الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَبَدَا الصَّبَاحُ كَأَنَّ غُرَّتَهُ
…
وَجْهُ الخَلِيفَةِ حِينَ يُمْتَدَحُ (1)
وقد يُحذف المشبَّهُ به، فيكون التشبيه مكنيًا، ويُشار إليه ببعض ما هو من خصائص المشبَّهِ به، كقول النابغة:
فَبِتُّ كَأَنَّ العَائِدَاتِ فَرَشْنَ لِي
…
هَرَاسًا بِهِ يُعْلَى فِرَاشِي وَيُقْشَبُ (2)
فالمشبه به هو المريض الذي يشتد ألمه بالليل، وقد حذفه وأشار إليه بالعائدات؛ لأن المقصود تشبيهُ نفسه لا تشبيه العوائد. وإنما جاء بذكر "فرشن لي" زيادةً في تهويل آلامه. وهذا النوع هو الذي تتفرع منه الاستعارةُ المكنية، ولم يذكره المتقدمون.
الحقيقة والمجاز:
الحقيقة الكلمة المستعملة فيما وُضعت له، والمجاز اللفظُ المستعمل في غير ما وُضع له لعلاقة، مع قرينة مانعةٍ من إرادة الحقيقة. وإنما قلنا:"اللفظ" دون "الكلمة" ليشمل هذا التعريفُ المجازَ المفرد والمجازَ المركَّب كما سيأتي. وإنما قلنا: "المستعمل في غير ما وضع له" دون غيره من العبارات؛ لأن الكلمة تُعد مجازًا إذا استعملت في غير المعنى الموضوعة هي له في اللغة، سواء كان استعمالُها في المعنى المجازي أقلَّ من استعمالها في المعنى الحقيقي أم مساويًا أو أشهر، فإن المجاز قد يشتهر ويُسمَّى بالحقيقة العرفية مثل الزكاة والتيمم، ومثل الفاعل والقياس (3).
(1) من قصيدة أنشأها في مدح المأمون طالعها:
العُذُر إنْ أنصفتَ مُتَّضِحُ
…
وشَهيدُ حُبِّك أدمعٌ سُفُحُ
وفي رواية: "وشهود حبك". كتاب الأغاني، ج 19، ص 89 (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج 7/ 19، ص 63 (نشرة الحسين).
(2)
البيت من قصيدة من بحر الطويل، قيلت في مدح النعمان بن المنذر والاعتذار إليه. ديوان النابغة الذبياني، ص 72 (نشرة محمد أبو الفضل إبراهيم) وص 55 (نشرة ابن عاشور). وفيه: فرشنني بدل قوله: فرشن لي، وما ذكره المصنف ورد في الأزمنة والأمكنة للمرزوقي، ص 278.
(3)
أردت بهذا أن أشير إلى عدم الاحتياج إلى زيادة قيد في اصطلاح التخاطب في تعريف المجاز وأن من زاده كالملخص نظر للظاهر. - المصنف.
وقولي: "لعلاقة" لإخراج الغلط وإخراج المشاكلة الآتية في البديع.
وقولي: "مع قرينة مانعة"، لإخراج الكناية، ولبيان شرط ماهية المجاز. والقرينة ما يُفصح عن المراد لا بالوضع من كلمة، نحو: رأيت أسدًا يرمي، أو صيغة نحو: قول المستنجد: أين الأسود الضارُون؟ فإن صيغة جمع العقلاء قرينةٌ وإلا لقال الضارية، أو حال الكلام نحو: لقيت أسدًا والمتكلم من أهل الحاضرة.
وتقييدُ القرينة بالمانعة لإخراج المعيِّنة لمعنى، كقرينة إرادة أحد معاني اللفظ المشترك أو التي تعين نوعَ المجاز من بين أنواع يحتملها المقام؛ فإن تلك لا بد منها إذا لم يكن المراد إذهابَ نفس السامع كلَّ مذهب ممكن، كما تقول: هو بحر، فيحتمل الكرمَ والعلم.
