المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌شرح المقدمة الأدبية -1 -   ‌ ‌[تقديم] وافاني الجزءُ الأول من المجلد السابع والعشرين - جمهرة مقالات ورسائل الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور - جـ ٣

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌المِحْوَر الرَّابعفِي اللُّغَةِ وَالأَدَبِ

- ‌الفَرْع الأَوّلبحُوث وَتحقيقات لُغويَّة

- ‌اللفظ المشترك في اللغة العربية

- ‌الأسباب التي قضت بوقوع المشترك في اللغة:

- ‌محاولة العرب إيجاد فروق بين الألفاظ المشتركة

- ‌أثر المشترك في التخاطب:

- ‌وسائل علاج الأثر السيئ للمشترك:

- ‌كيفية استعمال المشترك:

- ‌مثال من المشترك هو أغرب تصرفاته:

- ‌المترادف في اللغة العربية

- ‌المبحث الأول: في ما هو الترادف وتحقيقه:

- ‌المبحث الثاني: هل المترادف واقع في اللغة العربية

- ‌معنى الوضع:

- ‌مذاهب العلماء في إثبات المترادف:

- ‌المبحث الثالث: أسباب وقوع الترادف في اللغة:

- ‌المبحث الرابع: فوائد المترادف في اللغة:

- ‌التحذير من الغفلة عن الفروق بين الكلمات:

- ‌عطف أحد المترادفين على الآخر:

- ‌فرق لغوي مغفول عنه: "لا ضرر ولا ضرار

- ‌لفظ "كل" حقيقة في الكثرة أيضًا مثل الشمول

- ‌قولهم: "كان مما يفعل كذا

- ‌[تقديم]

- ‌المقصد:

- ‌تذييل:

- ‌الاقتراح:

- ‌صوغُ "مفعلة" من أسماء الأعيان الثلاثية الأحرف مما وسطُه حرفُ علة

- ‌الصوت المجسَّد، تقفية وتأييد

- ‌مراجعة الأستاذ إبراهيم مصطفى:

- ‌جواب المصنف:

- ‌الفَرْعَ الثَّانِيدِراسَات فِي عُلوم البَلَاغَة

- ‌الجزالة

- ‌موجز البلاغة

- ‌[استهلال: ] هذا موجز علم البلاغة:

- ‌مقدمة

- ‌[البلاغة]

- ‌تاريخ علم البلاغة:

- ‌فن المعاني:

- ‌باب الإسناد:

- ‌1 - عوارض الإسناد وأحواله:

- ‌2 - عوارض أحوال المسند إليه:

- ‌3 - عوارض أحوال المسند

- ‌4 - عوارض أحوال متعلقات الفعل:

- ‌القصر

- ‌الإنشاء:

- ‌ الوصل والفصل

- ‌عطف الإنشاء على الخبر وعكسه:

- ‌الإيجاز والإطناب والمساواة:

- ‌فن البيان

- ‌التشبيه

- ‌الحقيقة والمجاز:

- ‌الكناية:

- ‌تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر

- ‌فن البديع

- ‌ملاحق موجز البلاغة

- ‌1 - تقريض الكتاب بقلم شيخ الإسلام الحنفي

- ‌2 - قرار النظارة العلمية

- ‌‌‌أصول الإنشاءوالخطابة

- ‌أصول الإنشاء

- ‌[استهلال]

- ‌مقدمة

- ‌كيفية الإنشاء للمعنى

- ‌مثال للتمرين:

- ‌أساليب الإنشاء:

- ‌القسم الأول: [الإنشاء] المعنوي

- ‌تعريف المعنى وتقسيمه

- ‌صفات المعنى

- ‌طرق أخذ المعنى

- ‌ترتيب المعاني وتنسيقها وتهذيبها

- ‌أخذ النتائج من المعاني

- ‌مقامات الكلام

- ‌القسم الثاني: [الإنشاء] اللفظي

- ‌أحوال الألفاظ المفردة

- ‌أحوال الألفاظ المركبة

- ‌تمرين

- ‌السجع والترسل

- ‌التمرن على الإجادة

- ‌[خاتمة]

- ‌فنُّ الخطابة

- ‌ما هي الخطابة

- ‌منافع الخطابة

- ‌أصول الخطابة

- ‌ الْخَطِيبَ

- ‌[عيوب الخطابة]

- ‌الخطبة

- ‌التدرب بالخطابة

- ‌الفَرْعُ الثَّالِثدِرَاسَات فِي الأَدَب والنَّقْد

- ‌شرح المقدمة الأدبية لشرح الإمام المرزوقي على ديوان الحماسة لأبي تمام

- ‌متن المقدمة الأدبية

- ‌شرح المقدمة الأدبية

- ‌[تقديم]

الفصل: ‌ ‌شرح المقدمة الأدبية -1 -   ‌ ‌[تقديم] وافاني الجزءُ الأول من المجلد السابع والعشرين

‌شرح المقدمة الأدبية

-1 -

[تقديم]

وافاني الجزءُ الأول من المجلد السابع والعشرين الصادر في ربيع الثاني سنة 1371 هـ لمجلة المجمع العلمي بدمشق، فإذا مِنْ أحسنِ ما حواه مقدمةٌ دبَّجها الإمامُ البليغ أبو علي المرزوقي (1) لشرحه على ديوان الحماسة اختيار أبي تمام، وهي مِمَّا نشر وصحَّح وحقَّق الأستاذ الدكتور شكري فيصل. فلما رأيتُها تحدثتْ نفسي بالشكر لشكري فيصل على نشرة مَثَلُها ومَثَلُه كالمهَنَّد بيد صَيْقَل. فإنها خيرُ رائدٍ لمنتجِعِ روضَ الفصاحة، وأبصرُ مقدمة لجحفل البلاغة، تفتح لمقتفيها ما استعصمتْ به خفايا النُّكتِ من الصياصي، وتمكّن بيد مُتْقِنِها من جياد السبق أجفلَ النواصي؛ إذ كانت قد أحاطتْ بمعاقدِ الأدب، وتعاطتْ بمحجنها أفنانَه فتدلّى يانعُ ثمره واقترب.

وقد كنتُ قِدْمًا اهتممتُ بتدبُّرها عند إقرائي ديوانَ الحماسة بجامع الزيتونة بتونس منذ عام 1326 هـ، فقدَرتُ قدرَها، وتبيّنتُ نفاستَها في صناعة الأدب

(1) هو أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الأصفهاني، توفي في ذي الحجة سنة 421. ترجمه ياقوت في "إرشاد الأريب"، وقال إنه أخذ عن أبي علي الفارسي، وذكر له كتبًا منها شرح الحماسة. قال: "وهو يتفاصح في تصانيفه كابن جني"، وكان معلم أولاد بني بويه بأصبهان. قلت لم أقف على وجه نسبة المرزوقي، وأحسب أنها نسبةٌ إلى أحدِ أجداده. وهو معدودٌ من أئمة الأدب وبلاغة العربية، ولسعد الدين التفتازاني عنايةٌ بنقل كلامه في كتبه في بحث البلاغة، مثل شرح المفتاح والمطول، ويحليه بالإمام المرزوقي. - المصنف. انظر: الحموي: معجم الأدباء، ج 2، ص 506. قال الميساوي: ووسم المرزوقي بالتفاصح ليس من كلام ياقوت الحموي، وإنما هو نقل من مكتوب للأبيوري الشاعر (أبي المظفر محمد بن العباس أحمد بن محمد بن أبي العباس أحمد بن إسحاق بن أبي العباس: 457 - 507 هـ، مات مسمومًا في أصفهان). وللمرزوقي فضلًا عن شرح ديوان الحماسة، العديد من التصانيف، منها "كتاب الأزمنة والأمكنة" و"أمالي المرزوقي" وكلاهما مطبوع، و"شرح المفضليات"، حقق في بعض الجامعات السعودية ولم يطبع، و"شرح الفصيح"، ولا أعلم عنه شيئًا.

ص: 1388

وخَطْرَها، ثم طَواها الذهنُ ببسطِ مسائلَ أخرى، وثَنَى عِنَانَ طِرْفه فأطلق له في ميادن فسيحةٍ وأجرى. فإذَا بهذه النشرةِ تطالعُنِيها مطالعةَ الخريدة، تبسِم إلى الصَّبِّ فتردُّ محبتَه الرثَّة جديدة، أو كالظَّبْيِ ينفر عن مراعاة رَبْرَبِه (1)، ثم يُنِيلُها عِطْفَه وجيدَه (2).

ذلك هزَّ من عِطفي وحرَّك سواكني إلى مراجعة عهدٍ مضى، فأصدّق عزمًا قديمًا وغرضَا، هو العزم على أن أعلق على هذه القدمة القيمة، وأسرح إليها جوادَ الذهن وأسومه. فإنها جديرةٌ بشرح ينشر مطاويها الوفيرة الأغراض، ويصدِّق شَيْمَ مَنِ اتبع صوبَ بروقها المتكررة الإيماض، إذ هيَ من قبيل اللمحة الدالة، والخريدة الملتحفة غير المتجالَّة (3). فهي خليقةٌ بِفَسْر كثيرٍ من معانيها؛ إذ كانت مُفْرَغَةً في دقَّة صياغة، ولو أُخِذتْ على غِرِّها لم يُدرِكْ غورَها سوى الراسخين في البلاغة، فعُنيتُ بتوضيح دقائقها، واكتفيتُ في بعض المواضع بالحوالة على كتب الأدب.

ومن غريب الاتفاق أني حين حلَلْتُ بالآستانة في أواخر العام 1370 هـ لحضور المؤتمر الثاني والعشرين للمستشرقين (4)، ورأيتُ خزائنَ كتبها الثرية، كان

(1) الرَّبْربُ: القطيع من الظباء، ومن البقر الوحشيِّ والإنسيّ، لا واحد له. والجمع: رَبَارِب.

(2)

ذلك قبل أن يصل إلينا الجزء الأول من شرح المرزوقي طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر سنة 1371 هـ التي اعتمدت نسخة الآستانة. - المصنف. وهي الطبعةُ التي حققها تحقيقًا بديعًا العلامة عبد السلام هارون، وصدرها الأستاذ أحمد، عليهما رحمة الله، وصدرت في أربعة أجزاء سنة 1951.

(3)

متجالة: من تجالت المرأة، إذا كبرت وأسنت. والخريدة، هي البكر، وغير المتجالة: غير المسنة. ووجهُ المقابلة هنا أن الالتحافَ عادةً من صنيع النساء المسنات، على عكس الأبكار الصغار، فإنهن لا يلتحفن. هذا طبعًا في وقت كان الحشمة والحياء من القيم المرعية في المجتمع، فكانت اللغة مرآة عاكسة لذلك!

(4)

عقد هذا المؤتمر (وهو المؤتمر المستشرقين الدولي الثاني والعشرون) في إستانبول خلال الأيام 15 - 22 أيلول/ سبتمبر 1951 م، وبلغت محاوره خمسة عشر محورًا، كان أحدها محور الشؤون الإسلامية الذي تضمن محاور فرعية هي

1 -

اللغة العربية وآدابها،

2 -

التاريخ والثقافة،

3 -

الاجتماعيات.

وقد حضر هذا المؤتمرَ عددٌ من المستشرقين المشهورين من أمثال هاملتون جب Hamilton Alexander Rosskeen Gibb (1885 - 1971)، وألفرد غليوم Alfred Guillaume (1888 - 1966)، وهنري ماسيه Henri Masse (1886 - 1969)، =

ص: 1389

مما لفت نظري نسخةٌ تامة من شرح المرزوقي في مكتبة كوبريلي باشا تحت عدد 1304. وهي نسخة عتيقة نُسخت سنة 676 هـ، ذاتُ 420 ورقة في القالب الرابعي، وقد حصلتُ منها على شريط فوتوغرافي. ولم يكن عندنا بخزائن تونس إلا نسختان من جزءٍ أول ومن تجزئة خمسة، حوتهما مكتبةُ الجامع الأعظم عدد 4534 وعدد 4535، ورأيتُ ما بينهما من اختلاف، وقد رأيتُ أن أضمَّ إلى ذلك ما خالفتْ فيه النسختان التونسيتان نسخةَ الآستانة استكمالًا للضبط. وإلى القارئ تعليقَنا على هذه المقدمة بتفسير غريبها، وتبيين مقاصدها وتقريبها (1).

• قال الإمام المرزوقي: "وبعدُ فإنَّكَ جَارَيْتَنِي - أطالَ الله بقاءك في أشمل سعادة وأكمل سلامة - لمَّا وجدتَني أقصُرُ ما أستفضلُه من وقتي وأستخلصه من وكْدِي على عمل شرحٍ للاختيار المنسوب إلى أبي تمام حبيب بن أوس الطائي، المعروف بكتاب الحماسة، أمرَ الشعر وفنونَه"(2)،

الخطابُ لِمَنْ سأله تحقيقَ ما تضمنته هذه المقدمة، ويظهر أن هذا المخاطَب هو أيضًا قد سأله شرحَ اختيار أبي تمام، أو أنه حرَّضه على إتمامه؛ لأن المؤلف قال في

= ولوي ماسنيون Louis Massignon (1883 - 1962)، وغارسيا غوميت Emilio Garicia Gomez (1905 - 1995)، وفلاديمير مينورسكي Vladimir Fedorovich Minorsky (1877 - 1966)، كما حضره بعضُ رجال الدين المسيحيين مثل الأب لاتور Latour والأب باريخا Pareja. وقد وحضر من العلماء المسلمين المصنف ونجله الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور، وكانت تلك إحدى رحلاته القليلة جدًّا خارج تونس، عليه رحمة الله.

(1)

إلى هنا تنتهي المقدمة التي كتبها المصنف لهذا الشرح عندما نشره في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، وقد أجرى عليها بعض التعديل حين نشر الشرح في سفر واحد، كما سبق أن ذكرنا. انظر: ابن عاشور، محمد الطاهر: شرح المقدمة الأدبية لشرح المرزوقي على ديوان الحماسة لأبي تمام (تونس/ ليبيا: الدار العربية للكتاب، ط 2، 1397/ 1978)، ص 7 - 8؛ شرح المقدمة الأدبية لشرح المرزوقي على ديوان الحماسة لأبي تمام، تحقيق ياسر بن حامد المطيري (الرياض: مكتبة دار المنهاج، ط 1، 1431)، ص 49 - 50.

(2)

نشرة عبد السلام هارون، ج 1، ص 3.

ص: 1390

خاتمة الشرح (1): "قد سهل الله، وله الحمد تعالى جَدُّه، بلوغَ المنتظَر مِن تتميم شرح هذا الاختيار. والله بمنه وطَوْله ينفعكَ وإيَّانَا به، ويعينُك على تفهمه. . ." إلخ (2). وفيما حكاه المرزوقيُّ عن هذا المخاطَب من السؤال ما يدُلُّ على أنه من الممارِسين للأدب، الواقفِين على جياده، ولكنه لم يبلغ مبلغَ أئمة علم الأدب والنقد. فلذلك أوى إلى المرزوقي في كشف حقائقها؛ إذ كان المرزوقيُّ يُلقَّب بالإمام.

وقوله "جاريتني" هكذا ثبت في جميع النسخ. ومعناه حادثتني فيه، قال في لسان العرب:"وجاراه الحديثَ وتجارَوْا فيه"(3)، فاستُعيرت المجاراةُ تمثيلًا لحال المتحادِثَيْن بحال الفارسَيْن يجربان. ومن هذا القبيل قولُهم تساجلَا الشعرَ، وتسايرا المجادلة. وقد أعاد المؤلفُ هذا اللفظَ في خاتمة الشرح إذ قال:"فإني لم أدركه إلا بمجاراةٍ لشيوخ الصناعة فيه". (4)(5)

(1) عن نسخة الآستانة. - المصنف.

(2)

شرح ديوان الحماسة، ج 4، ص 1885 (نشرة عبد السلام هارون).

(3)

ابن منظور: لسان العرب، ج 14، ص 141.

(4)

في نشرة عبد السلام هارون: "فإني لم أدركه إلا في مدة طويلة لا أذكر طرفيها، وبمجاهدات لشيوخ الصناعة عجيبة لا أنسى مجاذباتي فيها". شرح ديوان الحماسة، ج 4، ص 1886.

(5)

جاء بعد هذا الموضع الفقرة الآتية في نص الشرح بالمجلة، ورأينا مناسبةَ جلبها هنا لما لها من قيمة تاريخية، قال المصنف:"وذكر الأستاذ الناشر في التعليق على هذه العبارة أن الأستاذ محمد أحمد خلف غيّر عبارة "جاريتني" فجعلها "جاذبتني"، واعتلّ لذلك بأن المؤلف قال بعد صفحات "أمنًا من المجاذبين"، وهو تغيير يخالف النُّسخَ كلَّها ولا داعيَ إليه إذ لا يتعين أن يكون المؤلف ملتزمًا عبارةً واحدة في كلامه، كيف وهو من المتفننين؟ ولأن لقوله "المجاذبين" فيما بعد معنى يناسب سياقَ الكلام هناك، وسنبينه في موضعه. وكلا الأمرين - المجاراة والمجاذبة - من شؤون محاورات أهل العلم، قال الزمخشري في ديباجة "الكشاف" في وصف العالم المفسر: "قد رجعَ زمانًا ورُجِع إليه، ورَد ورُد عليه". قلت: أما كلام الزمخشري فانظره في: الزمخشري، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر بن محمد: الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، نشرة بعناية محمد عبد السلام عبد الشافي (بيروت: دار الكتب العلمية، 1415/ 1995)، ج 1، ص 7. وأما الأستاذ المذكور فلعله الدكتور محمد أحمد خلف الله.

ص: 1391

وقول المؤلف "أَقصُر"(بهمزة مفتوحة وبضم الصاد)، أي أرد وأحبس، ويتعلق به قولُه "على عمل شرح". و"الوَكْد" بفتح الواو وسكون الكاف هو الهم والقصد، وقوله "أمرَ الشعر" كذلك ثبت في أكثر النسخ وفي نسخة ذكرها الناشر "في أمر الشعر"، وهي الأوْلَى، وعلى ما في معظم النسخ يكون "أمرَ الشعر" منصوبًا على نزع الخافض.

وأبو تمام من شعراء الدولة العباسية في خلافة المعتصم، امتاز بطريقةٍ ابتكرها في الشعر، وهي طريقةُ تدقيق المعاني وتكثيرِها، ولو أداه ذلك إلى شيءٍ من الخفاء في استفادتها من اللفظ. وأخذ عنه البحتريُّ، وتُوُفِّيَ بالموصل سنة 228 هـ، وقيل 231 هـ، وقيل سنة 232 هـ، وديوانُه مشهور. وجمع "ديوانَ الحماسة"، وهو واضحُ الشهرة في الأدب العربي، اشتمل على عشرةِ أبواب من فنون الشعر، أولها باب الحماسة وهو الذي دُعِي به، جمع فيه قطعًا للشعراء غير المشهورين. وله اختيارٌ ترجمه بالقبائلي، اختار فيه قطعًا من محاسن أشعار القبائل. وله الاختيارُ القبائلي الأكبر، اختار منه (1) من كل قصيدة. وله اختيارُ الشعراء الفحول، واختيارٌ على طريقة ديوان الحماسة صدّره بباب الغزل.

• قال المؤلف: "وما قال الشعراء في الجاهلية وما بعدها وفي أوائل أيام الدولتين وأواخرهما من الرفعة به"(2)،

ترتيبُ هذه الفقرات في أكثر النسخ كما رأيتَ هنا، وفي نسخة من النسختين بتونس مغايَرةٌ لهذا؛ إذ وقعتْ فقرة "من الرفعة به" عقب فقرة "وما نال الشعراء"، وذلك أحسنُ مما في النسخ الأخرى. ووقع قوله "وفي أوائل" في إحدى نسختي تونس مجردًا عن واو العطف، وهو أحسن إذ يكون قولُه "في أوائل الدولتين" حالًا

(1) الأولى أن يقال: فيه.

(2)

نشرة هارون، ج 1، ص 3، وفيها "نال" بدل "قال".

ص: 1392

من قوله "وما بعدها"، أي بعد الجاهلية، فيكون عصرُ النبوة وعصرُ الخلفاء الأربعة غيرَ داخل. وأما النُّسَخُ التي فيها إثباتُ الواو فهي تقتضي أن يكونَ المرادُ بما بعد الجاهلية مدة زمن صدر الإسلام، وليس للشعراء في صدر الإسلام رفعة، بل كان الشعراء قد هجروا الشعرَ مثل لبيد بن ربيعة العامري، إلا أن يكون المقصودُ الشعراء الذين ذبُّوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة.

قوله "وأواخرها"، وقع في إحدى النسختين التونسيتين "وأواخرهما" بالتثنية، والمرادُ أواخرُ مجموعهم، أي أواخر الثانية منهما.

"إذ كان الله قد أقامه للعرب مقامَ الكتب لغيرها من الأمم"(1): أراد بالكتب كتبَ العلوم والتاريخ؛ لأن العرب أمةٌ أمية امتازت بالفطنة في السجية، فكان شعرُها ترجمانَ ذكائها وديوان آرائها.

"فهو مستودع آدابها ومستحفَظ أنسابها"(2). وقع في نسختي تونس ونسخة الآستانة عقب هذا جملة لم تثبت فيما نشر الدكتور شكري، وهي "ونظام فخارها يوم النفار"، وموقع هذه الفقرة حسنٌ لما في إثباتها من تعادل الأقسام في الترسل. [و]"النِّفار" بكسر النون، مصدر نافر غيره، إذا خاصمه في الشرف والفخر، فتحاكما في ذلك إلى حكم.

"وديوان حجاجها عند الخصام، ثم سألتني عن شرائط الاختيار فيه وعمَّا يتميز به النظمُ عن النثر وما يُحمد أو يُذَمُّ من الغلو فيه أو القصد، وعن قواعد الشعر التي يجب الكلام فيها وعليها"(3)، وفي إحدى نسختي تونس "لها أو عليها" وهما أظهر.

(1) المصدر نفسه.

(2)

المصدر نفسه.

(3)

المصدر نفسه.

ص: 1393

"حتى تصير جوانبُها محفوظةً من الوهن وأركانها محروسة من الوهي إذ كان لا يُحكم للشاعر أو عليه بالإساءة أو بالإحسان إلا بالفحص عنها وتأمّل مأخذه منها ومدى شأوه فيها"(1)، "المدى" الغاية، و"الشأو" السبق، أي منتهى ما سبق فيه شاعرٌ غيرَه من الشعراء.

"وتمييز المصنوع مما يحوكه من المطبوع، والأَتِيِّ المستسهل من الأبِيَّ المستنكَر"(2)، سيأتي للمؤلف ذكرُ المصنوع والمطبوع بعد ذكر الأبواب السبعة التي هي عمود الشعر ونشرحه هنالك.

و"الأتي" ما يجلبه الساقي إلى أرضه من السيل أو النهر بأن يحفر به حفيرًا يجري فيه الماء، قال النابغة يذكر جاريةً ضربت في الأرض حفيرًا بالمسحاة لصرف الماء عن بيت أهلها:

خَلَّتْ سَبِيلَ أتِيٍّ كَانَ يَحْبِسُهُ

ورَفّعَتْهُ إلى السَّجْفين فالنَّضَدِ (3)

والمؤلف أراد بالأَتِيِّ السهل، ولذلك أتبعه بوصف المستسهل وصفًا كاشفًا، وقد أتبعه فيما يأتِي بوصف السمح في صفحة 88 سطر 6 من النشرة. و"الأَبِيُّ" فعيل من أمثلة المخالفة، وأصلُه الرجل المتعاصي غير المطواع. وقد استعاره المؤلفُ للكلام الذي يبدو عليه التكلُّف، ولذلك أَتبعه بوصف المستنكَر والمستكرَه، وأتبعه فيما يأتي بوصف الصعب (4).

(1) المصدر نفسه.

(2)

المصدر نفسه.

(3)

البيت هو الخامس من قصيدة يمدح فيها النابغة النعمان بن المنذر ويعتذر إليه مما بلغه عنه، وطالعها:

يَا دَارَ مَيَّةَ بِالعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ

أَقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الأَبَدِ

ديوان النابغة الذبياني، ص 15 (نشرة محمد أبو الفضل إبراهيم) وص 77 (نشرة ابن عاشور).

(4)

انظر صفحة 88 سطر 7 من النشرة. - المصنف.

ص: 1394

"وقضيتَ العجبَ كيف وقع الإجماعُ من النقاد على أنه لم يتفقْ في اختيار المقطوعات أنقى مما جمعه، ولا في اختيار المقصَّدات أَوْفَى مما دوّنه المفضّلُ (1) ونقدَه. وقلتَ إن أبا تمام معروفُ المذهب فيما يقرضه، مألوفُ المسلك بنظمه، نازعٌ في الإبداع إلى كل غاية، حاملٌ في الاستعارات كلَّ مشقة، متوصِّلٌ إلى الظَّفر بمطلوبه من الصنعة أين اعتسف وبما عثر، متغلغلٌ إلى توعير اللفظ وتغميض المعنى أنّى تأتّى له وقَدَر؛ وهو عادلٌ فيما انتخبه في هذا المجموع عن سلوك معاطِفِ ميدانه، ومرتضٍ ما لم يكن فيما يصوغه في أمره وشانه. فقد فَلَيْتُه فلم أجدْ فيه ما يوافق ذلك الأسلوبَ إلا اليسير. ومعلوم أن طبعَ كلِّ امرئ - إذا ملك زمامَ الاختيار - يجذبه إلى ما يستلذُّه ويهواه، ويصرفه عمَّا ينفر منه فلا يرضاه"(2)،

"قضيت العجب" كلمةٌ جرت مجرى المثل، معناه تعجبتَ العجبَ القوي؛ لأنه إذا تعجب عجبًا قويًّا فكأنه قضاه، أي أداه وأتمه، ومنه قضى وطرًا، قال الحريري في المقامات:"وقضيتُ العجبَ مما رأيت". (3) و"المقطوعات" القِطع من الشعر المختارة من قصائد، أو التي نُظمتْ من أول الأمر قطعًا قصيرةً من الشعر.

(1) هو أبو العباس المفصل بن محمد بن يعلي بن عامر الضبي، راوية، علامة بالشعر والأدب وأيام العرب. من أهل الكوفة، وأشهر علمائها، وأوثق رواة الشعر فيها. لا يعرف تاريخ ولادته على التحديد ويرجح أنه ولد في مطلع القرن الثاني، أما وفاته فكانت بين سنتي 168 و 171 هـ. أخذ الضبي عن شيوخ كثيرين، من أبرزهم الأعمش وعاصم بن أبي النجود ومجاهد بن رومي وسماك بن حرب وأبو إسحاق السبيعي. وأخذ عنه كثيرون من أفذاذ العلماء، ومنهم ابن الأعرابي وأبو زيد الأنصاري وخلف الأحمر والفراء والكسائي وغيرهم. وكان من معاصريه الذين اشتهروا برواية الشعر حماد الراوية الذي كان الضبي ينتقده لعدم صدق روايته وزيادته فيها شعرًا من وضعه، وفي ذلك قصة حصلت لهما في مجلس المهدي. قيل إنه خرج مع إبراهيم بن عبد الله بن حسن على المنصور، فظفر به وعفا عنه، ثم ألزمه ابنه محمد المهدى لتأديبه. صنف للمهدي كتابه "المفضليات"، وسماه "الاختيارات". وله مصنفات أخرى منها "الأمثال"، و"معاني الشعر"، و"الألفاظ" و"العروض".

(2)

نشرة هارون، ج 1، ص 3 - 4، وفيها "لما ينظمه" بدل "بنظمه"، "ولا يرضاه" بدل "فلا يرضاه".

(3)

الحريري: مقامات الحريري، ص 23.

ص: 1395

وتسمى مقاطيع جمع مقطوع، وتسمى قطعًا جمع قطعة، وهي ما كان من الشعر أقلَّ من ستة عشر بيتا. ووصفُ ديوان الحماسة بذلك باعتبار غالبه، وإن كان قد يوجد فيه ما يزيد على ستة عشر بيتًا من قصائد كاملة أو بعضها.

و"المقصَّدات" جمع المقصَّدة، وهي القصيدة وجمعها قصائد، واسم الجمع قصيد، وقد يُطلق القصيدُ على القصيدة باعتبار الجنس. والقصيدة طائفةٌ من الشعر زائدة على خمسة عشر بيتًا، وهذه الأسماء مشتقة من القصد؛ لأن قائلَها قصدها واعتمدها. فأما المَقصَّدة فلأن الشاعر جعلها قصيدة، وما دون القصيدة يسمى قطعة. والذي "دوّنه المفضّلُ" هو الديوان المعروف بالمفضليات، يشتمل على مائة وأربع وعشرين قصيدة اختارها إجابةً لرغبة أبي جعفر المنصور لفائدة ابنه المهدي، وجامعها هو المفضل بن محمد بن يعلى الضبي الكوفي، الراوية اللغوي، توُفِّيَ سنة 168 هـ. وعلى "المفضليات" شرحٌ للمرزوقي، ذكره ياقوت (1). وقوله "إلى كل غاية"، أي إلى غايات كثيرة، فإن كلمة كل تستعمل في الكثرة للمبالغة دون قصد الشمول كقول النابغة:

بِهَا كُلُّ ذَيَّالٍ وَخَنْسَاءَ تَرْعَوِي

إِلَى كُلِّ رَجَّافٍ مِنَ الرَّمْلِ فَارِدِ (2)

وفي القرآن: {وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [يونس: 22]. ووقع في نسخة الأستانة "أكمل" عوض "كل"، وهي ظاهرة.

وقوله فقد "فليته": وقع في إحدى النسختين التونسيتين "قلَّبْته"(بقاف ثم لام مشددة ثم موحدة)، وهي أحسن استعارة من فليته؛ لأن الفَلْيَ كلمةٌ مرذولة ينبو الأدباءُ من استعارتها كما سيأتي. والتاء مضمومة، وهي تاء المتكلم حكايةً لقول

(1) الحموي الرومي، ياقوت: معجم الأدباء، ج 2، ص 506 (الترجمة رقم 183).

(2)

ديوان النابغة الذبياني، ص 90 (نشرة ابن عاشور)، وص 138 (نشرة محمد أبو الفضل إبراهيم). البيت هو الثالث من قصيدة قالها النابغة لما أغار النعمان بن وائل بن الجُلاح الكلبي على بني ذبيان.

ص: 1396

المخاطَب المحكي آنفًا بقوله: "وقلتَ إن أبا تمام إلخ". و"الأسلوب" الطريق، وهو في الاصطلاح الطريقةُ المخصوصة من الكلام البليغ، كقولهم في الالتفات إنه انتقالٌ من أسلوب إلى أسلوب، أي من طريقة الخطاب إلى طريقة الغيبة مثلًا، وقولهم الأسلوب الحكيم هو تلقي المخاطب بغير ما يترقب (1).

"وزعمتَ بعد ذلك أَجْمَعَ أنك مع طول مجالستِك لجهابذة الشِّعر والعلماء بمعانيه، والمبَرِّزين في انتقاده، لم تقفْ من جهتهم على حدٍّ يؤديكَ إلى المعرفة بجيِّدِه ومتوسِّطِه ورديئه، حتى تُجرِّد الشهادةَ في شيء منه، وتبُتَّ الحكمَ عليه أو له آمنًا من المجاذبين والمدافعين"(2)،

"المجاذبون" أصحاب المجاذبة، وهي مفاعلة من الجذب للشيء، أي إدناؤه باليد لأخذه. فالمجاذبة أن يجذب كلا الشخصين شيئًا واحدًا كلاهما يطلب أخذَه لنفسه. والمرادُ بها هنا تمثيلٌ للمحاجَّة والاستدلال، فكلٌّ يُظهِرُ أن الحقَّ في جانبه، وهي من شعار أهل العلم في محادثاتهم ومناظراتهم. قال الزمخشريُّ في ديباجة "الكشاف"، في صفة من يستأهل أن يفسر القرآن:"قد رَجَع زمانًا ورُجِع إليه، ورَدَّ ورُدَّ عليه". (3)

وأما "المدافعةُ" فهي مفاعلة أيضًا، وهو إبعادك الشيءَ عن جهة ما. فالمدافعة مرادٌ بها إبطالُ دليلِ الخصم عند المناظرة. فمن المدافعة المنعُ المجرد، والمنعُ بالسَّند في قواعد الجدل، وبقية الاعتراضات على الأدلة، وكلها راجعة إلى المنع (4). واعلم أن

(1) قال السكاكي: "الأسلوب الحكيم هو تلقي المخاطب بغير ما يترقب (. . .)، أو السائل بغير ما يتطلب". مفتاح العلوم، ص 435.

(2)

نشرة هارون، ج 1، ص 4، وفيها "لما ينظمه" بدل "بنظمه"، "ولا يرضاه" بدل "فلا يرضاه".

(3)

الزمخشري، الكشاف، ج 1، ص 7.

(4)

انظر في معنى المنع - ويسمى المناقضة أيضًا - الشنقيطي، محمد الأمين بن محمد المختار الجكني: آداب البحث والمناظرة، تحقيق سعيد بن عبد العزيز العريفي (مكة المكرمة: دار عالم الفوائد، ط 1، 1426 هـ)، ص 139 - 233 و 313 - 355.

ص: 1397

المؤلف قد بين المجاذبة في آخر هذا الشرح (1) بقوله: "لا أنسى مجاذبتي فيها، متى كان في القول إمكان، وللتحصيل إرصاد، ولسهم النضال تسديد، وفي قوس الرماء منزع"، وهنا يظهر من حسن وقع لفظ المجاذبة ما لا يظهر في تغيير قوله في صدر الديباجة "فإنك جاريتني" إذ لم يقل "جاذبتني" كما قدمنا هنالك.

"بل تعتقد أن كثيرًا مما يستجيزه زيدٌ يجوز أن لا يطابقَه عليه عمرو": الذي في النسختين التونسيتين ونسخة الآستانة "يستجيده"(2) بدالٍ عوضَ الزاي، وهي أحسن معنًى ولفظا. ومعنى "لا يطابقه" لا يوافقه، مأخوذٌ من الإطباق، وهذه المادة تؤذن بالمساواة. ومنه الطبَق، وهو غطاء الإناء؛ لأنه يجعل بمقداره، ومنه أيضًا الانطباق.

"وأنه قد يُسْتَحْسَنُ البيتُ ويُثْنَى عليه، ثم يُستَهْجَنُ نظيرُه في الشبه لفظًا ومعنى حتى لا مخالفةَ، فيُعرَضُ عنه، إذْ كان ذلك موقوفًا على استحلاء المستحلي واجتواء المجتوي"(3): "الاجتواء"(بالجيم) افتعال من الجَوى، وهو الداء الباطني. والمراد بالاجتواء هنا الكراهةُ ونفورُ الطبع، وأصله عدم ملاءمة الجو للساكن فيه، وفي حديث النفَر من عُكْلٍ وعُرَيْنَة "أنهم اجتووا المدينة"(4)، أي استوخموا جوَّها وهواءها إذ كانوا من أهل بادية، وصيغة الافتعال هنا للمطاوعة.

(1) عن نسخة الآستانة. - المصنف. وجاء في نشرة عبد السلام هارون (ج 4، ص 1886): "واعلم، صحبك التوفيق في مَبَاغِيك، أن ما جمعتُ منتشِرَه، وأثَرْتُ مُكتَمِنَه، وحَلَلْتُ معقودَه، وأعدْتُ محذوفَه، ونشرتُ مطويَّه، ومدَدْتُ مقصُورَه، من بيوت هذا الاختيار وفصوله، فإني لم أُدركْهُ إلا في مدةٍ طويلة لا أذكرُ طرفَيْها، وبمجاهداتٍ لشيوخ الصناعة عجيبة لا أنسى مجاذباتي فيها، حين كان في القول إمكانٌ، وللتحصيل إرصادٌ، ولسَهْم النِّضال تسديد، وفي قوس الرِّماء منْزَعٌ وتوتير، وكان الرأيُ ولودًا، والخاطر عمولًا. . ."

(2)

وهو ما أثبته الأستاذ هارون في تحقيقه، ج 1، ص 4.

(3)

المرجع نفسه.

(4)

صحيح البخاري، "كتاب الوضوء"، الحديث 233، ص 43؛ "كتاب الزكاة"، الحديث 1501، ص 244. وقد جاء الحديث في مواضع أخرى عديدة من الجامع الصحيح مع اختلاف في الروايات طولًا وقصر.

ص: 1398

"وأنه كما يُرزق الواحدُ في مجالس الكبار من الإصغاء إليه والإقبال عليه، ما يُحرم صنوُه وشبيههُه، مع أنه لا فضيلةَ لذلك ولا نقيصةَ لهذا إلا ما فاز به من الجَدِّ عند الاصطفاء والقَسْم"(1)، أي وأن ذلك يشبه ما يُرزقه الشخصُ من الإصغاء إليه. وقوله "ما يحرم صنوه"، كذا في جميع النسخ، وهو من حذف عائد صلة الموصول إذ كان منصوبًا بفعل وهو كثير، فالتقدير ما يُحرمه. و"الجَد"(بفتح الجيم) الحظ والبخت، و"القَسْم"(بفتح القاف وسكون السين) مصدر اسم المفعول، وهو ما يقسم للمعطَى (بفتح الطاء) من العطاء. قال الأعشى:"ويقسم أمر الناس يومًا وليلةً". (2)

و"القسْم" - في كلام المؤلف - معطوفٌ على الاصطفاء. والمعنى أنك تتوهم أن سببَ التفاضل بين البلغاء تابعٌ لميل الأعيان إلى بعض البلغاء دون بعض، بسبب اجتباء المائل الممالَ إليه اجتباءً ناشئًا عما للمُمَالِ إليه من البخت الذي قدره الله له.

والمقصودُ من كلام المؤلِّف إبطالُ أن يكون التفاضلُ خَلِيًّا عن أسباب حقيقية، وأنه ليس لأسباب وهمية. وإنما احتاج إلى إبطال هذا الوهم؛ لأنه جاش في نفس المخاطَب، ولأنه شاع بين ضعفاء العقول وقاصري الصناعة إذا خانتهم المقدرةُ أن يعتلُّوا لخيبتهم بأنهم حُرموا البخت، وأن تفَوُّقَ مَنْ سواهم عليهم لأجل أن المتفوِّق مبخوت. ومن هذا القبيل حالُ المشركين حين عجزوا عن معارضة القرآن فإنهم قالوا هو سحر (3).

(1) نشرة هارون، ج 1، ص 4.

(2)

البيت من قصيدة "يداك يدا صدق"، وتمامه:

وَيَقْسمُ أَمْرَ النَّاس يَوْمًا وَلَيْلَةً

وَهُمْ سَاكتُونَ، وَالمَنيَّةُ تَنْطقُ

ديوان الأعشى، ص 127.

