الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وحيث كانت البلاغةُ يتصف بها الكلامُ باعتبار إفادته عند التركيب والإسناد، فلا جرمَ أن كان ملاكُ الأمرِ فيها راجعًا إلى ما يتقَوَّم به الإسناد، وكذلك كيفيات الإسناد والمسند إليه والمسند. ثم تتفرع البلاغةُ في متعلقاتها، من المعمولات وأحوال الجمل، وسيجيء كلُّ نوعٍ من ذلك في بابه.
باب الإسناد:
الإسنادُ ضمُّ كلمة إلى أخرى ضمًّا يُفيد ثبوتَ مفهوم إحداهما لمفهوم الأخرى، نحو حاتم كريم وأكْرِمْ حاتِمًا، أو انتفاءه عنه، نحو: ما خالد جبانًا ولا تقاتل خالدًا، سواء كان بالتعيين أم بالترديد (1). وحكم ما يجري مجرى الكلمة نحو الضمير المستتر، والجملة الواقعة خبرًا حكم الكلمة (2). فالكلمةُ الدالة على المحكوم عليه حكمًا ما تسمى مُسْنَدًا إليه، والكلمة الدالة على المحكوم به تسمى مُسْنَدًا، والحكم الحاصل من ذلك يسمى الإسناد. ولكلٍّ من المسند إليه والمسند والإسناد عوارضُ بلاغية تختص به.
1 - عوارض الإسناد وأحواله:
شاع أن الإسناد من خصائص الخبر، فلذلك أكثر أن يصفوه بالخبري بناءً على أن الإنشاء - كالأمر والنهي والاستفهام - لا إسنادَ فيه. والتحقيق أن الإسناد يثبت للخبر والإنشاء؛ فإن في الجمل الإنشائية مسندًا ومسندًا إليه، فالفعل في قولك "أكرم صديقك" مسنَد، والضمير المستتر فيه مسند إليه.
(1) قصدت بهذه الزيادة إدخال نحو قام زيد أو عمرو وإدخال الاستفهام. - المصنف.
(2)
اعلم أنني نقَّحْت تعريفَهم للإسناد، فأتيتُ بتعريفٍ ينطبق على الخبر وعلى الإنشاء. ولذلك لم أذكر في التعريف لفظَ الحكم، بل قلت: يفيد ثبوتَ مفهوم إلخ؛ لأن في الإنشاء ثبوتًا وانتفاءً، لكن بلا حكم. - المصنف.
وأعلم أن القصدَ الأول للمخبر من خبره هو إفادته المخاطبَ الحكم (1)، وقصد المتكلم بالجملة الإنشائية إيجادُ مدلول الإنشاء. ففي الأمر يُقصد إيجادُ المأمور به، ويُسمَّى الامتثال. وفي النهي يُقصد عدمُ إيجاد الفعل، ويُسمَّى الانكفاف. وفي الاستفهام يُقصد الجواب بالإفهام، وهكذا.
وقد يُخاطَب بالخبر مَنْ يعلم مدلولَه، ويخاطب بالإنشاء من يحصل منه الفعلُ المطلوب، فيُعلم أن المتكلم قصد تنزيلَ الموجود منزلةَ المعدوم لنكتة قد تتعلق بالمخاطب:
إما لعدم جري العالم على موجب علمه كقول عبد بني الحسحاس: "كفى الشيبُ والإسلامُ للمرء ناهيًا"(2)، فإن المقصود منه تذكيرُ مَنْ لم يزعه الشيب والإسلام، إذ قد علم كلُّ الناس أنهما وازعان.
وإما لأن حاله كحال ضده، كقولك للتلميذ بين يديك إذا لم يتقن الفهم: يا فتى، فإنك تطلب إقباله وهو حاضر، لأنه كالغائب.