والعلاقةُ هي المناسبة التي بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، والعلاقات كثيرةٌ أنهاها بعضُهم إلى ثمان وعشرين (1). وأشهرُها المشابهة، والسَّببية، والمجاورة، والبعضية (ويُعبَّر عنها بالجزئية، نسبة للجزء)، والتقييد، أي إطلاق اللفظ الموضوع لمعنى مقيد على المعنى المطلق (2)، والمآل، وأضدادها. ويمكن ردُّها إلى المشابهة والتلازم؛ لأن المراد اللزوم عرفًا.
(1) قال الأصفهاني: "اعلم أنه لا بُدَّ من أن تكون بين المفهوم الحقيقي والمجازي علاقة اعتبرت في اصطلاح التخاطب بحسب النوع، وإلا لجاز استعمال كل لفظ لكل معنى بالمجاز، وهو باطل بالاتفاق. ولأنه لو لم تكن بينهما علاقة لكان الوضع بالنسبة إلى المعنى الثاني أولًا فيكون حقيقة فيهما. وقد اشترط قوم اللزوم الذهني بين المعنيين، وهو باطل؛ فإن أكثر المجازات المعتبرة عارية عن اللزوم الذهني. والعلاقة المُعْتَبَرة من المعنى الحقيقي والمجازي كثيرة. وقيل: إنها خمسة وعشرون نوعًا بالاستقراء، وقيل: اثنا عشر". الأصفهاني، شمس الدين محمود بن عبد الرحمن بن أحمد: بيان المختصر في علمي الأصول والجدل، تحقيق يحيى مراد (القاهرة: دار الحديث، 1427/ 2006)، ج 1، ص 109.
(2)
وقد ظفرتُ له بمثالين من كلام العرب، أردت ذكرهما هنا لقلة أمثلته. المثال الأول قول سلامة بن جندل: =
فالمجاز إن كانت علاقتُه المشابهة سمي استعارة وإن كانت علاقتُه غير المشابهة سُمِّيَ مجازًا مرسلًا، وقد يختلط مجازُ اللزوم بالكناية. وأهم أنواع المجاز هو الاستعارة، لشدة عناية بلغائهم بالتشبيه وتنافسهم فيه منذ زمن امرئ القيس. ولذلك سموا ما لم يُبن على المشابهة بالمرسل؛ لأنه المطلقُ عن التشبيه المعتبر عندهم (1).
ولْنبْدَأْ بالكلام على المجاز المفرد، ثم نُتبعه بالمجاز المركب. أما المجازُ المفرد فقد تقدم تعريفُه. فالمجاز المرسل المفرد كإطلاق الأيادي على النعم في قوله:"أَيَادِي لَمْ تَمْنُنْ وَإِنْ هِيَ جَلَّتِ"(2)، وإطلاق العين على الرقيب، وإطلاق اللسان على
= وَلَّى حَثِيثًا وَهَذَا الشَّيْبُ يَتْبَعُهُ
…
لَوْ كَانَ يُدْرِكُهُ رَكْضُ اليَعَاقِيبِ
فجعل لليعاقيب - وهي ذكور الحجل - ركضًا. الثاني قول طرفة في المعلقة: "وإن تلتمسني في الحوانيت تصطد"، فأطلق على لقائه لفظ الاصطياد. - المصنف. وبيت سلامة بن جُندل السعدي هو الأول من قصيدة من تسعة وثلاثين بيتًا مما اختاره أبو العباس المفضل بن محمد الضبي للمهدي بن المنصور. المفضليات، تحقيق عمر فاروق الطباع (بيروت: شركة الأرقم بن أبي الأرقم، ط 1، 1419/ 1998)، ص 108. أما قول طرفة فهو عجز البيت الخامس والأربعين من معلقته، وتمامُه:
وَإِنْ تَبْغِنِي فِي حَلْقَةِ الْقَوْمِ تَلْقَنِي
…
وَإِنْ تَقْتَنِصْنِي فِي الْحَوَانِيتِ تَصْطد
ومعنى البيت أنه حيثما طلبتني وجدتني، فأنا مرة في جماعة القوم أشهد أمرهم وأخوض معهم فيما فيه يخوضون، ومرة مع الشِّرب في نادي الشراب ألهو وأتنعم. والحوانيت بيوت الخمارين، وتُطلق كذلك على الخمارين أنفسهم. ديوان طرفة بن العبد، شرح الأعلم الأعلم الشمنتري، تحقيق درية الخطيب ولطفي الصقال (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط 2، 2000)، ص 42.