(3)

انظر الآيات: المائدة: 110؛ الأنعام: 7؛ هود: 7؛ النمل: 13؛ القصص: 36؛ سبأ: 43؛ الصافات: 15؛ الزخرف: 30؛ الأحقاف: 7؛ القمر: 2؛ الصف: 6؛ المدثر: 24.

ص: 1399

- 2 -

"وقلتَ أيضًا: أني أتمنى أن أعرفَ السببَ في تأخُّر الشعراء عن رتبة الكُتَّاب البلغاء، والعذرَ في قلة المترسِّلين وكثرة المُفْلِقِين، والعلةَ في نباهة أولئك وخمول هؤلاء، ولماذا كان أكثرُ المترسِّلين لا يُفْلِقُون في قَرْض الشعر، وأكثرُ الشعراء لا يَبْرعون في إنشاء الكتب، حتى خُصَّ بالذكر عددٌ يسير منهم، مثلُ إبراهيم بن العباس الصولي وأبي علي البصير، والعَتّابي، في جمعهم بين الفنَّيْن واغترَازِهم ركابَ الظَّهْرَيْن. [هذا] ونظامُ البلاغة يتساوَى في أكثره المنظومُ والمنثور"(1)،

هذا تمام مجاراة المخاطَب المحكية في قول المؤلف "فإنك جاريتني"، وقوله "ثم سألتَني"، وقوله "وقلتَ"، وقوله "وزعمتَ". ووقع في كلام المؤلف:"والعذر في قلة المترسلين وكثرة المفلقين". فـ "المترسِّلون" هم أصحابُ الترسُّل، وهو صناعة إنشاء الكلام النثري؛ فإن الإنشاء يُطلق عليه اسم الترسل إطلاقًا شائعًا، وقد سَمَّى شهابُ الدين محمود الحلبي كتابه في صناعة الإنشاء "حسنَ التوسل إلى صناعة الترسل"(2).

و"المُفلِقون"(بضم الميم وكسر اللام) هم فحولُ الشعراء، يقال أفلق الشاعرُ إذا نبغ في الشعر. وهذا اللفظ مشتقٌّ من الفِلق (بكسر الفاء وسكون اللام)، وهو الشيء العجيب. وهذا اللفظ من الكلمات التي ذهل عن إثباتها صاحبُ الصحاح وصاحب القاموس (3). وذكر المؤلفُ ثلاثةً مِمَّنْ خُصَّ بالذكر من شعراء الكتاب.

(1) نشرة هارون، ج 1، ص 4 - 5.

(2)

شهاب الدين محمود بن عمر بن سلمان الحلبي، شاعر ومصنِّف، توفي سنة 725 هـ. ترك عددًا من الآثار المهمة، في الأدب والتاريخ. منها "حُسن التوسّل إلى صناعة الترسّل" الذي ذكره المصنف، وقد طبع ببغداد مطبوعًا ببغداد، 1980 م، و"منازل الأحباب ومنازه الألباب" وقد صدر سنة 2000 م عن دار صادر في بيروت بتحقيق الدكتور محمد الديباجي.

(3)

قال الميساوي: وقد تصدى بعضُهم لتخطئة الشيخ في نسبته إلى صاحب الصحاح وصاحب القاموس الذهولَ عن إثبات لفظ "مفلِق"، مدعيًا أنهما أثبتاه، وما ذكره ابن عاشور هو الحق، فالجوهريُّ والفيروزآباديُّ وإن عرضا لمادة "فلق" وجملة من مشتقاتها، إلا أن الجوهريَّ ذكر =

ص: 1400

وقد بوب ابنُ رشيق في العمدة بابًا لأشعار الكتاب، فذكر الصولي وبعضًا من جيِّد شعره. وذكر أيضًا محمد بن عبد الملك الزيات، والحسنَ بن وهب، وسعيدَ بن حميد الكاتب. وذكر الوزير أبا الحسن بن الخلال المهدوي وزير بني عبيد (1). وأقول: من شعراء الكتاب لسانُ الدين بن الخطيب السلماني الأندلسي (2).

= صيغة "مفلق" باعتبارها وصفًا للشعر لا للشاعر، بينما لم يُعَرِّجْ عليها الفيروزآباديُّ بخصوصها. وأضيف إليهما الأزهريَّ في "تهذيب اللغة".

(1)

القيرواني: العمدة، ج 2، ص 56 - 60. يبدو أن المصنفَ عليه رحمة الله وهم فخلط بين موفق الدين يوسف بن محمد بن الخلال المصري، صاحب ديوان الإنشاء بمصر في دولة الحافظ العبيدي المكنى بأبي الحجاج والمتوفى سنة 566 هـ (بعد ابن رشيق بحوالي مائة سنة) وأبي الحسن علي بن أبي الرجال الشيباني الرياضي الفلكي الشاعر الكاتب رئيس ديوان المعز بن باديس، وهو الذي ذكره ابن رشيق (ص 60) بعبارات التبجيل حيث قال: "السيد الرئيس أبي الحسن، أيده الله"، وأطراه في مقدمة الكتاب بقوله: "السيد الأمجد، الفذ الأوحد، حسنة الدنيا، وعلم العليا، وباني المكارم، وآبي المظالم، رجل الخطب، وفارس الكتب: أبي الحسن علي بن أبي الرجال، الكاتب، زعيم الكرم، . . ." العمدة، ج 1، ص 11.

(2)

هو أبو عبد الله لسان الدين محمد بن عبد الله بن سعيد بن عبد الله السلماني، ولد سنة 713 هـ في مدينة "لوشة" غرب غرناطة، وبها نشأ وعن كبار علمائها أخذ مختلف العلوم، كالأدب واللغة والفقه والطب، فكان واسع المعرفة. وبعد وفاة والده سنة 741 هـ تولى الكتابة في ديوان الإنشاء خلفًا له، كما تولَّى الوزارة سنة 749 هـ خلفًا لأبي الحسن بن الجياب، وكان وزيرًا للسلطان أبي الحجاج يوسف. استمر ابن الخطيب في الوزارة بعد مقتل أبي الحجاج سنة 755 هـ، وقيام ابنه محمد الغني بالله خلفًا له. ولما ضعفت بلاد الأندلس وتكالبت عليها جيوش قشتالة، سافر إلى أبي عنان فارس السلطان المريني للاستنجاد به لمقاومة الزحف القشتالي، ونجح لسان الدين في مهمته، فرفعت رتبته وقيمته فلقب بذي الوزارتين: الكتابة والوزارة. وعندما خلع الغني بالله سنة 760 هـ، فر ابن الخطيب إلى فاس لاحقًا بالسلطان المخلوع، ولما تمكن هذا الأخير من العودة إلى الحكم، استدعاه من فاس، ورده إلى الوزارة، وأعاد تلقيبه بذي الوزارتين، فعظم نفوذه. وقد أثارت المكانة الرفيعة التي تبوأها ابن الخطيب حسد منافسيه وضغينتهم، فدبروا له المكائد. وقد اضطر بسبب ذلك للفرار إلى مدينة فاس لاجئًا في كنف السلطان المريني أبي فارس عبد العزيز. اتهم ابن الخطيب بالإلحاد والزندقة، لبعض ما جاء في كتابه "روضة التعريف بالحب الشريف" المعروف بكتاب "المحبة"، فأجريت له محاكمة غيابية في غرناطة بحضور كبار العلماء والفقهاء، وأحرقت كتبه. وما زال خصومه يطاردونه حتى دس عليه الوزير سليمان بن داود بعضَ أتباعه فدخلوا عليه في =

ص: 1401

والصُّولي منسوبٌ إلى صُول، ضَيعة من جرجان، وهو تركيُّ الأصل نشأ في الدولة العباسية في مدة المعتصم، واتصل بالوزير الفضل بن سهل، وتوفي سنة 243 هـ. له نثرٌ بليغ، وشعر رقيق غير طويل، ترجمه ياقوت في إرشاد الأريب. وأبو علي البصير هو الفضل بن جعفر النخعي الكوفي الضرير، سكن بغداد في خلافة المعتصم، شاعرٌ وكاتب توفي سنة 255 هـ، ترجمه الصفدي. والعَتَّابي هو كلثوم بن عمرو العتابي (بفتح العين وتشديد التاء)، منسوب إلى بني عتاب من بطون تغلب. ولد بالشام، وسكن بغداد، واختص بالبرامكة، ومدح الرشيد. وهو شاعر مجيد، وكاتب حسن الترسل. توُفِّي سنة 220 هـ، ترجمه في إرشاد الأريب (1).

ونظير ما ذَكَرَ فيمَنْ جمع الشعر والترسل ما ذكره الجاحظ فيمن جمع الشعر والخطابة، وعدّ منهم بضعةَ عشر في كتاب "البيان والتبيين"(2). وذكر المؤلفُ لفظ "الخمول"، وهو بضم الخاء المعجمة، مصدر خمل، أي سقط. وهو مستعار لعدم الشهرة.

• "وأنا إن شاء الله وبه الحولُ والقوة، أُورد في كل فصلٍ من هذه الفصول ما يحتمله هذا الموضع، ويمكن الاكتفاءُ به؛ إذ كان لتقصِّي المقال فيه موضعٌ آخر، من

= سجنه وقتلوه خنقًا في أوائل سنة 776 هـ. كان ابن الخطيب عالما بالطب والتاريخ والفلسفة، كما كان عالِمًا بالفقه والأصول. كان لسان الدين ابن الخطيب من أقرب أصدقاء ابن خلدون إليه، وله ذكرٌ طويل في كتابه "رحلة ابن خلدون". ومن مؤلفاته:"الإحاطة في أخبار غرناطة"، و"اللمحة البدرية في الدولة النصرية"، و"تاريخ ملوك غرناطة" إلى سنة 765 هـ، و"رفة العصر في دولة بني نصر"، و"عيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار"، و"الحلل المرقومة في اللمع المنظومة"؛ وهي أرجوزةٌ من ألف بيت في أصول الفقه. وله كتاب "عمل مَنْ طَبّ لمن حَبّ" في الطب، ألفه لسلطان المغرب أبي سالم بن أبي الحسن المريني. وعلى اسمه صنف المؤرخ أحمد بن محمد المقري (المتوفَّى سنة 1041 هـ) كتابه "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب". له باع طويل في الشعر وخاصة الموشحات، ومن أشهر موشحاته "جادك الغيث".

(1)

الحموي: معجم الأدباء، ج 5، ص 2243 - 2246 (الترجمة رقم 922).

(2)

صحيفة 5 جزء 1، طبع المطبعة التجارية الكبرى بالقاهرة سنة 1345 هـ. - المصنف. انظر الجاحظ: البيان والتبيين، ج 1/ 1، ص 75 - 98.

ص: 1402

غير أن أنصِبَ لما تُصَوِّرُه النعوتُ الأمثلةَ، تفاديًا من الإطالة؛ ولأنه إذا وضح السبيلُ وقعت الهدايةُ بأيسر دليل، والله عز وجل الموفِّق للصواب، وهو حسبنا ونعم الوكيل" (1)،

"أنصُب" بضم الصاد: مضارع نصب الشيء إذا رفعه وأظهره (2). ومنه سُمِّيَ التمثالُ من الحجر نصْبًا، تسميةً بالمصدر. واستعار المؤلفُ هذا الفعلَ لمعنى أذكر وأبين. "النعوتُ" فاعل تصوره، و"الأمثلة" مفعولُ أنصب. ومرادُه بالنعوت التوصيفاتُ الموضِّحةُ للحقائق، والقواعد التي توضع لطرق النقد والاختيار. و"التفادي" التحامي، وهو يتعدّى بمن غالبًا، لا نعلم ضمنوه معنى التباعد. وقوله "لأنه إذا وضح" في النسختين التونسيتين، ونسخة الآستانة "ولأنه".

"اعْلَمْ أنَّ مذاهبَ نُقَّاد الكلام في شرائط الاختيار مختلفة، وطرائق ذوي المعارف بأعطافها وأردافها مفترقة، وذلك لتفاوت أقدار مَنادحِها على اتساعها، وتنازُحِ أقطار مَظَانِّها ومعالِمها، ولأن تصاريفَ المباني التي هيَ كالأوعية، وتضاعيف المعاني التي هي كالأمتعة في المنثور، اتسع مجالُ الطبع فيها ومسرحُه، وتشعَّب مُرادُ الفكر فيها ومطرحُه"(3)،

وهذا شروعٌ في إجابة أسئلة الذي جاراه. "المذاهب" أصلها جمع مذهب، وهو مكان الذهاب إلى الطريق، وتطلق كثيرًا على الآراء والأفكار، سمَّوها مذاهب لأنها كالطرائق يذهب فيها الفكرُ فمثلوا حركةَ الفكر في معلومات خاصة بمشي الماشي في طريق وذهابه فيه. فهذا الإطلاقُ استعارة، ثم شاع عند أهل العلوم فصار حقيقةً عرفية علمية في مجموع المسائل العلمية النظرية التي أخذ بها طائفةٌ من علماء علم ما، فيقال مذهب مالك ومذهب أبي حنيفة، ويقال مذهب البصريين ومذهب الكوفيين.

(1) نشرة هارون، ج 1، ص 5.

(2)

قال الميساوي: الصواب كسر الصاد لا ضمها في "أنصِب"، وهو من باب خرق يخرِق.

(3)

نشرة هارون، ج 1، ص 5.

ص: 1403

و"الأعطاف" جمع عِطف (بكسر العين)، وهو قارعة الطريق. والأرداف جمع رِدف، وهو التابع الموالِي. وكأنه أراد بها أردافَ الأعطاف أي الطرق المتفرعة عنها، فصار ذانك اللفظان استعارتين لأصول أساليب الإنشاء ولما يتبع تلك الأصول من المحسِّنات، كما يشير إليه قولُه الآتي:"ومنهم من لم يرض بالوقوف على هذا الحد"، وقوله:"ومنهم مَنْ تَرَقَّى إلى ما هو أشق".

قال السكاكي في مفتاح العلوم عند انتهاء كلامه على محسنات البديع: "وأصلُ الحسن في جميع ذلك أن تكون الألفاظُ توابعَ للمعاني، أعني أن لا تكون متكلَّفة". (1) و"المنادح" جمع مندوحة، وهي الأرض المتسعة، والتنازح مشتق من نزح عن المكان إذا بعد. و"الأقطار" جمع قطر (بضم القاف وسكون الطاء)، وهو الناحية المعينة من الأرض والبلدان. والمظان جمع مَظِنّة (بفتح الميم وكسر الظاء) على خلاف القياس في بناء اسم المفعلة، أي المكان الذي يُظَنُّ وجودُ شيء ما فيه.

و"المعالم" جمع معلم (بفتح اللام)، وهو اسم المكان الذي يُعلم أنه كان منزل قومٍ، ومعالمُ القوم منازلهُم التي بها آثارهم، وهي مشتقة من العلم. فلذلك حَسُن جمعُ المؤلف بينها وبين المظان إيماءً إلى مراتب المعرفة بين علم وظن، فأراد بالمظان القواعدَ النظرية التي أنتجها الظن وبالمعالم القواعدَ القطعية التي هي قواعدُ الفن الناشئة عن استقراء الأدب العربي. و"على" من قوله:"على اتساعها" هي بمعنى مع. وهو معنى يعرض كثيرًا في حرف على، يعني أن تفاوتَ الأقدار تابعٌ لاتساع أساليب الأدب ولمقدار إحاطة الأديب بتلك الأساليب، وذلك أن حق "مع" أن تدخل على المتبوع فكذلك "على" التي هي بمعناها.

(1) أورد المصنف كلام السكاكي بشيء من التصرف، ولفظه:"وأصل الحسن في جميع ذلك [يعني أنواع البديع] أن تكون الألفاظُ توابعَ للمعاني لا أن تكون المعاني لها توابع". مفتاح العلوم، ص 542 (نشرة هنداوي).

ص: 1404

و"التصاريف" جمع تصريف وهو التغيير، أي تغيير المتكلِّم كلامَه من أسلوب إلى أسلوب ومن كيفية إلى أخرى، بحسب اختلاف مواقعه. فالمراد تغيير طريقة الكلام التي يسلكها بأن يسلك مرةً طريقةً وأخرى طريقة غيرها، لا تغيير الكلام الواحد وتبديله. وعرفه عبد القاهر بقوله:"والأسلوب الضرب من النظم والطريقة فيه". (1) وهذا هو المعبَّر عنه بالأساليب (جمع أسلوب)، وقد ذكرناه آنفا. وإطلاق التصريف على ذلك من إطلاق المصدر على اسم المفعول، كالخَلق بمعنى المخلوق. والتضاعيف جمع تضعيف، وهو تكرير الشيء. أراد بها الفنونَ الكثيرة فجمعها؛ لأن كلَّ فن في الكلام هو تكريرٌ للجنس الأعلى، أعني جنس الخصوصيات البلاغية، فهو تكريرُ مظاهرَ لا تكرير شيء معين.

وقوله: "اتسع مجالُ الطبع. . ." إلخ، هو خبر عن قوله "ولأن تصاريف المباني. . ." إلخ. والطبعُ الوجدان الذهني، والمراد به هنا وجدانُ البليغ وطبعه، وهو المسمَّى عندهم بالذوق. وهو الذي يحصلُ للبليغ من ممارسة كلام البلغاء ومن تطبيق القواعد والضوابط التي يتلقاها في تعلم الصناعة، حتى تحصل له ملكةٌ تتميز بها أصنافُ الكلام في الجودة والرفعة ودونها، بحيث تحكم بأن هذا الكلامَ حسن وهذا أحسن وهذا دون ذلك. قال الجاحظ:"والإنسان بالتعلم وبطول الاختلاف إلى العلماء ومدارسة كتب الحكماء يجود لفظُه ويحسن أدبه، وهو لا يحتاج في فساد البيان إلى أكثر من ترك التخير". (2) وقال السكاكي: "ليس من الواجب في صناعة (. . .) أن يكون الدخيلُ فيها كالناشئ عليها في استفادة الذوق منها، فكيف إذا كانت الصناعةُ مستندةً إلى تحكماتٍ وضعية، واعتبارات إلفية؟ "، ثم قال: "وكان

(1) صفحة 338 دلائل الإعجاز. - المصنف. الجرجاني: دلائل الإعجاز، ص 468 - 469.

(2)

في البيان والتبيين صفحة 74 - 75 جزء أول طبع التجارية الكبرى. - المصنف. الجاحظ: البيان والتبيين، ج 1/ 1، ص 67.

ص: 1405

شيخُنا الحاتمي (1) - ذلك الإمام الذي لن تسمح بمثله الأدوار ما دار الفلك الدَّوّار - يحيلنا بحُسن كثير من محسِّنات الكلام إذا راجعناه فيها على الذوق، ونحن حينئذ ممن نبغ في عدة شعب من علم الأدب". (2)

وبهذا يتضح أن الذوق والتطبع مترادفان، ولذلك تسمع أئمة الأدب يقولون:"هذا يشهد به الذوق السليم والطبع المستقيم"، ونحو هذه العبارة.

و"المجال" مكان الجولان وهو الطواف، و"المسرح" مكان السروح وهو انطلاق الأنعام في المرعى. وأراد المؤلف بهذين مواضيع المعاني البلاغية التي يعمل

(1) الحاتمي هذا لم أقف من ترجمته على [شيء] سوى أنه يُلقَّب بشرف الدين، وأنه تلميذ عبد القاهر الجرجاني، وأنه شيخ السكاكي. وقد ذكره السكاكي في المفتاح غير مرة. وهو غير الحاتمي [310 - 388 هـ] عصري المتنبي الذي ألف كتاب "نقد المتنبي". - المصنف. قلت: ذكره في عدة مواضع عند الكلام على الاشتقاق، والرباعي، والفاعل، وعلة عمل الحروف العاملة، والخبر، وغيرها من المواضع. وغالبًا ما يكون ذلك الذكر مصحوبًا بعبارات التبجيل والتمجيد، كقوله:"وكان شيخنا الحاتمي - ذلك الإمام الذي لن تسمح بمثله الأدوار ما دار الفلك الدوار تغمده الله برضوانه - لا يحيلنا بحسن كثير من مستحسنات الكلام إذا راجعناه فيها على الذوق. . . وها هو الإمام عبد القاهر قدس الله روحه في دلائل الإعجاز كم يعيد هذا". وقوله: "وأرى أن شيخنا الحاتمي - ذلك الإمام في أنواع من الغرر الذي لم يسمع بمثله في الأولين ولن يسمع به في الآخرين، كساه الله حلل الرضوان، وأسكنه حلل الروح والريحان - كان يرى هذا الرأي، والرأي الأول حقه إذا سمي شعرًا أن يسمى مجازا لمشابهته الشعر في الوزن، ومذهب الإمام أبي إسحاق الزجاج في الشعر هو أن لا بد من أن يكون الوزن من الأوزان التي عليها أشعار العرب وإلا فلا يكون شعرًا، ولا أدري أحدًا تبعه في مذهبه هذا". السكاكي: مفتاح العلوم، ص 257 و 619 (نشرة هنداوي). وعلى الرغم من طول البحث والتنقيب، لم أعثر لهذا الحاتمي على ترجمة، وقد قال عبد الحميد هنداوي:"لم يستطع الباحثون التوصل إلى ترجمة الحاتمي هذا، وذهب د. أحمد مطلوب إلى احتمال أن يكون المراد به سديد الدين بن محمد الخياطي الحاتمي، وكان رأسًا في الفقه والكلام، وذكرت المصادر أنه تففه عليه السكاكي". المصدر نفسه، ص 49، الحاشية 2 (وقد أحال هنداوي على كتاب مطلوب المعنون "البلاغة عند السكاكي"، ص 53). وهذا أمر يثير العجب؛ إذ كيف تُغفل كتب التاريخ والتراجم والأدب شخصًا إذا كان بمثل تلك الخصال التي وسمه بها السكاكي؟ !

(2)

في القسم الثالث من المفتاح في القانون الأول من الفصل الأول منه. - المصنف. السكاكي: مفتاح العلوم، ص 257 (نشرة هنداوي).

ص: 1406

فيها الفكر لاستخراج دقائقها. و"المراد" - بضم الميم - موضعُ رياد الإبل، وهو تنقلها في المرعى مقبلةً ومدبرة. ووقع في النسختين التونسيتين ونسخة الآستانة "مراد الفكر لها"، وهو أحسن. و"المطرح" مكان الطرح أي البعد، وكل هذه تفنناتٌ من المؤلف. وقوله "في المنثور" يتنازعه "تصاريف" و"تضاعيف"، وإنما قيَّد موضوعَ بحثه هذا بالكلام المنثور؛ لأنه سيخص الشعرَ ببحث آخر يجيء عند قوله:"وكان الشعر قد ساواه [في جميع ذلك] "(1).

ومعنى كلام الإمام المرزوقي أن تنوعَ كيفيات مواقع الكلام البليغ مع دلالته على المعاني التي يقصد إليها البلغاء، قد كان تنوعًا يتجاذبه اعتبارُ ألفاظ الكلام واعتبارُ المعاني التي قصدها البلغاء من صناعتهم في البلاغة، وهو الذي كان سببًا في اختلاف أذواق علماء الأدب في شروط محاسن إيقاعها، اختلافًا ناشئًا عن اختلاف أميال (2) الناقدين والمختارين بحسب ما أَلِفوه من ممارسة ما يُعجَبون به، ويروقُ لديهم من نتائج أهل اللسان. وهم مع ذلك متحيِّرون في تعيين سبب مدخل الاستحسان أو ضده إلى أذواقهم: أهو من جهة اللفظ أم هو من جهة المعنى؟ ويوضحه قوله "فمن البلغاء" إلخ. وقد أشار المؤلفُ إلى جهة الاختلاف الأولى إذ قال: "وذلك لتفاوت أقدار منادحها على اتساعها، وتنازح أقطار مظانها ومعالمها"، وأشار إلى معذرتهم عن التحير في تعيين مدخل الاستحسان وضده بقوله:"ولأن تصاريف المباني التي هي كالأوعية وتضاعيف المعاني التي هي كالأمتعة" إلى قوله "ومطرحه".

وليس مرادُ أصحاب هذا المذهب إهمالَ الالتفات إلى جانب المعاني، ولكنهم جعلوا الاهتمامَ بالألفاظ في الدرجة الأولى. فأول ما يُقصد من اهتمام البليغ عند هذا

(1) صحيفة 87 من جزء مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق. - المصنف. يقصد المصنف الجزء 1 من المجلد 27 للمجلة المذكورة الذي نشر فيه الدكتور شكري فيصل نص مقدمة المرزوقي لشرحه على ديوان الحماسة (ص 80 - 103).

(2)

أي ميولهم.

ص: 1407

المذهب هو الكلامُ الذي هو قوالبُ للمعاني، كما أفصح عنه المرزوقي في آخر كلامه بقوله:"فأكثرُ هذه الأبواب لأصحاب الألفاظ، إذْ كانت للمعاني بمنزلة المعارض للجواري، فأرادوا أن يلتذَّ السَّمْعُ بما يُدْرِكُ منه وَلَا يَمُجَّه، ويتلقاه بالإصغاء إليه والإذْنِ له فلا يحجُبَه"، ثم بقوله:"ومن البلغاء من قصد فيما جاش به خاطرُه" إلخ (1)،

وحاصلُ ما أشار إليه المؤلفُ اختلافُ أئمة النقد في تعيين الناحية للكلام التي منها يكون فضلُه أو ضدُّه، وبها يستحق اختياره أو ردّه.

وسببُ هذا الاختلاف في مرجع التفضيل أن أهل النقد والاختيار وجدوا في أنفسهم إدراكًا للتفاضل بين كلامات البلغاء تفاضلًا توافقوا عليه في الغالب، واختلفوا فيه تاراتٍ بين مختار ومنتقد، فأيقنوا أنهم ما اتفقوا على الكلام الذي اتفقوا على تفضيله إلا لخصالٍ اشتمل عليها موجبةٍ لتفضيله، متساويةٍ في الثبوت عندهم، وأنهم ما اختلفوا في الكلام الذي اختلفوا فيه إلا لخصالٍ تخالف الخصالَ التي اعتادتْ نفوسُ أهل الاختيار استحسانَها وتوافق الخصالَ التي اعتادت نفوسُ أهل النقد كراهتَها. فأيقنوا أن من خصال الكلام ما هو حقيقٌ بأن يكون مناطَ اختيارٍ وضده، فكان ذلك الإدراكُ في اتفاقهم واختلافهم حافزًا لهم للبحث عن جوامع تلك الخصال ومقوماتها. وعلموا أن إدراكهم وفاقًا وخلافًا يرجع إلى معتادهم من مزاولة مختلِف أحوال كلام البلغاء في مراتبه أعلاها وأدناها على وصف ما يسمعونه بحسن أو بدونه. وكان لكلِّ كلامٍ بليغ مبانٍ، أي ألفاظٌ بني عليها في حسن التئام وانتظام، ومعانٍ لها صورٌ في العقل يستجيدها السامعُ ويغتبط بها.

وكان ذلك الإدراك انفعالًا ذهنيًّا يؤول بالدربة إلى ملكات ذوقية، فلما حاولوا أن يستدلوا عليه عند المجادلين أو أن يصفوه للمتعلمين عند المدارسة، ضاقت الأفكارُ عن الإحاطة بأسبابه، والعبارةُ عن الدلالة على منابعه، فاحتاروا في

(1) نشرة هارون، ج 1، ص 6 - 7. وسيأتي تمام كلام المرزوقي في النجم الثالث.

ص: 1408

أن مثارَ ذلك الإدراك الحاصلِ لهم من أين نشأ: أهو من جانب مباني الألفاظ وانتظامها أم من جانب المعاني وصورها؟ ثم احتاروا في شرح أسباب حصول ذلك في أحد الجانبين أو في كليهما. فاستعان كلُّ واصفٍ على إبانة الأوصاف التي تعقلها إبانةً بما حضر لديه من التقريب والتشبيه والتمثيل، عسى أن يبلِّغ ما في نفسه إلى نفوس المجاذبين والمسترشدين.

فشبهوا المعاني تارةً بأحوال الأناسي والحيوان من الجواري والظباء، وأحوال المتاع النفيس من حلي أو نحو ذلك. ثم استتبعوا تلك التشبيهات بالبناء عليها، فجعلوا للجواري معارضَ ومطارفَ، وجعلوا الحيوان وحشيًّا وأُنسيًّا، ووصفوا اللفظَ المقبول بالنبيه وبالشريف، وضدَّه بالهجين وبالرديء والمستكرَه. ووصفوا المعنى المقبولَ الرفيع بالكريم، وضدّه بالحقير والفاسد والدني والساقط (1). ثم عززوا ذلك كله بالمقارنات بين منشآت البلغاء والموازنة بينها. وقد تصدى المؤلِّفُ إلى تقريب ذلك كله، والجمع بين مختلِفِه بما تفنَّنَ في أوصافه، مع الحرص على الاحتضار، فقال:

"اعْلَمْ أنَّ مذاهبَ نقاد الكلام في شرائط الاختيار مختلفةٌ وطرائقَ ذوي المعارف بأعطافها وأردافها مفترقةٌ، وذلك لتفاوت أقدار منادحها على اتساعها وتنازح أقطار مظانها ومعالمها، ولأن تصاريف المباني التي هي كالأوعية وتضاعيف المعاني التي هي كالأمتعة في المنثور اتسع مجالُ الطبع فيها ومسرحُه، وتشعب مَرَادُ الفكر فيها ومطرَحُه"(2)،

وكان الخائضون في هذا الشأن فريقين:

(1) ص 74 الجزء الأول من البيان والتبيين للجاحظ طبع الرحمانية بمصر. - المصنف. الجاحظ: البيان والتبيين، ج 1/ 1، ص 67.

(2)

نشرة هارون، ج 1، ص 5، وفيها "مَرَادُ الفكر لها" بدل "فيها" مع إثبات القراءة الثانية في الهامش.

ص: 1409

1 -

ففريقٌ - وهم الأكثرون - هم من أصحاب الذوق والبلغاء من الأدباء، ولكنهم غيرُ متمرِّسين في علوم المعاني والبيان، فكانوا إذا وصفوا الكلامَ البليغ وصفوه بالأساليب التي اعتادوا في منشآتهم، وهي الإبانة عن محاسن الكلام بالتقريب بأساليب التشبيه والمجاز والكناية. فيبرز وصفُهم الكلامَ في صورة إنشاء بليغ أو شعر جيد، وهم على ذلك قد أناروا الطريق لسالكيه، ولكنه لا يشفي غليلَ الطالب، ولا يبلغ به الواصفُ قصدَه.

وهذا كما وصف ابنُ الأثير (1) كلامًا فصيحًا بقوله: "البيان الذي لا يغضُّ من نسق الفرِيد، ولا يُخلِق نضرَةَ لباسُه الجديد. . . يستميل سمعَ الطروب، ويستحق وقارَ القلوب"، وقوله:"إن للكلمة طعمًا يُعرف مذاقُه من بين الكلام، وخفةُ الأرواح معلومة من بين ثقل الأجسام"، وقوله:"ألفاظٌ كخَفْقِ البنود، أو زأْر الأسود، ومعان تدل بوارقها أنها هي السيوف، وأن قلوبًا نَمَتْها هي الغُمُود". (2)

(1) هو الوزير نصر الله بن محمد المعروف بابن الأثري الجزري، نسبة إلى جزيرة ابن عمر الموصلي، توفي سنة 637 هـ. وهو من أئمة الأدباء والكتاب، له كتابان:"المثل السائر" مشهور مطبوع، وكتاب "الجامع الكبير في صناعة المنظوم والمنثور"، ذكره صاحب "كشف الظنون"، ويظهر أنه ألف بعد "المثل السائر"، مع أنه ذكر كتابًا آخر له سماه "الوشي المرقوم في حل المنظوم". وهذا "الجامع الكبير" أخص من "المثل السائر"، وأقل شواهد، ولكنه قد يكون أقل منه قواعد، فلعله قصد منه تهذيب الفن والإقلال من انتشاره، وهو يقع في زهاء ثلث حجم "المثل السائر". وهو عزيز الوجود، وفي مكتبتي نسخة منه نسخت سنة 668 هـ. وهذا الكلام الذي ذكرناه ها هنا من "المثل السائر". - المصنف. قال الميساوي: بيِّنٌ أن الشيخ ابن عاشور وضع هذه الحاشية قبل كتابة مقاله المطول عن كتاب "الجامع الكبير" بمناسبة صدور طبعته الأولى في العراق عام 1375 هـ بتحقيق الأستاذين مصطفى جواد وجميل سعيد (مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، المجلد 36، الجزء 4، 1381/ 1961، ص 672 - 677)، فانظره في المحور الخامس من هذا المجموع.

(2)

ابن الأثير: المثل السائر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ج 1، ص 123 - 124. وفيه "بإرهافها" بدل "بوارقها"، ويبدو ما أثبته ابن عاشور أولى مما جرى عليه عبد الحميد في نشرته التي اعتمدنا عليها وما جرى عليه الحوفي وطبانه في نشرتهما (ابن الأثير، ضياء الدين: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق أحمد الحوفي وبدوي طبانه (القاهرة: دار نهضة مصر، ج 1، ص 131 - 132)، فلفظة "البوارق" أسعد بالسيف. هذا وقد استشكلت ورود لفظة الفريد =

ص: 1410

وكما وصف البحتري وقارن، فقال:

فِي نِظَامٍ مِنَ البَلَاغَة مَا شَكَّ

امْرُؤٌ أَنَّهُ نِظَامُ فَرِيدِ

وَبَدِيعٍ كَأَنَّهُ الزَّهْرُ الضَّا

حِكُ فِي رَوْنَقِ الرَّبِيعِ الجَدِيدِ

مُشْرِقٍ فِي جَوَانِبِ السَّمْعِ مَا يُخْـ

ـلِقُهُ عَوْدُهُ عَلَى المُسْتَعِيدِ

وَمَعَانٍ فَصَّلَتْهَا القَوَافِي

هَجَّنَتْ شِعْرَ جَرْوَلٍ وَلَبِيدِ (1)

حُزْنَ مُسْتَعْمَل الكَلَامِ اخْتِيَارًا

وَتَجَنَّبْنَ ظُلْمَةَ التَّعْقِيدِ

وَرَكِبْنَ اللَّفْظَ القَرِيبَ فَأَدْرَكْـ

ـنَ بِهِ غَابَةَ المُرَادِ البَعِيدِ (2)

2 -

وفريقٌ هم أصحابُ علوم العربية من المعاني والبيان، غير أنهم لم يكمل عندهم ذوقُ صناعة البلاغة. وهؤلاء قصاراهم بيانُ خصائص الكلام البليغ بيانًا كليًّا وتمثيله بشاهد أو شاهدين مما فيه تلك الخصوصية، ولا يحفلون بأن تكون شواهدُهم مستكملةً شروطَ الجودة بأكثر من اشتمالها على ما يحقق القاعدة.

= في عبارة "نسق الفريد" من كلام ابن الأثير، ولم يتبين لي وجهُها في مساق الأوصاف التي ذكرها، ووجدت ياسر المطيري أثبت لفظة "الغِرِّيد"(بالغين والراء المشددة) بدلًا عنها في نشرته لهذا الشرح، خلافًا لنشرة الحوفي وطبانه التي اعتمد عليها في التوثيق، ولكنه لم يبين مستنده في ذلك.

(1)

جرول هو أبو مليكة جرول بن أوس بن مالك العبسي، وهو الملقب بالحطيئة لقصر قامته. ولد في بادية المدينة المنورة في العصر الجاهلي في قبيلة بني عبس الغطفانية. ولما شبّ نظم الشعر وتفنن فيه، وكان راوية لشعر زهير بن أبي سلمى المزني، ثم أصبح من فحول الشعراء وفصحائهم ومتقدميهم. تصرف في جميع فنون الشعر من المديح والهجاء والفخر والنسيب، وكان مجيدًا في ذلك كلّه. وهو من الشعراء المخضرمين. توفِّي سنة 45 هـ. أما لبيد فهو لبيد بن ربيعة بن مالك أبو عقيل العامري، أحد الشعراء الفرسان الأشراف في الجاهلية، من أهل عالية نجد. أدرك الإسلام، ووفد على النبي صلى الله عليه وسلم. يعد من الصحابة، ومن المؤلفة قلوبهم. ترك الشعر، فلم يقل في الإسلام إلا بيتًا واحدًا. وسكن الكوفة وعمر طويلًا. وهو أحد أصحاب المعلقات. توفِّي سنة 41/ 661.

(2)

الأبيات هي 32 و 33 و 34 و 38 و 39 و 40 من قصيدة يمدح فيها محمد بن عبد الله الزيات. ديوان البحتري، ج 1، ص 636 - 638.

ص: 1411

وأحقُّ الناس بإطلاق العنان في هذا الميدان هم الذين استكملوا عُدةَ الفريقين، وتكلموا باللسانين، مثل الجاحظ والآمدي وعبد القاهر والسكاكي والمرزوقي وابن الأثير، وإن كان هذا الأخيرُ دونهم ذوقا (1).

- 3 -

• قال المؤلف: "فمِنَ البُلغاء مَنْ يقول: فِقَرُ الألفاظ وغُرَرُها كجواهر العقود ودُرَرِها، فإذا وُسِمَ أغفالُها بتحسين نُظومها وحُلِّيَ أعطالُها بتركيب شُذُورها، فراقَ مَسْموعُها ومَضْبوطُها، وزان مفهومُها ومحفوظُها، وجاء ما حُرِّرَ منها مصروفًا مِنْ كدَرِ العِيِّ والخطَل، مُقوَّمًا مِنْ أَوَدِ اللَّحْن والخطأ، سالِمًا من جَنَفِ التأليف، موزونًا بميزان الصواب، يَمُوجُ في حواشيه رَوْنَقُ الصَّفَاءِ لفظًا وتركيبًا، قبِله الفهمُ والتذّ به السمع. وإذا ورد على ضدِّ هذه الصفة صدِئَ الفهمُ منه، وتأذَّى السمعُ به تأذِّيَ الحواسِّ بما يخالفها"(2)،

أراد بالبلغاء أئمةَ النقد وعلماءَ فن الترسُّل وقرض الشعر والبلاغة الذين يصرفون اهتمامَهم إلى العناية بحالة الكلام المفيد المعاني، وجعله مناطَ الاختيار والنقد.

وهذا المذهبُ نسبه الآمدي في كتاب "الموازنة" إلى الكتاب وأهل البلاغة، ونسبه عبد القاهر في "دلائل الإعجاز" إلى القدماء (3). وعلى حسب اهتمامهم هذا يجري اختيارُهم فيما يختارون من صنائع أهل الأدب، ويجري تعليمُهم فيما يُلقون للشَّادين في مزاولة الصناعة من الترسُّل وقرض الشعر. فهم يصرفون الاهتمامَ إلى محاسن الكلام، فلما وجدوا المعانِيَ إنما تظهر من دلالة الكلام عليها، صرفوا أولَ العنايةَ إلى جانب الكلام وألفاظه، وجعلوا المعاني حاصلة بالتبع. وعلى عكس هذه

(1) ستأتي ترجمته عند ورود كلام له. - المصنف. قلتُ: بل سبقت ترجمته قبل قليل.