(1) إذ لا يقصد المتكلم من كلامه مجردَ النطق به، كالسعال والأنين. وأما قول الحطيئة:
أَبَتْ شَفَتَايَ اليَوْمَ إلَّا تَكَلُّمًا
…
بِسُوءٍ فَمَا أَدْرِي لِمَنْ أَنَا قَائِلُهْ
فذلك ضربٌ من التمليح؛ إذ جعل نفسَه لا يستطيع البقاءَ بلا هجاء. - المصنف. وفي رواية: "بشر" بدل "بسوء". والبيت هو الأول من بيتين، والثاني هجا فيه نفسه فقال:
أَرَى لِيَ وَجْهًا شَوَّهَ اللهُ خَلْقَهُ
…
فَقُبِّحَ مِنْ وَجْهٍ وَقُبِّحَ حَامِلُهْ
ديوان الحطيئة، ص 118.
(2)
وتمام البيت:
عُمَيْرَةَ وَدِّعْ إِنْ تَجَهَّزْتَ غَادِيَا
…
كَفَى الشَّيْبُ وَالإِسْلَامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيَا
وهو طالع أطول قصائده وأشهرها، وكان المفضل الضبي يسميها الديباج الخسرواني، كما ذكر محقق ديوان سحيم. ديوان سحيم عبد بني الحسحاس، تحقيق عبد العزيز الميمني (القاهرة: دار الكتب المصرية، 1369/ 1950)، ص 16.
وإما لقصد الزيادة من الفعل، نحو:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136]، فطلب منهم الإيمان بعد أن وصفهم به لقصد الزيادة والتملي منه. وإما لاختلال الفعل حتى كان غير مجد لفاعله، مثل قوله صلى الله عليه وسلم للذي رآه يصلي ينقر نقرَ الديك:"صلِّ فإنك لم تصل"(1).
وهذا كثيرٌ في كلامهم. وقد تتعلق النكتة بالمتكلم ليريَك أنه عالمٌ بالخبر، كقولك لصاحبك: سهرت البارحة بالنادي، وقول عنترة:
إِنْ كُنْتِ أَزْمَعْتِ الفِرَاقَ فَإِنَّمَا
…
زُمَّتْ رِكَابُكُمُ بِلَيْلٍ مُظْلِمِ (2)
وعلامةُ هذا أن يكون الكلام دالًّا على أن المخاطب لا يجهل الخبر، فإنك إذا حدثته عن أحواله لا تقصد أن تعلمه بما هو معلوم لديه. وللكلام في قوة الإثبات والنفي مراتبُ وضروبٌ بحسب قدر الحاجة في إقناع المخاطب، فإن كان المخاطَبُ خالِيَ الذهن من الحكم ولا ترددَ له فيه، فلا حاجةَ إلى تقوية الكلام. وإن كان المخاطب متردِّدًا في الحكم، فالأحسن أن يُقَوَّى له الكلامُ بمؤكِّدٍ لئلا يصير ترددُه
(1) جزء من حديث عن أبي هريرة أن "رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجلٌ فصلى، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد، وقال: "ارجع فصل، فإنك لم تصل". فرجع يصلي كما صلى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ارجع فصل فإنك لم تصل" ثلاثًا، فقال: والذي بعثك بالحق، ما أحسن غيره، فعلمني. فقال: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، وافعل ذلك في صلاتك كلها"". صحيح البخاري، "كتاب الأذان"، الحديث 757، ص 123 والحديث 793، ص 128؛ "كتاب الاستئذان"، الحديث 6251، ص 1088؛ "كتاب الأيمان والنذور"، الحديث 6667، ص 1151؛ صحيح مسلم، "كتاب الصلاة"، الحديث 397، ص 155؛ سنن الترمذي، "أَبوابُ الصَّلَاة"، الحديث 302، ص 94.
(2)
البيت هو الثالث عشر من المعلقة. القرشي: جمهرة أشعار العرب، ص 213؛ ديوان عنترة، ص 188 (نشرة مولوي).
إنكارًا، كما قال الله تعالى:{فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)} [يس: 14]؛ لأنهم كذبوا الرسولين الأولين، فلما عززا بثالث كان القوم بحيث يترددون في صدقه.
وإن كان المخاطَب منكِرًا وجب توكيدُ الخبر على قدر الإنكار، نحو:{إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [هود: 25؛ نوح: 2]، ونحو:{إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس: 14]، ونحو:{رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16)} [يس: 16].