(1)
هذا هو الوجه، ولا يصح قولُ مَنْ قال: إنه أرسل فلم يقيد بعلاقة خاصة لكثرة علاقاته؛ لأن هذا لا يسمى إرسالًا بل تكثيرًا؛ إذ الإرسال لا يكون إلا في مقابلة تقييد. - المصنف.
(2)
هذا عجز البيت الأول من مقطوعة (من بحر الطويل) في الشكر أوردها ابنُ قتيبة ولم ينسبها، واختلف مؤرخو الأدب والنقاد في نسبتها، فقيل هي لحمد بن سعيد الكاتب، ونسبت لإبراهيم بن العباس الصولي، وقيل: هي لأبي الأسود الدؤلي، ونسبها الأصفهاني إلى عبد الله بن الزبير الأسدي، وأنه قالها في مدح عمرو بن عثمان بن عفان، وقيل غير ذلك. وقد جاء فيها:
سَأَشْكُرُ عَمْرًا مَا تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي
…
أَيادِي لَمْ تَمْنُنْ وَإِنْ هِيَ جَلَّتِ
فَتًى غَيْرُ مَحْجُوبِ الغِنَى عَنْ صَدِيقِهِ
…
وَلَا مُظْهِرُ الشَّكْوَى إِذَا النَّعْلُ زَلَّتِ =
الذكر الحسن في قوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)} [الشعراء: 84] ونحو ذلك، وتفاصيلُها غير صعبة.
والاستعارةُ المفردة تجري في الأسماء والأفعال والحروف، فكل كلمة من هاته الأنواع إذا استُعمِلت في غير ما وُضعت له لمشابهةِ ما استُعملت فيه لِمَا وُضعت له، فهي استعارة. فاستعارة الأسماء كثيرة، واستعارة الأفعال والحروف نحو:"فلسانُ حالِيَ بالشِّكاية أَنْطَقُ"(1)، واستعارة الحرف في نحو:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]، وقوله:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8](2).
= رَأَى خَلَّتِي مِنْ حَيْثُ يَخْفَى مَكَانُهَا
…
فَكَانَتْ قَذَى عَيْنَيْهِ حَتَّى تجَلَّتِ
الدينوري: كتاب عيون الأخبار، ج 3، ص 161؛ الأصفهاني: الأغاني، ج 5/ 14، ص 378 - 379 (نشرة الحسين)؛ المرزوقي: شرح ديوان الحماسة، ج 4، ص 1589 (الحماسية رقم 688)؛ ابن خلكان: وفيات الأعيان، ج 3، ص 478 - 479؛ وانظر البيت مفردًا في ديوان أبي الأسود الدؤلي، ص 388. والخَلَّة: الحاجة والفاقة.
(1)
هذا البيت هو ثاني بيتين أوردهما الثعالبي في باب "لسان الحال"، وذكر أنهما لأبي نصر محمد بن عبد الجبار العتبي أنشدهما إياه، وفيهما يقول:
لَا تَحْسَبَنَّ بَشَاشَتِي لَكَ عَنْ رِضًا
…
فَوَحَقِّ فَضْلِكَ إِنَّنِي أَتَمَلَّقُ
وَإِذَا نَطَقْتُ بِشُكْرِ بِرِّكَ مُفْصِحًا
…
فَلِسَانُ حَالِيَ بِالشِّكَايَةِ أَنْطَقُ
الثعالبي، أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل: ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (القاهرة: دار المعارف، 1985)، ص 101.