(2)

نشرة هارون، ج 1، ص 5 - 6.

(3)

الآمدي: الموازنة، ج 1، ص 4؛ الجرجاني: دلائل الإعجاز، ص 63.

ص: 1412

الطريقة من الاعتبار، جرى الفريقُ الثاني الذين قدَّموا النظرَ إلى جانب المعاني. وهذا المذهبُ هو الذي احتفل به الشيخ عبدُ القاهر الجرجاني في "دلائل الإعجاز" في الفصول التي ترجمها بـ "فصول شتى في أمر اللفظ والنظم". (1) فظهر أن المقصودَ من صرفِهم الاهتمامَ إلى العناية بحالة الكلام اشتراطُهم أن يكونَ كلامًا فصيحًا بفصاحة كلماته في حدِّ ذاتها، وبفصاحة تراكيبها عند اجتماعها.

فأما فصاحةُ الكلمات فلأنها أجزاءُ الكلام، فتعين أن تكون الأجزاءُ فصيحةً ليكون مجموعُ الكلام فصيحا. ومعنى فصاحة الكلمات سلامتُها من تنافر الحروف، ومن الغرابة، ومن مخالفة قواعد اللغة المستَقْرَاةِ من استعمال العرب. وهذا ما يقتضيه تشبيهُ المؤلف الألفاظَ بالجواهر والدرر؛ إذ لم يختلف أئمةُ البلاغة في أن من شرط كون الكلام فصيحًا أن تكون كلماتُه فصيحة، ولم ينكروا أن الألفاظَ المفردة تتفاضل بمقدار تفاضلها في فصاحتها. ويظهر ذلك جليًّا في المترادفات، فلا يختلفون في أن لفظة أسد أحسن من لفظة فدوكس، وقد عابوا استعمالَ المتنبي ألفاظ القلقلة في قوله:

فَقَلْقَلْتُ بالهَمِّ الَّذِي قَلْقَلَ الحَشَا

قَلَاقِلَ عِيسٍ كُلُّهُنَّ قَلَاقِلُ (2)

قال الشيخ في دلائل الإعجاز: "وقصارى تفاضل الكلمتين لا يكون أكثرَ من كون إحداهما مألوفةً والأخرى غريبة وحشية، أو تكون حروفُ هذه أخفَّ، وامتزاجُها أحسن، ومما يكدُّ اللسانَ أبعد". (3) وقال: "ومن المعلوم أن لا معنى لعبارات البلاغة والفصاحة والبيان التي يُنسب فيها الفضلُ والمزيةُ إلى اللفظ دون

(1) ص 180 من دلائل الإعجاز. - المصنف. الجرجاني: دلائل الإعجاز، ص 249 - 257.

(2)

البيت هو السابع من قصيدة من أربعة عشر بيتًا قالها المتنبي في صباه. البرقوقي: شرح ديوان المتنبي، ج 3، ص 293.

(3)

صفحة 36. - المصنف. ونصُّ كلام الجرجاني كما في نشرة الشيخ محمود شاكر: "وهل يقع في وهمٍ وإن جهد، أن تتفاضلَ الكلمتان المفردتان، من غير أن يُنظرَ إلى مكان تفعان فيه من التأليف والنظم، بأكثر من أن تكون هذه مألوفة مستعملة، وتلك غريبةً وحشية" إلخ. دلائل الإعجاز، نشرة شاكر، ص 44.

ص: 1413

المعنى غيرُ وصف الكلام بحسن دلالته وتمامها، ثم تبرجها في صورة هي أبهى وأزين، وأحقُّ بأن تستولِيَ على هوى النفس، وتنال الحظَّ الأوفرَ من قبل (1) القلوب. ولا جهةَ لاستكمال هذه الخصال غير أن يُؤْتَى المعنى من الجهة التي هي أصحّ لتأديته ويُختارَ له اللفظُ الذي هو به أخصُّ وأحرى بأن يكسبه نُبلًا ويظهر فيه مزية. وهل يُتصَوَّرُ أن يكون بين اللفظين تفاضلٌ في الدلالة حتى تكون هذه أدلَّ على معناها الذي وُضعت له من دلالة صاحبتها على ما هي موضوعةٌ له حتى يُقال إن رجلًا أدلُّ من فرس؟ فلذا لا تتفاضل الكلمتان المفردتان إلا بالنظر إلى المكان الذي تقعان فيه من نظم الكلام، ولا تجد أحدًا يقول هذه الكلمة فصيحة إلا وهو يعتبر مكانها من النظم وحسنَ ملاءمةِ معناها لمعنى جارتها". (2) وقال:"فإذا تلاقت في النطق حروف تثقل على اللسان (ومثَّله بأبيات التنافر الشديد والمتوسط)، فذلك وجهٌ من وجوه التفاضل بين كلام على كلام، ولكن ليس المقصود أن يكون ذلك عمدة المفاضلة وهذا لا ضُرَّ به علينا". (3)

ولهذا فالذين لم يتعرضوا إلى محاسن الكلمات المفردة ما أرادوا عدمَ الالتفات إلى شرائط حسنها، ولكنهم استغنوا عنه بحصوله تبعًا لحصول شرائط فصاحة

(1) في نشرة شاكر: "ميل"، وتبدو أسعد بالسياق.

(2)

صفحة 35. - المصنف. نشرة شاكر، ص 43 - 44.

(3)

صفحة 44. - المصنف. أورد المصنف كلام الجرجاني بتصرف واضح. أما الأبيات التي ذكر أن عبد القاهر مثل بها، فهي مما أنشده الجاحظ لمحمد بن يسير الرياشي وغيره مستشهدًا به على التنافر بين الكلمات. كتاب دلائل الإعجاز، نشرة شاكر، ص 57 - 59. والأبيات المقصودة هي قولُ الرياشي مخاطبًا ممدوحه أحمد بن يوسف:

لَا أُذيلُ الآمَالَ بَعدكَ إِنِّي

بَعْدَهَا بالآمَالِ حَقُّ بَخِيلِ

كَمْ لَهَا وَقْفَةٌ بِبَابِ كَرِيمٍ

رَجَعَتْ مِنْ نَدَاهُ بالتَّعْطِيلِ

لَمْ يَضِرْهَا والحَمْدُ لله شَيْءٌ

وَنْثَنَتْ نَحْوَ عَزْفِ نَفْسِي ذَهُولِ

وقد علق الجاحظ عليها بقوله: "فتفقد النصفَ الأخير من هذا البيت، فإنك ستجد بعضَ ألفاظه ينبرأ من بعض". البيان والتبيين، ج 1/ 1، ص 54.

ص: 1414

الكلام ومحاسنه. ولكن المتأخرين من عهد السَّكَّاكي رأوا أن لا محيصَ عن الاعتداد بصفات الكلمة المفردة قبل دخولها في نظم الكلام، فجعلوا الفصاحةَ مشتركةَ الوقوع في المفرد وفي الكلام، لا سيما بعد أن وضحت المَحَجَّةُ وزالت الشبهةُ التي استنكرها عبد القاهر، وإن كانوا لا ينكرون أن فصاحةَ المفرد لا يُهْتَمُّ بها إلا من حيث أنه معرض للوقوع في الكلام، فآل الخلاف إلى اللفظ. وقد أشار المؤلف إلى الأمرين في قوله الآتي:"إِذْ كانت الألفاظ للمعاني بمنزلة المعارض للجواري". (1)

وأصحابُ هذا المذهب لا يعبأون بالصنعة، ولا يتكلفون للمحسنات، ومنهم عبد القاهر، قال في أسرار البلاغة:"ولن تجد أَيْمنَ طائرًا (2)، وأحسنَ أوَّلًا وآخرًا، وأهدَى إلى الإحسان، وأجلبَ للاستحسان، من أن ترسل المعاني على سجيتها، وتدعَها تطلب لأنفسها الألفاظَ؛ فإنها إذا تُركت وما تريد لم تكتَسِ إلا ما يليق بها، ولم تلبسْ من المعارض إلا ما يَزِينها. فأما أن تضع في نفسك أنه لا بدَّ من أن تجنِّسَ أو تسجع بلفظين مخصوصين، فهو الذي أنت منه بِعَرَضٍ الاستكراه، وعلى خطر من الخطأ والوقوع في الذم". (3)

(1) نشرة هارون، ج 1، ص 7.

(2)

"أيمن طائرًا"، أي أحسن أو أسعد حظًّا، وفي هذا المعنى جاء قوله تعالى:{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13]. قال ابن عاشور في أصل هذا التعبير: "والطائر أُطلق على السهم، أو القرطاس الذي يُعَيَّن فيه صاحب الحظ في عطاء أو قرعة لقسمة أو أعشار جزور الميسر، يقال: اقتسموا الأرض فطار لفلان كذا (. . .) وأصل إطلاق الطائر على هذا: إما لأنهم كانوا يرمون السهام المرقومة بأسماء المتقاسمين على ضبر الشيء المقسوم المعدة للتوزيع، فكل من وقع السهم المرقوم باسمه على شيء أخذه. وكانوا يطلقون على رمي السهم فعل الطيران؛ لأنهم يجعلون للسهم ريشًا في قذذه ليخف به اختراقه الهواء عند رميه من القوس. فالطائر أُطلِق على الحظ من العمل مثل ما يطلق اسم السهم على حظ الإنسان من شيء ما". تفسير التحرير والتنوير، ج 7/ 15، ص 46 - 47.

(3)

صفحة 10 طبع مجلة المنار. - المصنف. الجرجاني، أسرار البلاغة، نشرة شاكر، ص 14.

ص: 1415

وإليك تفسير مفرداتٍ من كلام المؤلف: "فِقَر"(بكسر ففتح اسم) جمع فقرة، وهي ما انعقد من عظام الصلب كالعُلبة، وأراد بها المفردات. و"الغرر" جمع غرة، وهي دارة بيضاء في جبهة الفرس، وهي من محاسن الخيل. وأراد بها محاسن الكلمات، والمعنى إن شروط محاسنها كشروط محاسن الجواهر في العقود أفرادًا وتأليفا. و"الأغفال" جمع غُفْل بوزن قُفْل، وهو القدح من قداح الميسر الذي لم تجعل له علامة تدل على نصيب من يخرج له. وبذلك يظهر معنى قوله "فإذا وسم أغفالها"، حيث جعل الكلمة غير المنتخبة كالقدح الذي لا حظَّ له في القداح.

و"الأعطال" جمع عاطل، وهي المرأة التي لا حلية عليها، جعل الكلمة غير المنتخبة كالمرأة غير الحالية، فإذا انتخبت الكلمة للمعنى كانت كالمرأة الحالية. و"الشذور" جمع شَذرة، بفتح الشين وسكون الدال المعجمة، وهي اللؤلؤة، أو القطعة من الذهب غير المشَذَّبة. و"العِيّ" بكسر العين وتشديد الياء، العجز عن الكلام وأراد به هنا العجزَ عن تأليف الكلام في الترسل والإنشاء. و"الخطَل"(بفتحين) خطأ الرأي، أراد به هنا الخطأ في المعنى. و"اللحن" الخطأ في الألفاظ بإيرادها على خلاف الطريقة العربية، و"الخطأ" في الكلام أراد اللفظ في غير معناه الموضوع له لغة، دون قصد مجاز أو استعارة تدل عليهما قرينة، كقول المسيَّب بن علس يصف جمله:

وَقَدْ أَتَلَافَى الهَمَّ عِنْدَ احْتِضَارِهِ

بِنَاجٍ عَلَيْهِ الصَّيْعَرِيَّة مُكْدَمِ

فأخطأ؛ إذ جعل للجمل الصيعرية، والصيعرية سمةٌ توسم بها النوق، ولذلك لما سمعه طرفه قال:"استنوق الجمل"، فسارت مثلا (1).

(1) الضبي: أمثال العرب، ص 82 (وفيه "أتناسى" بدل "أتلافَى")؛ المرزباني: الموشح، ص 110؛ الخفاجي: سر الفصاحة، ص 251. قال الجوهري: "وفي المثل: استنوق الجمل، أي صار ناقة. يضرب للرجل يكون في حديث أو صفة شيء ثم يخلطه بغيره وينتقل إليه، وأصله أن طرفة بن العبد كان عند بعض ملوك العرب والمسيَّبُ بن عَلَس ينشده شعرًا في وصف جمل، ثم حوله إلى =

ص: 1416

و"الجَنَف"(بجيم ثم نون مفتوحتين): الخروج عن جادة الطريق، وأراد به الخطأ في نظم الكلام على الأساليب العربية في التقديم والتأخير. ووقع في إحدى النسختين التونسيتين "حيف"(بحاء مهملة ومثناة تحتية)، وهو الظلم أو ظلم الكلام العربي لعدم إعطائه حقَّه الذي رسمه له العرب، ولفظ جنف أحسن. و"الموج" اضطرابُ سطح الماء وتحركه، وهو من محاسن منظر الماء، و"الحواشي" الأطراف، وهي للماء شطوطه وحافات سواقيه. و"الرونق"، الحسنُ اللمعان.

• قال: "ومنهم مَنْ لَمْ يَرْضَ بالوقوف على هذا الحد فتجاوزه، والتزم من الزيادةِ عليه تتميمَ المقطع، وتلطيف المطلع، وعطفَ الأواخر على الأوائل، ودِلالة الموارد على المصادر، وتناسبَ الفصول والوصول، وتعادلَ الأقسام والأوزان"(1).

أي من البلغاء فريقٌ لم يقتنعوا لحسن الكلام بحسن ألفاظه وتركيبه بل ارتقى إلى طلب محاسن زائدة تتعلق بزيادة في تنميق الكلام ومحاسنه، وهي "تتميمُ المقطع"(2)، أي حسن اختتام الرسالة والخطبة والقصيدة. فالمقطع اسم مكان القطع، أي قطع الكلام، أي ختمه وتنهيته. ومعنى تتميمه جعله تامًّا لا يترقب السامعُ شيئًا بعده، وهو أن يؤتى بما يؤذن بانتهاء الكلام كقوله تعالى:{هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52]، وقوله:{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)} [النساء: 176].

= ناقة، فقال طرفة: استنوق الجمل". الجوهري: الصحاح، ج 4، ص 1561. وذكر الفيروزآبادي أن المسيب بن علس أنشد بين يدي عمرو بن هند البيت المذكور، "وطرفة بن العبد حاضر، وهو غلام، فقال: استنوق الجمل، وذلك لأن الصَّيْعَرِيَّة من سمات النوق دون الفحول، فغضب المسيب وقال: ليَقْتُلنَّه لسانُه، فكان كما تفرس فيه". القاموس المحيط، ج 3، ص 332 (فصل النون من باب القاف).

(1)

نشرة هارون، ج 1، ص 6.

(2)

المصدر نفسه.

ص: 1417

وأشهر أنواع المقطع الدعاء، إلا أنه لكثرة وروده في الرسائل سَمُجَ في الأذواق، فكان العدولُ إلى غيره أحسن، مثل التوريات بلفظ الكمال والختام، ومثل ما لا يبقى بعده مترقب للازدياد من الخير كقول الحريري في المقامة 23:"فعاهدَنِي على أن لا أفوه بما اعتمد ما دمت بهذا البلد: [قال الحارث ابن هَمَّام: ] فعاهدته معاهدة مَنْ لا يتأوَّل، ووفيت له كما وفَّى السموأل"(1)، وقوله في المقامة العاشرة:"فمزَّقْتُ رُقْعَتَهُ شَذَرَ مَذَرَ، وَلَمْ أُبَلْ أَعَذَلَ أم عَذَرَ"(2). وهذا الشرط الذي ذكره المؤلف من استحسان المولَّدين، ولم يكن مرعيًا عند بلغاء العرب (3).

قال: "وتلطيفَ المطلع"(4)، أي جعله لطيفًا، أي رفيقًا حسنًا أنيقًا؛ لأنه أول ما يقرع سمع السامع. قال ابن الأثير في الجامع الكبير:"وقد كان بعضُ علماء البيان يقول: أحسنوا - معاشرَ الكتاب - الابتداءات، فإنهن دلائلُ البيان"(5). ومن أهم ذلك الاحتراسُ من ألفاظ تُستكره عند السامع. وللعوائد أثرٌ في هذا الشأن، ولذلك قد ترى المولدين ينتقدون بعض فواتح القصائد بما كان مثله شائعًا عند العرب مثل ذكر البين والبلى.

وأحسنُ مطالع القصائد ما كان يلفت نظر السامع إلى ما بعده بأن لا يكون من المطالع المعتاد تكررُها في الشعر والنثر، فينبغي أن يكون المطلع عزيزًا غير مطروق، وذلك في الألفاظ المفتَتَح بها، فإذا انضم إليها عزةُ المعنى فقد استوفَى

(1) الحريري: مقامات الحريري، ص 236 (المقامة الشعرية).

(2)

المصدر نفسه، ص 106 (المقامة الرجبية).

(3)

قال ياسر المطيري: "فيه نظر، فإن المعلقات وغيرها فيها حسن ختام، وإن كان المراد كثرة عناية المولدين به، فحق". شرح المقدمة الأدبية لشرح المرزوقي على ديوان الحماسة لأبي تمام، ص 83، الحاشية رقم 2.

(4)

نشرة هارون، ج 1، ص 6.

(5)

مخطوط بمكتبتي في 100 ورقة، وسيأتي ذكره في ترجمة صاحبه. - المصنّف. ابن الأثير: الجامع الكبير، ص 335. وفيه:"وقال بعضُ علماء البيان. . ."

ص: 1418

المطلع الحسن؛ فإن من المعاني المطروقة بكاء الديار الذي ابتكره امرؤ القيس، ومع ذلك تجد مطالع للنابغة في هذا المعنى لطيفة ومن أحسن المطالع قول عنترة:"هل غادر الشعراء من متردم"(1).

وعرف بإجادة المطالع أبو تمام والبحتري والمتنبي. وكذلك الأمر في الرسائل، مثل الرسالة الرقطاء للحريري. أما فواتح سور القرآن فقد وردت على أكمل الوجوه، بخلاف مطالع رسائل البديع والخوارزمي إذ التزما غالبًا افتتاحها بكلمة "كتابي"، ولعلها جرت بها عادة الكتَّاب في بلادهم.

"وَعَطْف الأَوَاخر على الأوائل"(2)، أراد به ما يُسَمَّى عند المتأخرين ردَّ العجز على الصدر، ويسمى عند المتقدمين التصدير، وأمثلتُه كثيرة. ولفظ "عطف" في كلامه هو بالمعنى اللغوي، وهو الرجوعُ والميل، وليس المراد المعنى النحوي.

"ودلالة الموارد على المصادر"(3)، أراد بها براعةَ الاستهلال، وهي أن يؤتى في أول الكلام بمعان فيها إيماءٌ إلى الغرض المقصود منه، فكأنه في أول كلامه واردٌ للماء، وكأنه في آخر كلامه صادرٌ عن الماء. وهذا قسم من براعة المطلع التي سماها المؤلف آنفًا "تلطيف المطلع". و"الموارد" جمع مورد، وهو مكانُ ورود المستقين، أي مجيئهم إلى الماء، قال تعالى:{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص: 23]. و"المصادر" جمع مصدر، وهو المكان الذي يصدر المستقون منه عن الماء بعد السقي، قال تعالى:{قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [القصص: 23]. قال قُس بن ساعدة:

(1) وهو مطلع المعلقة. القرشي: جمهرة أشعار العرب، ص 211؛ ديوان عنترة، ص 182 (نشرة مولوي).

(2)

نشرة هارون، ج 1، ص 6.

(3)

المصدر نفسه.

ص: 1419

ولَمَّا رَأَيْتُ مَوَارِدًا

لِلْمَوْتِ لَيْسَ لَهَا مَصَادِرْ (1)

والاختلاف بين الموارد والمصادر باعتبار اختلاف حال المستقي، أما المكان فواحد.

"وتناسُبَ الفصول والوصول"(2)، الفصول جمع فصل، والوصول (بالواو) جمع وصل، وكلاهما لقبٌ من الألقاب المصطَلَح عليها عند علماء المعاني من أئمة البلاغة. فالفصل تركُ عطف جملة على جملة قبلها بأن يؤتى بالثانية مقترنةً بحرف عطف، والوصل عطف إحدى الجمل على الأخرى. ولكل من الفصل والوصل مواقعُ بعضُها تتعين مراعاتُه وبعضُها تحسن مراعاتُه، وقد عُقِد لها بابٌ واسع في "دلائل الإعجاز" لعبد القاهر وفي "المفتاح" للسكاكي (3). وأتى المؤلف بصيغتَيْ الجمع في الفصول والأصول باعتبار تعدد مسائل كل وصورها.

والمؤلفُ حشر هذا النوعَ في عداد الصناعة اللفظية نظرًا إلى كون الإتيان بالعاطف وعدمه لا يُغيِّر معنى الجملة غالبًا، وإنما هو وسيلةٌ من وسائل الإيضاح والإفصاح في العربية، فهو بمنزلة الإعراب (4)، فآل إلى حالة لفظية في نظم الكلام،

(1) البيت هو الثاني من مقطوعة من خمسة أبيات من مجزوء الكامل، وتمامها:

فِي الذَّاهِبِينَ الأَوَّلِيـ

ـنَ مِنَ القُرُونِ لَنَا بَصَائِرْ

وَرَأَيْتُ قَوْمِي نَحْوَهَا

يَمْضِي الأَكَابِرُ وَالأَصَاغِرْ

لَا يَرْجِعُ المَاضِي وَلَا

يَبْقَى مِنَ البَاقِينَ غَابِرْ

أَيْقَنْتُ أَنِّي لَا مَحَالَةَ

حَيْثُ صَارَ القَوْمُ صَائِرْ

الجاحظ: البيان والتبيين، ج 1/ 1، ص 210.

(2)

نشرة هارون، ج 1، ص 6.

(3)

انظر الجرجاني: دلائل الإعجاز، ص 222 - 248؛ السكاكي: مفتاح العلوم، ص 357 - 399 (نشرة هنداوي).

(4)

نبهت بهذا على أن الإعراب ليس ما يتوقف عليه فهمُ معنى الكلام، بل تتوقف عليه سرعةُ الفهم، وهو مبدأ لفصاحة الكلام العربي، وقد أخطأ من قال من المتأخرين - يزعم عدم الحاجة لعلم النحو -: =

ص: 1420

وإن كانت مراعاتُه ترتبط بمراعاة موقع معنى الجملة من معنى التي قبلها، فملاحظةُ موقع الجملة شرطٌ في مراعاة الفصل والوصل في علم المعاني. فلأن مسائلَه ليس لها شائبةُ اندراجٍ في مسائل علم البيان، ولا في مسائل علم البديع، كان علمُ المعاني أولَى بضمها، وهي بالفصاحة أعلق. وينبغي أن يُنتَبَهَ لهذا الصنيع الذي صنعه المرزوقي بتدقيقه، وسيأتي ذكرُ الفصول والوصول في عيار التحام أجزاء النظم.

"وتعادلَ الأقسام"(1)، يريد بتعادل الأقسام ما يسمى عند الأدباء بصحة التقسيم، ثم مقابلة كل قسم من المعاني المتحدَّث عنها بقسميه، وعدم الغفلة عن ذلك ولا التخليط فيه.

وقد قال المؤلف لما ذكر المقابح: "أو يكون في القَسم أو التقابل أو التفسير فساد"(2)، واعلم أن هذا مبحثٌ عظيم من مباحث علم الخطابة تكثر الحاجةُ إليه فيها، ومنزعٌ دقيق من منازع صناعة الترسُّل وصناعة الشعر، وتفصيله في كتب البديع ونقد الشعر. و"التعادل" التكافؤ، أي لا يكون بعضها أوفر في الذكر. و"تعادل الأوزان" ظاهر أن ليس مراده بالأوزان أوزان الشعر؛ لأن كلامَه هنا على شرائط الاختيار في الكلام المنثور، ولأن حقيقة الشعر مشروطةٌ بتعادل أوزان. وسيجيء كلامُه على ذلك بالنسبة للشعر في ذكر الباب الخامس من الأبواب السبعة التي جعلها عمودَ الشعر، ولذلك لم يَعُدَّ هناك تعادلَ الأوزان، وإنما ذكر إتمامَ أجزاء النظم.

= وَقَالُوا قَامَ زيدٌ ثُمَّ ظَنُّوا

بِدُونِ الرَّفْعِ زَيْدًا لَنْ يَقُومَا

ولم أر من سبقني إلى التنبيه على هذه الخصوصية لعلم النحو. - المصنّف. قلتُ: استفحل الهجوم على مسألة الإعراب خصوصًا وعلى النحو عمومًا بين دعوات للتجديد والتطوير مقتصدة ودعاوى بالنقض والإنكار جاهرة متجاسرة. وقد تصدى لذلك كله المنافحون عن هوية العربية وأصالة نحوها ومكانة الإعراب منه، على تباين بينهم في مناهج المناظرة وطرائق المحاججة. ومن أمتع ما قرأت في ذلك كتاب "العربية والإعراب" لعبد السلام المسدي الصادر سنة 2010، فلله دره من محقق أريب.

(1)

نشرة هارون، ج 1، ص 6.

(2)

المصدر نفسه.

ص: 1421

وإنما أراد بتعادل الأوزان هنا تساويَ سموط الأسجاع - وهي المسماة بالقرائن - التي تنزل من الكلام المسجوع منزلةَ المصاريع للشعر، فتعادُلها بأن تكون متساويةَ المقدار في النطق معتدلةً فيه. وذلك أصلُ السجع، وبمقدار تساويه تتفاوت أقدارُ الكُتَّاب. مثال المعتدل التام قول الحريري في المقامة الثالثة:"وأودَى الناطق والصامت، ورثى لنا الحاسد والشامت"(1). ومن هذا القبيل قولُ المؤلف في صدر هذه المقدمة حسبما في النسخة التونسية: "وهو مستودع آدابها، ومستحفظ أنسابها، ونظام فخارها عند النفار، وديوان حجابها عند الخصام". (2)

وقد يكون بينها تفاوتٌ قليل، كقول الحريري في المقامة التاسعة والعشرين:" [قال الحارث بن همَّام: ] ألجأني حكمُ دهرٍ قاسط، إلى أن أنتجعَ أرضَ واسط". (3) ولا يجوز التفاوتُ الكثير بين القرينين وبالخصوص إذا كانت القرينة الأولَى أطول من الثانية. ومما يندرج في تعادل الأوزان أن تُقابَل زنة اللفظ بمثلها في صيغة الاشتقاق من فعل أو وصف، كقوله تعالى:{قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ: 50]، فقوبل ضللت باهتديت، وهما فعلان ماضيان، وقوبل أضل بيوحي، وهما فعلان مضارعان. ومن تعادل الأوزان قولُ الحريري في المقامة الأولى:"وهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه". (4) وكلُّ هذا معدودٌ من المحسِّنات اللفظية، فلا يصير البليغُ إليه إلا حيث لا يُوجد ما يقتضي خلافَه من جهة المعنى البلاغي، ويُراعَى قريبٌ منه في سموط الترسل غير المسجوع.

وإنما حشر المؤلفُ هذا في عداد الخصائص العائدة إلى الألفاظ؛ لأن الكاتب يغير ترتيبَ المعاني في سجعه تغييرًا يهيء لموافقة هذا الأسلوب اللفظي، فكان بسبب

(1) الحريري: مقامات الحريري، ص 33.

(2)

نشرة هارون، ج 1، ص 3.

(3)

الحريري: مقامات الحريري، ص 293.

(4)

المصدر نفسه، ص 18.

ص: 1422

ذلك عملًا لأجل دقائق من حسن اللفظ يدل على قوة المنشئ في سجعه، وكذا القول في الترسل.

"والكشف عن قناع المعنى بلفظ هو في الاختيار أوْلَى حتى يطابق المعنى اللفظَ، ويسابق فيه الفهمُ السمعَ"(1)، قال عبد القاهر في دلائل الإعجاز:"وتختار للمعنى اللفظ الذي هو به أخص وأحرى بأن يُكسبَهُ نُبلًا ويظهر فيه مزية". (2)

"ومنهم مَنْ ترقَّى إلى ما هو أشق وأصعب فلم تقنعه هذه التكاليف في البلاغة حتى طلب البديع من الترصيع والتسجيع والتطبيق والتجنيس"(3)، وهذه ألقابٌ لأنواع من البديع لا تعسر على الناظر بمراجعة مباحثها من علم البديع.

"وعكس البناء في النظم"(4)، يريد بالنظم انتظامَ الكلام لا مقابلَ النثر، كما لا يخفى. وهذا النوع [هو] المحسن البديعي المسمَّى "ما لا يستحيل بالانعكاس"(5)، كقول العماد الكاتب للقاضي الفاضل وقد مر عليه راكبًا فرسًا: "سِرْ فلا كبَا بك

(1) نشرة هارون، ص 6.

(2)

صفحة 35. - المصنف. وتمام كلام الجرجاني: "وتختار له (أي للمعنى) اللفظ الذي هو أخصُّ به، وأكشفُ عنه وأتَمُّ له، وأحرَى بأن يُكسبه نُبلًا ويُظهر فيه مزية". دلائل الإعجاز، نشرة شاكر، ص 43.

(3)

نشرة هارون، ج 1، ص 6.

(4)

المصدر نفسه.

(5)

كذا سماه الحريري حيث قال: "وثُبنا نحنُ إلى استثارة مُلَحِ الأدب وعيونه، واستنباط معينه من عيونه، إلى أن جُلْنا فيما لا يستحيلُ بالانعكاس، كقولك: ساكب كأس"، وسماه "المقلوب المستوي". وقد عده المصنّف من بدائع الإعجاز في قوله تعالى:{كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)} [الأنبياء: 33]. مقامات الحريري، ص 159 (المقامة المغربية)؛ مفتاح العلوم، ص 542 (نشرة هنداوي)؛ تفسير التحرير والتنوير، ج 8/ 17، ص 61 - 62. و"ما لا يستحيل بالانعكاس" أو "المقلوب المستوي" هو الذي لا يتغير نطقُه ومعناه؛ فعبارة "كل في فلك" في الآية إذا قلبت فقرئت معكوسة من آخرها إلى أولها لا يلحقها أي تغيير، لا في النطق ولا في المعنى. وقال ابن عاشور: "ولم يذكروا منه شيئًا وقع في كلام العرب، فهو من مبتكرات القرآن". (وانظر مثالًا له في الحاشية الآتية).

ص: 1423

الفرس"، فأجابه الفاضل - وقد فطن لا في كلامه من البديع - فقال: "دام علَا العماد" (1). ومن أحسنه في الشعر قولُ الأرجاني:

مَوَدَّتُهُ تَدُومُ لِكُلِّ هَوْلٍ

وَهَلْ كُلٌّ مَوَدَّتُهُ تَدُومُ (2)

ومن أحسنه رسالة البديع الهمذاني المثبتة في مجموعة مراسلاته (3).

"وتوشيح العبارة بألفاظ مستعارة"(4)، غلَّب المؤلف جانبَ الحسن اللفظي هنا على الخصوصية المعنوية، فعد هذا في المحاسن اللفظية، جريًا على طريقة كثير من الأدباء وأهل البديع، وهي طريقة المتقدمين من الأدباء الذين دوّنوا أصولَ الأدب قبل أن يُميَّز علمُ البلاغة بالتدوين بعناية الشيخين عبد القاهر والسكاكي. وإلى هذا أشار الخطيبُ القزويني في قوله:"وبعضُهم يسمي العلومَ الثلاثة علمَ البديع"(5). وقد لمح إلى الاستعارة ومثالها عزُّ الدين الموصلي (6) في بديعيته بقوله:

(1) نقل المؤرخ ابن إياس في ترجمة العماد الأصفهاني (519 - 599 هـ)، أن القاضي عبد الرحيم بن علي بن محمد اللخمي (529 - 596 هـ) - المعروف بالقاضي الفاضل - مر على العماد وهو راكب، فقال له:"دام عُلا العماد، فأجابه العمادُ على الفور: سِرْ فلا كبَا بك الفرس". ثم قال ابن إياس: "وهذا النوع يُقرأ طردًا وعكسًا، وهو عزيز الوقوع". ابن إياس الحنفي المصري، محمد بن أحمد: من بدائع الزهور في وقائع الدهور، تحقيق محمد مصطفى (القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، 1960)، ج 1، ص 256. ومعنى كلامه - وهو محل الشاهد - أن قول القاضي الفاضل:"دام عُلا العماد" يُقرأ من اليمين ومن اليسار بنفس النطق سواء بسواء، وكذلك قول العماد الأصفهاني:"سِرْ فلا كبَا بك الفرس".

(2)

البيت من قصيدة قالها الشاعر يعتذر ويمتدح ذا منصب. ديوان الأرجَّاني، نشرة بعناية قدري مايو (بيروت: دار الجيل، 1418/ 1998)، ج 2، ص 263.

(3)

طبع مطبعة الجوائب بالأستانة صفحة 38.

(4)

نشرة هارون، ج 1، ص 6.

(5)

وتمام عبارته: "وكثير من الناس يسمي الجميع [يعني الفنون التي يُحترز بها عن الخطإ وعن التعقيد المعنوي ويعرف بها وجوه تحسين الكلام] علمَ البيان، وبعضهم يسمي الأول علم المعاني، والثاني علم البيان، والثلاثة علم البديع". الخطيب القزويني: الإيضاح في علوم البلاغة، ص 22.

(6)

هو علي بن الحسين بن علي بن أبي بكر ابن محمد بن أبي الخير، عز الدين الموصلي، الفقيه الحنبلي، نزيل دمشق، توفي سنة 789 هـ. له بديعية في مدح الرسول عليه السلام شرحها بشرح سماه:"التوصل بالبديع إلى التوسل بالشفيع".

ص: 1424

دَعِ المَعَاصِي فَشَيْبُ الرَّأْسِ مُشْتَعِلٌ

بِالاسْتِعَارَةِ مِنْ أَزْوَاجِهَا العُقُمِ (1)

"إلى وجوه أُخر تنطق بها الكتب المؤلفة في البديع فإني لم أذكر هذا القدر إلا دلائل على أمثالها ولكل مما ذكرته وما لم اذكره رسم من النفوذ والاعتلاء بإزائه ما يضاده فيسلم للنكوص والاستفال"(2)،

أي بحيث يرتفع شأن الكلام في الحسن والقبول بمقدار مراعاة هذه الخصائص والمحاسن، وينحط بإهمال ذلك في مواقع مراعاته انحطاطًا بمقدار الإهمال.

"فأكثرُ هذه الأبواب لأصحاب الألفاظ؛ إذ كانت للمعاني بمنزلة المعارض للجواري، فأرادوا أن يلتذَّ السمعُ بما يدرك منه ولا يمجه، ويتلقاه بالإصغاء والإذن له فلا يحجبه"(3)،

أشار بقوله "فأكثر هذه الأبواب لأصحاب الألفاظ" إلى أن بعضها يتجاذبه الجانبُ المعنوي مثل الفصول والوصول، ومثل توشيح العبارة بالاستعارة كما أشرنا إليه هنالك. و"المعارض" جمع مِعْرَض بوزن منبر، وهو الثوب الذي تتجلى فيه الجاريةُ حين تتعرض للبيع، وهذا تشبيهٌ طريف. وقد تبعه فيه عبد القاهر، قال في دلائل الإعجاز:"أو يجعلون المعاني كالجواري، والألفاظ كالمعارض لها"(4). وأشار

(1) البيت هو التاسع من بديعية عز الدين الموصلي. انظر: ابن حجة الحموي وآخرون: البديعيات الخمس في مدح النبي المختار والصحابة الكرام (مصر: مطبعة المعارف، 1897)، ص 16؛ ابن معصوم المدني، السيد علي صدر الدين: أنوار الربيع في أنواع البديع، تحقيق شاكر هادي شكر (النجف: مطبعة النعمان، ط 1، 1388/ 1968)، ج 1، ص 297.

(2)

نشرة هارون، ج 1، ص 6.

(3)

نشرة هارون، ج 1، ص 6 - 7. وفيها "وأكثر هذه الأبواب"، بالواو بدل الفاء.

(4)

صفحة 191. - المصنف. الجرجاني، أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد: دلائل الإعجاز، قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر (القاهرة: مطبعة المدني/ جدة: دار المدني، ط 3، 1413/ 1992)، ص 263.

ص: 1425

المؤلف بالتقييد في قوله: "إذ كانت المعاني بمنزلة المعارض للجواري"(1)، إلى أن البلغاء الذين صرفوا همتَهم في اختيار الكلام البليغ إلى جانبه اللفظي ما أرادوا حالةَ مفرداتِ الألفاظ، ولكن أرادوا حالةَ الكلام المؤلَّف كيف تبرز حين تأليفه، والمؤلِّف ينحو بهذا إلى ما تقدم مما حققه عبد القاهر.

"وقد قال أبو الحسن ابن طَباطَبا في الشعر: هو ما إن عَرِيَ من معنى بديع لم يعر من حسن الديباجة، وما خالف هذا فليس بشعر"(2)،

ساق المؤلف كلام ابن طباطبا حجةً على أن العناية باللفظ هي في الدرجة الأولى عند كثير من أهل الأدب، بحيث إن حسن الديباجة اللفظية يجعل الكلام مقبولًا ولو كان عَرِيًّا من معنى بديع؛ إذ قد يعرى البيتُ أو أكثر من القصيدة، والسطرُ أو أكثرُ من الرسالة، عن معنى بديع فيكسوه الكلامُ بحسنه حسنًا يعتاض به عن حسن المعنى. وكلام أبي الحسن وإن خصه بالشعر، فهو منطبِقٌ على النثر لا محالة، كما أشار إليه المرزوقي بسوق كلام أبي الحسن عقب ما تقدم، ثم تقييده بقوله "في الشعر".

وأبو الحسن ابن طباطبا هو محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن - أيضًا - ابن علي بن أبي طالب. وطَبَاطَبَا (بفتح الطاء مكررًا) لقب أُلصِقُ بجد جده إبراهيم بن إسماعيل؛ لأنه كان يلثغ في القاف بجعله طاء وطلب يومًا غلامه أن يأتيه بثيابه فأتاه بدراعة فقال "لا طباطبا" يعني قباقبا.

وأبو الحسن شاعر مفلق، وعالم محقق. ولد بأصبهان، وتوفي بها سنة 322 هـ. كان مشهورًا بالفطنة وصحة الذهن، وله كتاب "عيار الشعر" وكتاب "تهذيب الطبع" وكتاب "العروض" وكتاب "المدخل في معرفة المعمَّى من الشعر" وكتاب في

(1) نشرة هارون، ج 1، ص 7.

(2)

المصدر نفسه.

