الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثلاثةٌ تُشْرِقُ الدُّنْيَا بِبَهْجَتِهَا
…
شَمْسُ الضُّحَى وَأَبُو إِسْحَاقَ (1)
وهذا كلُّه ما لم يكن التقديمُ لسبب يحتم التقديمَ في النحو، مثل تقديم أدوات الصدر في نحو: كيف أنت؟ وأين اللقاء؟ ومتى الظعن؟ أو لسبب يُعرف أنه لفظي لا غرضَ فيه لغير اللفظ، مثل التقديم لأجل السجع، كقول الحريري في المقامة الأولَى:"فوجدته مثافنًا لتلميذ، على خبز سَميذ، وجَدْيٍ حَنيذ، وقُبالَتَهما خابيةُ نبيذٍ"(2)، فتقديم قوله "قبالتهما" على المسند إليه لقصد السجع إذ لا يحتمل معنى القصر. وأصلُ المسند التنكير، وقد يُعرَّف لأغراض أهمُّها إفادةُ القصر، كما سيأتي في بابه.
4 - عوارض أحوال متعلقات الفعل:
وهي المفاعيل والظروف والمجرورات والحال والتمييز. وأهمُّ ما يتعلق به غرضُ البليغ هو أحوال المفاعيل، وخاصةً المفعول به. فإنه الذي تعرض له أحكامُ الحذف دون غيره من المفاعيل؛ لأنه إذا لم يُذكر علمنا أنه محذوف، إذ الفعل المتعدي يطلب مفعوله طلبًا ذاتيًّا ناشئًا عن وضع معنى الفعل المتعدي. فإن الفعلَ اللازم وُضع ليدل على حدثٍ صادر من ذات واحدة، والفعل المتعدي وُضع ليدل على حدث صادر من ذات ومتعلق بأخرى.
أما بقيةُ المفاعيل فإنها إذا لم تُذكر لا يوجد دليل يدل على أن المتكلمَ قصد ذكرَها (3) ثم حذفها. وكذلك أحكامُ التقديم إنما تغلب مراعاتُها في المفعول به. فإذا
(1) الشاعر هو محمد بن وُهيب الحميري، شاعر من أهل بغداد، من شعراء الدولة العباسية في القرنين الثاني والثالث، أصله من البصرة، وولد فيها. "وله أشعار كثيرة يذكرها فيها ويتشوقها"، كما قال أبو الفرج الأصفهاني. كان يميل إلى التشيع، وله شعر في رثاء آل البيت. توفي سنة مائتين ونيف وعشرين ببغداد. والبيت مما أورده الأصفهاني من شعر ابن وهيب. كتاب الأغاني، ج 19، ص 75 (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج 7/ 19، ص 53 (نشرة الحسين).
(2)
الحريري: مقامات الحريري، ص 22.
(3)
أي لا يوجد دليلٌ من جهة نفس اقتضاء الفعل لواحد منها، وإن كان قد يوجد دليلٌ لفظي، مثل وقوع الفعل في جواب سؤال مقيد ببعض تلك المفاعيل، إلا أن المقدر كالمذكور كقول الشاعر: =
لم يذكر المفعول به مع فعله المتعدي إليه ولم تكن قرينةٌ على تقديره، فحذفه حينئذ قد يكون لإظهار أن لا غرضَ بتعليق ذلك الفعل بمفعوله فينزل الفعل حينئذ منزلةَ اللازم بحيث يكون النطقُ به ليس إلا لقصد الدلالة على أصل معناه الحدثي إذا لم يجد المتكلم فعلًا آخر يدل على ذلك المعنى، أو لم يستحضره. فحينئذ لا يقدر لذلك الفعل مفعول نحو:{هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، وقول البحتري يمدح المعتز بالله العباسي:
شَجْوُ حُسَّادهُ وَغَيْظُ عِدَاهُ
…
أَنْ يَرَى مُبْصِرٌ وَيَسْمَعَ وَاع (1)
فلم يذكر مفعولَ يرى ويسمع؛ لأنه أراد أن يوجد راءٍ وسامع، فلا غرض لمعرفة مفعول. والمعنى أن الرائي لا يرى إلا آثارَ الخليفة الحسنى والسامع لا يسمع إلا ثناءه. وقرينة ذلك قوله:"شجو حساده"؛ لأن ذلك هو الذي يشجو حسادَه ويغيظ عداه.