(2)
هذان المثالان استُعِيرَ فيهما حرفان لمعنيين تُمكن تأديتُهما بحرفين حقيقيين، وهما على وفاء التفريع. وقد تكون استعارة الحرف لمعنى ليس له حرف يؤدّى به كقوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة: 258]، فإن هنالك استعارة تبعية؛ لأن لام التعليل محذوفة، وقد جعل إتيانه الملك علة لإنكار الربوبية، فكان الكفر في موضع الشكر. - المصنف.
ولا جدوى في تسميتها تبعية (1)، ولا يُستعار الاسمُ العلم إلا إذا تضمن وصفًا مشتهرًا كحاتم بالجود وسحبان بالفصاحة.
تنقسم الاستعارة إلى مصرحة ومكنية. فالمصرحة هي التي صرح فيها بلفظ المشبه به واستعمل في المشبه ملفوظًا به أو مقدَّرًا نحو "لدي أسد"، ونحو قول المجيب نعم لِمن قال له مثلًا:"تناغي غزالًا عَند باب ابن عامر؟ " والمكنية - ويقال استعارة بالكناية - وهي أن يُستعار لفظُ المشبَّه به للمشبَّه، ويحذف ذلك اللفظُ المستعار، ويشار إلى استعارته بذكر شيء من لوازم مسماه، نحو قول أبي ذؤيب:
وَإِذَا المَنِيَةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا
…
ألفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لَا تَنْفَعُ (2)
فقد ظهر من ذكر الأظفار أن المنية شُبهت بالسبع. وقول أبي فراس:
فَلَمَّا اشْتَدَّتِ الهَيْجَاءُ كُنَّا
…
أَشَدَّ مَخَالبًا وَأَحَدَّ نَابَا (3)
(1) أشرتُ إلى أن تقسيم الاستعارة إلى أصلية وتبعية تقسيمٌ لا طائلَ تحته، سوى ما يُفيده كلامُ "أسرار البلاغة" من كون التبعية أبلغ. والظاهرُ أن العلماء اضطروا إلى اعتبار الاستعارة التبعية تنبيهًا على ما جاء من الاستعارات في فعل وفاعل مثل نطق الحال، مع صحة اعتبار الاستعارة في الفعل بتشبيه الدلالة بالنطق، واعتبارها في الفاعل بتشبيه الحال باللسان، وكذا قول عنترة:"وشكى إلَيَّ بعبرة وتحمحم". فنظروا إلى استعارة فعل الفاعل، ولذا جعلوا استعارة الفعل المناسب لاستعارة الفاعل استعارة تبعية، تنبيهًا على أن المقصود بالتشبيه هو الحدث لا فاعله. ثم إذا جرت في الفعل سموها تبعية؛ لأنها ناشئةٌ عن استعارة المصدر. هذا رأي الجمهور، وهو قليل الجدوى. والسكاكي نظر إلى أن المقصود أولًا هو تشبيه صاحب فعل بصاحب فعل آخر، وترتب على ذلك ثشبيهُ فعله بفعل الآخر، فوجدها نوعًا من الاستعارة الكنية. فقول الجمهور وقول السكاكي هنا كقولهم في المجاز العقلي، سواء بسواء. فالتقسيم إلى التبعية عند الجمهور ليس مبنيًّا على ملاحظة الاشتقاق، كما توهمه كثير من الناس؛ لأنه لو كان كذلك لكان بحث علماء البيان فيه تطفلًا. - المصنف.
(2)
البيت هو العاشر في قصيدة له من ثلاثة وستين بيتًا، وهي الأولى مما جمعه وشرحه السكري (توفِّيَ سنة 275 هـ) من أشعار الهذليين. السكري: شرح أشعار الهذليين، ج 1، ص 14.
