأن يُسند إلى الله والملائكة والمؤمنين، ولم أر لهذا الاستعمال شاهدًا في كلام العرب، فالظاهرُ أن هذا مفروضٌ على سبيل البحث.
ومن العلماء مَنْ سوَّغ جمعَ معاني اللفظ المشترك إذا وقع في حيِّز النفي بلا النافية للجنس، بناءً على أن النفيَ قرينةٌ على نفي جميع المعاني. وهو غلط؛ لأن النفي في كلام العرب يتعلق بأفراد معنى اللفظ لا بالمعاني المنفردة للمادة اللغوية.
وتتفرع عن هذه المسألة مسألةُ تثنية اللفظ المشترك وجمعه باعتبار معنيين أو معان، بناءً على أن التثنية والجمع هل يُشترط فيهما أن يكون اللفظُ المثنى أو المجموع متعددًا بالذات متحدًا بالنوع أم يجوز كونُه متعددًا بالنوع أيضًا؟ فإن اشترطناه، لم
(1) الباقلاني، القاضي أبو بكر محمد بن الطيب: التقريب والإرشاد "الصغير"، تحقيق عبد الحميد بن علي أبو زنيد (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 2، 1418/ 1998)، ج 1، ص 422 - 428. وانظر في ذلك: الرازي: المحصول في علم الأصول، ج 1، ص 268 - 269؛ البصري، أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب: كتاب المعتمد في أصول الفقه، تحقيق محمد حميد الله ومعاونيْه (دمشق: المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية بدمشق، 1384/ 1964 - 1385/ 1965)، ج 1، ص 324 - 332؛ القرافي، شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس: نفائس المحصول في شرح المحصول، تحقيق محمد عبد القادر عطا (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1421/ 2000)، ج 1، ص 363 - 366؛ الشوكاني، محمد بن علي: إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، تحقيق محمد صبحي بن حسن حلاق (دمشق/ بيروت: دار ابن كثير، ط 1، 1421/ 2000)، ص 102. وانظر بحثًا جيدًا لمسألة إطلاق اللفظ المشترك على أكثر من اثنين من معانيه عند الأصوليين للأستاذ أبي زنيد في مقدمة تحقيقه لكتاب الباقلاني: الإرشاد والتقريب، ج 1، ص 135 - 161.
يجز تثنيةُ المشترك، وإن لم نشترطه، جازت تثنيةُ المشترك؛ لأن تعدد المعاني اختلافٌ في النوع لا محالة.
ومِمَّنْ جوّز تثنيةَ المشترك وجمعَه ابن الأنباري، والحريري، وابن مالك. واحتجوا بقول الرسول عليه السلام:"الأيدي ثلاث: يد الله [العليا]، ويد المعطي [التي تليها]، ويد السائل [السفلى إلى يوم القيامة، فاستعفف عن السؤال ما استطعت] "(1)، وعليه بنى الحريري قولَه في المقامة العاشرة:
جَادَ بِالعَيْنِ حِينَ أَعْمَى هَوَاهُ
…
عَيْنَهُ فَانْثَنَى بِلَا عَيْنَيْنِ (2)
أراد بالعين الأولى الذهب، وبالثانية البصيرة.
ومنع ذلك الجمهور، ولَحَّنوا الحريري. ولعلهم أجابوا عن الحديث بأن إضافة اليد إلى اسم الجلالة على طريق المشاكلة، فكان جمع الأيدي بهذا الاعتبار. وقال ابن عصفور الحضرمي الإشبيلي ثم التونسي (3):"إن اتفق معنى الاسم المشترك في موجب تسميتهما باللفظ المشترك، نحو عين للذهب والبصيرة". (4)
(1) كذا أخرجه الحاكم، وما بين معقوفتين لم يورده المصنف. وجاء في رواية أخرى عنده وعند أبي داود بلفظ:"الأيدي ثلاث: فيد الله العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى، فأعط الفضْلَ ولا تعجز عن نفسك". النيسابوري، أبو عبد الله الحاكم: المستدرك على الصحيحين، نشرة بعناية أبي عبد الرحمن مقبل بن هادي الوادعي (القاهرة: دار الحرمين للطباعة والنشر، ط 1، 1417/ 1997)، "كتاب الزكاة"، الحديث 1486، ج 1، ص 565؛ السجستاني، أبو داود سليمان بن الأشعث: سُنَنُ أبي دَاوُد، نشرة بعناية محمد عبد العزيز الخالدي (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 4، 2010)، "كتاب الزكاة"، الحديث 1649، ص 270. وقد خرَّج الحاكم روايةً أخرى للحديث برقم 1484 مختلفة في بعض ألفاظها، وقال بعدها: "هذا حديثٌ صحيحُ الإسناد، ولم يخرجاه".
(2)
الحريري: مقامات الحريري، ص 105.
(3)
الإمام النحوي الجليل علي بن مؤمن بن عصفور الحضرمي الإشبيلي، ولد بإشبيلية من بلاد الأندلس، ووفد إلى تونس واستوطنها. [ولد سنة 597 هـ] وتُوفِّيَ سنة 669 هـ. ألف كتبًا مهمة، منها كتاب المقرب. - المصنف. ومن مصنفاته أيضًا "الممتع الكبير في التصريف".
(4)
لم أعثر على كلام ابن عصفور فيما تيسر لي مراجعته من مصنفاته.