ويُسمَّى الضربُ الأول ابتدائيًّا، والثاني طلبيًّا، والثالث إنكاريًا.
وأدواتُ التوكيد إن وأن ولام الابتداء، ولام القسم، والقسم، والحروف الزائدة، وحروف التنبيه، وضمير الفصل، ولن النافية، هذه في الأسماء. وقد، وإما الشرطية، ونون التوكيد في الأفعال.
وقد يُنَزَّلُ المخاطَبُ المستحِقُّ لأحد هذه الأضرب منزلةَ صاحب غيره منها لنكتة، فيسمى ذلك إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر. قال طرفة:
لَعَمْرُكَ إِنَّ المَوْتَ مَا أَخْطَأَ الفَتَى
…
لَكَالطِّوْلِ المُرْخَى وَثِنْيَاهُ بِاليَدِ (1)
فأتى بثلاثة مؤكدات: القسم وأن ولام الابتداء، لقصد الرد على مَنْ كان حالُه في لومه إياه على الكرم وتناول اللذات حالَ مَنْ ينكر إدراكَ الموت إياه، مع أن مجيء الموت ولو بعد طول العمر أمرٌ معلوم لكل أحد.
وقد يجيء التوكيدُ بـ "إن" لمجرد الاهتمام بالخبر دون إنكار، كقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحرًا"(2). ومن ذلك أن يكون في الخبر
(1) ديوان طرفة ابن العبد، ص 35.
(2)
بهذا اللفظ أورده المتقي الهندي (وأومأ إلى أنه أخرجه ابن النجار) في سياق القصة الآتية عن أنس بن مالك قال: "استأذن العلاء بن يزيد الحضرمي على النبي صلى الله عليه وسلم، فاستأذنت له، فلما دخل عليه سفر له النبي صلى الله عليه وسلم البيت، ثم أجلسه وتحدثا طويلًا، ثم قال له: تُحسن من القرآن شيئًا؟ قال: =
غرابةٌ، كالمثل:"إن البُغاث بأرضنا يَسْتَنْسِر"، أو تهويلٌ نحو:{وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)} [هود: 37]؛ لأن شأنَ هذين النوعين أن ينكرهما السامعُ، فيؤكد له من قبل حصول الإنكار احتياطًا، تنزيلًا له منزلةَ المنكِر.
والإسناد نوعان: حقيقةٌ عقلية، ومجاز عقلي. فالحقيقة العقلية إسنادُ الشيء إلى شيء هو من الأمور الثابتة له في متعارَف الناس إثباتًا أو نفيًا. والإثباتُ كقول الصلتان العبدي (1):
أَشَابَ الصَّغِيرَ وَأَفْنَى الكَبِيـ
…
ـرَ كَرُّ الغَدَاةِ وَمَرُّ العَشِي (2)
= نعم، ثم قرأ عليه عبس حتى ختمها فانتهى إلى آخرها، وزاد فيها من عنده: وهو الذي أخرج من الحبلى نسمة تسعى من بين شَراسيفَ حشا، فصاح به النبي صلى الله عليه وسلم: يا علاء انته، فقد انتهت السورة، ثم قال: يا علاء هل تروي من الشعر شيئًا؟ قال: نعم، ثم أنشده:
وَحَيِّ ذَوِي الأَضْغَانِ تَسْبِ قُلُوبَهُمْ
…
تَحِيتَكَ الأَدْنَى فَقَدْ يُرْفَعُ النَّغْلِ
وَإِنْ دَحَسُوا للشّرِّ فاعْفُ تَكَرُّمًا
…
وَإِنْ كَتَمُوا عَنْكَ الحدِيثَ فَلَا تَسَلِ
فَإِنَّ الَّذِي يُؤْذِيكَ مِنْهُ سَماعُهُ
…
وَإِنَّ الَّذِي قَالُوا وَرَاءَكَ لَمْ يُقَلِ
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أحسنت يا علاء، أنت بهذا أحذقُ منك بغيره، إن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحرًا"". كنز العمال، "الباب الثاني [من كتاب الأخلاق] في الأخلاق المذمومة"، الحديث 8951، ج 3، ص 856 - 857. وانظر كذلك الحديث 8968 (ص 864). وأخرج أبو داود عن أُبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من الشعر حكمة"، كما أخرج عن ابن عباس قال: "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يتكلم بكلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن من البيان سحرًا، وإن من الشعر حُكْمًا"". سنن أبي داود، "كتاب الأدب"، الحديثان 5010 - 5011، ص 783 - 784. وأخرج البخاري الجملة الأولى منه فقط من حديث أبي بن كعب بلفظ: "إن من الشعر حكمة". صحيح البخاري، "كتاب الأدب"، الحديث 6145، ص 1071.