ص: 1426

تقريظ الدفاتر. كان ابن المعتز يلهج بذكره، وله شعرٌ كثير، ترجمه ياقوت في "إرشاد الأريب"(1). ومن شعره البيتُ الذي فيه التشبيهُ اللطيف، وهو:

لَا تَعْجَبُوا مِنْ بِلَى غِلَالَتِهِ

قَدْ زَرَّ أَزْرَارَهُ عَلَى القَمَرِ (2)

"ومِنَ البلغاء مَنْ قصد فيما جاش به خاطرُه إلى أن تكون استفادةُ المتأمل له والباحث عن مكنونه من آثار عقله أكثرَ من استفادته من آثار قوله أو مثله، وهم أصحاب المعاني"(3)،

هذا انتقالٌ إلى الطريقة الثانية من طريقتَيْ البلغاء في عماد فضيلة الكلام، وهي طريقةُ الذين صرفوا الاهتمامَ الأول إلى المعاني التي يريد البليغُ التعييرَ عنها. وأنت تعلم أن مقصودَهم الذي يرمون إليه هو مصرفُ الاهتمام الأول، على نحو ما قدمنا في تقرير مذهب أصحاب الجانب اللفظي. وسنذكر المرادَ بـ "المعنى" عند شرح قول المرزوقي:"إنهم كانوا يحاولون شرفَ المعنى وصحتَه". (4)

(1) انظر: الحموي: معجم الأدباء، ج 5، ص 2310 - 2317.

(2)

البيت دون نسبة في: الجرجاني: أسرار البلاغة، ص 305؛ والأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد بن المفضل: محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، تحقيق عمر الطباع (بيروت: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم، ط 1، 1420/ 1999)، ج 2، ص 377؛ السكاكي: مفتاح العلوم، ص 479 و 496 (نشرة هنداوي)؛ الخطيب القزويني: الإيضاح في علوم البلاغة، ص 217؛ الجرجاني: الإشارات والتنبيهات، ص 167؛ النويري: نهاية الأرب، ج 7، ص 49. وهو لابن طباطبا في: العبادي: معاهد التنصيص، ج 1، ح 179. قال العبادي في الشاهد المذكور:"ورأيته بلفظ: قد زر كتانها على القمر"، وذكر أنه ثالثٌ للبيتين الآتيين:

يَا مَنْ حَكَى المَاءُ فَرْطَ رِقَّتِهِ

وَقَلْبُهُ فِي قَسَاوَةِ الحَجَرِ

يَا لَيْتَ حَظِّي كَحَظِّ ثَوْبِكَ مِنْ

جِسْمِكَ يَا وَاحِدًا مِنَ البَشَرِ

(3)

نشرة هارون، ج 1، ص 7.

(4)

المصدر نفسه، ج 1، ص 9.

ص: 1427

"فطلبوا المعاني المُعْجِبة من خواص أماكنها وانتزعوها جزلةً عذبة حكيمة طريفة، أو رائقة بارعة فاضلة كاملة، أو لطيفة شريفة زاهرة فاخرة. وجعلوا رسومَها أن تكون قريبة التشبيه، لائقةَ الاستعارة، صادقةَ الأوصاف، لائحةَ الأوضاح، خَلابةً في الاستعطاف، عطافةً لدى الاستنفار، مستوفيةً لحلولها عند الاستهام من أبواب التصريح والتعريض، والإطناب والتقصير، والجد والهزل، والخشونة واللَّيان، والإباء والإسماح، من غير تفاوت يظهر في خلال إطباقها، ولا قصور ينبع من أثناء أعماقها، مبتسمةً من مثاني الألفاظ عند الاستشفاف، محتجبةً في غموض الصِّيَّان لدى الامتهان، تعطيك مرادَك إن رفقتَ بها وتمنعك جانبَها إن عَنُفْتَ معها"(1)،

أشار بكلامه هذا إلى تحقيق الجانب الذي يكون من شرف المعاني، ليُريَك أنْ ليس المرادُ بصرف العناية إلى المعاني أن تكون معاني الكلام كلُّها من الحق والموعظة أو العلم؛ فإن ذلك لا يتأتَّى في كلِّ كلام، ولا يقتضيه كلُّ مقام، وإن أكثر شعر العرب في الجاهلية بمعزل عن ذلك. وإنما المرادُ أن المعاني التي يجيش بها الخاطرُ - وهي المعاني الأصلية من أغراض التخاطب وغيره - إذا جاش بها الخاطرُ وترددت في النفس، يكون حقًّا على البليغ أن يصورَها معانِيَ فائقةً من مجاز، أو تشبيه، أو إيجاز، أو تلميح، أو تمليح، حتى إذا أُدِّيَتْ بالكلام أَبرزت ألفاظُها صورًا من الحقائق والكيفيات العقلية تقع في نفوس السامعين مواقعَ الإعجاب أو الاستحسان، فإنك إذا افتقدت قول كُثَيِّر:

ولَمَّا قَضَيْنَا مِنْ مِنًى كُلَّ حَاجَةٍ

وَمَسَّحَ بِالأَرْكَانِ مَنْ هُوَ مَاسِحُ

وَشُدُتَّ عَلَى حُدْبِ المَهَارِي رِحَالُنَا

وَلَا يَنْظُرُ الغَادِي الَّذِي هُوَ رَائِحُ

أَخَذْنَا بِأَطْرَافِ الأَحَادِيثِ بَيْنَنَا

وَسَالَتْ بِأَعْنَاقِ المَطيِّ الأباطحُ (2)

(1) المصدر نفسه، ص 7 - 8.

(2)

اختُلِف في نسبة هذه الأبيات، فقيل هي لكثير عزة، وقيل لزياد ابن الطثرية، وقيل للمضرب عقبة بن كعب، وقيل لكعب بن زهير، ولم يذكرها في الأغاني فيما ساقه من شعر كثير، وذكرها ابن =

ص: 1428

- وهذا معدودٌ من أجود الشعر - لم تجد في أصل معناه أكثرَ من أنا فرغنا من الحج، فركبنا راجعين ونحن نتحدث على مطيِّ الرواحل. ولكنك تجده أفاد هذا المعنى بأفانين من التصوير المعنوي وتشخيص الأحوال ما إن سمعه السامع اهتز له إعجابًا، وتحرك لاستزادة سماعه طِلابا.

وكان من أصحاب هذا المذهب ابن الأثير (1) في كتابه الجامع الكبير إذ يقول: "ينبغي أن يستيقن المؤلف [ويتحقق] أن المعاني أشرفُ من الألفاظ؛ والدليل على ذلك [ما أذكره: وهو أنا] لو خَلَعْنا هذه الألفاظَ من دلالتها على المعاني لما كان شيءٌ منها أحقَّ بالتقديم من شيء، بل كانت بمنزلة أصداء الأجسام والأصوات الناشئة عنها. ويزيد ما ذكرناه وضوحًا أن هذه الصناعة من النظم والنثر التي يتواصفها البلغاء بينهم، وتتفاضل بها مراتبُ البلاغة، إنما هي شيءٌ يستعان عليه بتدقيق الفكرة وكثرة الروية. ومن المعلوم أن الذي يُستخرج بالفكر ويُنعم فيه النظر، إنما

= قتيبة دون نسبة، وذكر أبو تمام البيتين الأول والثالث منها ولم ينسبها، وساق الشريف المرتضى البيت الثالث ولم ينسبه. انظر: ديوان كثير عزة، ص 525؛ الدينوري: الشعر والشعراء، ص 14؛ الطائي، أبو تمام حبيب بن أوس: كتاب الوحشيات: الحماسة الصغرى، تحقيق عبد العزيز الميمني الراجكوتي (القاهرة: دار المعارف، ط 3، 1987)، ص 187؛ الشريف المرتضى: غرر الفوائد ودرر القلائد، ج 2، ص 301. وقد أثبتنا الأبيات وفقًا لما جاء في المصادر المذكورة، ففي البيت الثاني كما ذكره المصنف جاءت عبارةُ "صهب" بدل "حدب"، كما أضيف حرف الواو في أول البيت الثالث. قال ابن قتيبة معلقًا: "ضرب منه (أي من الشعر) حسن لفظه وحلا، فإذا فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى"، ثم ذكر الأبيات.

(1)

هو الوزير نصر الله بن محمد المعروف بابن الأثير، الجزري، الموصلي، [ولد سنة 558 و] توفي سنة 637. من أئمة الأدباء والكتاب، له كتاب "المثل السائر" مشهور مطبوع، وكتاب "الجامع الكبير في صناعة المنظوم [من الكلام] والمنثور"، ذكره صاحب كشف الظنون، ويظهر أنه ألفه بعد "المثل السائر"؛ لأنه لم يذكره في كتاب "المثل السائر"، مع أنه ذكر كتابًا آخر له سماه "الوشي المرقوم في حل المنظوم". وهذا الجامع الكبير أخصر من المثل وأقل شواهد، ولكنه قد يكون أكثر منه قواعد، فلعله قصد منه تهذيب الفن والإقلال من انتشاره، وهو يقع في زهاء ثلث حجم المثل السائر. وهو عزيز الوجود، وفي مكتبتي نسخة منه نسخت سنة 667، وهذه المسألة التي ذكرناها هنا هي مما لم يذكره في "المثل السائر". - المصنف.

ص: 1429

هو المعنى دون اللفظ؛ لأن اللفظ يكون معروفًا عند أرباب صناعة التأليف دائرًا فيما بينهم، والمعنى قد يُبتدع فيذكر المؤلف معنى لم يسبق إليه" إلخ (1).

فمعنى قول المرزوقي: "مَنْ قصد فيما جاش به خاطرُه إلى أن تكون استفادةُ المتأمل له والباحث عن مكنونه من آثار عقله أكثرَ من استفادته من آثار قوله"، أن أهلَ هذا المذهب يصرفون أكبرَ اهتمامهم عند قصدهم إفادةَ المعاني الأصلية إلى أن يودعوها في صور من المعاني البيانية تفيد متأمِّلَها معانِيَ جمةً ليس كلُّ معنى منها مستفادًا من جملة أو عبارة، بل يُستفاد الكثيرُ منها من الجملة الواحدة، وذلك بحسن التوصيف بتشبيه قريب واستعارة لائقة.

وسيشير المؤلِّف إلى ما يحاوله البلغاء من ذلك بكناية وتعريض وضرب للأمثال، وبمراعاة تأثر السامعين على حسب اختلاف طبقاتهم، وتنوع مقامات خطابهم بما يناسب تلك المقامات من التصوير من خشونة أو رقة، ومن جِدٍّ أو مزح، ومن تصريح أو رمز. ويحصل بذلك الإيجازُ الذي هو زينةُ كلام البلغاء كما قيل "لمحة دالة"، مما لو جُعل لكل مراد منه لفظٌ أو جملةٌ لطال الكلامُ، وفاتت براعةُ مؤلفه، وضاعت فطنةُ متأمِّله أو تساوت درجاتُها. فإذا نظرتَ إلى قوله تعالى:{وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4]، وجدت التصور المفاد من كلمة اشتعل مغنيًا عن أن يُقال شاب شعر رأسي دفعةً واحدة، ولم يترك الشيبُ منه شيئًا، كالنار إذا التهبت في الحطب، فتصوير الاشتعال أفاد ذلك كلَّه.

وأما معنى مفردات كلام المرزوقي فقوله جاش فاض، والخاطر الذهن باعتبار جولته في المعاني، فكأنه يخطر في خلالها أي يصثي. ومقصود المرزوقي أنه نشأت في نفسه المعاني التي أراد إفادتها ثم جالت في نفسه حتى تمكنت ووضحت، فشبه ذلك التمكن بالجيشان وهو غليان القدر.

(1) في الورقة 31. - المصنف. ابن الأثير: الجامع الكبير، ص 192 (وما بين الحاصرتين لم يورده المصنف).

ص: 1430

وقوله "من آثار عقله" متعلِّقٌ "باستفادة"، وقوله "ومثله" هو غير مضبوط في النسخ التي بين أيدينا أو ينبغي أن يضبط بضمتين جمع مثال يعني أن يعتني بتصوير المعاني أكثر من عنايته بالقول والإيضاح بالأمثلة. وقوله "رسومها"(براء في أوله) جمع رسم، وهو ما يُعرف به الشيء. وأصله رسم الدار، وفي النسختين التونسيتين ونسخة الآستانة ونسخة دار الكتب وسومها (بواو في أوله)، وهو جمع وسم وهو العلامة.

وقوله: "من غير تفاوت يظهر في خلال أطباقها ولا قصور ينبع من أثناء أعماقها": الأطباق بفتح الهمزة جمع طَبَق (بفتحتين)، وقد تقدم في شرح قوله "لا يطابقه". وأراد بالتفاوت تفاوتَ الإفادة في ذلك التصوير بين ما يفيده بعض فقر الكلام و [ما] ويفيده بعض آخر، أي بأن تكون المعاني متوازنةً فلا يوضع المعنى الشريف بإزاء المعنى السخيف. و"القصورُ" العجز عن الوصول إلى ما حقُّه أن يصل إليه، وهو مشتق من قِصَر المقامة، أي قلة الامتداد في الأشياء بما يقتضيه كمالُ أنواعها. وشبه القصورَ الظاهر أثرُه بماء نابع بجامع الظهور وأثبت له النبع على طريقة الاستعارة المكنية، وهو من تشبيه المعدوم المتخيَّل بالوجود، مثل تشبيه اللؤم في بيت حسان:

لَوْ أَنَّ اللُّؤْمَ صُوِّرَ كَانَ عَبْدًا

قَبِيحَ الوَجْهِ أَعْوَرَ مِنْ ثَقَيف (1)

ومناسبة الأعماق للنبع ظاهرة، فتكون ترشيحًا لا استعارة. وأراد بالمبتسمة أنها تكشف عما تحجبه كشفًا حسنًا، كما يكشف الابتسامُ عن محاسن الثغر. ومثاني الألفاظ هي التراكيب؛ لأن الكلمات تُثَنَّى فيها، أي تُكرَّر، ومنه سميت الفاتحة المثاني.

(1) البيت هو الأول من ثلاثة من بحر الوافر يهجو فيها الشاعر المغيرة بن شعبة. ديوان حسان بن ثابت، ص 167.

ص: 1431

و"الاستشفاف" هو نظر المتأمل، وفي إحدى النسختين التونسيتين الاستسعاف أي طلب الإسعاف أي قضاء المطلوب فعلى هذه النسخة يكون الابتسام تمثيلًا بحالة سرور الكريم عند ملاقاة العفاة كما قال الشاعر:"تراه إذا ما جئته متهللًا"(1).

و"الاحتجاب" تمثيلٌ للمعاني بالنسوة يحتجبن ممن قد يستخف بهن في مواقع صونهن فقوله "لدى الامتهان" أي لدى إرادة الامتهان. وأما قوله "تعديك مرادك"، فهو تمثيلٌ آخر مثل فيه المعاني بالناقة الكريمة لا تَدِرُّ إلا بالإِبساس؛ أي برفق الحالب بها، فإذا رفق بها مكنته ودرَّت وإن اشتدّ عليها منعت، قال بشار:"والدَّرُّ يَقْطَعُهُ جَفَاءُ الحَالِبِ"(2).

"فهذه مَنَاسِبُ المعاني لطلابها، وتلك مناصبُ الألفاظ لأربابها"(3)،

الإشارة بـ "هذه" إلى الصفات المذكورة قريبًا، و"تلك" إشارة للبعيد، وهو الصفات المذكورة سالفًا؛ لأنها بَعُد ذكرُها. و"المناسب"(بفتح الميم) جمع مَنْسَب (بفتح الميم وفتح السين)، وهو مصدر ميميٌّ لنسبه ينسبه إذا ذكر نسبه. وغالبُ إطلاق ذلك في ذكر الأنساب الشريفة. أي: فهذه الصفاتُ التي ذكرتها قريبًا هي

(1) هذا صدر بيت من شعر من البحر الطويل قاله زهير بن أبي سلمى في وصف كريم، ومنه:

تَرَاهُ إِذَا مَا جِئْتَهُ مُتَهَلِّلًا

كَأَنَّكَ تُعْطِيهِ الَّذِي أَنْتَ سَائِلُهْ

تَرَى الجُنْدَ والأَعْرَابَ يَغْشَوْنَ بَابَهُ

كَمَا وَرَدَتْ مَاءَ الكُلَابِ هَوَامِلُهْ

إِذَا مَا أَتَوْا بَابَهُ قَالَ: مَرْحَبًا

لِجُوا البَابَ حَتَّى يَأْتِي الجُوعَ قَاتِلُهْ

فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي كَفِّهِ غَيْرُ رُوحِهِ

لَجَادَ بِهَا، فَلْيَتَّقِ اللهَ سَائِلُهْ

ديوان زهير بن أبي سلمى، ص 92.

(2)

هذا عجز بيت من قصيدة من بحر الكامل أنشأها بشار في النسيب بحبيبته حمدة المكناة بأم محمد، وصدره:"وإذا جفَوْتَ قطعتُ عَنْكَ مَنَافِعِي"، ومطلع القصيدة:

خَفِّضْ عَلَى عَقِبِ الزَّمَانِ العَاقِبِ

لَيْسَ النَّجَاحُ مَعَ الحَرِيصِ النَّاصِبِ

ديوان بشار بن برد، ج 1/ 1، ص 191 - 192.

(3)

نشرة هارون، ج 1، ص 8.

ص: 1432

صفاتُ المعاني الشريفة الأصلية، فهي للمعاني كالأنساب للناس، فمَنْ طلب المعاني الشريفة فليتوخَّ منها الصفاتِ التي ذكرتها.

و"المناصب" جمع مَنْصِب (بفتح الميم وكسر الصاد)، وهو مكانُ النصب، أي رفع الشيء وإظهاره، ومنصب المرء شرفه ورفعته. أي: الصفات التي ذكرتُها سالفًا هي مظانُّ شرف الألفاظ، فمن كان من أرباب الألفاظ - أي المعتنين بها - فليبحثْ عن انطباق تلك الأوصاف عليها. وبَيْن المناسب والمناصب في كلامه الجِنَاسُ المحرَّف (1).

- 4 -

"ومتى اعترف اللفظُ والمعنى فيما تَصُوبُ به العقول، فتعانقا وتلابسَا، متظاهرين في الاشتراف وتوافقا، فهناك يلتقي ثَريَا البلاغة فيُمْطرُ روضُها، ويُنشر وشْيُها، ويتجلَّى البيانُ فصيحَ اللسان، نجيحَ البرهان، وترى رائدَيْ الفهم والطبع متباشرَيْن، لهما من المسموع والمعقول بالمسرح الخصب والمَكْرع العذب"(2)،

تخلص المرزوقي في هذا الكلام إلى مقام الحكم بين مذهب أهل الألفاظ ومذهب أهل المعاني، فبين أنه لا يتم للكلام حسنُه وبلاغتُه إلا باجتماع شرف لفظه وشرف معانيه. واعتراف اللفظ والمعنى هو توافقُهما وتآلُفهما، كالشخصين اللذين يعرف أحدُهما الآخر ويألفه. و"تصُوبُ" تمطر، والصَّوب المطر. ويقال صَوب المزن، أي ماء السحاب. شبَّه العقولَ المختارة للألفاظ والمنظمة للمعاني بالأسحبة، وشبه ما تأتي به من محاسن الألفاظ وشريف المعاني بالمطر. وأثبت الصوبَ للعقول

(1) قال المطيري: "كذا ذكر ابن عاشور، فهو يُطلق الجناسَ المحرف على ما كان الاختلاف فيه في الأحرف، وسار على ذلك في التحرير والتنوير 10/ 142، 14/ 356. والمشهور عند البلاغيين أن الجناس المحرف هو ما كان الخلافُ فيه في هيئات الحروف فقط، نحو: الجهول إما مُفْرِط أو مفَرِّط. يُنظر: شروح التلخيص 4/ 420، تحرير التحبير ص 106، أنوار الربيع 1/ 180". (شرح المقدمة الأدبية، ص 99، الحاشية رقم 2).

(2)

نشرة هارون، ج 1، ص 8.

ص: 1433

على طريقة الاستعارة المكنية، مع كونها استعارة تبعية. وهذه الاستعارةُ مأخوذةٌ من قول أبي تمام في وصف الشعر:

وَلَكِنَّهُ صَوْبُ العُقُولِ إِذَا انْجَلَتْ

سَحَائِبُ مِنْهُ أُعْقِبَتْ بِسَحَائِبِ (1)

وقد أَتْبع المؤلفُ استعارتَه هذه بتمثيل بناه عليها، فشبه هيئةَ انهيال الصنائع البليغة الرائقة من آثار أهل البلاغة نثرًا ونظمًا، وتلقِّى السامعين إياها، واهتزازَ أذواقهم لقبولها، وإقبالَهم على الاختيار منها، على حسب الأذواق، [شبّه ذلك كله] بهيئة عُروض السحاب في أغزر الأنواء إفاضةً، وهو نَوْءُ منزلة الثريا، فتغزر معصراتُها وتنتشر آثارها بين الأدباء كانتشار وشي الزرع في الرياض النَّضِرة، فتصبح الأدباءُ تفسِّر دقائقَها للطلاب كما تبشرُ روادُ المراعي رعاءَ الحي بالمسارح الخصبة والمكارع العذبة، فذكر هنا الهيئةَ المشبهة بها. وقد أشار إلى الهيئة المشبهة بقوله عقب هذا:"ولتُعرَف مواطئ أقدام المختارين فيما اختاروه ومراسم أقلام المزيفين على ما زيفوه، ويُعلَم أيضًا فرقُ ما بين المصنوع والمطبوع وفضيلة الأَتِيِّ السمح على الأَبِيِّ الصعب". (2) ولقد أجاد التمثيل، فأصبح كلامه لقواعد الأدب خير تمثيل.

وقوله "في الاشتراف" بفاء في آخره، أي الارتفاع. فيكون شبه الرفعة المعنوية برفعة السحاب إذا أخذ يتصاعد وينضم بعضه إلى بعض. ووقع في إحدى النسختين التونسيتين "الاشتراق"(بقاف في آخره)، ولا يستقيم (3).

(1) البيت من قصيدة قالها الشاعر في مدح أبي دُلَف القاسم بن عيسى العجلي، أحد قواد المأمون ثم المعتصم (تُوُفِّيَ سنة 225 أو 226 هـ). ديوان أبي تمام، نشرة بعناية شاهين عطية (بيروت: دار الكتب العلمية، بدون تاريخ، وقد اعتمد معدُّ هذه الطبعة على نشرة المطبعة الوطنية في بيروت الصادرة عام 1889)، ص 47.

(2)

نشرة هارون، ج 1، ص 8 - 9.

(3)

قلت: وقع في نشرة هارون: "الاشتراك"، وذكر أنه جاء في بعض النسخ "الاعتراف". وما أثبته المصنف أسعد بالسياق.

ص: 1434

وقوله: "تلتقي ثريا البلاغة": هكذا في بعض النسخ يلتقي (بياء الغائب)، وفي بعضها تلتقي (بتاء الغائبة). وصيغة الالتقاء تقتضي ملاقاةَ شيئين، وليس في عبارة المؤلف سوى الثريا. فالظاهر أن صواب العبارة يَلْقَى (بالمثناة التحتية المفتوحة وفتح القاف)، والضمير عائدٌ إلى "ما تَصُوبُ به العقول"، والمعنى: فهنالك يقع ذلك الصوب في منزلة الثريا فيلقاها فيغزر مطره. ويجوز أن يكون الالتقاء بمعنى التلقي مبالغة. والثريا من الأنواء الوَسْمية، أي الربيعية، أي التي يكثر الإمطارُ في زمان طلوعها في بلاد العرب (1). والمطر الربيعي يُضرب المثلُ بشدته، قال النابغة:

وَكَانَتْ لَهُمْ رِبْعِيَّةٌ يَحْذَرُونَهَا

إِذَا خَضْخَضَتْ مَاءَ السَّمَاءِ القَبَائِلُ (2)

• "فإذا كان النثرُ بما له من تقاسيم اللفظ والمعنى والنظم اتسع نطاقُ الاختيار فيه على ما بيناه، بحسب اتساع جوانبها وموادها، وتكاثر أسبابها ومَوَاتِّها، وكان الشعر قد ساواه في جميع ذلك وشاركه، ثم تفرَّد عنه وتميز بأن كان حدُّه: لفظ موزون مقفّى يدل على معنى. فازدادت صفاتُه التي أحاط الحدُّ بها بما انضم من الوزن والتقفية إليها - ازدادت الكُلَفُ في شرائط الاختيار فيه؛ لأن للوزن والتقفية أحكامًا تُماثلُ ما كانت (3) للمعنى واللفظ والتأليف أو تقارب. وهما يقتضيان من

(1) انظر مزيدًا من التفاصيل حول ما جاء عن العرب من أشعار وأسجاع وأمثال في الثريا وما يرتبط بها من أحول وأضاع في الطبيعة والمناخ وحياة الناس في ابن قتيبة الدينوري، أبو محمد عبد الله بن مسلم: الأنواء في مواسم العرب (بغداد: وزارة الثقافة والإعلام - دار الشؤون الثقافية العامة، 1988)، ص 27 - 41.

(2)

القبائل قبائل الخيل، وهي من أربعين من الخيل إلى ستين. - المصنف. أقول: وقد فسرها في تحقيقه لشعر النابغة فقال: "القبايل جمع قبيلة، وهي الطائفة من الناس يجمعهم جد واحد، أي القبائل التي يتألف منها جيشه". والبيت هو الرابع عشر من قصيدة في ثلاثين بيتًا يرثي فيها النعمان بن الحارث بن أبي شمر الغساني. ديوان النابغة الذبياني، ص 187 (نشرة ابن عاشور)؛ ص 118 (نشرة محمد أبو الفضل إبراهيم).

(3)

كذا في الأصل، والأولى "كان" لمعاده على ما الموصولية التي تقوم مقام المذكَّر في مثل هذا السياق عادة.

ص: 1435

مراعاة الشاعر والمنتقِد مثلَ ما تقتضيه تلك من مراعاة الكاتب والمتصفح لئلا يختلَّ لهما أصلٌ من أصولهما أو يعتل فرعٌ من فروعهما" (1)،

تقدم أن المؤلف جلب كلام أبي الحسن ابن طباطبا في مزية الشعر، استدلالًا به على مراعاة جانب اللفظ في معيار النقد، ولأن ما ذكره أبو الحسن في الشعر يجري بعينه في النثر. و"المواتُّ" بتشديد المثناة، الوسائل جمع ماتَّة، وهي الوسيلة إلى الشيء لأنها تمت إليه، أي تمد وتتوسل، يُقال مَتَّ بقرابة أي اتصل وتوسل. ومعنى كلام المؤلف ظاهر. وجوابُ "إذا" قولُه:"ازدادت الكلف" إلخ.

"وإذا كان الأمر على هذا، فالواجب أن يُتبيَّنَ ما هو عمودُ الشعر المعروفُ عند العرب، ليتميَّزَ تليدُ الصنعة من الطريف، وقديمُ نظام القريض من الحديث، ولتُعرفَ مواطئُ أقدام المختارين فيما اختاروه ومراسمُ إقدام المزيِّفين على ما زيفوه، ويُعلمَ أيضًا فرقُ ما بين المصنوع والمطبوع". (2)

تخلص هنا إلى تخصيص بحثه بالشعر، وهو المقصود من هذه المقدمة. ولذلك سيقول فيما يأتي:"فهذه سبعة أبواب هي عمود الشعر". وقد نبهنا آنفًا على أن هذه الفقرات تشير إلى الهيئة المشبهة بهيئة السحاب والمطر في قوله آنفًا: "فهنالك يلقى ثريا البلاغة فيمطر روضها" إلخ.

و"المصنوع" هو الشعر الذي أُدخل فيه ما يُسمى عند أهل الفن بالصَّنْعة، وهي التهذيبُ والتنقيح للشعر، وإبداع المحاسن البديعية واللطائف اللفظية. فكان علمُ أصحابه مكتَسبًا بالصنعة، أي أن يعمدوا إلى القواعد والنكت وصور الأمثلة التي تلقوها بالتعلم، فيراعوها في منشآتهم بالتروِّي والتثقيف، فيكون شعرُهم كالشيء

(1) نشرة هارون، ج 1، ص 8.

(2)

المصدر نفسه، ص 8 - 9 (وفيه:"فإذا" بدل "وإذا").

ص: 1436

المصنوع باليد. وقد يقع بعضُ ذلك عفوًا بدون تعمد ولا تكلف، وهو الغالب من شعر المولدين، قال ابن رشيق:"وأشهر الشعراء في المصنوع ابن المعتز". (1)

و"المطبوع" هو الشعر الذي يصدر عن الشاعر بالسجية والطبيعة الناشئة عن تدربه بسماع أشعار البلغاء، واندفاع طبيعته لمحاكاة أشعارهم، حتى يصير الشعرُ البليغ له كالطبع فلا يصرف فيه تعمقَ روية ولا معاودةَ تنقيح وتثقيف.

"وفضيلة الأَتِيِّ السمح على الأَبِيِّ الصعب"(2)، تقدم بيانُ الأتِيِّ والأبِيِّ في تفسير أول الديباجة، ووصفَهما هنالك بالمستسهل والمستنكر، ووصفهما هنا بالسمح والصعب. و"السمحُ" صفة من السماحة، وهي لينُ الأخلاق وحسنُ المعاملة، و"الصعب" صفة من الصعوبة وهي الشدة في الخلق.

"فنقول وبالله التوفيق: إنهم كلانوا يحاولون شرفَ المعنى وصِحتَه"(3)،

ضمير "إنهم" عائد إلى الشعراء وإن لم يذكر معاد، بناءً على أنه معلوم من سياق الكلام المذكور على الشعر، وهذا هو المناسب للإخبار عن الضمير بفعل يحاولون. ويجوز أن يعود الضمير إلى نُقَّاد الكلام المذكور في قواه:"اعلم أن مذاهب نقاد الكلام" إلخ.

(1) صفحة 85 من العمدة طبع مطبعة أمين هندية بمصر. - المصنف. لم أعثر على هذا الكلام بلفظه عند ابن رشيق، وربما ساقه المصنف معنًى لا لفظًا، وإنما الذي وجدته هو قوله في فصل المطبوع والمصنوع من الشعر:"وقالوا: أول من فتق البديع من المحدَثين بشار بن برد، وابن هرمة وهو ساقة العرب وآخر من يستشهد بشعره. ثم قال بعد أن ذكر عددًا من الشعراء الذين سلكوا مسلكهما: "واتبع هؤلاء حبيب الطائي، والوليد البحتري، وعبد الله بن المعتز، فانتهى علم البديع والصنعة إليه، وخُتم به". العمدة، ج 1، ص 138.

(2)

نشرة هارون، ج 1، ص 9.

(3)

نشرة هارون، ج 1، ص 9.

ص: 1437

وقد كنا وعدناك أيها الناظرُ عند قول المرزوقي آنفًا: "هم أصحاب المعاني"، بأن نبين المراد بالمعنى، فهذا أوان أن نبينه. اعلم أن الشيخ عبد القاهر قال في "دلائل الإعجاز":"إن قولنا المعنى في مثل هذا يُراد به الغرضُ الذي أراد المتكلم أن يبينه أو ينفيه، نحو أن تقصِد تشبيهَ الرجل بالأسد، فتقول: زيدٌ كالأسد، ثم تريد هذا المعنى بعينه فنتول: كأن زيدًا الأسد، فتفيد تشبيهَه أيضًا بالأسد. إلا أنك تزيد في معنى تشبيهه به زيادةً لم تكن في الأول، وهي أن تجعلَه من فرط شجاعته وقوة قلبه، وأنه لا يروعه شيء، بحيث لا يتميز عن الأسد، ولا يُقصَّر عنه حتى يُتوهم أن أسد في صورة آدمي". (1) ثم قال: "الكلام على ضربين: ضربٌ أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، وذلك إذا قصدت أن تُخبر عن زيد مثلًا بالخروج على الحقيقة فقلت: خرج زيد، [وبالاطلاق عن عمرو فقلت: عمرو منطلق، وعلى هذا القياس]. وضربٌ آخر لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن يدلُّك اللفظُ على معناه الذي يقتضيه موضوعُه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالةً ثانية تصل بها إلى الغرض. ومدار هذا الأمر على الكناية والاستعارة والتمثيل". (2)

ثم قال عقب ذلك: "وإذا عرفت هذه الجملة، فها هنا عبارة مختصرة، وهي أن تقول: المعنى ومعنى المعنى، تعني بالمعنى: المفهومَ من ظاهر اللفظ والذي تصل إليه بغير واسطة، وبمعنى المعنى أن تعقل من اللفظ معنىً، ثم يُفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر، كالذي فسرت لك". (3) ثم قال: "فالمعاني الأُوَل المفهومة من أنفس الألفاظ، والمعاني الثواني التي يومأ إليها بتلك المعاني الأول". (4)

فهذا كلام الشيخ تمييزًا بيَّن المراد بالمعنى.

(1) صفحة 189، طبع مطبعة المنار. - المصنف. الجرجاني: دلائل الإعجاز، ص 258 (نشرة شاكر).

(2)

صفحة 189، طبع مطبعة المنار. - المصنف. الجرجاني: دلائل الإعجاز، ص 262 (نشرة شاكر).

(3)

صفحة 191، طبع مطبعة المنار. - المصنف. الجرجاني: دلائل الإعجاز، ص 263 (نشرة شاكر).

(4)

صفحة 191، طبع مطبعة المنار. - المصنف. الجرجاني: دلائل الإعجاز، ص 264 (نشرة شاكر).

ص: 1438

ثم إن علماء المعاني قفَّوا عليه بما يزيده بيانًا ويعصِم المتأمِّلَ من اختلاط المقصود بكلمة "معنى" في مختلف إطلاقاتها، مما أفاده السكاكي في المفتاح وشارحو كلامه، من أن المعنى الذي يجيش في نفوس البلغاء ثلاثة أقسام: قسم سمَّوْه أصلَ المعنى، وهو الأغراض المجملة التي يُرادُ إفادتُها من خبر أو إنشاء. وهذا المعنى هو الذي يُفاد بكلامٍ بسيط، وهذا يجيش في الناس من الخاصة والعامة، وليس هو موضوع الاختلاف (1). وقسم سَمَّوْه معنى أول، وهو الأغراض الخاصة التي يقصدها البلغاء لنكتة، مثل ردِّ الإنكار. وقسم سموه معنىً ثانيًا، ويقال له:"معنى المعنى"(2)، وهو الخواص الكلامية التي تفيد كيفيات في المعاني الأول، مثل القصر والاستغراق والكناية والمبالغة، وهذا خاص ببلغاء الكلام العربي.

فإذا علمتَ هذا، فلْنَرجِعْ إلى بيان كلام المؤلف.

"المحاولة" ابتغاء الشيء وتطلُّبُه، و"الشرف" حصول صفات الكمال النوعي في بعض أفراده. فشرفُ المعنى أن يكونَ من أحاسن المعاني المستفادة من الكلام، بأن يَتلَقَّى فهمُ السامع المعنى مستغنيًا به في استفادة الغرض الذي يُفاد به. وقد وصف المؤلِّفُ المعنى هنا بـ "الشرف والصحة"، ووصفَه فيما تقدم بـ "المعجِبة الجَزْلة، العذبة الحكيمة، الزاهرة الفاخرة".

وطريقةُ صَوْغ المعنى الشريف هي أن يَلحظ البليغُ ما يجيش في نفسه مما يريدُ إبلاغَه إلى نفس السامع، فينشئه في نفسه، ويكيفه بأحسن صورة يَرى أنَّها تقعُ لدى السامعين موقعًا حسنًا يفي بمراد الشاعر، ويليق بالغرض الشاعري، معتمدًا في تحصيل تلك الكيفية على فِطنته ودُربته المتولِّدة في ذوقه بما ورد على ذهنه من محاسن البلغاء والحكماء والعلماء، فأكسب ذوقَه صورًا غيرَ جزئية، يقيس عليها أمثالَها إذا

(1) انظر في ذلك مثلًا: القرطاجني، أبو الحسن حازم: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة (تونس: وزارة الثقافة والمحافظة على التراث، توزيع الدار العربية للكتاب، ط 3، 2008)، ص 21 - 23 (القسم التحقيقي).

(2)

صفحة 191، طبع مطبعة المنار. - المصنف. الجرجاني: دلائل الإعجاز، ص 264 (نشرة شاكر).

ص: 1439

أراد التعبيرَ بابتكار مماثلاتٍ لها جديدة، أو بتصرفٍ فيها يغيرها عن حالتها السابقة تصرفًا كثيرًا أو قليلًا، ويندفع إليها ذهنُه سريعا.

ومن أكبر أسباب شرف المعنى أن يكون مبْتَكَرًا غيرَ مسبوق، ثم أن يكون بعضُه مبتكرًا وبعضُه مسبوقًا، وبمقدار زيادة الابتكار فيه على المسبوقية يدنو من الشرف. ولبشار وأبي تمام وأبي الطيب ابتكاراتٌ كثيرة، ويقرُب من ذلك أبو نواس وابن الرومي ثم المعري.

فإذا أنشأ ذوقُ البليغ معنًى، لاحت له منه محاسنُ المعنى ونقائصُه ومعائبه، فاحتفظ بالمحاسن، وأكمله عن النقائص، ومحا عنه المعائب. فإذا تقوَّم فيه ما مِنْ شأنه أن يفيَ بأمله من إرضاء السامعين من أهل الصناعة وامتلاك استحسانهم، فرأوه مَحُوكًا على منوال ما يحوك على مثله البلغاءُ فيما انتهت إليه مزاولتُه ودربته، وثق بأنه معنى شريف.

فعُلِمَ أن شروطَ شرف المعاني تختلف باختلاف محالِّها من أغراض الكلام: من إثارة حماس، أو استعطاف وإبساس (1)، أو غزل، أو نسيب، أو فخر، أو ذب عن شرف، أو نحو ذلك. قال ابنُ الأثير في المثل السائر:"إن الكاتبَ أو الشاعر ينظر إلى الحال الحاضرة، ثم يستنبط لها ما يناسبها من المعاني". (2) وهذا عملٌ محتاجٌ إلى صفاء قريحة، وكرم سجية، وطول دربة، وحسن اقتداء، وتمييزٍ بين المقبول والمرفوض. وقد ذكر ابن الأثير في "المثل السائر" من المعنَى الشريف قولَ أبي الطيب:

تَلَذُّ لَهُ المُرُوءَةُ وَهْيَ تُؤْذِي

وَمَنْ يَعْشَقْ يَلَذُّ لَهُ الغَرَامُ (3)

لولا لفظة تؤذي فيه؛ فإنها تؤذي (4).

(1) الإبساس: التلطف.

(2)

صفحة 88. - المصنف. ابن الأثير: المثل السائر، ج 1، ص 307.

(3)

البرقوقي: شرح ديوان المتنبي، ج 1، ص 307.

(4)

المصدر نفسه، ص 152 - 153.