(3)
ديوان أبي فراس الحمداني، نشرة يعناية خليل الدويهي (بيروت: دار الكتاب العربي، ط 2، 1414/ 1994)، ص 35، وفيه و"لما" عوض "فلما". والبيت هو الثامن والعشرون في قصيدة من خمسة وخمسين بيتًا يصف فيها أبو فراس ما حصل من حرب بين سيف الدولة في موقعة سليمة وبعدها حين اجتمع مناوئوه من نزارية ويمانية على حربه.
ولا يضر بقاءُ لفظ المشبه في الكلام؛ لأنه صار مذكورًا لغير قصد التشبيه، بل لإكمال معنى اللازم المذكور. ألا ترى أنه يجيء مضافًا إليه كما في بيت أبي ذؤيب أو يكون مذكورًا في الخبر السابق كما في بيت أبي فراس؟ (1)
واعلم أن هذا اللازم الذي هو مِنْ مُلائمات المشبَّه به في المكنية قد يكون غيرَ صالِحٍ للاستعارة، فالإتيانُ به إذن لمجرد كونه من لوازم ماهية اللفظ المحذوف، كالأظفار في بيت أبي ذؤيب، وكقول لبيد في المعلقة:
وَغَدَاةِ رِيحٍ قَدْ كَشَفْتُ وَقَرَّةٍ
…
إِذْ أَصْبَحَتْ بِيَدِ الشَّمَالِ زِمَامُهَا (2)
فشبه ريح الشمال براكب أمسك بزمام فرس البرد وجعل له يدًا، ولا يصلح اليد لأن تكون تشبيهًا لشيء في معاني هذا البيت. وكذلك قوله تعالى:{فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)} [النساء: 4]، شبه المال المأخوذ بالطعام والشراب وجعل له الهناء والمري.
وقد يكون هذا اللازم صالِحًا للاستعارة أيضًا، كما في قوله تعالى:{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} [البقرة: 27]، فإن النقض من لوازم الحبل الذي شُبِّه به العهد. ويصح مع ذلك أن يكون مستعارًا لإبطال العهد. وكالأظفار في قول حسين بن الضحاك يخاطب عمرو بن مسعدة ليشفع له لدى المأمون الخليفة:
أَنْتَ يَا عَمْرُو قُوَّتِي وَحَيَاتِي
…
وَلِسَانِي وَأَنْتَ ظُفْرِي وَنَابِي (3)
(1) أشرت بهذا إلى الجواب عما يرد على تفسير المكنية الذي اعتمدته هنا، وهو مذهب السلف من أنه يقتضي الجمعَ بين المشبه والمشبه به فيصير تشبيهًا بليغًا لا استعارة. وحاصل الجواب أننا بعد تسليم كون التشبيه البليغ ليس باستعارة، فلا نسلم أن هنالك جمعًا بين المشبه والمشبه به؛ لأن ذكر لفظ المشبه به ليس مقصودًا بالذات، بل جيء به لبيان أن اللازم لم يُرَد به الحقيقة، فتأمل. - المصنف.
(2)
ديوان لبيد، ص 114. وقد جاء فيه "وزعت" بدل "كشفت".
(3)
الأصفهاني: الأغاني، ج 2/ 7، ص 123 (نشرة الحسين).
فإنه أراد تشبيهَ نفسه بسبع، وتشبيهَ المخاطب بالشيء الذي به يُدافع السَّبُعُ عن نفسه، وذلك لا يُبطِل دلالتَه على المكنية؛ لأن مجردَ إشعار اللفظ بلازم من لوازم المشبَّه به المكنى كافٍ في كونه دليلًا على المكنية (1).