وقد يكون الحذف لقصد التعميم مثل: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يونس: 25]؛ أي: يدعو كل أحد. وإنما قلنا آنفًا: "ولم تقم قرينةٌ على تقديره"؛ لأنه إن كان المفعول مقدَّرًا منويَّ اللفظ فهو كالمذكور، والقرينة إما من نفس الفعل بأن يكون مفعولُه معينًا، لأنه لا يتعدى إلا إليه كقول عمرو بن معد يكرب:
= أَتَصْحُو أَمْ فُؤَادُكَ غَيْرُ صَاحٍ
…
عَشِيَةَ هَمَّ صَحْبُكَ بِالرَّوَاحِ
فإنك لو قدرت له جوابًا فقلت: نعم أصحوا، لكان التقدير أصحو عشية هم قومي. - المصنف. البيت لجرير، وقد جاء في الطبعة المحققة التي رجعنا إليها لفظ "بل" بدل "أم". ديوان جرير، تحقيق نعمان محمد أمين طه، ج 1، ص 87.
(1)
البيت هو السابع عشر من قصيدة في ثلاثة وثلاثين بيتًا قالها الشاعر في مدح الخليفة العباسي المعتز بالله. ديوان البحتري، تحقيق حسن كامل الصيرفي (القاهرة: دار المعارف، ط 3، 1977)، ص 1243 - 1246.
فَلَوْ أنَّ قَوْمِي أَنْطَقَتْنِي رِمَاحُهُمْ
…
نَطَقْتُ، وَلَكِنَّ الرِّمَاحَ أَجَرَّتِ (1)
فإن فعل "أجرَّ" معناه شق اللسان، فمفعوله متعيِّن. وإما بأن يكون عليه قرينةٌ لفظية، وهو كثير.
وأما تقديم المفعول وما بمعناه كالجار والمجرور والظرف، فقد يكون للحصر نحوك:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5]، وفي الحديث الصحيح:"ففيهما فجاهِدْ"، يعني الأبوين (2). وهو كثيرٌ في كلامهم. وقد يكون لمجرد الاهتمام نحو:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] في قراءة النصب (3). وقد يكون
(1) شعر عمرو بن معدي كَرِب الزبيدي، جمعه ونسقه مطاع طرابيشي (دمشق: ط 2، 1405/ 1985)، ص 73. والبيت هو الحادي عشر والأخير من قطعة يصف فيها الحرب، طالعها:
ومُرْدِ عَلَى جُرْدٍ شَهِدْتُ طِرَادَهَا
…
قُبَيَلَ طُلوعِ الشَّمْسِ أَوْ حِينَ ذَرَّتِ
والشاعر هو عمرو بن معدي كرب بن ربيعة بن عبد الله الزبيدي. من الشعراء المخضرمين، ولد سنة 525 م، أي حوالي مائة سنة قبل الهجرة، وتوُفِّي سنة 21/ 642. فارس اليمن المشهور، وصاحب غارات مذكورة، وفد على المدينة سنة 9 هـ، في عشرة من بني زبير، فأسلموا وعادوا. ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم ارتد عمرو في اليمن، ثم رجع إلى الإسلام، فبعثه أبو بكر إلى الشام، فشهد اليرموك، وفقد فيها إحدى عينيه. وبعثه عمر إلى العراق، فشهد القادسية، وكان عصي النفس، أبيًّا، فيه قسوة الجاهلية. توُفِّي على مقربة من الريّ، وقيل: قتل عطشًا يوم القادسية.
(2)
لأن السائلَ طلب منه أن يوجهه للجهاد فقال له: ألك أبوان؟ قال نعم قال ففيهما فجاهد. وكانا كبيرين. - المصنف. عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال: "جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد، فقال: "أحي والداك؟ "، قال: نعم، قال: "ففيهما فجاهِدْ"". صحيح البخاري، "كتاب الجهاد والسير"، الحديث 3004، ص 496؛ "كتاب الأدب"، الحديث 5972، ص 1045 - 1046؛ صحيح مسلم، "كتاب البر والصلة والآداب - باب بر الوالدين وأنهما أحق به"، الحديث 2549، ص 989.
(3)
أي: (وأما ثمودَ) من غير تنوين، وبتنوين (وأما ثمودًا) وهي قراءة شاذة، ونصبه بفعل محذوف، أي: وأما ثمودًا هدينا، ولا ينتصب بـ (هديناهم) لأن ذلك قد استوفى مفعوله. "إعراب القراءات الشواذ" 2/ 427 - 428 لأبي البقاء العكبري، دراسة وتحقيق: محمد السيد أحمد عزوز، ط 2، 1431 هـ/ 2010 م، عالم الكتب. وانظر معجم القراءات للخطيب، 8/ 272 - 273.