ص: 1440

ولا يُتوهَّم من كلام ابن الأثير ولا من مادة "شريف" أن شرط المعنى كونُه من الفضائل أو المعاني الحميدة؛ فإنه لو كان ذلك مرادَهم لذهبَ معظمُ النسيب والهجاء، ولذهب ما كان من الشعر كذبا. بل مرادُهم ما أفصح عنه قدامةُ في "نقد الشعر" إذ يقول: "إن مناقضةَ الشاعر نفسَه في قصيدتين أو كلمتين، بأن يصف شيئًا وصفًا حسنًا، ثم يذمه بعد ذلك ذمًّا حسنًا بيِّنًا، غيرُ منكَرٍ عليه، ولا معيبٍ من فعله، إذا أحسن المدحَ والذم. بل عندي يدلُّ على قوة الشاعر في صناعته واقتداره عليها. وإنما قدمتُ هذين المعنيين لما وجدتُ قومًا يعيبون هذين المسلكين، فإني رأيتُ مَنْ يعيب امرأ القيس في قوله:

فمِثْلُكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ وَمُرْضِعٍ

فَألهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِم مُحْوِلِ

إذَا مَا بَكَى مَنْ خَلْفَهَا انْصَرَفَتْ لَهُ

بِشِقٍّ، وَتَحْتِي شِقُّها لَمْ يُحَوَّلِ (1)

وليس فحاشةُ المعنى في نفسه مما يُزيل جودةَ الشعر فيه". (2)

وأما "صحةُ المعنى" في كلام المؤلف، فهي الدرجةُ الأولى للصعود في مصاعد الشرف، أي أن لا يكون في المعنى اضطرابٌ أو سوءُ ترتيب أو انتقاضُ بعضه ببعض، فيصيرَ الإنشاءُ أو الترسلُ أجوف، قال ابن رشيق: "وفِرقةٌ (من الشعراء) أصحاب جلبة وقعقعة، بلا طائل معنى إلا القليل النادر، [كأبي القاسم ابن هانئ ومَنْ جرى مجراه]؛ فإنه يقول في أول مذهبته:

أَصَاخَتْ فَقَالَتْ وَقْعُ أجْرَدَ شَيْظَمِ

وَشَامَتْ فَقَالَتْ لمْعُ أَبْيَضَ مِخذَم

وَمَا ذُعِرَتْ إلَّا لِجَرْسِ حُلِيِّهَا

وَلَا رَمَقَتْ إِلَّا بُرًى فِي مُخَدَّمِ (3)

(1) البيتان السادس عشر والسابع عشر من المعلقة. ديوان امرئ القيس، ص 12 (نشرة خفاجي).

(2)

صفحة 4 - 5، مطبعة الجوائب. - المصنف. قدامة بن جعفر: نقد الشعر، ص 56 - 57.

(3)

البيتان هما طالعة قصيدة بعنوان "منار الدين وعروته" يمدح فيها ابنُ هانئ الخليفةَ المعز لدين الله، وهي آخر قصيدة بعث بها إليه من المغرب إلى القاهرة. ديوان محمد بن هانئ الأندلسي الأزدي، نشرة بعناية المعلم شاهين عطية وعمر هاشم الكتبي الدمشقي (بيروت: المطبعة اللبنانية، =

ص: 1441

وليس تحت هذا كله إلا الفساد، وخلاف المراد. وما الذي يفيدنا أن تكون هذه المنسوب بها لبست حليها، فتوهمته - بعد الإصاخة والرمق - وقعَ فرس أو لمعَ سيف، غير أنها مغزوةٌ في دارها، أو جاهلة بما حملته من زينتها؟ " (1) على أن في قوله "شامت" خطأ؛ لأن الشيم هو النظرُ إلى البرق ليُعلم أين يذهب، ويُتوسّم أين يُمطر.

واعلم أن ضد المعنى الشريف المعنى السخيف، لقلة جدواه أو لدلالته على تعلق تفكير صاحبه بصور ضعيفة، كما خطب والٍ باليمامة في موعظة فقال:"إن الله لا يعاون عبادَه على المعاصي، وقد أهلك أمة عظيمة في ناقة ما كانت تساوي مائتي درهم"، فلقبوه مقوِّمَ ناقة (2).

ومن المعاني السخيفة قولُ نُصَيب:

أَهِيمُ بِدَعْدٍ مَا حَيِيتُ فَإِنْ أَمُتْ

فَيَا لَيْتَ شِعْرِي مَنْ يَهِيمُ بِهَا بَعْدِي (3)

= 1886)، ص 172؛ وكذلك ديوان ابن هانئ الأندلسي، تقديم كرم البستاني (بيروت: دار صادر، بدون تاريخ)، ص 313.

(1)

القيرواني: العمدة، ج 1، ص 132 (وقد أورد المصنف كلامَ ابن رشيق بتصرف وأوردناه كاملًا، وما بين القوسين زيادة من المصنف).

(2)

ابن عبد ربه: العقد الفريد، ج 7، ص 177.

(3)

روي البيت على أنحاء مختلفة قليلًا كما يلي:

أَهِيمُ بِدَعْدٍ مَا حَيِيتُ فَإِنْ أَمُتْ

أُوكِلُ بِدَعْدٍ مَنْ يَهِيمُ بِهَا بَعْدِي

أَهِيمُ بِدَعْدٍ مَا حَيِيتُ فَإِنْ أَمُتْ

فَوَا حَزَنًا مَنْ ذَا يَهِيمُ بِهَا بَعْدِي

أَهِيمُ بِدَعْدٍ مَا حَيِيتُ وإِنْ أَمُتْ

فَلَا صَلُحَتْ دَعْدٌ لِذِي خلةٍ بَعْدِي

ورواه أبو الفرج الأصفهاني على النحوين الأول والثاني في أخبار النمر بن تولب، وقال:"والناس يروون هذا البيت لنصيب، وهو خطأ"، على الرغم من أنه ساقه منسوبًا إلى نصيب على لسان سكينة بنت الحسين (كما في الحاشية الآتية). كتاب الأغاني، ج 22، ص 277 - 278؛ القيرواني: العمدة، ج 2، ص 73. والشاعر هو أبو مِحْجَن وأبو الحجناء (وهي ابنته)، نصيب بن رباح، مولى عبد العزيز بن مروان، كان عبدًا أسود من أصل نوبي لرجل من كنانة، فكاتب على نفسه ثم أتى عبد العزيز بن مروان، فمدحه فوصله واشترى ولاءه. كان نصيب شاعرًا فحلًا فصيحًا، =

ص: 1442

وقد عابته سكينةُ بنت الحسين (1).

وضد المعنى الصحيح المعنى الخاطئ والمختل، كما قال شعرورٌ فيما أنشده الراغب الأصفهاني:

أَزُبَيْدَةَ ابْنَةَ جَعْفَرٍ

طُوبَى لِزَائِرِكِ المُثَابْ

تُعْطِينَ مِنْ رِجْلَيْكِ مَا

تُعْطِي الأَكُفُّ مِنَ الرَّغَابْ

= جيدَ الكلام مقدمًا في المديح والنسيب والرثاء. توفِّيَ سنة 108 هـ. وقد جمع شعرَه وقدم له داود سلوم ونشرته جامعة بغداد عام 1967.

(1)

ما أشار إليه المصنف من عيب سكينة البيت المذكور هو ما رواه أبو الفرج الأصفهان أن راوية جرير وراوية كثَيِّر وراوية جميل وراوية نصيب وراوية الأحوص اجتمعوا بالمدينة، فافتخر كلُّ واحد منهم بصاحبه، وذكر أنه أشعر من الآخرين. ثم حكَّموا سكينة بنت الحسين بن علي رضي الله عنهما، "لِمَا يعرفونه من عقلها وبصرها بالشعر، فخرجوا يتقادَوْن، حتى استأذنوا عليها، فأذنت لهم، فذكروا لها الذي كان من أمرهم، فقالت لراوية جرير: أليس صاحبك الذي يقول:

طَرَقَتْكَ صَائِدَةُ القُلُوبِ وَلَيْسَ

ذَا حِينَ الزِّيَارَةِ فَارْجِعِي بِسَلَامِ

وأي ساعة أحلى للزيارة من الطروق؟ قبح الله صاحبك، وقبح شعره، إلا قال: فادخلي بسلام؟ ثم قالت لراوية كثير: أليس صاحبك الذي يقول:

يَقَرُّ بِعَيْنِي مَا يَقَرُّ بعَيْنِها

وَأَحْسَنُ شَيْءٍ مَا بهِ العَيْنُ قَرَّتِ

فليس شيء أقر لعينها من النكاح، أَفيحب صاحبك أن ينكح؟ قبح الله صاحبك، وقبح شعره! ثم قالت لراوية جميل: أليس صاحبك الذي يقول:

فَلَوْ تَرَكَتْ عَقْلِي مَعِي مَا طَلَبْتُهَا

وَلَكِنْ طِلَابِيهَا لِمَا فَاتَ مِنْ عَقْلِي

فما أرى بصاحبك من هوى، إنما يطلب عقله، قبح الله صاحبَك وقبح شعره. ثم قالت لراوية نصيب: أليس صاحبك الذي يقول:

أَهِيمُ بِدَعْدٍ مَا حَيِيتُ فَإِنْ أَمُتْ فَوَا

حَزَنًا مَنْ ذَا يَهِيمُ بِهَا بَعْدِي

فما أرى له همة إلا من يعشقها بعده، قبحه الله وقبح شعره! إلا قال:

أَهِيمُ بِدَعْدٍ مَا حَيِيتُ فَإِنْ أَمُتْ

فَلَا صَلُحَتْ دَعْدٌ لِذِي خِلَّةٍ بَعْدِي

كتاب الأغاني، ج 16، ص 163 - 164؛ ج 6/ 16، ص 102 - 103 (نشرة قصي الحسين).

ص: 1443

فإنه أنشده بحضرتها، فقام إليه الخدم ليضربوه - لقوله: تعطين من رجليك - "فمنعتهم، وقالت: إنه قصد مدحًا، وأراد ما يقول الناس: شمالُك أجودُ من يمينه (1) فظن أنه إذ ذكر الرِّجْل كان أبلغ، وقد حمدنا ما نواه وإن أساء فيما أتاه". (2)

(1) تُشير إلى نحو قول النابغة مخاطبًا عمرو بن الحارث الغساني ملك الشام ومفضلًا له على النعمان بن المنذر اللخمي ملك الحيرة (كتاب الأغاني): "فوالله لَشِمالُك خيرٌ من يمينه، ولقفاك خيرٌ من وجهه. . ." إلخ. - المصنف. قلت: في ذلك حكاها حسان بن ثابت قال: "قدمت على عمرو بن الحارث فاعتاص الوصول علي إليه، فقلت للحاجب بعد مدة: إن أذنت لي عليه وإلا هجوت اليمن كلها ثم انقلبت عنكم. فأذن لي فدخلت عليه، فوجدت عنده النابغة وهو جالس عن يمينه، وعلقمة بن عبدة وهو جالس عن يساره، فقال لي: يا ابن الفريعة، قد عرفت عيصَك ونسبك في غسان، فارجع فإني باعثٌ إليك بصلة سنية، ولا أحتاج إلى الشعر، فإني أخاف عليك هذين السبعين: النابغة وعلقمة، أن يفضحاك، وفضيحتك فضيحتي، وأنت والله لا تحسن أن تقول:

رِقَاقُ النِّعَالِ، طَيِّبُ حُجُزَاتُهُمْ

يُحَيَّوْنَ بِالرَّيْحَانِ يَوْمَ السَّبَاسِبِ

فأبيت وقلت: لا بد منه. فقال: ذاك إلى عميك. فقلت لهما: بحق الملك إلا قدمتماني عليكما. فقالا: قد فعلنا. فقال عمرو بن الحارث: هات يا ابن الفريعة، فأنشأت:

أَسَالتَ رَسْمَ الدَّارِ أَمْ لَمْ تَسْأَلِ

بَيْنَ الحوَانِي فَالبُضَيعِ فَحَوْمَلِ

فقال: فلم يزل عمرو بن الحارث يزحل عن موضعه سرورًا حتى شاطر البيت وهو يقول: هذا وأبيك الشعر، لا ما تعللاني به منذ اليوم! هذه والله البتارة التي قد بترت المدائح. . ."، "ثم أقبل على النابغة فقال: قم يا زياد فهات الثناء المسجوع، فقام النابغة فقال: ألا انعم صباحًا أيها الملك المبارك، السماء غطاؤك، والأرض وطاؤك، ووالداي فداؤك، والعرب وقاؤك، والعجم حماؤك، والحكماء جلساؤك، والمداره سمارك، والمقاول إخوانك، والعقل شعارك. . . . أيفاخرك المنذر اللخمي؟ فوالله لقفاك خير من وجهه، ولشمالك خير من يمينه، ولأخمَصُك خير من رأسه، ولخطاؤك خير من صوابه، ولصمتك خير من كلامه، ولأمك خير من أبيه، ولخدمك خير من قومه. فهب لي أسارى قومي، واسترهن بذلك شكري؛ فإنك من أشراف قحطان، وأنا من سروات عدنان. فرفع عمرو رأسه إلى جارية كانت قائمة على رأسه وقال: بمثل هذا فليثن على الملوك، ومثل ابن الفريعة فليمدحهم! وأطلق له أسرى قومه". الأصفهاني: الأغاني، ج 5/ 15، ص 586 - 587 (نشرة الحسين).

(2)

الراغب الأصفهاني: محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والأدباء، ج 1، ص 122. وأصل القصة كما رواها المرزباني:"أخبرني محمد بن يحيى، قال: حدثني عون بن محمد الكندي، قال: حدثني الجاحظ سنة ثلاثين ومائتين، قال: حدثني أبو نواس أنه غاب عن بغداد، فقدم إليه رجل، فقال له: هل من خبر؟ فقال: نعم، أنشد بعض الشعراء مدحًا في زبيدة وهي تسمع، فقال"، وذكر =

ص: 1444

ومن عجيب ما عرض للشعراء من سخيف المعنى ما عرض لأبي العتاهية من قوله في رثاء الخليفة:

مَاتَ الخَلِيفَةُ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ

فكَأَنَّنِي أَفْطَرْتُ فِي رَمَضَانِ (1)

فإن المصراع الثاني من سخيف المعنى، وإن بينه وبين المصراع الأول بونًا بعيدا.

وقد نظرتُ في مجموع شرف المعنى وصحته، وكيف يكتسبه البليغ، فرأيتُ أن يقتديَ مريدُ الإجادة بالذين شهد لهم البلغاءُ بالإجادة في غرض من أغراض المعاني، فينسجَ على منواله. فإذا رام إثارةَ حماسٍ جمع في ذهنه ما يلائم حالةَ الاستصراخ،

= البيتين"، ثم قال: "فوثب إليه الخدم يضربونه، فمنعتهم، وقالت: أراد خيرًا فأخطأه. ومن أراد خيرًا فأخطأ أحبُّ إلينا ممن أراد شرًّا فأصاب، سمع قولهم: شمالك أندى من يمين غيرك، وقفاك أحسن من وجه غيرك، وظنَّ أنه إذا قال هذا كان أبلغ في المديح، أُعطوه ما أمّل، وعرّفوه ما جهل. قال: فقلت له: والله لو ورد هذا على العباس جدّها رضى الله تعالى عنه فإنه النهاية في العقل، ما كان عنده من الحلم والاحتمال أكثر من هذا! قال: وقال الجاحظ بعقب هذا الحديث: كانت زبيدة أعقلَ الناس، وأفصح الناس". المرزباني: الموشح، ص 392 - 393، وانظر رواية له أخرى للقصة بسند مختلف قليلًا (ص 415). وانظر كذلك: ابن خلكان: وفيات الأعيان، ج 2، ص 315؛ الوطواط: غرر الخصائص، ص 288؛ العلوي: نضرة الإغريض، ص 421.

(1)

ليس هذا البيت في ديوان أبي العتاهية. وقد نسبه إليه ابن رشيق وعلق على النصف الثاني منه بقوله: "يريد: أنني بهذا القول، كأنما جاهرتُ بالإفطار في رمضان نهارًا، وكل أحد ينكر ذلك عليَّ، ويستعظمه من فعلي. وهذا معنى جيد غريب في لفظ رديء غير معرِبٍ عما في النفس".

القيرواني: العمدة، ج 2، ص 96. وذكر الزمخشري أنه "اجتمع الشعراء عند موت المهدي، واندس بينهم إسكاف، فأنكروه فسألوه، فقال: شاعر، فاستنشدوه فقال: مات الخليفةُ أيها الثقلان. فأُعجبوا بمفتتح شعره، فقالوا: تمر في المصراع الثاني، فقال: فكأنني أفطرت في رمضان. فاستضحكوا منه". الزمخشري، أبو القاسم محمود بن عمر: ربيع الأبرار ونصوص الأخبار، تحقيق عبد الأمير مهنا (بيروت: مؤسسة الأعلمي، ط 1، 1412/ 1992)، ج 5، ص 220. وقد جاءت في البيت حكاياتٌ أخرى، ونسب لمعينين منهم المؤمِّل بن أُمَيِّل بن أُسَيد المحاربي، وهو شاعر من أهل الكوفة، أدرك العصر الأموي، واشتهر في العصر العباسي، وكان فيه من رجال الجيش. انقطع إلى المهدي قبل خلافته وبعدها.

ص: 1445

واستبطاء النصير، وتخيَّل المستنجِدَ هضيمَ الجانب، ذا جناح كسير، فاجتهد أن يُكثر من المعاني التي من شأنها إثارةُ حَمِيَّةِ المخاطَب واقتداره، وعلى هذا المنوال ينسج.

ومن صور صحة المعنى أن يكون مطابقًا للواقع، كما قال حسان:

وَإِنَّ أحْسَنَ بَيْتٍ أَنْتَ قَائِلُهُ

بَيْتٌ يُقَالُ إِذَا أَنْشَدْتَهُ: صَدَقَا (1)

لكن ذلك ليس بشرطٍ على الإطلاق، وخاصة في الشعر؛ فإن الشعرَ يُبْنَى على المغالطة والخيال. وهذا الشأن يختلف باختلاف الأغراض والمقامات، فلكل غرضٍ من أغراض الكلام ما يناسبه من صحة المعنى في بابه، وللنثر مناسباتٌ ليست للشعر وبالعكس. وسيأتي للمؤلف ذكرُ الخلاف في أن أحسن الشعر أصدقه، أو أكذبه، أو أصدقه.

ولما كان الخوصُ في صحة المعنى هنا وفيما يأتي متوقِّفًا على معرفة المرادِ من المعنى، وجبَ أن نُبيِّن ما هو المعنى؟ وما هي أقسامُه عند أئمة البلاغة؟ وهو المبحثُ الذي وعدنا به عند شرح قول المرزوقي:"ومن البلغاء من قصد فيما جاش به خاطرُه. . ." إلخ (2).

- 5 -

• قال: "وجزالة اللفظ واستقامته": (3) كثر في كلام أئمة النقد وصناعة الإنشاء والشعر ذكرُ وصف الجزالة في محاسن الألفاظ، وقد عدّها المؤلف في محاسن المعاني أيضًا إذ قال (4): "فطلبوا المعاني المعجبة من خواصِّ أماكنها، وانتزعوها جزلةً

(1) وهذا ثاني بيتين من بحر البسيط قالهما حسان فيما ينبغي أن يكون أشعرُ بيت، والأول قوله:

وَإِنَّمَا الشِّعْرُ لُبُّ المَرْءِ يَعْرِضُهُ

عَلَى المَجَالِسِ إِنْ كَيْسًا وَإِنْ حُمُقَا

ديوان حسان بن ثابت، ص 174.

(2)

وقد أنجز المصنف ما وعد به بداية من قوله: "وقد كنا وعدناك أيها الناظرُ".

(3)

نشرة هارون، ج 1، ص 9.

(4)

صفحة 86 عن النشرة. - المصنف.

ص: 1446

عذبة" (1). ولم أر منهم مَنْ أفصح عن مقوِّمات هذا الوصف وشرائط حصولها (2)، وأنا أبذل مبلغَ جهد الفكر في الكشف عن مَفَاد هذا الوصف، وأُقدِّم ما هو منه وصفٌ للفظ، ثم أُتْبِعه بما هو منه وصفٌ للمعنى على سبيل الاستطراد، وإكمالًا للفائدة.

فأما "الجزالةُ" فهي وصفٌ للفظ مأخوذٌ من صفات الناس، إذِ الجزالة في الإنسان هي جودةُ رأيه، وكمالُ عقله، فبها يكون الإنسانُ كاملَ الإنسانية. وهي في اللفظ، عرّفها ابن مكرم في لسان العرب فقال:"الكلام الجزل: القوي الشديد، واللفظ الجزل خلافُ الركيك". (3)

وظاهرٌ أن مرجِعَ هذا إلى معنى اللفظ المركَّب أو المفرَد، لا إلى مبناه وصورته، فليست الجزالةُ تنافرَ الحروفِ، ولا تنافرَ الكلمات، ولا غرابة الكلمة. فلْنَتطَلَّبْ حقيقةَ الجزالة عند أئمة النقد، ونتقصَّها من آثار كلماتهم، ونتعرَّفْها من تعَرُّفِ ضدِّها الذي يقابلونها به. فابنُ رشيق في العمدة ذكر الجزالةَ وعطفها على الفخامةِ عطفًا يَظهر منه أنه أراد به التفسير، قال: " [ثم للناس فيما بعد آراء ومذاهب: منهم مَنْ يؤثر اللفظَ على المعنى، فيجعله غايتَه ووكده، وهم فرق: ] قوم يذهبون إلى فخامة الكلام وجزالته على مذهب العرب من غير تصنع، كقول بشار:

إذا ما غَضِبْنَا غضبةً مضريَّةً

هَتَكْنَا حِجَابَ الشَّمْسِ أَوْ مَطَرَتْ دَمَا" (4)

(1) نشرة هارون، ج 1، ص 7.

(2)

وقد خص المصنف موضوع الجزالة ببحث خاص، فراجعه فيما سبق من محتويات هذا القسم من الكتاب.

(3)

ساق المصنف كلام ابن منظور بشيء من التصرف، ونورده بتمام لفظه حرصًا على تبين سياقه، قال:"وفي حديث موعظة النساء: قالت امرأة منهن جزلة، أي تامة الخلق. قال [أي أحمد بن يحيى ثعلب]: ويجوز أن تكون ذات كلام جزل، أي قوي شديد. واللفظ الجزل: خلاف الركيك". لسان العرب، ج 11، ص 109.

(4)

القيرواني: العمدة، ج 1، ص 132. وفي الديوان:"تُمْطِر" بدل "قطرت". ديوان بشار بن برد، ج 2/ 4 (الملحقات)، ص 184.

ص: 1447

وقال: "وشبَّه قومٌ أبا نواس بالنابغة لِمَا اجتمع له من الجزالة مع الرشاقة". (1) ووصف عبد القاهر الجزالة فقال: "وفي عداد ما هو شِبْهُهُما من البراعة البراعة والجزالة وأشباه ذلك مما ينبئ عن شرف النظم"(2)، وقال عند ذكر النظم:"لأنك تقتفي في نظمها (أي الكلِمِ) آثار المعاني وترتُّبَها على حسب ترتُّبِ المعاني في النفس". (3) وذكر ابنُ شرف القيرواني في "رسالة الانتقاد"(4) الجزالة فقال عند ذكر لبيد: " [وأما الشيخ أبو عقيل] فشعرُه ينطق بلسان الجزالة عن جَنان الأصالة، فلا تسمع إلا كلامًا فصيحًا، ومعنى مبينًا صريحًا"(5). وقال في ابن هانئ الأندلسي: الأندلسي: "إلا أنه إذا ظهرت معانيه في جزالة مبانيه رمى عن منجنيق، يؤثِّر في النيق"(6)، فجعل الجزالة وصفًا للمباني، أي الألفاظ. وقال ابنُ الأثير في "المثل السائر" في المقالة الأولى في الصناعة اللفظية: "قد جاءت لفظةٌ واحدة في آية من القرآن وبيت من الشعر، فجاءت في القرآن جزلة متينة وفي الشعر ركيكة ضعيفة، فأثر التركيب في هذين الوصفين الضدين. أما الآية فهي قوله تعالى:{إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} [الأحزاب: 53]، وأما بيت الشعر فهي قول أبي الطيب المتنبي:

(1) المرجع نفسه، ص 138.

(2)

صفحة 46 من كتاب دلائل الإعجاز، طبع مطبعة المنار. - المصنف. نشرة شاكر، ص 59.

(3)

ص 39 من الكتاب المذكور. - المصنف. نشرة شاكر، ص 49. وقال أيضًا:"بان بذلك أن الأمر على ما قلناه، من أن اللفظَ تبعٌ للمعنى في النظم، وأن الكلِمَ تترتب في النطق بسبب ترتب معانيها في النفس". ص 55 - 56.

(4)

القيرواني، أبو عبد الله محمد ابن شرف:"رسائل الانتقاد"، تحقيق حسن حسني عبد الوهاب، ضمن مجموعة رسائل البلغاء، نشر محمد كرد علي (مصر: دار الكتب العربية الكبرى [مصطفى البابي الحلبي وأخويه]، 1331/ 1913)، ص 244.

(5)

المصدر نفسه.

(6)

المرجع نفسه، ص 251.

ص: 1448

تَلَذُّ المُرُوءَةُ وَهْيَ تُؤْذِي .... وَمَنْ يَعْشَقْ يَلَذُّ لَهُ الغَرَامُ" (1)

وقال أبو البقاء الكفوي في كلياته: "الجزالةُ إذا أُطلقت على اللفظ يُراد بها نقيضُ الرقة، [وإذا أُطلقت على غيره يرادُ بها نقيضُ القلة] ". (2)

وقلت: قد رأيتُهم يقابلون الجزالةَ مرةً بالرقة، ومرةً بالركاكة، ومرةً بالضعف، ومرةً بالكراهة، فتحصَّل لنا من معنى الجزالة أنها كونُ الألفاظ التي يأتي بها البليغُ - الكاتب أو الشاعر - ألفاظًا مُتعارَفةً في استعمال الأدباء والبلغاء، سالمةً من ضعف المعنى، ومن أثر ضعف التفكير، ومن التكلف، ومما هو مستكرَهٌ في السمع عند النطق بالكلمة أو بالكلام. فهذه الجزالة صفة مدح. وقد مثّلوا للركاكة بقول بعضهم:

يَا عُتْبُ سَيِّدَتِي أَمَا لَكِ دِينُ

حَتَّى مَتَى قَلْبِي لَدَيْكِ رَهِينُ

فَأَنَا الصَّبُورُ لِكُلِّ مَا حَمَّلْتِنِي

وَأَنَا الشَّقِيُّ البَائِسُ المِسْكِين (3)

(1) ابن الأثير: المثل السائر، ج 1، ص 152.

(2)

الكفوي: الكليات، ص 353.

(3)

هذا الشعر منسوبٌ إلى أبي العتاهية، قال الأصفهاني: "حدثني عمي، قال: حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات، قال: حدثني الزبير بن بكار قال: حدثني ثابت بن الزبير بن حبيب، قال: حدثني ابن أخت أبي خالد الحربي، قال: قال لي الرشيد: احبْس أبا العتاهية وضيِّقْ عليه حتى يقولَ الشعر الرقيق في الغزل، كما كان يقول. فحبسته في بيت خمسة أشبار في مثلها، فصاح: الموت أخرجونِي، فأنا أقول كل ما شئتم، فقلت: قل، فقال: حتى أتنفس، فأخرجته وأعطيته دواةً وقرطاسًا، فقال أبياته التي أولها:

مَنْ لِعَبْدٍ أَذَلَّهُ مَوْلَاهُ

مَا لَهُ شَافِعٌ إِلَيْهِ سِوَاهُ

يَشْتَكِي مَا بِهِ إِلَيْه وَيَخْشَاهُ

وَيَرْجُوهُ مِثْلَ مَا يَخْشَاهُ

قال فدفعتها إلى مسرور الخادم فأوصلها، وتقدم الرشيد إلى إبراهيم الموصلي فغنى فيها وأمر بإحضار أبي العتاهية فأحضر. فلما أُحضر، قال له أنشدني قولك:

يَا عُتْبَ سَيِّدَتِي أَمَا لَكِ دِينُ

حَتَّى مَتَى قَلْبِي لَدَيْكِ رَهِينُ =

ص: 1449

وفيه ركاكةٌ من جهات منها: كونُ المعنى أجوفَ دائرًا بين جميع العامة، وكون جل الألفاظ مرذولًا، وذكر البائس والمسكين بعد الشقي وفي الشقي ما يغني عنهما.

ومن الركاكة قولُ الخوارزمي يخاطب بديع الزمان الهمذاني:

وَإِذا قَرَضْتُ الشِّعْرَ فِي مَيْدَانِهِ

لَا شَكَّ أَنَّكَ يَا أُخَيَّ تَشَقَّقُ (1)

فقوله "في ميدانه" لا موقعَ له، وقوله "يا أخي" لا مقامَ له؛ لأن الكلام في مقام مناظرة ومشادة.

وإذا قابلوا الجزالة بالرقة، فإنما يريدون بها نَسْجَ الكلام على منوال القدماء في الشدة والقوة، كقول أشجع:

وَعَلَى عَدُوِّكَ يَا بْنَ عَمِّ مُحَمَّدٍ

رَصَدَانِ: ضَوْءُ الشَّمْسِ وَالإِظْلَامُ

فَإِذَا تَنَبَّهَ رُعْتَهُ وَإِذَا غَفَا

سَلَّتْ عَلَيْهِ سُيُوفَكَ الأَحْلَامُ (2)

ويريدون بالرقة نسجَه على منوال المحدثين في اللين والظرف، وأظهر مثال جمع هذين الوصفين قولُ جميل:

أَلَا أَيُّهَا النُّوَّامُ وَيْحَكُمْ هُبُّوا

أُسَائِلُكُمْ هَلْ يَقْتُلُ الرَّجُلَ الحُبُّ

= وَأَنَا الذَّلُولُ لِكُلِّ مَا حَمَّلْتِنِي

وَأَنَا الشَّقِيُّ البَائِسُ المِسْكِينُ

وَأَنَا الغَدَاةَ لِكُلِّ بَاكٍ مُسْعِدٌ

وَلِكُلِّ صَبٍّ صَاحِبٌ وَخَدِينُ

لَا بَأْسَ إِنَّ لِذَاكَ عِنْدِي رَاحَةً

للصَّبِّ أَنْ يَلْقَى الحَزِينَ حَزِينُ

يَا عُتْبَ أَيْنَ أَفِرُّ مِنْكِ أَمِيرَتِي

وَعَلَيَّ حِصْنٌ مِنْ هَوَاكِ حَصِينُ".

الأصفهاني: كتاب الأغاني، ج 4، ص 64 - 65 (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج 2/ 4، ص 50.

(1)

مناظرته مع بديع الزمان المثبتة في رسائل البديع، طبع الجوائب بالآستانة. - المصنف. سبق توثيقه.

(2)

ابن المعتز: طبقات الشعراء، تحقيق عبد الستار أحمد فراج (القاهرة: دار المعارف بمصر، 1357/ 1956)، ص 251 - 252؛ العقد الفريد، ج 1، ص 37 (وفيهما "الصبح" عوض "الشمس").

ص: 1450

قال بعض أئمة الأدب: "هذا البيت أولُه أعرابِيٌّ في شملته، وآخره مخنَّثٌ من مخنَّثي العقيق يتفكك". (1) إلا ترى أن قوله "ويحكم" من كلمات التعجب وهي جزلة؟ فلو قال: أفديكم، لاعتاض عن الجزالة بالرقة.

وقد تُقال "الجزالة" في هذا الإطلاق على الكلام الذي يصدر في أغراضٍ تناسبها الشدة، كالرثاء والحماسة. وتقال "الرقةُ" على كلام في أغراضٍ يناسبها اللينُ واللطافة، كالنسيب والزهريات والملح. والجزالةُ في هذا كله من صفاتِ الألفاظ باعتبار المعاني، ويظهر تصرفُ البليغ في صناعتها بالخصوص في صوغه المعاني التي يصوغها في نفسه: من مجاز، واستعارة، وتمثيل، وكناية، وأنواع البديع. وأما المعاني الوضعيَّة فتأتي بطبْعِ سياق الكلام، وتأتي الألفاظُ تبعًا للمعاني.

وأما "استقامة اللفظ" فهي وصفٌ نسبِيٌّ يعرض للفظ في حين انتظامه في الكلام؛ فإن للألفاظ معانِيَ موضوعةً لها، ومعان كثر استعمالُها فيها، وَلَها معانٍ يستعملها المتكلمُ فيها على وجه المجاز، أو الاستعارة، أو الكناية، أو نحو ذلك. فاستقامةُ اللفظ هي وفاؤه بالمراد الذي استعمله فيه البليغ، دون خطأ ولا تقصير ولا غموض. فمن الاستقامة السلامةُ من التعقيد المعنوي، أو السلامة من الخطإ في استعمال اللفظ إما لقصور في معرفة اللغة وإما لغفلةٍ، كاستعمال اللفظ الدال على الأعم في حين إرادة الأخص. وفي بعض هذا المقصد أُلِّفت الكتبُ المنبهة على أخطاء الخاصة، مثل "درة الغواص" للحريري، ومثل مباحث من كتاب "أدب الكتَّاب" لابن قتيبة. وقد أشار المؤلف إلى هذا بقوله الآتي:"وعيار اللفظ الطبع والرواية والاستعمال"، وقوله:"وهذا في مفرداته وجملته مراعى". (2)

(1) سبق توثيق هذه الحكاية. المرزباني: الموشح، ص 234 - 235.

(2)

نشرة هارون، ج 1، ص 9.

ص: 1451

"والإصابة في الوصف"(1)، المراد بالوصف معناه المصدري وهو التصوير والإيضاح، قال تعالى:{وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ} [النحل: 62]. وليس المراد ما يرادف الصفةَ من نحو النعت والحال؛ لأن ذلك أخصُّ من المقصود هنا. فإصابةُ الوصف هي أن يصوِّرَ المتكلمُ ما أراد التعبيرَ عنه من المعنى تصويرًا مطابقًا لما عليه الشيءُ الموصوف في الخارج والواقع، من غير انعكاس ولا انتقاض. وضدُّ إصابةِ الوصف الخطأُ فيه كلًّا وهو الغلط، أو بعضًا وهو العيب، أي عيب النقص في التوصيف. والشاعر أكثر تعرضًا لهذا من الكاتب؛ لأن الشاعر يَكثر منه تخيلُ المعاني من غير مشاهدة، فربما أخطأ في تخيله أشياءَ لم يعتد الإحاطةَ بصفاتها، أو خفيَ عنه بعضُ ما يدق من مشاهدته إياها. وقد عُدَّ بشار بن برد من أعجوبات الشعراء؛ إذ كان مع عماه لا يكاد يُخطِئُ في الأوصاف الدقيقة، وحسبك بيته المشهور:

كَأَنَّ مُثَارَ النَّقْعِ فَوْقَ رُؤُوسِنَا

وَأَسْيَافِنَا لَيْلٌ تَهَاوَى كَوَاكِبُهْ (2)

(1) المصدر نفسه.

(2)

ديوان بشار برد، ج 1/ 1، ص 335. وفيه "رؤوسهم" عوض "رؤوسنا". قال المصنف (وهو محقق الديوان):"وكتب في الديوان: فوق رؤوسهم، ورواية الأغاني وأكثر كتب العربية: رؤوسنا. والرواية التي في الديوان أرشق؛ لأن النقع وإن كان فوق رؤوس الفريقين، إلا أن الشاعر أراد أن يتوصل بجعل النقع فوق رؤوس الأعداء إلى إفادة أن سيوف جيش قومه كانت واقعةً على رؤوس الأعداء مع ذلك النقع؛ لأن أسيافنا معه أو معطوف عليه، ولو قال: فوق رؤوسنا لما كان لذكر الرؤوس خصوصية، إذ يكفيه أن يقول: فوقنا. وهذا البيت هو الذي أكسب بشارًا شهرة في النبوغ في الشعر، وذلك أنه جمع فيه تشبيهَ مركب بمركب، فجمع تشبيهين في تشبيه". (الحاشية 2 نفس الصفحة). وقال في مقدمته لديوان بشار: "ومع أن بشارًا كان أعمى، فإنه لم يكن يأتي في شعره بما يُناسب العمى، فإذا قرأتَ شعره لم تشعر بأنه أعمى، وذلك من فرط دقة علمه ووصفه للأشياء، إلا قوله:

فَأَتَيْتُهُنَّ مَعَ الجَرْيِ يَقُودُنِي

طَرِبًا وَيَا لَكَ قَائِدًا وَمَقُودَا"

وعلق على هذا البيت بقوله: "وقد أفصح بشار عن عماه في قوله: يقودني، وهذا من أصدق شعره". ديوان بشار بن برد، ج 1/ 1، ص 19؛ ج 1/ 2، ص 231 (الحاشية 2).

ص: 1452

"ومن اجتماع هذه الأسباب الثلاثة كثرت سوائرُ الأمثال وشواردُ الأبيات"(1)، أي أن ما استوفي من النثر والشعر هذه الأسبابَ الثلاثة، فيه توجد الأمثالُ السائرة والأبيات الشاردة، فكثرت في المآثر الأدبية في الجاهليين والمولدين. فالأمثالُ موجودةٌ في الشعر بأن يكون المصراعُ أو جزءٌ منه سارَ مثلًا، كقول أبي أخزم الطائي:"شِنْشِنَةٌ أَعْرِفُهَا مِنْ أَخْزَمِ"(2) قبله:

إنَّ بَنِيَّ زَمَّلُونِي بِالدَّمِ

مَنْ يَلْقَ أَبْطَالَ الرّجَالِ يُكْلَمِ (3)

(1) نشرة هارون، ج 1، ص 9.

(2)

قال ابن الأثير تعليقًا على هذا المثل: "الشِّنْشِنة: السجية والطبيعة. وقيل القطعة المضغة من اللحم. وهو مثل. وأولُ مَنْ قاله أبو أخزم الطائي، وذلك: أنّ أخزم كان عاقًّا لأبيه، فمات وترك بنين عقوا جدهم وضربوه وأدموه، فقال:

إنَّ بَنِيَّ زَمَّلُونِي بِالدَّمِ

شِنْشِنَةٌ أَعْرِفُهَا مِنْ أَخْزَمِ

ويروى نشنشة، بتقديم النون". النهاية ج 2، ص 451.