وأما المجاز المركب فهو الكلام التام المستعمل في غير ما وضع للدلالة عليه لعلاقة مع قرينه كالمفرد. ولا يختص بعلاقة المشابهة، بل قد تكون علاقتُه غير المشابهة كالخبر المستعمل في التحسر لعلاقة اللزوم، نحو "هواي مع الركب اليمانين مُصَعَّد"، وكالإنشاء المراد به الخبر، كقوله:"جَاؤُوا بِمَذْقٍ هَلْ رَأَيْتَ الذِّئْبَ قَطْ"(2)، فيُسمَّى حينئذ مجازًا مركَّبًا فقط. وقد تكون علاقتُه المشابهة، فيُسمى استعارةً تمثيلية وتمثيلًا، نحو:"إني أراك تقدم رجلًا وتؤخر أخرى"(3)، شبهت حالة
(1) أردتُ بهذا أن أجيب عما يرد على تجويز كون لازم المشبه به في المكنية مستعملًا في معنى مجازي على طريقة المصرحة، على ما جوَّزه صاحبُ الكشاف في:{يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} [البقرة: 27]، وفي:{فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ} [النحل: 112]، من أنه إذا كان مستعمَلًا في معنى مجازي لم يكن حينئذ من لوازم المكنية. - المصنف. الزمخشري، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر بن محمد: الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، نشرة بعناية محمد عبد السلام شاهين (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1415/ 1995)، ج 1، ص 124 وج 2، ص 614 - 615.
(2)
جزء من رجز تمامه:
أَقْبَلْتُ أَسْعَى مَعَهُمْ وَأَخْتَبِطْ
…
حَتَّى إِذَا جَنَّ الظَّلَامُ وَاخْتَلَطْ
جَاؤُا بِمَذْقٍ هَلْ رَأَيْتَ الذِّئْبَ قَطْ
وقد اختلف في نسبة هذا الرجز، فقيل إنه للعجاج، ولم يثبت. انظر: الدينوري، ابن قتيبة: كتاب المعاني الكبير في أبيات المعاني، تحقيق المستشرق سالم الكرنكوي (بيروت: دار النهضة الحديثة، بدون تاريخ)، ج 1، ص 204 (وفيه:"والتبط")؛ الحسني العلوي، هبة الله بن علي بن محمد بن حمزة: أمالي ابن الشجري، تحقيق محمود محمد الطناحي (القاهرة: مكتبة الخانجي، ط 1، 1413/ 1992)، ج 2، ص 407. وفيهما "بضَيح" عوض "بمذق". والراجز يصف رجلًا بالبخل.
(3)
جزء من رسالة من يزيد بن الوليد إلى مروان بن محمد وقد بلغه عنه بعض التردد في بيعته، ونصها:"من عبد الله أمير المؤمنين يزيد بن الوليد إلى مروان بن محمد، أما بعد: فإني أراك تُقدِّم رجلًا وتؤخر أخرى، فإذا أتاك كتابِي هذا فاعتمِدْ على أيِّهما شئت، والسلام". البغدادي، أبو الفرج قدامة بن =
حالة المتردد في الرأي بحال المتردد في المشي، واستعير المركَّب الدال على التردد في المشي للدلالة على معنى التردد في الرأي، وكذا قول عبد الله بن المعتز:
اصْبِرْ عَلَى مَضَضِ الحَسُو
…
دِ فَإِنَّ صَبْرَكَ قَاتِلُهْ
فَالنَّارُ تَأْكُلُ نَفْسَهَا
…
إِنْ لَمْ تَجِدْ مَا تَأْكُلُهْ (1)
فقوله: "فالنار تأكل" إلخ مركَّبٌ مستعملٌ في غير ما وُضع للدلالة على معناه، إذ هو الآن مستعملٌ في معنى أن الحسود يرجع وبالُ حسده عليه ولا يضر به إلا نفسَه، كالنار تأكل نفسها إذا تُركت، ولم يُلقَ فيها شيءٌ تُحرقه (2). وكذلك قولُهم:"انتهز الفرصة" شبَّهَ هيئةَ المبادر للفعل بالبادر لنوبة شرب الماء.
والاستعارةُ التمثيلية تتفرع عن التشبيه المركَّب المتقدم ذكره.