(1)
هو قثم بن خبيئة (خبية) من بني محارب بن عمرو من بني عبد القيس، شاعرٌ حكيم من شعراء القطيف، وقد اشتهر بالصلتان العبدي. توُفِّيَ نحو 80/ 700.
(2)
المرزوقي: شرح ديوان الحماسة، ج 3، ص 1209 (الحماسية رقم 453)، بلفظ "الليالِي"، بدل "الغداة". ونسبه الجاحظ للصلتان السعدي مميِّزًا بينه وبين الصلتان العبدي بقوله: "وهو غير =
لأن الشاعر جاهلي، وظاهرُ كلامه يُشعر بأنه يعتقد أن مرورَ الزمان هو سبب الشيب، إذ لم ينصب قرينةً على أنه يعلم أن ذلك ليس سببًا للشيب. والنفي كقوله تعالى:{وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16، الأنعام: 140، يونس: 45].
والمجاز العقلي إسنادُ الشيء إلى غير ما هو له في متعارَف الناس إثباتًا أو نفيًا، لملابسة بين المسنَد والمسنَد إليه. ومعنى الملابسة المناسبةُ والعلاقة بينهما. فأشهر ذلك أن يُسند الفعلُ إلى المتسبِّب فيه، كقول أم زَرْع:"أَنَاسَ مِنْ حُلِيِّ أُذُنَيَّ، وَمَلَأَ مِنْ شَحْمِ عَضُدَيَّ"(1)؛ فإن زوجها لَمَّا اشترى لها النواسَ لتلبسه في أذنيها فهو قد أناس أذنيها، وهذا قريبٌ من الحقيقة. ولَمَّا أفاض عليها الخيرَ والراحة حتى سمنت، فقد تسبَّب في ملء عضديها بالشحم، وهذا مجازٌ عقلي لملابسة السببية.
وهناك ملابساتٌ كثيرة نحو {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7)} [الحاقة: 21، القارعة: 7]، مع أن الراضي صاحب العيشة، ونحو: نهر جار مع أن الجاري ماؤه، وأنبت الربيع العشب؛ لأن الربيع زمنُ الإنبات، [ونحو] {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)} [المزمل: 17]، {يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)} [الإنسان: 10]. والنفي كقوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16]، فإن نفيَ الربح لم يُتعارَفْ إسنادُه للتجارة، بل إنما يثبت الربح وينفى عن
= الصلتان العبدي"، والبيت هو الأول من مقطوعة من ثمانية أبيات في ديوان الحماسة ومن سبعة عند الجاحظ. وطالعها:
أَشَابَ الصَّغِيرَ وَأَفْنَى الكَبِيـ
…
ـرَ كَرُّ الغَدَاةِ وَمَرُّ العَشِي
إِذَا لَيْلَةٌ هَرَّمَتْ يَوْمَهَا .... أتى بَعْدَ ذَلِكَ يَوْمٌ فَتِي
وخاتِمتُها كما عند الجاحظ:
أَلَمْ تَرَ لُقْمَانَ أَوْصَى بَنِيـ
…
ـه وَأَوْصَيْتُ عَمْرًا فَنِعْمَ الوَصِي
وَسِرُّكَ مَا كَانَ عِنْدَ امْرِئٍ
…
وَسِرُّ الثَّلَاثَةِ غَيْرُ الخَفِي
الجاحظ: كتاب الحيوان، ج 3، ص 477 - 478.
(1)
صحيح البخاري، "كتاب النكاح"، الحديث 5189، ص 926.