(3)

"عن الأصمعي قال: كان عقيل بن عَلَّفة المري رجلًا غيورًا فخورًا، وكان يصهر إليه خلفاء بني أمية. فخطب إليه عبد الملك بن مروان ابنته لبعض ولده، فقال: جنبني هُجناء ولدك. وكان إذا خرج يمتار خرج بابنته الجرباء معه، فخرج مرّة فنزلوا دَيْرًا من أدْيرة الشام يقال له دَير سعد، فلما ارتحلوا قال عقيل:

قَضَتْ وَطَرًا مِنْ دَيْرِ سَعْد وَطَالمَا

عَلَا عُرُضٌ نَاطَحْنَهُ بالجَمَاجمِ

ثم قال لابنه: أجزْ يا عملس. فقال:

فَأَصبحْنَ بالمَوْمَاة يَحْملْنَ فتيةً

نَشَاوَى منَ الإدلاج ميلَ العمائمِ

ثم قال لابنته: يا جرباءُ أجيزي، فقالت:

كَأَنَّ الكَرَى أَسْقَاهُمُ صَرْخَديةً

عُقَارًا تَمَشَّى فِي المَطَا والقَوَائمِ

فقال لها: وما يُدريكِ أنتِ ما نعتُ الخمر؟ ثم سل السيف ونهض إليها، فاستغاثت بأخيها عملس، فانتزعه بسهم فأصاب فخذه، فبرك. ومضَوْا وتركوه، حتى إذا بلغوا أدنَى المياه قالوا لهم [أي للأعراب أصحاب الماء]: إنا أسقطنا جَزُورًا فأدركوه وخذوا معكم الماء، ففعلوا إذا عقيلٌ بارك وهو يقول:

إنَّ بَنِيَّ زَمَّلُونِي بِالدَّمِ

مَنْ يَلْقَ أَبْطَالَ الرّجَالِ يُكْلَمِ =

ص: 1453

وقول بشر بن أبي خازم: "أحقُّ الخيل بالركض المعارُ" من أبيات انظرها في "مجمع الأمثال" في باب الحاء (1). وأما ما كان بيتًا كاملًا يتمثل به الأدباء، فذلك لا يسمى مثلًا، وإنما يسمى تمثّلا.

والأمثال في النثر كثيرةٌ أيضًا في كلام البلغاء، وأهمها أمثال القرآن، نحو قوله [تعالى]:{وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)} [فاطر: 14](2). ومن الأمثال ما لم يقع في أثناء كلام، ولكنَّ أصحابها من البلغاء نطقوا بها منفردة، وهي معظم أمثال العرب التي جمعها الميداني في كتابه "مجمع الأمثال"، ومن قبله الزمخشري في كتابه "مستقصى الأمثال"(3).

ومعنى "السائرة" الفاشية بين أهل اللسان، فشبَّه الفشوَّ بالتنقل في أمكنة كثيرة بجامع تكرر عروضها للأسماع، كتكرر عروض الشخص في أماكن كثيرة وهو السير. وفي الكشاف: "ولم يضربوا مثلًا، ولا رأوه أهلًا للتسيير، ولا جديرًا

= ومَنْ يَكُنْ درءٌ به يُقوم

شِنْشِنَةٌ أَعْرِفُهَا مِنْ أَخْزَمِ

الشنشنة: الطبيعة وأخزم: فحل كريم، وهذا مثل للعرب". ابن عبد ربه: العقد الفريد، ج 5، ص 105 - 106؛ وكذلك ج 2، ص 64 - 65 (مع اختلاف يسير).

(1)

وهي قوله:

كَأَنَّ حَفِيفَ مَنْخِرِهِ إِذَا مَا

كَتَمْنَ الرَّبْوَ كِيَرٌ مُسْتَعَارُ

وَجَدْنَا فِي كِتَابِ بَنِي تَمِيمٍ

أَحَقُّ الخَيْلِ بِالرَّكْضِ المُعَارُ

الميداني: مجمع الأمثال، ج 1، ص 203. والشاعر هو بشر بن أبي خازم بن عمرو بن عوف بن حميري بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار، شاعر جاهلي قديم، شهد حرب أسد وطيء. توفي حوالي سنة 32 قبل الهجرة.

(2)

قال المصنف عند تفسير هذه الآية: "والخطاب في قوله: ينبئك، لكل مَنْ يصح منه سماعُ هذا الكلام؛ لأن الجملة (يعني جزء الآية المذكور في المتن) أُرسِلتْ مُرْسَلَ الأمثال". تفسير التحرير والتنوير، ج 11/ 22، ص 284.

(3)

صدر هذا الكتاب عن دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد بالهند في جزئين سنة 1381/ 1962 تحت عنوان "المستقصى في أمثال العرب". وتقديم المصنف للزمخشري (المتوفى سنة 538 هـ) على الميداني (المتوفى سنة 518 هـ) فيه إشكال، إلا أن يكون الزمخشري ألف كتابه قبل الميداني، وهذا يعوزه التحقيق التاريخي.

ص: 1454

بالتداول والقبول، إلا قولًا فيه غرابةٌ من بعض الوجوه، ومن ثم حُوفظ عليه، وحُميَ من التغيير". (1) وأراد بـ "الغرابة" أنه قولٌ زائدٌ على المعتاد، لخصائص فيه: من من دقيق المعاني، وخفة اللفظ، مع وفرة المعنى.

وأما "شوارد الأبيات" فهي الأبياتُ البالغة مبلغًا من صحة المعنى وجزالة اللفظ وإصابة المعنى المفاد منها. وأطلق المؤلف عليها وصفَ الشوارد لعزة هذا النوع، فشبَّهه بالوحش الشَّارد في حال كونه مطلوبًا مرغوبًا فيه لقانصه، وعسير الوقوع في يده. فتلك العزة مع شدة الرغبة هي وجه الشبه، فاستعار لها الشرود تمثيلًا للحالة. وإنما جعل المؤلفُ قوامَ سوائر الأمثال وشوارد الأبيات هو اجتماع هذه الأسباب الثلاثة دون سبب مقاربة التشبيه ومناسبة الاستعارة؛ لأن كثيرًا من الأمثال والأبيات خلوٌ من التشبيه والاستعارة كمثل:"لأمر ما جدع قصير أنفه"(2)، وبيت امرئ القيس:"قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ" البيت (3).

وقوله "سوائر وشوارد" جمع سائر وشارد؛ لأن المثل والبيت مذكران، فجمعه على وزن فواعل: إما على تأويل المثل والبيت بمعنى الكلمة، وإما على وجه الشذوذ كما قالوا فوارس وعواذل.

"والمقاربة في التشبيه"(4)، عطف على قوله و"الإصابة في الوصف". "المقاربة""المقاربة" القرب الشديد؛ لأن صيغة المفاعلة فيه للمبالغة، إذ ليس المراد قرب كلٍّ

(1) جاء ذلك أثناء تفسير قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)} [البقرة: 17]. الزمخشري: الكشاف، ج 1، ص 79.

(2)

قالته الزبَّاء ملكة الجزيرة، وفي ذلك قصة طويلة بشأن قتلها جذيمةَ بن مالك بن نصر الأبرش ملك شاطئ الفرات. انظر: الميداني: مجمع الأمثال، ج 1، ص 233 - 237.

(3)

وهو صدر البيت الأول من معلقته، وعجزه:"بِسَقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ وَحَوْمَلِ". ديوان أمرئ القيس، ص 8.

(4)

نشرة هارون، ج 1، ص 9.

ص: 1455

من طرفَيْ التشبيه من الآخر في الوصف؛ فإن التشبيه إلحاقُ ناقص بكامل في وصف، وأما ما يُسمَّى بالتشابه (1) كالذي في قول الصابي (2):

تَشَابهَ دَمْعِي - إِذْ جَرَى - وَمُدَامَتِي

فَمِن مِثْلِ مَا فِي الكَأْسِ عَيْنِي تَسْكُبُ (3)

فذلك غلوٌّ في التشبيه، يقرب من التشبيه المقلوب (4)، كما في قول محمد بن وهيب:

(1) التشابه - كما قرر حقيقته السكاكي - هو تساوي الطرفين: "المشبَّه والمشبه به في جهة التشبيه"، بحيث يكون "كلٌّ واحد من الطرفين مشبَّهًا ومشبَّهًا به"، فإذا جاء التشبيه على هذه الحال من الوقوع "في باب التشابه، صح فيه العكس". مفتاح العلوم، ص 454.

(2)

هو أبو إسحاق إبراهيم بن هلال بن زَهْرُون الصابي، ولد في بغداد سنة 313/ 925 لأسرة اشتهرت بالطب والأدب، وتوارثته، وعُرف عنها قربها من الحكام وصانعي القرار، فجده إبراهيم بن زهرون كان طبيبًا مشهورًا، مات سنة 309/ 921، وكان أبوه أبو الحسن هلال بن إبراهيم بن زهرون وعمه ثابت بن إبراهيم بن زهرون طبيبين مشهورين أيضًا. ولم يقتصر هذا الاشتهار والنبوغ في الطب على أسرة أبي إسحاق من ناحية آبائه، بل إن خاله أيضًا، ثابت بن قرة، كان طبيبًا ذائع الصيت. نشأ أبو إسحاق في بغداد على دين الصابئة الحرانيين، ونبغ في البلاغة وصناعة الكتابة. وكان يحفظ القرآن ويصرف آياته في رسائله، وقد كانت بينه وبين الصاحب بن عباد والشريف الرضي مودة قوية ومراسلات كثيرة، وله شعر لطيف. أورد الثعالبي جملة من شعره ورسائله. توفي أبو إسحاق الصابي سنة 384/ 994، ودفن ببغداد.

(3)

البيت لأبي إسحاق الصابي من بحر الطويل، وقد جاء بعده قولُه:

فَوَالله مَا أَدْرِي أَبِالخَمْرِ أَسْبَلَتْ

جُفُونِيَ أَمْ مِنْ عَبْرَتِي كُنْتُ أَشْرَبُ

النيسابوري: يتيمة الدهر، ج 2، ص 303؛ الخطيب القزويني: الإيضاح في علوم البلاغة، ص 185.

(4)

التشبيه المقلوب هو أن يُجعلَ المشبَّهُ مشبَّهًا، والمشبَّهُ مشبَّهًا به، ويُسمَّى كذلك المنعكس، وغلبة الفرع على الأصول. وقد جعله علماء البلاغة أحد ضربي التشبيه من حيث صورته وتأليفه، فعدوه قسيمًا للتشبيه المطرد، وخصه عبد القاهر ببحث طويل شرحًا وتمثيلًا، وبين الجائز منه والممتنع، والفرق بينه وبين العكس في التمثيل. انظر: الجرجاني: كتاب أسرار البلاغة، ص 204 - 237. وانظر كذلك: العلوي اليمني: كتاب الطراز، ص 148 - 149.

ص: 1456

وَبَدا الصَّبَاحُ كَأَنَّ غُرَّتَهُ

وَجْهُ الخَلِيفَةِ حِينَ يُمْتَدَحُ (1)

قال قدامة في نقد الشعر: "فأحسن التشبيه هو ما أوقع بين الشيئين اشتراكَهما في الصفات أكثر من انفرادهما فيها، حتى يدني بهما إلى حال الاتحاد". (2)

وشدة القرب هي قوةُ وجه الشبه في المشبَّه، بحيث يستغني المشبِّه عن ذكر وجه الشبه. وليس المراد بالمقاربة تمامَ المماثلة بين المشبَّه والمشبَّه به في جميع الصفات، بل قوةُ المشابهة في وجه الشبه. ولذلك كان من محاسن التشبيه الاستدراكُ فيه باستثناء ما لا مشابهةَ فيه من صفات المشبَّه به، لكون المشبَّهِ أعلى من ذلك، كما قال المعري:

تَنَازَعَ فِيكَ الشِّبْهَ بَحْرٌ وَدِيمَةٌ

وَلَسْتُ إِلَى مَا يَزْعُمَانِ بِمَائِلِ

إِذَا قِيلَ بَحْرٌ، فَهْوَ مِلْحٌ مُكَدَّرٌ

وَأَنْتَ نَمِيرُ الجُودِ عَذْبُ الشَّمَائِلِ

وَلَسْتَ بِغَيْثٍ، فُوكَ لِلدُّرِّ مَعْدِنٌ

وَلَمْ نُلْفِ دُرًّا فِي الغُيُوثِ الهَوَاطِل (3)

والمراد بالتشبيه في كلام المؤلف ما كان بأداة شبه؛ أو كان تشبيهًا بليغًا؛ لأنه عند المحققين من نوع التشبيه لا من الاستعارة، وأما الاستعارة فسيخصها بالذكر.

"والتحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن"(4)،

قال الجاحظ: "وأجود الشعر ما رأيتَه متلائمَ الأجزاء، سهلَ المخارج، فتعلمُ بذلك أنه قد أفُرِغ إفراغًا واحدا". (5) والالتحام مطاوع لَحَم الثوب يلحمه، إذا نسج لحمته بضم (اللام وبفتحه)، وهي ما يثني به الحائكُ نسجَ الثوب فيجعله أعلى فوق

(1) محمد بن وهيب الحِمْيَرِي شاعر من أهل بغداد من شعراء الدولة العباسية، وأصله من البصرة التي نشأ بها نشأته الأولى. توفي حوالي سنة 225 هـ. والبيت من قصيدة قالها في مدح الخليفة العباسي المأمون. الأصفهاني: الأغاني، ج 7/ 19، ص 63.

(2)

قدامة بن جعفر: نقد الشعر، ص 108.

(3)

المعري: سقط الزند، ص 219، والبيت في القصيدة التاسعة والأربعين من البحر الطويل.

(4)

نشرة هارون، ج 1، ص 9.

(5)

الجاحظ: البيان والتبيين، ج 1/ 1، ص 55.

ص: 1457

السَّدى الذي هو أسفل النسج. وفي الحديث: "الولاء لُحمة كلحمة الثوب"، كذا في رواية (1). فالالتحام أن تكون الكلمات بعد نظمها كالشيء الواحد. وأجزاء النظم كلماته.

و"الالتئام" مطاوع لأَمَه، إذا جعله متلائم الأجزاء - أي مناسبًا موافقًا - بأن تكون كلماتُ النظم متناسبة، بحيث لا يكون في النطق بها بعد اجتماعها ما يَثقلُ على اللسان. فإن الكلمة قد تكون في ذاتها غيرَ ثقيلة، فإذا ضُمَّت إلى غيرها لم تتلاءما،

(1) لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث، وإنما روايته المشهورة ما أخرجه الشافعي والحاكم والبيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما والطبراني عن عبد الله بن أبي أَوْفى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (واللفظ للشافعي):"الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يُباع ولا يُوهب". الشافعي، الإمام محمد بن إدريس: الأم، تحقيق رفعت فوزي عبد المطلب (المنصورة/ مصر: دار الوفاء، ط 1، 1422/ 2001)، الحديث 1805، ج 5، ص 268؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك على الصحيحين، "كتاب الفرائض"، الحديث 8071 والحديث 8072 (وفيه:"لحمة من النسب" عوض "لحمة كلحمة النسب")، ج 4، ص 490. قال الحاكم:"هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي: السنن الكبرى، تحقيق محمد عبد القادر عطا (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 3، 1424/ 2003)، "كتاب الفرائض"، الحديث 12381، ج 6، ص 394؛ "كتاب الولاء"، الأحاديث 21433 - 21437، ج 10، ص 494 (بلفظ:"لا يُباع ولا يوهب". قال البيهقي بعد أن ذكر الروايات المختلفة للحديث: "كذا رواه محمد بن الحسن الفقيه [أي الشيباني صاحب أبي حنيفة] عن يعقوب أبي يوسف القاضي عن عبد الله"، وقال:"هذا خطأ؛ لأن الثقات لم يرووه هكذا، وإنما رواه الحسن مرسلًا". ثم قال: "وقد رُوي من أوجه أُخر كلها ضعيفة"). أما الرواية التي ذكرها المصنف فقد أوردها ابن الأثير في النهاية بدون سند، حيث قال في باب مع الحاء:"وفيه: الولاء لُحمة كلحمة النسب، وفي رواية: كلُحمة الثوب". ثم قال: "قد اختُلف في ضم اللحمة وفتحها، فقيل: هي في النسب بالضم، وفي الثوب بالضم والفتح". ثم فسره بقوله: "ومعنى الحديث المخالطة في الولاء، وأنها تجري مجرى النسب في الميراث، كما تخالط اللُّحمةُ سدَى الثوب حتى يصيرا كالشيء الواحد؛ لا بينهما من المداخلة الشديدة". ابن الأثير الجزري، مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد: النهاية في غريب الحديث والأثر، نشرة بعناية أبي عبد الرحمن صلاح بن محمد بن عويضة (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 2، 1423/ 2002)، ج 4، ص 207.

ص: 1458

وثقلتا على اللسان ثِقلًا لا يتمكن اللسانُ من تخفيفه، ومثاله المشهور في بحث الفصاحة قولُ من لا يُعرف:"وَلَيْسَ قُرْبَ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُ"(1)، وقولُ أبي تمام:

كَرِيمٌ مَتَى أَمْدَحْهُ أَمْدَحْهُ وَالوَرَى

مَعِي وَمَتَى لمْتُهُ لمْتُهُ وَحْدِي (2)

وإنما قلت: فلا يتمكن من تخفيفه، احترازًا من نحو قول البحتري:"أَأَفَاقَ صَبٌّ مِنْ هَوًى فَأُفِيقَا"(3)، فإن اجتماع الهمزتين ثقيلٌ يمكن التخلصُ من ثقله بتسهيل إحدى الهمزتين (4).

(1) هذه عجز البيت وتمامه:

وَقَبْرُ حَرْبٍ بِمَكَانٍ قَفْرُ

وَلَيْسَ قُرْبَ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُ

والبيت لا يُنسب لأحد، وبسبب تنافر أجزائه وصعوبة نطقه نسبوه إلى الجن. قال الجاحظ:"ولما رأى من لا علم له أن أحدًا لا يستطيع أن يُنشد هذا البيت ثلاث مرات في نسق واحد فلا يتتعتع ولا يتلجلج، وقيل لهم إن ذلك إنما اعتراه إذ كان من أشعار الجن، صدقوا بذلك". البيان والتبيين، ج 1/ 1، ص 54؛ الرماني:"النكب في إعجاز القرآن"، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن للرماني والخطاب وعبد القاهر الجرجاني، تحقيق محمد أحمد خلف الله ومحمد زغلول سلام (القاهرة: دار المعارف بمصر، ط 3، 1976)، ص 95.

(2)

ديوان أبي تمام، ص 122. والبيت هو الثالث والثلاثون من قصيدة في ثمانية وثلاثين بيتًا يمدح فيها موسى بن إبراهيم الرافقي ويعتذر إليه.

(3)

هذا هو المصراع الأول من طالع قصيدة يمدح فيها الشاعر أبا سعيد الثَّغري ويذكر قتاله محمد بن عمرو الشاري، وتمامه:

أَأَفَاقَ صَبٌّ مِنْ هَوًى فَأُفِيقَا؟

أَمْ خَانَ عَهْدًا أَمْ أَطَاعَ شَفِيقَا؟

ديوان البحتري، تحقيق حسن كامل الصيرفي (القاهرة: دار المعارف، ط 3، بدون تاريخ [صدرت الطبعة الأولى عام 1963]، ج 3، ص 1449.

(4)

قال المطيري: "لكن جاء ذلك في القرآن، فقرأ عاصم وحمزة والكسائي - إذا حقق - وابن عامر بالهمزتين في مثل قوله تعالى: {أَأَنْذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6]، {أَأَتَّخِذُ} [يس: 23]، وكذا قرأوا أمثالها في جميع القرآن باستثناء حروف. أما المؤلف فيقرأ بقراءة ورش، وهو يخفف الهمزة الثانية في جميع القرآن، وهي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو والكسائي إذا خفف". شرح المقدمة الأدبية، ص 123 (الحاشية 4).

ص: 1459

وقوله: "على تخيُّرٍ من لذيذ الوزن"، "على" فيه بمعنى مع، وأراد بالوزن وزنَ الشعر، وهو ما يُسمَّى بالبحر في اصطلاح العروضيين، وما فيه من أعاريض وضروب. وقد بين المؤلف فيما يأتي من كلامه هذا القيدَ بقوله:"وإنما قلنا على تخيُّر من لذيذ الوزن؛ لأن لذيذَه يَطربُ الطبعُ لإيقاعه، ويمازجه بصفائه، كما يَطرب الفهمُ لصواب تركيبه واعتدال نظومه". (1)

وكأن المؤلف يشير إلى أمرين: أحدهما مزيَّة الشعر العربي باشتراط العرب الوزنَ فيه، بحيث لا يكون الكلامُ شعرًا ما لم يكن له وزنٌ خاص. وثانيهما الإشارةُ إلى تجنب الأعاريض والضروب الثقيلة، والزِّحاف والعلة الجائزين المؤثرين ثقلًا في انتساب الحركات والسواكن من الميزان، فيصير كالعِثار في السير، أو كالكلام المقطَّع نُتفًا غير متماثلة. وقد يحصل من تجمع الكثير من ذلك ما يوشك أن يُخرج الشعرَ من كونه شعرًا إلى كونه نثرًا، كما في أبيات من مُجمْهَرة عبيد بن الأبرص التي أولها:

عَيْنَاكَ دَمْعُهُمَا سَرُوبُ

كَأَنَّ شَأْنَيْهِمَا شَعِيبُ (2)

وقد قرن المؤلف تخيرَ لذيذ الوزن بالتحام الأجزاء والتئامها؛ لأنهما من واد واحد. على أن بعض العروض في بعض الموازين لا يخلو من ثقل، مثل الضرب الثاني المقطوع من بحر المنسرح (3). وبعضُها من بعض العروض يكون أشبه بالسجع

(1) نشرة هارون، ج 1، ص 10.

(2)

البيت هو السابع في قصيدة من أكثر قصائد ابن الأبرص شهرة، وقد عدها ابن قتيبة أجودَ شعره وإحدى المعلقات السبع. ديوان عبيد بن الأبرص، شرح أشرف أحمد عدرة (بيروت: دار الكتاب العربي، ط 1، 1414/ 1994)، ص 20؛ ابن قتيبة: الشعر والشعراء، ص 149. وسروب: من سرب الماء يسرب، أي انسكب وسال. والشأنان: عِرقان ينحدران من الرأس إلى الحاجبين ثم إلى العينين، ومنهما يخرج الدمع. والشَّعيب: الشق مسيل الماء.

(3)

هو: "مستفعلن مفعولات مستفعلن

مستفعلن مفعولات مفعولن". - المصنف.

ص: 1460

منه بالشعر، مثل عروض المجتث المكفوف (1). وأمثلةُ من استوفى هذا الشرطَ الذي ذكره المؤلف من الشعر كثيرة، وإن شئتَ فانظر شعرَ عمر بن أبي ربيعة كقوله:

أَمِنْ آلِ نُعْيمٍ أَنْتَ غَادٍ فَمُبْكِرُ

غَدَاةَ غَدٍ أَمْ رَائِحٌ فَمُهَجِّرُ (2)

"ومناسبة المستعار منه للمستعار له"(3)، "المناسبة" شدة الانتساب، وأرادَ بها قوةَ المشابهة. وقد خص المؤلف الاستعارةَ بهذا الشرط، ولم يدمجها في شرط مقاربة التشبيه، مع أن الاستعارة من قبيل التشبيه؛ لأن التشبيهَ إلحاقُ صاحبِ وصفٍ غير بيِّنٍ وصفُه بصاحب وصفٍ مشتهرٍ به، بواسطة حرفٍ يدل على ذلك ظاهر أو مقدَّر. وأما الاستعارة فهي ادعاءُ أن صاحبَ وصف من نوعٍ غير مشهورٍ به الوصفُ قد صار فردًا من نوعٍ مشهورٍ بذلك الوصف، بحيث استحق أن يُطلق عليه اسمُ ذلك النوع المشهور بالوصف. فالاستعارةُ مبنيَّةٌ على تناسي التشبيه، وعلى ادعاء أن المستعارَ له من جنس المستعار منه، فكانت لذلك جديرةً بتمام المشابهة والمناسبة بين المستعار له والمستعار منه. ولما كانت الاستعارة تتفرع إلى مصرحة ومكنية وتخييلية وتمثيلية، وكان منها أصليةٌ وتبعية، ومنها مرشَّحة ومجردة ومطلقة، كانت دقةُ التشبيه فيها أحقَّ وأولى من مطلق التشبيه، ليحسن وقعُ كلِّ قسمٍ من هؤلاء في موقعه.

(1) كقوله:

مَا كَانَ عَطَاؤُهُنَّ

إِلَّا عِدَةً ضِمَارَا

- المصنف. ووزنه:

"مفعوان فاعلاتن

مستفعلن فاعلاتن"

أما البيت فهو دون نسبة في: الزمخشري، جار الله: القسطاس في علم العروض، تحقيق فخر الدين قباوة (بيروت: مكتبة المعارف، ط 2، 1410/ 1989)، ص 122؛ السكاكي: مفتاح العلوم، ص 677 (نشرة هنداوي).

(2)

البيت هو طالع رائيته المشهورة. ديوان عمر بن أبي ربيعة، ص 91.

(3)

نشرة هارون، ج 1، ص 9.

ص: 1461

قال في دلائل الإعجاز: "وأما الاستعارة، فسببُ ما ترى لها من المزية أنك إذا قلت: رأيتُ أسدًا، كنتَ قد تلطَّفتْ لما أردت إثباتَه له من فرط الشجاعة، [حتى جعلتها كالشيء الذي يجب له الثبوتُ والحصول، وكالأمر الذي نُصِب له دليلٌ يقطع بوجوده]. وذلك أنه إذا كان أسدًا، فواجبٌ أن تكون له تلك الشجاعةُ العظيمة، [وكالمستحيل أو الممتنع أن يَعْرَى عنها]. وإذا صرَّحتَ بالتشبيه فقلتَ: رأيتُ رجلًا كالأسد، كنتَ قد أثبتها إثباتَ الشيء يتَرجَّحُ بين أن يكون وبين أن لا يكون". (1)

ومن مراعاة المناسبة بين المستعار له والمستعار منه كان حقًّا أن لا يغفل الشاعرُ عن استعارته فينقضها، كقول أبي تمام:

تَحَمَّلْتَ مَا لَوْ حُمِّلَ الدَّهْرُ شَطْرَهُ

لَفَكَّرَ دَهْرًا أَيُّ عِبْأيْهِ أَثْقَلُ (2)

فإنه لما جعل الدهرُ بمنزلة الإنسان المفكِّر، كان عليه أن لا ينقضَ ذلك بأن يجعل لتفكيره مدةً يسميها دهرًا، فتصير مدته هي عينه.

"ومشاكلة اللفظ للمعنى"(3): المشاكلة المماثلة، إذِ الشكلُ الشَّبَهُ والمِثْل. وأرادَ بالمعنى هنا الغرضَ المفاد بألفاظ التركيب لا المعنى الموضوع له اللفظ؛ لأن المعنى الموضوع له لَا يُتصور فيه اشتراطُ مشاكلة بينه وبين اللفظ الدال عليه. فالمراد أن الغرضَ الشريف تناسبُه الألفاظُ الموضوعة لمعان حميدة، وأن الغرضَ الخسيس تناسبه الألفاظُ الموضوعة للمعاني الخسيسة، سواء كانت المعاني حقيقيَّةً أم كانت مجازية ومستعارة.

فمقام المديح والرثاء - مثلًا - تناسبه المعاني الحميدة، ومقام الهجاء تناسبه المعاني الذميمة، كما في مقذِعات شعر بشار، بحيث لا يحسن أن يُستعمل اللفظُ

(1) صفحة 66. - المصنف. الجرجاني: كتاب دلائل الإعجاز، ص 72.

(2)

البيت هو العاشر قالها في مدح أبي المستهل محمد بن شقيق الطائي. ديوان أبي تمام، ص 231.

(3)

نشرة هارون، ج 1، ص 9.

ص: 1462

الذي يفيد معنًى حميدًا في غرض خسيس. وهذا ما اقتضاه قولُ المؤلِّف فيما يأتي في عبارة مشاكلة اللفظ للمعنى: "وكان اللفظ مقسومًا على رُتب المعاني: قد جُعل الأخصُّ للأخص، والأخس للأخس، فهو البريء من العيب". (1)

وقال الجاحظ في البيان: "جاء رجلٌ إلى محمد بن حرب الهلالي بقوم فقال: إن هؤلاء الفُسَّاق ما زالوا في مسيس هذه الفاجرة، فقال محمد بن حرب: ما ظننت أنه بلغ من حُرمة الفواجر ما ينبغي أن يُكَنَّى عن الفجور بهن"، يعني حيث كنى يلفظ المسيس (2). وقال ابن زيدون في رسالته إلى الوزير أبي عامر ابن عبدوس الطامع في في صحبة ولادة خليلة ابن زبدون:"الساقط سقوطَ الذباب على الشراب". (3) وفي ذلك قولُ المتوكل عمرَ بن الأفطس - صاحب بَطَلْيوس - يستدعي الوزيرَ أبا طالب ابن غانم أحد ندمائه ليحضر إلى الأنس في روض:

أَقْبِلْ أَبَا طَالِبٍ إِلَيْنَا

وَقَعْ وُقُوعَ النَّدَى عَلَيْنَا (4)

"وشدة اقتضائها للقافية حتى لا منافرةَ بينهما"(5): أي أن يكون غرضُ البيت وألفاظُه يستدعيان اللفظَ الذي يقع قافيةً له استدعاءً شديدًا، أي قويَّ المناسبة، حتى تجيء كلمةُ القافية كالموعود المنتظر، فلا تكون مغتصبةً متكلَّفةَ الوضع في مكانها. والقافية أراد بها هنا الكلمةَ الأخيرة من كل بيت، وهذا مأخوذٌ من كلام الأخفش (6).

(1) نشرة هارون، ج 1، ص 11.

(2)

الجاحظ: البيان والتبيين، ج 1/ 2، ص 169.

(3)

ابن زيدون: "الرسالة الهزلية" ضمن ديوان ابن زيدون ورسائله، ص 635.

(4)

أنشده في "قلائد العقيان" في ترجمة قائل البيت، وبَطَلْيوس من بلاد الأندلس. - المصنف. قلائد العقيان، ج 1، ص 144.

(5)

نشرة هارون، ج 1، ص 9.

(6)

قال الأخفش الأوسط في مقدمة كتاب "القوافي: "اعلم أن القافية آخر كلمة في البيت، وإنما قيل لها قافية لأنها تقفو الكلام. وفي قولهم قافية دليل على أنها ليست بالحرف؛ لأن القافية مؤنثة، =

ص: 1463

قال الصفدي في شرح لامية الطُّغرائي: "وزعم بعضُهم أن بعضَ الشعراء غير قوافي هذه القصيدة (1) من اللام إلى حرف العين، وهذا عندي يتعذر؛ لأن ألفاظ هذه القصيدة في غاية الفصاحة، وتراكيب كلماتها كلها منسجمة عذبة غير قلقة ولا نافرة، ومعانيها بليغة غير ركيكة، وقوافيها في غاية التمكن. . . والقافية المتمكنة هي التي يُبْنى البيت من أوله إلى آخره عليها، فإذا خُتم البيت بها، نزلت في مكانها ثابتة فيه، متمكنة في محلها، قد رسخت في قرارها، ودُفعت إلى مركزها، فهي لا تتزحزح ولا تتغير منه، بخلاف القافية القلقة التي اجتُلِبت وجيء بها لتمام الوزن وهي أجنبية عنه من تركيبه عارية من الالتحاف به والالتحاق بحسبه. ومتى غيرت القافية المتمكنة بغيرها، جاءت نافرةً عن الطباع. . ."(2)

وقد ذكر أبو العلاء في "رسالة الغفران" أن خلفًا الأحمر أُنْشِدَ بمجلسه قولُ النَّمْر بن تَوْلَب:

أَلَمَّ بِصُحْبَتِي وَهُمْ هُجُوعٌ

خَيَالٌ طَارِقٌ مِنْ أُمِّ حِصْنِ

لَهَا مَا تَشْتَهِي: عَسَلًا مُصَفَّى

إِذَا شَاءَتْ وَحُوَّارَى بِسَمْنِ (3)

= والحرف مذكر، وإن كانوا قد يؤنثّون المذكّر، ولكن هذا قد سمع من العرب. وليست تؤخذ الأسماء بالقياس. ألا ترى أنَّ رجلًا وحائطًا وأشباه ذلك لا تؤخذ بالقياس، وإنما ننظر ما سمّته العرب فنتّبعه". الأخفش، أبو الحسن سعيد بن مسعدة: كتاب القوافي، تحقيق أحمد راتب النفاخ (بيروت: دار الأمانة، ط 1، 1394/ 974)، ص 3.

(1)

يعني لامية الطغرائي.

(2)

الصفدي، صلاح الدين خليل بن أيبك: الغيث المسجم في شرح لامية العجم (مصر: المطبعة البهية الأزهرية، 1305 هـ)، ص 13. وقد أورد المصنف كلام الصفدي بتصرف مع تقديم وتأخير، وأثبتناه كما هو في الأصل.

(3)

ديوان النمر بن تولب العُكلي، تحقيق محمد نبيل طريفي (بيروت: دار صادر، ط 1، 2000)، ص 132. وفيه "هَجُود" عوض "هجوع" (وهي رواية المعري). وهجد القوم هجودًا، ناموا، والهاجد: النائم.

ص: 1464

فقال لهم خلف: لو قال النمرُ في موضع أمِّ حصن أمَّ حفص، ما كان يقول في البيت الثاني؟ فسكتوا، فقال خلف:"وحُوَّارَى بلمص"، يعني الفالوذج. ثم إن المعري أخذ يفرض أن تُغَيَّرَ قافيةُ البيتين على جميع حروف المعجم، على تقدير تغيير كنية "أم حصن" بحرف غير النون، فكانت القوافي متفاوتةً في اقتضاء البيت إياها (1).

وقوله: "حتى لا منافرةَ بينهما"، أي بين المعنى ولفظه وبين القافية، فجعل المؤلف اللفظَ والمعنى كشيءٍ واحد بالنسبة لشدة اقتضائهما للقافية، ولذلك قال:"بينهما"، ولم يقل:"بينها". وهذه المنافرة كقول أبي عدي القرشي في قصيدة دالية:

وَوُقِّيتَ الحُتُوفَ مِنْ وَارِثِ وَا

لٍ وَأَبْقَاكَ سَالِمًا رَبُّ هُودِ (2)

فليس لهود مناسبة بالمعنى، ولكنه اجتُلِب لأجل الروي، فهو قافيةٌ مغتصَبَة. وأعلى اقتضاء البيت للقافية أن تكون القافيةُ كالموعود به المنتظر، كما سيأتي في كلام المؤلف.

"فهذه سبعةُ أبوابٍ هِيَ عمودُ الشِّعر"(3)، سماها أبوابًا؛ لأن كلَّ واحد منها يُعتبر عنوانَ بابٍ من أبواب فنِّ النقد لو شاء أحدٌ تبويبَه، وقد علمتَ بعضَ ذلك.

(1) صفحات 12، 13، 14، 15، 16 رسالة الغفران، طبع آمين هندية بالقاهرة سنة 1321. - المصنف. المعري، أبو العلاء: رسالة الغفران، تحقيق عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ (القاهرة: دار المعارف، ط 9، 1993)، ص 154 - 155.

(2)

قدامة ابن جعفر: نقد الشعر، ص 181؛ الخفاجي، أبو عبد الله بن سعيد بن سنان: سر الفصاحة، تحقيق داود غطاشة الشوابكة (عمان: دار الفكر، ط 1، 1427/ 2006)، ص 177. المرزباني: الموشح، ص 276؛ ابن رشيق القيرواني: العمدة، ج 2، ص 24. وفيها "صالحًا" عوض "سالمًا".

(3)

نشرة هارون، ج 1، ص 11. وليس فيها عبارة "سبعة أبواب"، وإنما الذي فيها: "فهذه الخصال عمود الشعر عند العرب". وقد جرى المصنف فيما أثبته على ما جاء في تحقيق الدكتور شكري فيصل للمقدمة (مجلة المجمع العربي بدمشق، المجلد 27، العدد الأول، ربيع الآخر 1371/ كانون الثاني 1952، ص 88)، وربما اعتمد كذلك على ما بين يديه من النسخة التونسية ونسختي الآستانة.

ص: 1465

و"العمود" عودٌ عظيم يُرْكَزُ في الأرض تُقام عليه القبةُ أو الخيمة، وتُشد بأعلاه، ويتفرع منه أديمُ القبة أو ثوبُ الخيمة إلى أن تُشدَّ بالأرض بالأوتاد على شكل قبة أو هرم. فما به قِوامُ الشعر فهو كالعمود للبيت، وقد وقعت هذه العبارةُ للحسن الآمدي في "الموازنة" وساق في كلامه ما محصله: إن عمودَ الشعر هو الأسلوبُ الذي سلكه فحولُ الشعراء من عهد الجاهلية وما بعده في بلاغة الكلام، وإحسان المعنى، والبعد عن التكلف، وتجنب استكراه الألفاظ والمعاني (1). وذَكر عن البحتري أنه سئل عن طريقته وطريقة أبي تمام، فقال البحتري:"أنا أقوم بعمود الشعر، وأبو تمام كان أغوص على المعنى"(2)، فبيَّن أنه امتاز عن أبي تمام بإجادة الناحية اللفظية من شرائط الإجادة، وأن أبا تمام امتازَ بالناحية المعنوية.

فتحصَّل أن عمودَ الشعر هو مجموعُ شرائط الإجادة اللفظية والمعنوية، وهو الذي اعتمده المؤلف.

"ولكلِّ بابٍ منها معيار"(3)، المعيارُ اسم آلة للتعيير، والتعيير تحقيق الوزن أو الكيل على ميزان أو مكيال محقَّق المقدار، مضبوطٍ لا زيادةَ فيه ولا نقصان عن المقدار الذي يُستعمل له. يقال: عيَّر الدينار، إذا وزنه بدينار محقق الوزن، وعير المكيال كذلك. ويقال لما به الكيلُ أو الوزن: معيار وعيار أيضًا، كما سيجيء في عبارة المؤلف.

ومعنى كلامه أن لكل بابٍ منها ضوابطَ ورسومًا بها يكون الشعرُ حسنًا مقبولًا، وممَيَّزًا عن القبيح المردود عند أهل النقد، مع بيان ما به إدراكُ تمييز الحسن

(1) انظر الآمدي: الموازنة، ج 1، ص 411 - 429. وقارن بكلام الجرجاني في: الوساطة، ص 30 - 31.

(2)

ساق المصنف الكلام المنسوب للبحتري بتصرف تقديمًا وتأخيرًا، وأصل عبارته كما روى الآمدي عن أبي علي محمد العلاء السجستاني:"سئل البحتري عن نفسه وعن أبي تمام، فقال: كان أغوصَ على المعاني مني، وأنا أقومُ بعمود الشعر منه"، وقال الآمدي إثره:"وهذا الخبر هو الذي يعرفه الشاميون، دون غيره". الموازنة، ج 1، ص 11 - 12.

(3)

نشرة هارون، ج 1، ص 11.

ص: 1466

من السيء. وهذا المعيار هو كقول علماء المعاني: إن تمييز الفصيح من غير الفصيح بعضُه يَبِينُ في علم اللغة أو التصريف، وبعضُه يُدرك بالحس. فظهر أن المعيار مجموعُ الشروط وطريقُ إدراكها.