هذا والبلغاء يتفننون، فيأتون مع الاستعارة بما يناسب المعنى المستعارَ إغراقًا في الخيال، فيُسمَّى ذلك ترشيحًا، نحو قول زهير:
= جعفر الكاتب: كتاب نقد النثر، تحقيق ودراسة عبد الحميد العبادي مع تمهيد في البيان العربي بقلم طه حسين (بيروت: دار الكتب العلمية، 1416/ 1995)، ص 100 - 101. هذا وهناك من شكك في نسبة هذا الكتاب إلى قدامة بن جعفر مؤكدًا أنه لا يمت إليه بصلة. انظر في ذلك: ابن جعفر، أبو الفرج قدامة: نقد الشعر، تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي (القاهرة: المكتبة الأزهرية للتراث، ط 1، 1426/ 2006)، ص 43 - 44 (مقدمة المحقق). كما كان حفنى محمد شرف أصدر في عام 1969 بالقاهرة كتابًا بعنوان "البرهان في وجوه البيان" منسوبًا إلى أبي الحسين إسحاق بن إبراهيم بن سليمان بن وهب الكاتب وذكر أنه في الحقيقة كتاب ظل منسوبًا خطأً إلى غير اسمه وغير مؤلفه زمنًا طويلًا، يعني الكتاب المسمى "نقد النثر" المنسوب لقدامة بن جعفر. والله أعلم بالحقيقة في هذه الأقول وغيرها.
(1)
ديوان أشعار الأمير أبي العباس، ج 2، ص 412.
(2)
ويقاس على هذا المثال غيرُه، واعلم أن كلَّ تشبيه وجهُه مركَّبٌ من متعدد يصير استعارةً تمثيلية بأن تَحذِفَ أداةَ التشبيه وتستعير المركبَ المشبه به للمعنى المشبه، كما تعمد إلى بيت بشار فتصيره:"فسقطت شُهبُنا عليهم في ليل القتام"، وكما تقول:"فالتهمتهم نيرانُ الرماح ولها في دخان الغبار اضطرام". وبذلك تكثر لديك أمثلةٌ صالحة للتمثيلية التي لم يكثروا لها التمثيل. - المصنف.
لَدَى أَسَدٍ شَاكِي السِّلَاحِ
…
لَهُ لِبَدٌ أَظْفَارُهُ لَمْ تُقْلَمِ (1)
فقوله "له لبد أظفاره لَمْ تُقْلَمِ" ترشيحان، وقول النابغة:
وَبَنُو قُعَيْن لَا مَحَالَةَ أَنَّهُمْ
…
آتُوكَ غَيْرَ مَقَلَّمِي الأَظْفَارِ (2)
وقد يأتون مع الاستعارة بما يناسبُ المعنى المستعارَ له إغراقًا في الخيال أيضًا، بدعوى أن المشبَّه قد اتحد بالمشبَّهِ به فصارا حقيقةً واحدة، حتى إن الأسدَ يحمل بيده سيفًا في قوله:"لدى أسد شاكي السلاح"، وحتى إن ريح الشمال تُمسِكُ بيدها زمامًا في قوله:"بيد الشَّمال زِمامُها". ويسمون ذلك تجريدًا؛ لأن الاستعارة جُرِّدت عن دعوى التشبيه إلى الحكم بالاتحاد والتشابه التام. ويكون ذلك مع المصرحة والمكنية، كما علِمْتَه في المصرحة. وأما المكنية فإن ما يُذكَرُ من لوازم المشبه به صالِحٌ أبدًا ليكون ترشيحًا، فكلٌّ من التجريد والترشيح إكمالٌ للاستعارة وإغراقٌ في الخيال. ومن ثم لم يمتنع الجمعُ بينهما في كثير من كلامهم، كما في بيت زهير المتقدم.
وهذا يحقق لكم أن كلًّا من الترشيح والتجريد مشتمِلٌ على مبالغة في التشبيه من جهة (3)، وان الترشيح والتجريد يخالفان القرينة (4)، وأن التجريد ليس
(1) ديوان زهير بن أبي سلمى، ص 108. والبيت من قصيدة ورد ذكرها في حاشية سابقة.