"فعيارُ المعنى أن يُعرَض على العقل الصحيح والفهم الثاقب"(1)، أي ضابطُ المعنى المشروط - فيما تقدم - بالشرف والصحة. يعني أن الوسيلةَ لتحصيل ملَكَةِ الحكم في استيفاء المعنى ما شُرِط فيه، هي أن يُعرض المعنى على "العقل الصحيح"، أي الفكر المستقيم. و"الفهم الثاقب" هو الفهم الذي لا تخفى عليه دقائقُ المعنى، ولا تلتبس عليه الحقائقُ المتقاربة؛ شُبِّه بآلة الثقب إذ تخترق الأجسامَ الصلبة، وهو يغوص إلى الحقائق التي يعسر فهمُها على غالب الأذهان. ومراده عقل الشاعر وفهمه، وهو المقصود، ومثلُه الكاتب. وكذلك عقلُ السامع، الذي هو من أهل الذوق والنقد الاختيار.

"فإذا انعطف عليه جنبتا القبول والاصطفاء مستأنِسًا بقرائنه خرج وافيًا، وإلا انتقص بمقدار شوبه ووحشته"(2).

قوله: "فإذا انعطفَ عليه"، تفريعٌ على "أن يعرض على العقل الصحيح"، أي فإذا العطف عليه جَنَبَتَا قبولِ العقل الصحيح والفهم الثاقب إياه واصطفائه خرج وفيًا إلخ. . . وأراد بهذا إعادةَ التنبيه على أن المعنى لَمَّا كان غيرَ مستغن عن كلام يقع فيه، فجودةُ المعنى مفتقرةٌ إلى جودة الكلام الذي يدل عليه.

واستعار الانعطافَ - الذي حقيقتُه الميلُ والمحبة - لمعنى الرِّضا به والموافقة، أي فإذا صادف المعنى من نفس عقل الشاعر صاحب الذوق المكين وفهمه قبولًا ورضًا، فذلك المعنى وافٍ بشرط الكمال لنوعه، وهو الصحةُ والشرف.

(1) نشرة هارون، ج 1، ص 9.

(2)

المصدر نفسه.

ص: 1467

و"الجنبتان" تثنيةُ جنبة بسكون النون وفتحها، وهي الجانب. أي إذا وافقه جانِبَا القبول والاصطفاء. ووقع في نسخة الآستانة "جُبَّتَا القبول" تثنية جبة، وهي ثوبٌ له جيب، وكان يُلبس فوق الثياب الداخلية. ونسخة "جَنَبتا" أولى، وهي مماثلة لقول أبي العباس المبرد في أول بابٍ من الكامل في اللفظ الغريب إذ قال:"فإذا انعطفت عليه جنبتا القول غطتا على عَوَاره" إلخ (1).

وإضافة جَنبَتَا أو جُبَّتَا إلى القبول والاصطفاء إضافةٌ بيانية؛ لأنَّ المضافَ عينُ المضاف إليه. واستعارةُ جَنبَتَا للقبول والاصطفاء؛ لأن القبولَ والاصطفاء أشبها جانبين يحيطان بالمعنى ويحضنانه. واستعارة جُبَّتَا لهما؛ لأنهما أشبها ما يكتسي به المعنى بهجة. وقد أشار بـ "القبول" إلى صحة المعنى؛ لأن المعنى لا يُقبل إلا إذا كان صحيحا. وكَنَّى بالاصطفاء عن شرف المعنى؛ لأنه إذا جاء شريفًا كان مرضيًا في نفس المخترع فيما يقول، والسامع فيها يسمع، والناقد فيها يختار.

وقوله "مستأنِسًا" - بكسر النون - حالٌ من ضمير "عليه"، ويجوز فتحُ النون أيضًا، على معنى أن قائلَه اصطفاه وقبله واستأنس بما معه. و"الاستئناس" التأنُّس، وهو ضد الوحشة. وكَنَّى به هنا عن المماثلة؛ لأن المماثلةَ تستلزم التأنسَ بالمثل، إذ الشَّيْءُ يألف مثيلَه. فالمراد المماثلة في الصفة بين المعنى المقبول المصطفى وبين ما يقترن به من المعاني، حتى يكون الكلامُ كلُّه مُفْرَغًا في قالب واحد من الكمال، ولا يكون بعضُ معانيه مقبولًا وبعضُها مكروهًا، وذلك ما سماه رؤبة بـ "القران" كما سيأتي.

و"القرائن" جمع قرينة، من الاقتران وهو الاجتماع، وأنث القرائن على تأويله بالكلمات. وبمقدار ما يقترن بالمعاني المرتضاة من معان مكروهة، ينقُص الكلامُ نقصًا قليلًا أو كثيرًا، ويُوحِش السامعَ والناقد.

(1) انظر صفحة 17 طبع المطبعة الخيرية سنة 1308. - المصنف. وتمام كلامه وعبارته: "وقد يضطر الشاعرُ المفلق، والخطيب المِصْقَع، والكاتب البليغ، فيقع في كلام أحدهم المعنى المستغلق، واللفظُ المستكرَه، فإن انعطفت عليه جنبتا الكلام غطتا على عواره، وسترتا على شَيْنه". المبرد: الكامل في اللغة والأدب، ج 1، ص 56.

ص: 1468

"وعيارُ اللفظِ الطبعُ والرِّوَايةُ والاستعمال"(1)، يعني اللفظ الذي وصفه آنفًا بالجزالة والاستقامة، أي وسيلة اختبار تحقق ذينك الوصفين فيه ثلاثة أشياء:

الأول: الطبع، وهو طبعُ البليغ وذوقه، ودربتُه الحاصلة من كثرة مزاولة الكلام الفصيح، ومعرفة دقائق الاستعمال العربي، حتى تحصل له من ذلك ملكةٌ يُمَيِّزُ بها بين اللفظ المقبول المستحسَن واللفظ المجفُوِّ المستنكَر، فينتقي ما يُستحسن وينبذ ما يُستكره.

والثاني: الرواية، وهي روايةُ ذلك اللفظ فيما يُرْوَى عن العرب وأئمة الاستقراء، ليعلم بذلك مواقعه من الكلام الفصيح، فيتضح معناه عندهم فيكون صريحًا فيه.

والثالث: الاستعمال، ليظهر ما هو حقيقة، وما هو مجاز، ويظهر العامُّ والخاصُّ مثلا.

"فما سلم مما يهجنه عند العرض عليها فهو المختار المستقيم"(2)، قال الجاحظ في البيان:"ومتى شاكل [- أبقاك الله - ذلك] اللفظُ معناه، وأعرب عن فحواه، وكان لتلك الحال وفقًا، ولذلك القدر لِفْقًا (3)، وخرج من سماجة الاستكراه، وسلم من فساد التكلف، كان قَمِينًا بحسن الموقع، وبانتفاع المستمع". (4) و"الهُجنة"، العيب في الكلام.

(1) نشرة هارون، ج 1، ص 9.

(2)

المصدر نفسه.

(3)

اللِّفْق: بكسر اللام وسكون الفاء، شقة من ثوب تُضم إلى أخرى. يقال: لَفَقَ الثوبَ يلفِق، من ضرب، إذا شقه إلى أخرى فخاطهما. فاللفق بكسر اللام، زِنة فعل، بمعنى مفعول، مثل ذبح بكسر الذال. - المصنّف.

(4)

ص 20، جزء 2، المطبعة التجارية بالقاهرة سنة 1345. - المصنف. الجاحظ: البيان والتبيين، ج 1/ 2، ص 5.

ص: 1469

"وهذا في مفرداته وجمله مراعًى؛ لأن اللفظة تُستكره بانفرادها، فإذا ضامَّها ما لا يوافقها عادت الجملة هجينًا"(1)، ومعنى كلامه أن اللفظة قد تكون مستكرهة في حد ذاتها، وقد تكون حسنة، فإذا ضُمَّت إليها لفظةٌ أخرى لا توافقها، صارتا معًا مستكرهتين. ومعلومٌ أنه إذا ضُمَّت المستكرهة إلى المستكرهة قوِيَ الاستكراه، فلم يحتج المؤلف إلى هذه الصورة، ولعل في العبارة حذفا.

قال عبد القاهر: "إنك ترى الكلمة تروقك في موضع، ثم تراها بعينها تثقل عليك وتُوحشك في موضع آخر، كلفظ الأخدع في بيت الحماسة:

تَلَفَّتُّ نَحْوَ الحَيِّ حَتَّى رَأَيتُنِي

وَجِعْتُ مِنَ الإِصْغَاءِ ليْتًا وَأَخْدَعَا (2)

[وبيت البحتري:

وَإنِّي وَإِنْ بَلَّغْتَنِي شَرَفَ الغِنَى

وَأَعْتَقْتَ مِنْ رِقِّ المَطَامِعِ أَخْدُعِي]

فإن لها [في هذين المكانين] ما لا يخفى من الحسن، ثم إنك تتأملها في بيت أبي تمام:

يَا دَهْرُ قَوِّم مِنْ أَخْدَعَيْكَ فَقَدْ

أَضْجَجْتَ هَذَا الأَنَامَ مِنْ خُرُقِك

فتجد لها من الثقل على النفس ومن التنغيص والتكدير أضعافَ ما وجدت لها هناك من الرِّوْح والخفة، [ومن الإيناس والبهجة] ". (3) ولم يبين الشيخ سببَ ثقل هذه اللفظة في موضع وحسنها في الآخر؛ لأنه أحاله على الذوق. وزعم ابنُ الأثير

(1) نشرة هارون، ج 1، ص 9.

(2)

الجرجاني: كتاب دلائل الإعجاز، ص 47. البيت ليس لمحمد بن بشير، كما ذكر المصنف عليه رحمة الله، وإنما هو للصِّمَّة بن عبد الله بن الطفيل بن قرة بن هبيرة القُشيري، ينتهي نسبه إلى نزار. شاعر إسلامي بدوي، من شعراء الدولة الأموية، شعره قليلٌ أغلبه في الغزل. ولجده قرة بن هُبيرة صحبةٌ للنبي عليه السلام ووفادة. انظر المرزوقي: شرح ديوان الحماسة، ج 3، ص 1215 - 1218.

(3)

ص 37، جزء 2، دلائل الإعجاز طبع المنار. - المصنف. الجرجاني: دلائل الأعجاز، ص 46 - 47.

ص: 1470

في "المثل السائر" أن سببَ ذلك هو إفرادُ الأخدع في بيت "الحماسة" وتثنيتُه في بيت أبي تمام (1)، وهو وهمٌ من ابن الأثير.

والحق أن سببَ حسنها في بيت الحماسة مجيئُها مستدعاةً للكلام الذي قبلها، حيث كان ذكرُ وجع الليت يستدعي وجعَ ما حوله وهو الأخدع، فكان لفظُ الأخدع فيه رشيقا. وهو في بيت أبي تمام مغصوبٌ للقافية؛ إذ لا مناسبةَ في استعارة الأخدع للدهر في هذا المقام؛ إذ ليس في أحوال الدهر ما يكون الأخدع رديفًا له، كما يؤخذ من كلام الآمدي في كتاب "الموازنة".

"وعيار الإصابة في الوصف الذكاء وحسن التمييز، فما وجداه صادقًا في العلوق، ممازجًا في اللصوق، يتعسر الخروج عنه والتبرؤ منه، فذلك سيما الإصابة فيه"(2)، أي أن الذكاءَ وحسنَ التمييز يُدرَك بهما الوصفُ المصيب في العلوق، أي في في تعلقه بالغرض الموصوف المشخَّص، منطبقًا عليه، ممازجًا له، لا تقصير فيه. و"السيما" بالقصر: العلامة، قال تعالى:{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح: 29].

- 6 -

"ويُروى عن عمر أنه قال في زهير: "كان لا يمدح الرجلَ إلا بما يكون للرجال" (3) أراد الاحتجاجَ بكلمة صدرت من أحد أهل الذوق العربي بالسليقة، وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه قدم زهيرًا بن أبي سلمى على غيره من الشعراء بثلاثة أمور سيجيء ذكرُ الأول والثاني [منها] في كلام المؤلف. وثالثها أنه "لا يمدح

(1) قال ابن الأثير: "وليس سبب ذلك إلا أنها جاءت موحَّدةً في أحدهما مثناةً في الآخر، وكانت حسنة في حالة الإفراد، مستَكْرَهةً في حالة التثنية. وإلا فاللفظة واحدة، وإنما اختلاف صيغتها فعل بها ما ترى". المثل السائر، ج 1، ص 277.

(2)

نشرة هارون، ج 1، ص 9.

(3)

نشرة هارون، ج 1، ص 9.

ص: 1471

الرجل إلا بما يكون للرجال"، وفي رواية "إلا بما فيه". (1) وما اقتصر عليه المؤلف أظهرُ في الغرض، يعني أنه يصيب المحزَّ من وصف المعنى، فإذا مدح أحدًا مدحه بصفات الكمال في الرجال، كقوله في معلقته يخاطب هرمَ بن سنان والحارث بن عوف.

تَدَارَكْتُمَا عَبْسًا وَذُبْيَانَ بَعْدَمَا

تَفَانَوْا وَدَقُّوا بَيْنَهُمْ عِطَرَ مَنْشَمِ

عَظِيمَيْنِ فِي عُلْيَا مَعَدٍّ هُدِيتُمَا

وَمَنْ يَسْتَبِحْ كَنْزًا مِنَ المَجْدِ يَعْظُمِ (2)

فهذا مدحٌ بصفات الكمال والفتوة، وهو أفضل من قول النابغة:

رِقَاقُ النِّعَال طِيبٌ حُجُزَاتُهُمْ

يَحَيَّوْنَ بِالرَّيْحَانِ يَوْمَ السَّبَاسِبِ (3)

ولما مدح عبيد الله بن قيس الرقيات (4) عبد الملك بن مروان بقوله:

يَأْتَلِقُ التَّاجُ فَوْق مَفْرِقِهِ

عَلَى جَبِينٍ كَأَنَّهُ الذَّهَبُ (5)

عتب عليه عبد الملك وقال: إنك قلت في مصعب بن الزبير:

(1) الجمحي: طبقات الشعراء، ص 44. وفيه:"كان لا يعاظل بين الكلام، ولا يتبع حوشيه، ولا يمدح الرجل إلا بما فيه". وفي رواية بن قتيبة: "كان لا يعاظل بين القول، ولا يتبع وحشيَّ الكلام، ولا يمدح الرجل إلا بما هو فيه". الدينوري: الشعر والشعراء، ص 61؛ العمدة، ج 1، ص 103 (وهو ينقل عن ابن سلام).

(2)

ديوان زهير بن أبي سلمي، نشرة بعناية علي حسن فاعور (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1408/ 1988)، ص 106.

(3)

البيت هو الخامس والعشرون من قصيدة من تسعة وثلاثين بيتًا يمدح فيها النابغةُ النعمانَ بن الحارث. ديوان النابغة الذبياني، ص 49 (نشرة ابن عاشور).

(4)

هو عبيد الله بن قيس من بني عامر بن لؤي، نُسب إلى الرقيات بسب توالي جدات له يسمين رقية. كان شاعر الزبيريين السياسي. توفي سنة 85 هـ.

(5)

ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات، تحقيق محمد يوسف نجم (بيروت: دار صادر، بدون تاريخ)، ص 5، وفيه "يعتدل" عوض "يأتلق".

ص: 1472

إِنَّمَا مُصْعَبٌ شِهَابٌ مِنَ اللَّـ

ـهِ تَجَلَّتْ عَنْ وَجْهِهِ الظَّلْمَاءُ (1)

وإنما أنكر عليه من أجل أنه عدل به عن بعض الفضائل النفسية، إلى ما هو من صفات الجسم في البهاء والزينة (2)، فكان كالذي ينسُب بمحاسن الحسناء.

واعلمْ أن هذا الأصلَ يختلف باختلاف العوائد، واختلاف أغراض الناس، من عناية بالفضائل النفسية، أو المحاسن الجسمية، أو كليهما، قال تعالى:{وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: 247]. وكذلك اختلاف أحوال المدنية والبداوة، وانظرْ قولَ جعفر بن علبة:

إِذَا هَمَّ أَلقَى بَيْنَ عَيْنَيْهِ عَزْمَهُ

وَنَكَّبَ عَنْ ذِكْرِ العَوَاقِبِ جَانِبَا

وَلَمْ يَسْتَشِرْ فِي أَمْرِهِ غَيْرَ نَفْسِهِ

وَلَمْ يَرْضَ إِلَّا قَائِمَ السَّيْفِ صَاحِبَا (3)

تجدْ ما افتخر به جاريًا على خُلُقِ الأبطال وأحوال أهل الشطارة، ولو سمعه الحكيمُ لعده تهورًا وغرورا.

ومما يدخل في عكس ما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ننقل قول أبي الطيب في شدة تعلقه بسيف الدولة:

أَغَارُ مِنَ السُّلَافَةِ وَهْيَ تَجْرِي

عَلَى شَفَةِ الأَمِيرِ أَبِي الحُسَيْنِ (4)

(1) المصدر نفسه، ص 91.

(2)

انظر البيتين والقصة التعليق عليهما في: ابن جعفر: نقد الشعر، ص 158.

(3)

البيتان هما الثامن والتاسع من تسعة أبيات نسبها أبو تمام لسعد بن ناشب بن مازن بن عمرو بن تميم، من شعراء الحماسة. المرزوقي: شرح ديوان الحماسة، ج 1، ص 73 - 74.

(4)

البيت هو الثالث من خمسة أبيات قيل إن المتنبي دخل على علي بن إبراهيم التنوخي، فعرض عليه كأسًا فيها شراب أسود، فقالها ارتجالًا، وجاء في البيت الثاني قوله:

هَجَرْتُ الخَمْرَ كَالذَّهَبِ المُصَفَّى

فَخَمْرِي مَاءُ مُزْنٍ كَاللُّجَيْنِ

وقد أخذ أبو الطيب معنى البيت من قول أبي تمَّام: =

ص: 1473

لأنه أتى بمعنى لا يليق بمثله مع مثل الأمير، وإنما هو من المعاني التي تناسب أحوال المتيمين (1).

"فتأمل هذا؛ فإن تفسيره ما ذكرناه"(2)، أمر بالتأمل لظهور أن عمر لا يريد بما يكون للرجال الاحتراز عن صفات النساء؛ لأن ذلك لو وقع لكان غلطًا. ولا يريد أيضًا أن يكون ما يمدح به ليس بمدح، ولكنه أراد أنه يمدح بما هو كمالٌ حق. وقوله "فإن تفسيره ما ذكرناه"، أي هو جزئِيٌّ من جزئيات قاعدة إصابة الوصف، أي توصيف المعاني المقصودة، فإن المديحَ نوعٌ من أغراض الكلام ومعانيه، فأراد بالتفسير التمثيل.

"وعيار المقاربة في التشبيه الفطنة وحسن التقدير، فأصدقه ما لا ينتقض عند العكس"(3)؛ لأن الفطنة هي التي ترشد إلى مشابهة شيء أو أشياء. وأما حسن التقدير فهو الذي يختار الشاعر بواسطته أشبه الأشياء بالمشبه به في الصفات المقصودة. ومعنى "أصدق التشبيه"، أنه الأشد مطابقة لما في نفس الأمر، بحيث لو عكس التشبيهَ فجعل المشبَّهَ به مشبَّهًا لكان صادقًا، وهو التشبيه المقلوب؛ لأنه يتأتى عن شدة المشابهة، كقول المتنبي:

= أَغَارُ مِنَ القَمِيصِ إِذَا عَلَاهُ

مَخَافَةَ أَنْ يُلَامِسَهُ القَمِيصُ

البرقوقي: شرح ديوان المتنبي، ج 4، ص 325 - 326 (وفيه: الزجاجة، بدل السلافة). قال الإمام الواحدي في نقد البيت:"ولقد أساء أبو الطيب؛ لأن الأمراء لا يُغارُ على شفاههم". المرجع نفسه، ص 326 (الحاشية رقم 2).

(1)

في الأصل (مجلة مجمع دمشق، ونشرة الدار العربية للكتاب): "أحوال المقيمين"، وواضح أنه تصحيف، وصوابه ما أثبتناه.

(2)

نشرة هارون، ج 1، ص 9.

(3)

المصدر نفسه.

ص: 1474

وَقَابَلَنِي رُمَّانَتَا غُصْنِ بَانَةٍ

يَمِيلُ بِهِ بَدْرٌ وَيُمْسِكُهُ حِقْفُ (1)

فشبه الثديين برمانتين. وقال الآخر:

وَرُمَّانَةٌ شَبَّهْتُهَا إِذْ رَأَيْتُهَا

بَثَدْيِ كِعَابٍ أَوْ بِحقَّةِ مَرْمَرِ (2)

"وأحسنه ما أُوقِع بين شيئين اشتراكُهما في الصفات أكثرُ من انفرادهما"(3)، هذه الكلمة لقدامة في كتاب نقد الشعر.

"ليَبِينَ وجهُ التشبيه بلا كلفة، إلا أن يكون المطلوبُ من التشبيه أشهرَ صفات المشبَّهَ به، وأملكها له؛ لأنه حينئذٍ يدل على نفسه، ويحميه من الغموض والالتباس"(4)، أي أحسنُ التشبيه ما كان وجهُ الشَّبَهِ فيه ظاهرًا حتى لا يُحتاج إلى ذكره. فإن كان خفيًّا كان من المناسب التصريحُ به، كقول المعري في التشبيه المفرد:

رُبَّ لَيْلٍ كَأَنَّهُ الصُّبْحُ فِي الحُسْـ

ـنِ وَإنْ كَانَ أَسْوَدَ الطَّيْلَسَانِ (5)

وقول النابغة في التشبيه المركب:

(1) البرقوقي: شرح ديوان المتنبي، ج 3، ص 27. والبيت هو السابع من قصيدة يمدح فيها أبا الفرج أحمد بن الحسين القاضي.

(2)

البيت هو الأول من ثلاثة أبيات لابن شاه أوردها الراغب في باب الأطعمة أو الحد العاشر. الأصفهاني: محاضرات الأدباء، ج 1، ص 718.

(3)

نشرة هارون، ج 1، ص 9. قدامة بن جعفر: نقد الشعر، ص 108.

(4)

المصدر نفسه.

(5)

البيت هو الثالث من قصيدة من بحر الخفيف بعنوان "عش فداء لوجهك القمران"، قالها أبو العلاء جوابًا للشريف أبي إبراهيم بن إسحاق عن قصيدة قالها، وطالع قصيدة المعري:

عَلِّلَاني فَإنَّ بيضَ الأَمَانِي

فَنِيَتْ وَالظَّلَامُ لَيْسَ بِفَانِي

سقط الزند، ص 90.

ص: 1475

فَإِنَّكَ كَاللَّيْلِ الَّذِي هُوَ مُدْرِكِي

وَإِنْ خِلْتُ أَنَّ المُنْتَأَى عَنْكَ وَاسِعُ (1)

"وقد قيل: أقسام الشعر ثلاثة: مثلٌ سائر، وتشبيهٌ نادر، واستعارةٌ قريبة"(2)، لم يعزُ هذا القول إلى معيَّن؛ لأنه رآه كلامًا مقبولًا لا مِريةَ في صحته، على حد قولهم:"انظرْ إلى ما قال، لا إلى مَنْ قال". وظاهرُ هذا الكلام حصرُ الشعر في هذه الثلاثة، وهو حصرٌ مقصودٌ به المبالغة، تنويهًا بهذه الثلاثة، كما لا يجفى.

والمراد بـ "التشبيه النادر" هو الذي لا يهتدي إليه عامَّةُ الناس، فالآتي به يدلُّ على حُسْنِ فطنته وتخَيُّله. قال في أسرار البلاغة:"والمعنى الجامع في سبب الغرابة أن يكون التشبيهُ المقصود من الشيء مما لا يتسرع إليه الخاطر، ولا يقع في الوهم عند بديهة النظر إلى نظيره الذي يُشبَّه به، بل بعد تثَبُّتٍ وتذكر، وفلي للنفس عن الصور التي يعرفها، وتحريكٍ للوهم في استعراض ذلك [واستحضار ما غاب منه] ". (3) وقال: "ومما يزيد به التشبيهَ دقة وسحرًا أن يجيء في الهيئات التي عليها الحركات"، كقول الوزير المهلبي:

"الشَّمْسُ مِنْ مَشْرِقِهَا قَدْ بَدَتْ

مُشْرِقَةً لَيْسَ لَهَا حَاجِبُ

كَأَنَّهَا بُوتَقَةٌ أُحْمِيَتْ

يَجُولُ فِيهَا ذَهَبٌ ذَائِبُ". (4)

(1) البيت هو الثلاثون من قصيدة في ستة وثلاثين بيتًا من بحر يمدح فيها النابغةُ النعمانَ بن المنذر ويعتذر مما وشت به بنو قريع بن عوف عليه عند النعمان ويهجو الوشاة. ديوان النابغة الذبياني، ص 168 (نشرة ابن عاشور)، وص 38 (نشرة إبراهيم، حيث تشتمل القصيدة على ثلاثة وثلاثين بيتًا فقط، ويأتي البيت المذكور الثامن والعشرين).

(2)

نشرة هارون، ج 1، ص 10.

(3)

ص 125، طبع المنار. - المصنف. الجرجاني: كتاب أسرار البلاغة، ص 157 (وفيه "الشبه" بدل "التشبيه".

(4)

المصدر نفسه، ص 181. الوزير المهلبي هو أبو محمد الحسن بن محمد بن هارون بن إبراهيم، من ولد المهلب بن أبي صفرة. ولي الوزارة لمعز الدولة أبي الحسن بن أحمد بن بويه، وتوفي وهو عليها سنة 352 هـ. كان ذا ترسل جميل بليغ، وله في الشعر قول لطيف "يُضرب بحسنه المثل"، =

ص: 1476

وقول المؤلف: "واستعارة قريبة"، كذا في سائر النسخ بالقاف، قال ابن رشيق: "إنما يستحسنون الاستعارةَ القريبة، وعلى ذلك مضى جلةُ العلماء. وإذا استعر للشيء ما يقرب منه ويليق به، كان أولى مما ليس منه في شيء. ولو كان البعيد أحسن استعارة من القريب، لما استهجنوا قولَ أبي نواس:

بُحَّ صَوْتُ المَالِ مِمَّا

مِنْكَ يَشْكُو وَيَصِيحُ (1)

فأيُّ شيء أبعدُ من صوت المال؟ فكيف حتى بح من الشكوى والصياح؟ [مع أن له صوتًا حين يوزن أو يوضع]؟ " (2) أي نفس إثبات الصوت للمال بعيدٌ جدًّا، وإثبات البَحة لصوت المال أبعد. وحاصلُ مرادهم أن يكون وجهُ الشَّبَهِ الذي بُنِيَتْ عليه الاستعارةُ واضحًا، وأن تكون إرادةُ الاستعارة واضحة، حتى لا يُحتاج إلى القرينة، أو إلى تقوية القرينة.

"وعيار التحام أجزاء النظم والتئامه على تخَيُّرٍ من لذيذ الوزن، الطبعُ واللسان"(3)، أراد بالطبع طبعَ الممارس للأدب كما قدمناه في شرح قوله:"اتسع مجال الطبع"، وباللسان لسان الممارس كذلك، وقد فصله بقوله:

"فما لم يتعثر الطبع بأبِيِّه وعقوده، ولم يتحَبَّس اللسان في فصوله ووصوله، بل استمرا فيه واستسهلاه بلا مَلالٍ ولا كَلَال، فذلك يوشك أن تكون القصيدة منه كالبيت، والبيت كالكلمة تشابُهًا لأجزائه وتقارنا"(4). "التعثر" اضطرابُ الرِّجْل في المشي من تعرضِ شيءٍ في الأرض. وأراد بـ "الأبي" الكلام المتكلَّف المستكرَه، كما

= كما قال ياقوت الحموي، وساق نماذج رشيقة من شعره. معجم الأدباء، ج 3، ص 976 - 993 (الترجمة 344). والبُوتقة هي ما يذيب فيه الصائغُ الذهبَ والفضة.

(1)

ديوان أبي نواس، ص 169.

(2)

القيرواني: العمدة، ج 1، ص 271.

(3)

نشرة هارون، ج 1، ص 10.

(4)

المصدر نفسه. (وفيه: "تسالمًا" بدل "تشابها").

ص: 1477

تقدم في تفسير قوله: "من الأبي المستنكَر". وفي إحدى نسختَيْ تونس ونسخة الآستانة "بأُبنة"، وضُبِط بضمة على الهمزة وفتحة على الباء، فهو اسم جمع أُبْنَة، وهي العُقدة تكون في العود فتتعرض لكف المثقِّف فتضطرب اليدُ كأنها عثرة، وهذا أنسب بقوله "يتعثر".

و"العقود" جمع عَقْد، بمعنى المعقود. وأكثر ما يُطلق هذا الجمع على عقود البناء دون عُقَد الخشب. و"التحبس" انحباس النَّفْسِ على شيء، أي امتناعها من تجاوزه، يقال: تحبَّس على كذا. ولما كان ذلك يقتضي المكانَ عداه المؤلف بحرف الظرفية.

ثم إن أراد بـ "الفصول والوصول" المعنى الاصطلاحي عند علماء المعاني المتقدم في تفسير قوله: "تناسب الفصول والوصول"، تعين أن يكون المرادُ بتحَبُّس اللسان في ذلك أن يثقُلَ عليه ما اختلَّ من ربط الجمل بعضِها مع بعض، حتى خرج من معتاد أهل الاستعمال، فيعطف الجملةَ حيث اعتِيد فصلُها، ويفصلها حيث اعتِيد وصلُها. وفي إطلاق التحبس على هذا تكلف.

ويجوز أن يكون أراد بالفصول والوصول المعنى اللغوي، فالوصول اتصالُ أبيات القصيدة بعضها ببعض في تناسب معاني الأبيات، والفصول فصول معاني البيت الواحد، وهذا أنسبُ بقوله:"بل استمرَّا فيه واستسهلاه. . ." إلخ.

• "وألا يكون كما قيل فيه:

وَشِعْرٍ كبَعْرِ الكَبْشِ فَرَّقَ بَيْنَهُ

لِسَانُ دَعِيٍّ فِي القَرِيضِ دَخِيلِ"

وكما قال خلف:

وَبَعْضُ قَرِيضِ الشِّعْرِ أَوْلَادُ عَلَّةٍ

يَكُدُّ لِسَانَ النَّاطِقِ المُتَحَفِّظِ (1)

(1) نشرة هارون، ج 1، ص 10. والبيت ذكره الجاحظ، وعنه نقله ابن رشيق. البيان والتبيين، ج 1/ 1، ص 54؛ العمدة، ج 1، ص 252؛ الراغب الأصفهاني: محاضرات الأدباء، ج 1، ص 111 (دون نسبة).

ص: 1478

وكما قال رؤبة لابنه عقبة، وقد عرض عليه شيئًا مما قاله، فقال: قد قلت لو كان له قران" (1)،

في إحدى نسختَيْ تونس ضُبِط بفتحة على نون يكون، فتعين أن تكون (ألا يكون. . .)، فتعين أن تكون همزةُ "ألا" مفتوحة، وهي "أَنْ" المصدرية أُدغِمت في لا النافية، وهو عطف على قوله:"أن تكون" من قوله: "يوشك أن تكون". وأما ضبطُه بهمزةٍ في أسفل الألف فيقتضي أن يُجزم "يكن". وهذا البيت نسبه الجاحظ في "البيان" لأبي البيداء الرياحي، واسم أبي البيداء أسعد (2)، ترجمه ياقوت في "معجم الأدباء". و"يَكُدُّ" في بيت خلف بالدال المهملة، والكد شدة الطلب، وفعلُ كدَّ يكون قاصرًا، ويكون متعديًا إلى المفعول، وهو الوارد في هذا البيت، أي يجعل لسان الناطق في كد، أي شدة عمل، كنايةً عن الإتعاب.

والمراد بـ "المتحفِّظ" المتحفظ من الخطأ، فهو يُكلِّف لسانه النطقَ بالبيت على وجه الصواب، يعني: وأما الناطق الذي لا يبالي بالخطأ، فينطق به كيفما اتفق للسانه. و"العَلَّة" - بفتح العين - ضرة المرأة، وأولادُ العلة الأخوة للأب، وشاع أن يكون بينهم جفوةٌ لأجل جفاء الأمهات. ويُضرب مثلًا للأشياء المتقاربة غير المتناسبة، كما في هذا البيت. وقد يُستعار باعتبار آخر للأمور المتماثلة في الجملة، مع اختلاف قليل، كما في الحديث:"الأنبياء كأبناء علات، أبوهم واحد وأمهاتهم متعددة". (3)

(1) نشرة هارون، ج 1، ص 10.

(2)

البيان والتبيين، ج 1/ 1، ص 54؛ القيرواني: العمدة، ج 1، ص 259. وأبو البيداء هو أسعد بن عصمة الرياحي. قال ياقوت:"أعرابي نزل البصرة، وكان يُعلِّم الصبيانَ بالأجرة، وأقام بها أيام عمره يُؤخذ عنه العلم. . . وكان شاعرًا"، ومن شعره:

قَالَ فِيهَا البَلِيغُ مَا قَالَ ذُو العِـ

ـيِّ وَكُلٌّ بِوَصْفِهَا مِنْطِيقُ

وَكَذَلِكَ العَدُوُّ لَمْ يَعْدُ أَنْ قَا

لَ جِمِيلًا كَمَا يَقُولُ الصَّدِيقُ

الحموي: معجم الأدباء، ج 2، ص 630.

(3)

أصل الحديث كما رواه أبو هريرة: "أنا أولى الناس بابن مريم، والأنبياء أولادُ عَلات، ليس بيني وبينه نبي"، وفي رواية أخرى: "أنا أولى الناس بابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة =

ص: 1479

وخَلَف هو الملقب بالأحمر، ابن حيان مولى بلال ابن أبي بردة. وهو بصريٌّ، علامةٌ في العربية، وكان قريبَ الأصمعي، وأعلمَ أهل عصره بالشعر. توفي في حدود الثمانين ومائة.

وكلمةُ رؤبة هي من الرجز. وفي "البيان" للجاحظ: قال أبو نوفل بن سالم أو عبيد الله بن سالم لرؤبة بن العجاج: "يا أبا الجَحَّاف مُتْ متى شئت؟ قال: وكيف ذلك؟ قال: رأيتُ عقبةَ بن رؤبة ينشد رَجَزًا أعجبني، قال: إنه يقول "لو كان لقوله قران"، يريد بالقران التشابه والموافقة، كما فسره الجاحظ (1).

فالمراد بالقول في "قد قلت" الخبر الذي حكاه المؤلف، ومعنى "إنه يقول" - في الخبر الذي رواه الجاحظ - هو القولُ الحسنُ المقبول، أي هو يقول الرجَزَ الحسن، ولكنه يأتي بالبيت الحسن ومعه البيت الذي لا يماثله في الحسن. وهذا كما قال عمر بن لجأ (2) لبعض الشعراء:"أنا أقول البيت وأخاه، وأنت تقول البيتَ وابنَ عمه"(3)، أراد بكونه أخًا شدةَ المشابهة في معنى الشعرية، بحيث يحق أن يوضع إلى جنبه. "القران" المقارنة، وأراد به المماثلة.

= لعَلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد"، صحيح البخاري، "كتاب أحاديث الأنبياء" الحديثان 3442 - 3443، ص 580. وجاء في رواية عند مسلم بلفظ: "أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الأولى والآخرة"، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: "الأنبياء إخوة من عَلات. وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد، فليس بيننا نبي". صحيح مسلم، كتاب الفضائل"، الحديث 145، ص 923.

(1)

الجاحظ: البيان والتبيين، ج 1/ 1، ص 56.

(2)

عمر بن لجأ التيمي من تيم الرباب، شاعرٌ معاصر لجرير بن عطية الشاعر، وقد تهاجيا. ولعل كلمته هذه قالها لجرير. - المصنف.

(3)

وتمام القصة: "وقال عمر بن لجأ لبعض الشعراء: أنا أشْعَرُ منك. قال: وبم ذلك؟ قال: لأني أقول البيت وأخاه، وأنت تقول البيت وابن عمه". الجاحظ: البيان والتبيين، ج 1/ 1، ص 142؛ المرزباني: الموشح، ص 404. وعمر بن لجأ شاعر من تيم بن عبد مناف بن أُد بن طابخة بن إلياس بن مضر، من بطن يقال لهم بنو أيسر. اشتد التهاجي بينه جرير. قيل مات بالأهواز.

ص: 1480

• "وإنما قلنا: على تخير من لذيذ الوزن؛ لأنَّ لذيذَه يَطرب الطبع لإيقاعه، ويمازجه بصفائه، كما يَطْرَبُ الفهمُ لصواب تركيبه، واعتدال نظومه. ولذلك قال حسان:

تَغَنَّ فِي كُلِّ شِعْرٍ أَنْتَ قَائِلُهُ

إِنَّ الغِنَاءَ لهِذَا الشِّعْرِ مِضْمَارُ" (1)

ساق بيتَ حسان حجةً على أن ميزان الشعر من نوع الموسيقى، فأوزانُ الشعر وضروبُه تتفاضل بمقدار شدة تناسبِ الحركات والسكنات، كما هو شأنُ الموسيقى. فحسان يرشد الشاعرَ إلى اختبار استقامة ميزانه، بأن ينشد أبياتَه بالترنم كالغناء، ليستبين له مستقيمُ الوزن. فإنه إذا أنشده فلم يتعثرْ لسانُه في تساوي أجزائه، علم استقامتَها، وإلا شعر باختلالٍ فأصلحه بمقدار ما تحصل به المساواة. وذلك أنهم لم تكن عندهم قواعدُ العروض، وإنما كانوا يُدركون الميزانَ بالسليقة. و"المضمار" المسافة التي تُحدَّدُ للسباق بين الخيل. والمعنى أن الغناء تظهر به خصالُ الشعر، كما تظهر بالمضمار خصالُ خيل الحلبة.

"وعيارُ الاستعارة الذهنُ والفطنة، ومِلَاكُ الأمر تقريبُ التشبيه في الأصل حتى يتناسبَ المشبَّهُ والمشبَّهُ به، ثم يُكْتَفَى فيه بالاسم المستعار؛ لأنه المنقولُ عما كان له في الوضع إلى المستعار له"(2)،

(1) نشرة هارون، ج 1، ص 10. وانظر البيت في: ديوان حسان بن ثابت، ج 1، ص 420. وللبيت ثان هو قوله:

يَمِيزُ مُكْفَأَهُ عَنْهُ وَيَعْزِلُهُ

كَمَا تَمِيزُ خَبيثَ الفِضَّةِ النَّارُ

والمناسبة - كما ذكر المرزباني عن مصادره - هي أن العرب كانت "تُغنِّي النَّصب [يعني تمام البناء في القافية وسلامتها من الفساد]، وتمد أصواتَها بالنشيد، وتزن الشعر بالغناء"، فأنشد حسان بن ثابت في ذلك ما أنشد. الموشح، ص 52 - 53.

(2)

نشرة هارون، ج 1، ص 10 - 11.