(2)
ديوان النابغة الذبياني، ص 56 (نشرة محمد أبو الفضل إيراهيم) وص 106 (نشرة ابن عاشور). والبيت من قصيدة يهجو فيها النابغة زرعة بن عمرو بن خويلد من بني كلاب. هذا وبين النشرتين اختلاف في ترتيب بعض أبيات هذه القصيدة.
(3)
وفيه رد على قول من رأى أن اجتماع الترشيح والتجريد يصير الاستعارة مطلقة ودفع لما يقال: كيف يجمع بين قصد المبالغة وقصد التضعيف في استعارة واحدة كبيت زهير. - المصنف.
(4)
لأن القرينة في الغالب حالية، فإذا كانت لفظيةً فالمتكلم لم يرد منها ترشيحًا، أي إغراقًا في التشبيه. على أنه قد يقال: إن الترشيح والتجريد يحصلان ولو مع اعتبار قرينة المصرحة تجريدًا وقرينة المكنية ترشيحًا، لإمكان دلالة كل على الأمرين في آن واحد، إذ هي اعتباراتٌ أدبية يعتبرها المتكلم وينبه السامعَ إليها. - المصنف.
بنكولٍ عن الاستعارة (1)، وأن الترشيح قد يكون باقيًا على حقيقته إذا لم يكن لمعناه الوضعي شبيهٌ كما في قوله:"له لبد"، وقوله تعالى:{فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)} [النساء: 4]، إذا كان معنى "فكلوه" فخذوه أخذًا لا رد فيه، والهنيء المري من صفات الطعام. ولم يقصد هنا استعمالهما في وصفٍ للمال كالإباحة؛ لأن معنى الإباحة قد استفيد من الأمر في قوله:"كلوه"؛ لأن الأمر هنا للإباحة.
وقد يكون استعارة إذا كان لمعناه شبيه يناسب التشبيه، كما في قوله تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران: 103]، فهو استعارة على استعارة. وإذا كان صالِحًا لذلك لم يظن بالبليغ أن يفلته. ومن النادر أن يقصد المتكلم من التجريد إبطالَ الاستعارة، فيكون التجريد بمنزلة إخراج الخِبْء، كقولها:
أَسْتَغْفِرُ اللهَ لأَمْرِي كُلِّهْ
…
قَتَلْتُ ظَبْيًا نَاعِمًا فِي دَلِّهْ
انْتَصَفَ اللَّيْلُ وَلَمْ أُصَلِّهْ (2)
(1) أردتُ بهذا بيانَ الفرق بين الترشيح الذي يُعدُّ مُجرَّدَ ترشيح وبين ما يتعين أن يُعد استعارةً للرد على السمرقندي في قوله: "ويحتمل الوجهين". - المصنف. الباجوري، إبراهيم بن محمد بن أحمد: حاشية على الرسالة السمرقندية، نشرة بعناية إلياس قبلان (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 2009)، ص 216.
(2)
حكى الأصمعي قال: "سمعت جارية أعرابية تنشد وتقول:
أَسْتَغْفِرُ اللهَ لِذَنْبِي كُلِّهْ
…
قَبَّلْتُ إِنْسَانًا بِغَيْرِ حِلِّهْ
مِثْلَ الغَزَالِ نَاعِمًا فِي دَلِّهْ
…
فَانْتَصَفَ اللَّيْلُ وَلَمْ أُصَلِّهْ
فقلتُ لها: قاتلك الله ما أفصحكِ! فقالت: ويحك! أَوَ يُعَدُّ هذا فصاحة مع قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)} [القصص: 7]، فجمع في آية بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين". القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر: الجامع لأحكام القرآن، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي وآخرين (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 1، 1427/ 2006)، ج 16، ص 234. وفي رواية أنه قال: "فأعجبتُ بفهمها وذكائها، كما أعجبتُ بفصاحتها". وانظر كذلك: اليحصبي، القاضي أبو عياض ابن موسى: الشفا بتعريف حقوق المصطفى (بيروت: دار ابن حزم، ط 1، 1423/ 2002)، =