ص: 1481

إدراكُ حُسْنِ الاستعارة كإدراك قربِ التشبيه، ولذلك جعل ملاكَ أمرها قربَ التشبيه. وملاك الشيء - بفتح الميم وكسرها - قوامُه الذي يملك به، أي ما يملك به حسنُ الاستعارة ويحقق، وهو تقريب التشبيه. و"تقريب التشبيه" تقدم. وقوله "لأنه المنقولُ عما كان له في الوضع" إلخ، تعليلٌ لـ "يكتفى منه"، أي لأنه ادعى أن المشبَّهَ من أفراد المشبه به، فنقل اسمَ المشبه به إلى المشبه وأطلق عليه مع عدم ذكر حرف التشبيه؛ لأن الاستعارة مبنيةٌ على تناسي التشبيه.

"وعيارُ مشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية، طولُ الدربة ودوام المدارسة، فإذا حكما بحسن التباس بعضهما ببعض، لا جفاءَ في خلالها ولا نُبُوَّ، ولا زيادة فيه ولا قصور، وكان اللفظُ مقسومًا على رتب المعاني، قد جُعِل الأخصُّ للأخص، والأخسُّ للأخس، فهو البريء من العيب"(1)،

أحال المؤلفُ في هذا على طول الدربة ودوام المدارسة، أي مدارسة أهل الفنِّ في مختلف الشعر من نقد واختيار. وهذا من الحوالة على الذوق، وقد قدمناه. وقوله:"لا جفاء في خلالها"، هو بالجيم في أوله، والجفاء التباعد وعدم الملاءمة، وهو مقابل قوله:"بحسن التباس بعضها ببعض". ووقع في بعض النسخ "لا خفاء"، بالخاء المعجمة من فوق، ولا موقع له في هذا المقام. و"الخلال" بكسر الخاء المعجمة: الخلة والود، أي لا تنافرَ ولا تبعدَ في تناسب بعضها لبعض.

والمراد بـ "الأخص" الكامل، كأنه جُعل من الخاصة، أي أصحاب الكمال، ولذلك قابله بالأخس.

"وأما القافية فيجب أن تكون كالموعود به المنتظر، يتشوَّقها المعنى بحقه واللفظ بقسطه، وإلا كانت قلقةً في مقرها، مُجتلَبةً لمستغنٍ عنها"(2)،

(1) المصدر نفسه، ص 11.

(2)

المصدر نفسه، ص 11.

ص: 1482

قوله: "يتشوقُها المعنى بحقه"، أي يقتضيها، فجعل اقتضاءَ معنى البيت للقافية كالتشوُّق، وهو شدةُ الشوق. وجعل ذلك الشوقَ ملابسًا للحق، أي يتشوقها تشوقًا حقَّا. وجعل اللفظَ متشوِّقًا للقافية بقسطه، أي بحظِّه من البيت؛ فإن للألفاظ حظوظًا من المناسبة كما تقدم. ألا ترى قولَ أبي الطيب:

رَأَيْتُكَ فِي الَّذِينَ أَرَى مُلُوكًا

كَأَنَّكَ مُسْتَقِيمٌ فِي مُحَالِ (1)

فإنك تجد كلمةَ "محال" - وهي قافيةُ البيت - مغتصبةً مجتلبَةً لأجل الرَّوِيِّ، وإلا فإن الاستقامةَ يقابلُها الاعوجاج، بيد أنه غَفَرَ له ذلك قولُه بعده:

فَإِنْ تَفُقِ الأَنَامَ وَأَنْتَ مِنْهُمْ

فَإِنَّ المِسْكَ بَعْضُ دَمِ الغَزَالِ (2)

فجاء بمعنًى بديعٍ وقافية متشوِّقة، بحيث لا يمكنُ أن تُعوَّضَ بغيرها. وقد تقدم بيانُ بقية كلام المؤلف في عدِّ الأبواب السبعة.

"فهذه الخصالُ عَمُودُ الشعر عند العرب، فمَنْ لزمها بحقِّها وبَنَى شِعْرَه عليها، فهو عندهم المفلِقُ المعظَّم، والمحسِن المقدَّم. ومَنْ لم يجمعها كلَّها، فبقدر سُهْمَته منها يكون نصيبُه من المتقدم والإحسان. وهذا إجماعٌ مأخوذٌ به، ومتَّبع نهجُه حتى الآن"(3)،

قال قدامة في نقد الشعر: " [وأذكر أسبابَ الجودة، وأحوالَها، وأعدادَ أجناسها، ليكون] ما يوجد من الشعر الذي اجتمعت فيه الأوصافُ المحمودةُ كلُّها وخلَا من الخلال المذمومة بأسرها، يُسمَّى شعرًا في غاية الجودة، وما يوجد بضدِّ هذه الحال يُسَمَّى شعرًا في غاية الرداءة، وما يجتمع فيه من الحالين أسبابٌ يُنَزَّل له

(1) البرقوقي: شرح ديوان المتنبي، ج 3، ص 151.

(2)

المصدر نفسه.

(3)

نشرة هارون، ج 1، ص 11.

ص: 1483

اسمًا (كذا)(1) بحسب قربه من الجيد أو من الرديء، أو وقوعه في الوسط الذي يُقال لما كان فيه صالح أو متوسط، أو لا جيد ولا رديء". (2)

وقول المرزوقي: "سُهمته" بضم السين المهملة، جمع سَهم بمعنى النصيب والحظ. أي بقدر أنصابه من تلك الخصال، يكون نصيبه من الإحسان.

"واعلم أن لهذه الخصال وسائطَ وأطرافًا، فيها ظهر صدقُ الواصف، وغلوُّ الغالي، واقتصادُ المقتصد. وقد اقتفرها اختيارُ الناقدين"(3)،

كلمة "اقتفرها" بتقديم القاف ثم تاء فوقية ثم فاء، في نسخة الآستانة. يُقال: اقتفر الأثر إذا اتبعه. والمعنى أن الناقدين تتبعوها فاختاروها. وفي نسختي تونس: وقعت بتقديم الفاء على التاء ثم قاف، وهو تحريفٌ لا محالة.

"فمنهم من قال: "أحسنُ الشعر أصدقُه"، قال: لأن تجويدَ قائله فيه مع كونه في إسار الصدق يدل على الاقتدار والحذق. ومنهم من اختار الغلوَّ حتى قيل: "أحسنُ الشعر أكذبُه"؛ لأن قائلَه إذا أسقط عن نفسه تقابُلَ الوصف والموصوف امتدَّ فيما يأتيه إلى أعلى الرتبة، وظهرت قوتُه في الصياغة، وتمهرُه في الصناعة، واتسعت مخارجُه وموَالجُه، فتصرف في الوصف كيف شاء؛ لأن العملَ عنده على المبالغة والتمثيل، لا المصادقة والتحقيق. وعلى هذا أكثر العلماء بالشعر والقائلين له. وبعضُهم قال: "أحسن الشعر أقصدُه"؛ لأن على الشاعرِ أن يبالغَ فيما يصير به القولُ شعرًا فقط. فما استوفى أقسامَ البراعة والتجويد أو جلَّها، من غير غلوٍّ في القول، ولا إحالة في المعنى، ولم يُخرج الموصوفَ إلى أن لا يُؤْمَنَ بشيء من أوصافه، لظهور السَّرَف في آياته، وشمول التَّزيُّد لأقواله - كان بالإيثار والانتخاب أولى"(4)،

(1) الصواب "اسم" بالرفع بناءً على النيابة عن الفاعل.

(2)

ابن جعفر: نقد الشعر، ص 56.

(3)

نشرة هارون، ج 1، ص 11.

(4)

المصدر نفسه، ص 11 - 12.

ص: 1484

هذا مقامٌ شاع خوضُ البلغاء فيه من عهد الجاهلية، وقد رُوِيتْ قصةُ طعنِ النابغة على حسان في عكاظ قولَ حسان رضي الله عنه:

لَنَا الجَفَنَاتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ بِالضُّحَى

وَأَسْيَافُنَا يَقْطُرْنَ مِنْ نَجْدَةٍ دَمَا (1)

إذ أخذَ عليه استعمالَ جمع القلة للجفنات، وأنه جعل لمَعانَها في الضحى، وكان عليه أن يقول: في الدُّجى. وهي مشهورةٌ في دواوين الأدب العربي، وقد ذكرها قدامة في باب المعاني الدال عليها الشعر (2).

وقد اختار أئمةُ الأدب الغلوَّ، كما صرح به المؤلفُ هنا، وسبقه إليه قدامةُ في "نقد الشعر" إذ يقول:"إن الغلوَّ عندي أجودُ المذهبين، وهو ما ذهب إليه أهلُ الفهم بالشعر والشعراء قديمًا"، قال:"وقد بلغني عن بعضهم أنه قال: أحسنُ الشعر أكذبُه". (3) والاستعارةُ مبنيةٌ على الكذب، وكذلك المبالغة. وعلى هذا الاختلاف جرى كلامُهم في المبالغة المقبولة والمردودة، كما هو مُبَيَّنٌ في فن البديع. وقد نَبَّهَ المرزوقيُّ - تبعًا لقُدامة - على أن مرادَهم بالأكذب هو الغلو، وهو كذبٌ تصاحبه قرينةٌ على أنه مخالفٌ للواقع لغرض لطيف، وليس مرادُهم الكذبَ مطلقًا (4).

(1) ديوان حسان بن ثابت، ج 1، ص 35. والبيت هو الثالث والثلاثون من قصيدة في ستة وثلاثين بيتًا قالها حسان رضي الله عنه مفتخرا.

(2)

وقد رد قدامة بن جعفر هذا الانتقاد على حسان، فقال:"وأما قول النابغة في: يلمعن بالضحى، وأنه لو قال: بالدجى لكان أحسن من قوله: بالضحى؛ إذ كل شيء يلمع بالضحى، فهذا خلاف الحق وعكس الواجب؛ لأنه ليس يكاد يلمع بالنهار من الأشياء إلا الساطعُ النور الشديدُ الضياء. فأما الليل فأكثرُ الأشياء مما له أدنى نور وأيسر بصيص يلمع فيه". نقد الشعر، ص 81 - 82. وانظر القصة في: المرزباني: الموشح، ص 76 - 77.

(3)

قدامة بن جعفر: نقد الشعر، ص 82.

(4)

قال المصنف رحمه الله عند تفسير الآيات 224 إلى 226 من سورة الشعراء: "والكذبُ مذمومٌ في الدين الإسلامي، فإن كان الشعر كذبًا لا قرينةَ على مراد صاحبه فهو قبيح، وإن كان عليه قرينة كان كذبًا معتَذَرًا عنه، فكان غير محمود". ثم قال: "وقد دلت الآية على أن للشعر حالتين: حالة مذمومة، وحالة مأذونة، فتعين أن ذمه ليس لكونه شعرًا ولكن لما حف به من معان وأحوال =

ص: 1485

وقوله: "فمنهم من قال أحسن الشعر أصدقه"، قال حسان بن ثابت، وربما نُسب إلى زهير:

وَإِنَّمَا الشِّعْرُ لُبُّ المَرْءِ يَعْرِضُهُ

عَلَى البَرِيَةِ إِنْ كَيْسًا وَإِنْ حُمُقَا

وَإِنَّ أَشْعَرَ بَيْتٍ أَنْتَ قَائِلُهُ

بَيْتٌ يُقَالُ إِذَا أَنْشَدْتَهُ: صَدَقَا (1)

يعني بذلك أن يكون الشعرُ تعبيرًا عن الأمر الواقع، وقد قدمنا الكلامَ عليه عند الكلام على شرف المعنى.

• "ويتبع هذا الاختلافَ ميلُ بعضهم إلى المطبوع، وبعضهم إلى المصنوع. والفرقُ بينهما أن الدواعي إذا قامت في النفوس وحركت القرائحَ، أعملتِ القلوبَ. وإذا جاشت العقولُ بمكنون ودائعها، وتظاهرت مكتسباتُ العلوم وضروريَّاتُها، نبعت المعاني ودَرَّت أخلافُها، وافتقرت خفياتُ الخواطر إلى جليات الألفاظ. فمتى رُفِض التكلُّفُ والتعمُّلُ، وخُلَّيَ الطبعُ المهذَّبُ بالرواية، المدرَّبُ في الدراسة لاختياره، فاسترسل غيرَ محمولٍ عليه ولا ممنوعٍ مما يميل إليه، أدَّى من لطافة المعنى وحلاوة اللفظ ما يكون صفوًا بلا كدَر، وعفوًا بلَا جُهد، وذلك هو الذي يُسمَّى المطبوع. ومتى جُعل زمامُ الاختيار بيد التعمُّل والتكلف، عاد الطبعُ مستخْدَمًا متمَلَّكًا، وأقبلت الأفكارُ تستحمله أثقالهَا، وتردده في قبول ما يؤديه إليها، مطالِبةً له بالإغراب في الصنعة، وتجاوز المألوف إلى البدعة، فجاء مؤداه وأثرُ التكلُّفِ يلوحُ على صفحاته، وذلك هو المصنوع. وقد كان يتفق في أبيات قصائدهم - من غير قصدٍ منهم إليه - اليسيرُ النَّزْر، فلما انتهى قرضُ الشعر إلى المحدَثين، ورأوا استغرابَ الناس للبديع على افتنانهم فيه، أُولِعوا بتورِّده إظهارًا للاقتدار، وذهابًا على الإغراب.

= اقتضت المذمة، فانفتح بالآية للشعر بابُ قبول ومدح، فحق على أهل النظر ضبطُ الأحوال التي تأوي إلى جانب قبوله أو إلى جانب مدحه، والتي تأوي إلى جانب رفضه". تفسير التحرير والتنوير، ج 9/ 19، ص 209 - 210.

(1)

ديوان حسان بن ثابت، ج 1، ص 250.

ص: 1486

فمِنْ مُفْرِطٍ ومقتصد، ومحمود فيما يأتيه ومذموم، وذلك على حسب نهوض الطبع بما يُحمَّل، ومدى قواه فيما يُطلب منه ويكلف. فمَنْ مال إلى الأول فلأنه أشبهُ بطرائق الأعراب لسلامته في السبك واستوائه عند الفحص، ومَنْ مال إلى الثاني فلدلالته على كمال البراعة والالتذاذ بالغرابة". (1)،

كلامُ المؤلف هنا مفصحٌ أتم الإفصاح، غيرُ محتاجٍ إلا إلى شرح مفرداته. فقوله:"أعملتِ القلوبَ"، أي جعلتها عاملة، والقلوب هي العقول. فالمراد بعملها هو التفكير في ترتيب المعاني للتعبير عنها، ولذلك أعقبه المؤلف بقوله:"وإذا جاشت العقولُ بمكنون ودائعها. . ." إلخ. وقوله: "لاختياره" متعلِّقٌ بقوله: "وخلي الطبع".

"وأما تعجُّبُك من أبي تمام في اختيار هذا المجموع، وخروجه عن ميدان شعره، ومفارقته ما يهواه لنفسه، وإجماع نُقَّاد الشعر بعدَه على ما صحبه من التوفيق في قصده، فالقولُ فيه أن أبا تمام كان يختار ما يختاره لجودته لا غير، ويقول ما يقوله من الشعر بشهوته. والفرقُ بين ما يُشتهى وبين ما يُستجاد ظاهر، بدلالة أن العارف بالبَزِّ قد يشتهي لُبسَ ما لا يستجيده، ويستجيد ما لا يشتهي لُبسه، وعلى ذلك حالُ جميع أغراض الدنيا مع العقلاء العارفين بها في الاستجادة والاشتهاء. وهذا الرجلُ لم يعمِدْ من الشعراء إلى المشتهرين منهم دون الأغفال، ولا من الشعر إلى المتردِّدِ في الأفواه والمجيب لكل داع، فكان أمرُه أقرب. بل اعتسف في دواوين الشعراء، جاهليِّهم ومخضرمهم وإسلاميِّهم ومولَّدهم، فاختطف منها الأرواحَ دون الأشباح، واخترفَ الأثمارَ دون الأكمام، وجمع ما يوافِقُ نظمَه ويخالفه؛ لأن ضروبَ الاختيار لم تخفَ عليه وطرقَ الإحسان والاستحسان لم تستَتِرْ عنه"(2)،

ليست بعد هذا الكلام حاجةٌ إلى الشرح.

(1) نشرة هارون، ج 1، ص 12 - 13.

(2)

نشرة هارون، ج 1، ص 13 - 14. وفيها "أعراض الدنيا" بالعين لا الغين، وما أثبته المصنف هنا أولى.

ص: 1487

"حتى إنك تراه ينتهي إلى البيت الجيد فيه لفظةُ تُشينه فيجبر نقيصتَه من عنده، ويبدل الكلمةَ بأختها في نقده"(1)،

إنما حدَا أبا تمام إلى ذلك، أنه لما قصد إلى اختيار ما يختار من الشعر لم يقصد صحةَ رواية أشعارهم؛ لأنها كانت مجموعةً مروية، وإنما أراد تقريبَ المختار منها إلى أذواق الناشئين في صناعة الشعر، لتكون لهم مثالًا تحتذيه أذواقُهم، ومنوالًا تُنْسجُ عليه أشعارُهم. ومع هذا فإنه لا يصير إلى هذا التغيير إلا نادرًا عند الاقتضاء، فقد عمد إلى قول الربيع بن زياد في رثاء مالك بن زهير (2):

مَنْ كَانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِ مَالِكٍ

فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ (3)

فغيَّره، وجعله:"فَلْيَأْتِ سَاحَتَنَا"، وحمله على ذلك كراهيةُ تعليق فعل الإتيان بالنسوة. وكذلك عمد إلى قول تأبط شرًّا:

وَأُبْتُ إِلَى فَهْمٍ وَمَا كِدْتُ آيِبًا

وَكَمْ مِثْلُهَا فَارَقْتُهَا وَهْيَ تُصْفِرُ (4)

(1) المصدر نفسه، ص 14.

(2)

الربيع هو الربيع بن زياد بن عبد الله بن سفيان العبسي، أحد دهاة العرب ورؤسائهم وشجعانهم في الجاهلية. كان يقال له "الكامل"، توفي نحو سنة 30 قبل الهجرة. (انظر ترجمته في: الأغاني، ج 6/ 17، ص 404 - 409 [نشرة الحسين]). أما مالك بن زهير فهو أحد أعيان العرب وفرسانهم في الجاهلية، قتل في بعض وقائع داحس والغبراء، قتله بنو بدر. وقد رثاه عنترة بن شداد في قصيدة طويلة من بحر الطويل، يقول في طالعها:

لله عَيْنًا مَنْ رَأَى مِثْلَ مَالِكٍ

عَقِيرَةَ قَوْمٍ إِنْ جَرَى فُرْسَانُ

ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 1، ص 454 - 455.

(3)

والبيت هو السابع من قطعة في عشرة أبيات، وجاء بعده:

يَجِدِ النِّسَاءَ حَوَاسِرًا يَنْدُبْنَهُ

قَدْ قُمْنَ قَبْلَ تَبَلُّجِ الأَسْحَارِ

المرزوقي: شرح ديوان الحماسة، ج 3، ص 995.

(4)

البيت هو التاسع في قصيدة من عشرة أبيات، طالعها:

إِذَا المَرْءُ لَمْ يَحْتَلْ وَقَدْ جَدَّ جِدُّهُ

أَضَاعَ وَقَاسَى أَمْرَهُ وَهْوَ مُدْبِرُ

وفي مناسبتها قصة فراجعها. ديوان تأبط شرًّا، نشرة بعناية، ص 31. وفيه "فأُبت"، بالفاء لا الواو.

ص: 1488

فغيره: "ولم أكُ آيبًا"، مراعاةً لكون "ما كدت" يقتضي أنه بظاهره نفى اقترابَ إيابه، مع أنه قد آب. وفي داعي تغييره نظرٌ يُعلم من قوله تعالى:{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)} [البقرة: 71](1)، ومن قصة ذي الرمة مع خلف الأحمر حين أنشده قوله:

(1) قال المرزوقي عند شرحه بيت تأبط شرًّا الذي ذكره المصنف: "ولا أدري لم اختار هذه الرواية؟ [يعني "ولم أكُ آيبًا"، عوض "وَمَا كِدْتُ آيِبًا"] ألأن فيها ما هو مرفوضٌ في الاستعمال شاذ، أم لأنه غلب في نفسه أن الشاعر كذا قاله في الأصل؟ وكلاهما لا يوجب الاختيار. على أني قد نظرت فوجدت أبا تمام قد غير كثيرًا من ألفاظ البيوت التي اشتمل عليها هذا الكتاب، ولعله لو أنشر الله الشعراء الذين قالوها لتبعوه وسلموا له". المرزوقي: شرح ديوان الحماسة، ج 1، ص 83 - 84 (وراجع ما نقله من كلام أبي الفضل ابن العميد بشأن صنيع أبي تمام وتعليقه على تغيير بيت الربيع، ج 3، ص 996). وأما دلالة استعمال "وما كاد"، فقد بينها المصنف أثناء تفسير الآية حيث قال: "فالوجه القالع للإشكال هو أن أئمة العربية فد اختلفوا في مفاد كاد المنفية في نحو ما كاد يفعل. فذهب قوم - منهم الزجاجي - إلى أن نفيها يدل على نفي مقاربة الفعل، وهو دليل على انتفاء وقوع الفعل بالأولى، فيكون إثبات كاد نفيًا لوقوع الخبر الذي في قولك كاد يقوم، أي قارب، فإنه لا يقال إلا إذا قارب ولم يفعل، ونفيها نفيًا للفعل بطريق فحوى الخطاب، فهو كالمنطوق. وأن ما ورد مما يوهم خلاف ذلك مؤول بأنه باعتبار وقتين، فيكون بمنزلة كلامين ومنه قوله تعالى:{وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)} في هذه الآية، أي فذبحوها الآن وما كادوا يفعلون قبل ذلك. ولعلهم يجعلون الجمع بين خبرين متنافيين في الصورة قرينةً على قصد زمانين، وإلى هذا ذهب ابن مالك في الكافية. . . وهذا المذهبُ وقوفٌ مع قياس الوضع. وذهب قوم إلى أن إثبات كاد يستلزم نفي الخبر على الوجه الذي قررناه في تقرير المذهب الأول، وأن نفيها يصير إثباتًا على خلاف القياس. . . وذهب قوم - منهم أبو الفتح بن جني وعبد القاهر وابن مالك في التسهيل - إلى أن أصل كاد أن يكون نفيها لنفي الفعل بالأولى، كما قال الجمهور، إلا أنها قد يستعمل نفيها للدلالة على وقوع الفعل بعد بطء وجهد، وبعد أن كان بعيدًا في الظن أن يقع. وأشار عبد القاهر إلى أن ذلك استعمالٌ جرى في العرف، وهو يريد بذلك أنها مجازٌ تمثيلي بأن تشبه حالةَ مَنْ فعل الأمر بعد عناء بحالة من بعد عن الفعل، فاستعمل المركب الدال على حالة المشبه به في حالة المشبه. ولعلهم يجعلون نحو قوله فذبحوها قرينة على هذا القصد. . . وذهب قوم إلى أن كاد إن نُفيت بصيغة المضارع فهي لنفي المقاربة، وإن نفيت بصيغة الماضي فهي للإثبات. وشبهته أن جاءت كذلك في الآيتين:{لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [و]{وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)} ، وأن نفيَ الفعل الماضي لا يستلزم الاستمرارَ إلى زمن الحال، بخلاف نفي المضارع. وزعم بعضُهم أن قولهم ما كاد يفعل وهم يريدون أنه كاد ما =

ص: 1489

إِذَا غَيَّرَ النَّأْيُ المُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ

رَسِيسُ الهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ (1)

"وهذا يَبِينُ لمَنْ رجع إلى دواوينهم، فقابل ما في اختياره بها. ولو أن نقدَ الشعر كان يُدرَك بقوله، لكان مَنْ يقول الشعر من العلماء أشعرَ الناس. ويكشف هذا أنه قد يُمَيِّز الشعرَ مَنْ لا يقوله، ويقول الشعرَ الجيد مَنْ لا يعرف نقدَه. على ذلك كان البحتري؛ لأنه فيما حُكِيَ عنه كان لا يعجب من الشعر إلا بما يوافق طبعَه ومعناه ولفظَه"(2)،

قال في دلائل الإعجاز: " [ومن ذلك ما رُوي عن البحتري: ] روي أن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر سأله عن مسلم بن الوليد وأبي نواس: أيُّهما أشعر؟ فقال: أبو نواس. فقال: إن أبا العباس ثعلبًا لا يوافقك على هذا. فقال: ليس هذا مِنْ شأن ثعلب وذويه من المتعاطين لِعِلم الشعر دون عَمَله، إنما يعلم ذلك مَنْ دُفِع في مسْلك طريق الشعر إلى مضايِقِه وانتهى إلى ضروراته". (3)

"وحكى الصوليُّ أنه سمع المبرَّد يقول: سمعتُ الحسنَ بن رجاء يقول: ما رأيت أحدًا قط أعلمَ بجيِّدِ الشعر قديمه وحديثه من أبي تمام. وحُكِيَ عنه أنه مر بشعر ابن أبي عيينة فيما كان يختاره من شعر المحدثين، فقال: وهذا كله مختار. هذا وشعرُه أبعدُ الأشياء من شعره، وهذا واضح"(4)،

= يفعل، إن ذلك من قبيل القلب الشائع. وعندي أن الحق هو المذهب الثاني، وهو أن نفيها في معنى الإثبات؛ وذلك لأنهم لما وجدوها في حالة الإثبات مفيدةً معنى النفي جعلوا نفيَها بالعكس، كما فعلوا في لو ولولا. ويشهد لذلك مواضعُ استعمال نفيها؛ فإنك تجد جميعها بمعنى مقاربة النفي لا نفي المقاربة، ولعل ذلك من قبيل القلب المطرد، فيكون قولهم ما كاد يفعل ولم يكد يفعل بمعنى كاد ما يفعل. ولا يبعد أن يكون هذا الاستعمال من بقايا لغة قديمة من العربية تجعل حرفَ النفي الذي حقُّه التأخير مقدما". ابن عاشور: تفسير التحرير والتنوير، ج 1، ص 557 - 559.

(1)

انظر كلام المصنف على هذا الأمر في "قراطيس من نقد الشعر"(رقم 4) فيما يأتي من هذا القسم.

(2)

نشرة هارون، ج 1، ص 14.

(3)

الجرجاني: كتاب دلائل الإعجاز، ص 252 - 253.

(4)

نشرة هارون، ج 1، ص 14.

ص: 1490

تقدمت ترجمةُ الصولي. وأما المبرِّد فهو أبو العباس محمد بن يزيد الثمالي، بضم المثلثة وتخفيف الميم، نسبة إلى "أَزْدِ شَنُوءة" بفتح الشين المعجمة، البصري، الملقب بالمبرِّد، بكسر الراء المشددة على الأصحٍ، المولود سنة 210 هـ، والمتوفَّى سنة 385 هـ. إمام العربية ببغداد، كان فصيحًا علامةً في العربية، صنف كتاب "الكامل"، جمع فيه من أبلغ الكلام وأفصحه نظمًا ونثرا. ولُقِّب بالمبرِّد، وقلَّ مَنْ تعرَّض لضبطه، وقيل: هو بكسر الراء المشدَّدَة، وهو الذي اقتصر عليه ياقوت في "معجم الأدباء"، وأنه لقبه به شيخُه أبو عثمان المازني، ومعناه المثْبِت للحق. وقيل: بفتح الراء، فقال ياقوت: هو تحريف حرفه أهلُ الكوفة (1). وقال ابن خلِّكان عن ابن الجوزي: لقبه به شيخه أبو حاتم السجستاني في قصة ذكرها، فهو المحجول له بُرد (2). قلتُ: وسمعتُ من بعض مشايخي أن المبرِّد كان يقول: برَّد الله مَنْ برَّدني، أي مَنْ يدعوه المبرَّد بفتح الراء، على أنه لقب نبز من البرودة.

وأما الحسن بن رجاء فهو أديبٌ شاعر، كان زمنَ الواثق، ولم أقف على سنة وفاته. وذكر له في "الأغاني" أبياتًا أربعة كتب بها إلى الحسين بن الضحاك الشاعر في ترجمته (3).

(1) الحموي: معجم الأدباء، ج 6، ص 2679.

(2)

ابن خلكان: وفيات الأعيان، ج 4، ص 321. أما القصة التي ساقها ابن الجوزي في ذلك فقد جاءت على لسان ابن المرزبان أن المبرد "سئل: لم سميت المبرد؟ فقال: كان سبب ذلك أن صاحب الشرطة طلبني للمنادمة فكرهت الذهاب إليه، فدخلت على أبي حاتم السجستاني، فجاء رسولُ صاحب الشرطة يطلبني، فقال لي أبو حاتم: ادخل في هذا، يعني غلاف المزبلة فارغ، فدخلت، وغطى رأسه ثم خرج إلى الرسول، فقال أبو حاتم للرسول: ليس هو عندي، فقال: أُخبِرتُ أنه دخل إليك، فقال: فادخل الدار ففتشها. فدخل، فطاف كل موضع من الدار ولم يفطن بغلاف المزبلة، ثم خرج، فجعل أبو حاتم يصفق بيديه وينادي على المزبلة: المبرَّد المبرَّد، وتسامع الناسُ بذلك فلهجوا به". ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ج 12، ص 389.

(3)

الأغاني، ج 3/ 7، ص 147 (نشرة الحسين). وذكر الذهبي بسنده في ترجمة المأمون: "دخل المأمون ديوان الخراج فرأى غلامًا جميلًا على أذنه قلم، فأعجبه جماله، فقال: من أنت؟ قال: النَّاشئُ في دولتك، وخِرِّيجُ أدبك، والمتقَلِّبُ في نعمتك يا أمير المؤمنين، حسن بن رجاء. فقال: يا غلام =

ص: 1491

وابن أبي عيينة اسمه أبو عيينة (1)، وكنيتُه أبو المنهال. ونُسب إلى جده، فهو أبو عيينة بن محمد بن أبي عيينة بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي، البصري (2). كان شاعرًا مطبوعًا من شعراء دولة الأمين، ومدح طاهرَ بن الحسين في خلافة المأمون. قال ابن الأثير في "الكامل" إنه أنشد طاهر بن الحسين:

مَا سَاءَ ظَنِّي إِلَّا بِوَاحِدَةٍ

فِي الصَّدْرِ مَحْصُورَةٍ عَنِ الكَلِمِ

يُعرِّض بقتل طاهر محمدًا بن يزيد المهلبي، فتبسم طاهر وقال:"أما والله ساءني من ذلك ما ساءك، وآلمني ما آلمك" إلخ (3). ترجمه في الأغاني، وقال:"كان [أبو عيينة ابن محمد] بن أبي عيينة يهوى فاطمةَ بنت عمر بن حفص الملقب هزَارَ مَرْدَ" من قواد الدولة العباسية (4). وعن المبرد أنه قال: "لم يجتمع لأحدٍ من المحدَثين في بيتٍ واحد هجاءُ رجلٍ ومديح أبيه، كما اجتمع لابن أبي عيينة في قوله يهجو خالدًا عمَّه:

أَبُوكَ لنَا غَيْثٌ نَعِيشُ بكنفِهِ

وَأَنْتَ جَرَادٌ لَيْسَ يُبْقِى وَلَا يَذَرُ" (5)

= بالإحسان في البديهة تفاضلت العقول، ثم أمر برفع رتبته، وأمر له بمئة ألف". الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج 10، ص 280. وقد بحثت فيما بين يدي من كتب التراجم والسير والتاريخ، فلم أعثر له على ترجمة.

(1)

جمهرة أنساب العرب لابن حزم ص 249 طبع دار المعارف بمصر. - المصنف.

(2)

الأغاني، ج 18، ص 8 طبع بولاق. - المصنف. انظر تفاصيل أخباره وكثيرًا من شعره في: الأغاني، ج 7/ 20، ص 273 - 348 (نشرة الحسين).

(3)

الكامل لابن الأثير ج 6 ص 95. - المصنف. الكامل في التاريخ، ج 5، ص 388.

(4)

وأضاف الأصفهاني أن المرأة المذكورة "كانت امرأة نبيلة شريفة، وكان (ابن أبي عيينة) يخاف أهلها أن يذكرها تصريحًا، ويرهب زوجها عيسى بن سليمان، فكان يقول الشعر" فيها "ويلقبها دنيا كتمانًا لأمرها". الأغاني، ج 7/ 20، ص 275 - 276 (نشرة الحسين). وانظر إحدى قصائده فيها في المصدر نفسه، ص 282 - 283.

(5)

الأصفهاني: الأغاني، ج 7/ 20، ص 297 - 298 (نشرة الحسين)، وفيه:"بوَبْله" عوض "بكنفه"، وهذا الذي أثبته المصنف يبدو أنه تحريف. والبيت من قصيدة هي "من مشهور شعره"، كما قال أبو الفرج. الدينوري: الشعر والشعراء، ص 533 (وفيه: لَسْتَ تُبْقِي وَلَا تَذَرُ).

ص: 1492

وعاش ابنُ أبي عيينة بعد موت المأمون، ولم أقف على تعيين عام وفاته.

وقول أبي تمام في شعره: "وهذا كله مختار"، هو السبب في أنه لم يثبت شيئًا من شعره في "ديوان الحماسة".

"وأما ما غلب على ظنك من أن اختيار الشعراء موقوفٌ على الشهوات؛ إذ ما كان يختاره زيد يجوز أن يزيفه عمرو، وأن سبيلها سبيل الصور في العيون، إلى غير ذلك مما ذكرته، فليس الأمر كذلك"(1)،

أشار المرزوقي بقوله: "إلى غير ذلك مما ذكرته" إلى الجواب عما تقدم من حكاية كلام مَنْ خاطبه بقوله: "بل تعتقد أن كثيرًا مما يستحسنه زيدٌ يجوز أن لا يصادقه عليه عمرو. . ." إلخ. وقد استغنى المرزوقي بما بيَّنه هنا من الأسباب عن التصريح بإبطال قول السائل هناك: "مع أنه لا فضيلةَ لذلك، ولا نقيصةَ لهذا، إلا ما فاز به من الجَد عند الاصطفاء"، ولذلك قال المؤلف هناك:"إلا أنه إذا وضح السبيلُ، وقعت الهدايةُ بأيسر دليل". وقد ظهر من بيان المؤلف إبطالُ اعتقادِ أن يكونَ التفاضُلُ خليًّا عن أسبابٍ ظاهرة علمية، وأنه ليس معلولًا لعلل وهمية يتعلل بها الضعفاءُ في صناعة الأدب، إذا ضعفت مقدرتُهم عن مجاراة السابقين في حلبة الأدب، فيزعمون أن تفوقَ المتفوقين لأجل أنهم مبخوتون، وقديمًا اعتلَّ المشركون لعجزهم عن معارضة القرآن بأن قالوا هذا سحر. وأما قول المعري:

لَا تَطْلُبَنَّ مِنْ غيرِ حَظٍّ رُتْبَةً

قَلمُ البَلِيغِ بِدُونِ حَظٍّ مِغْزَلُ (2)

فإنما جعل الحظَّ سببًا في نوال الرتب، لا في استجادة الكلام، وأيضًا هو من مشايعة الأوهام.

(1) نشرة هارون، ج 1، ص 14.

(2)

سبق الكلام على هذا البيت في بعض حواشي بحث المترادف، فراجعه هناك.

ص: 1493

"لأن من عرف مستورَ المعنى ومكشوفَه ومرفوض اللفظ ومألوفَه، وميَّز البديعَ الذي لم تقتسمه المعارض ولم تعتسفه الخواطر، ونظَرَ وتبَحَّر، ودار في أساليب الأدب فتخَيَّر، وطالت مجاذبتُه في التذاكر والابتحاث، والتداول والابتعاث، وبان له القليلُ النائب عن الكثير، واللَّحْظُ الدالُّ على الضمير، ودرى تراتيبَ الكلام وأسرارَها، كما درى تعاليقَ المعاني وأسبابَها، إلى غير ذلك مما يُكمِّل الآلةَ ويشحذ القريحة - تراه لا ينظر إلا بعين البصيرة، ولا يسمع إلا بأُذُنِ النَّصَفَة، ولا ينتقد إلا بيد المَعْدِلة، فحكمُه الحكم الذي لا يبدَّل، ونقده النقد الذي لا يُغيَّر"(1)،

بين المرزوقي بهذا الكلام أسبابَ الاختيار عند أهل النقد بأنها أسبابٌ حقيقية لا وهمية. قال الآمدي في الموازنة: "وأنبه على الجيد وأفضله على الرديء، وأبين الرديء وأرذلَه، وأذكر من علل الجميع ما ينتهي إليه التخليص وتحيط به العناية. ويبقى ما لم يمكن إخراجه إلى البيان، ولا إظهاره إلى الاحتجاج، وهي علة ما لا يعرف إلا بالدُّربة ودائم التجربة وطول الملابسة. وبهذا يفضُل أهلُ الحذاقة بكل علم وصناعة مَنْ سواهم ممن نقصت قريحتُه وقلت دُربته، بعد أن يكون هناك طبعٌ فيه تقبُّلٌ لتلك الطباع وامتزاج، وإلَّا لا يتم ذلك". (2)

(1) نشرة هارون، ج 1، ص 14 - 15.

(2)

ص 167، طبع الجوايب بالآستانة. - المصنف. أورد المصنف كلام الآمدي بتصرف، وتمام عبارته في بيان منهجه في الموازنة بين البحتري وأبي تمام: "وأنا أذكر بإذن الله الآن في هذا الجزء أنواع المعاني التي يتفق فيها الطائيان، وأوازن بين معنى ومعنى، وأقول أيهما أشعر في ذلك المعنى بعينه. فلا تطلبني أن أتعدى هذا إلى أن أفصح لك بأيهما أشعر عندي على الإطلاق، فإني غير فاعل ذلك؛ لأنك إن قلدتني لم تحصل لك الفائدة بالتقليد. وإن طالبت بالعلل والأسباب التي أوجبت التفضيل، فقد أخبرتك فيما تقدم بما أحاط به علمي من نعت مذهبيهما، وذكر مساويهما في سرقة المعاني من الناس وانتحالها، وغلطهما في المعاني والألفاظ، وفي إساءة مَن أساء منهما في الطباق والتجنيس والاستعارة ورداءة النظم واضطراب الوزن، وغير ذلك مما أوضحته في مواضعه وبينته، وما سيعود ذكره في الموازنة بين هذه الأنواع، وما ستراه من محاسنهما وبدائعهما وعجيب اختراعاتهما. فإني أوقع الكلامَ على جميع ذلك وعلى سائر أغراضهما ومعانيهما في الأشعار التي أرتبها في الأبواب، وأنص على الجيد وأفضله، وعلى الرديء وأرذله، وأذكر من علل الجميع ما =

ص: 1494

وقد أطنب المرزوقي في صفات الناقد الذي يُقبلُ نقدُه، وجعله كالحاكم المصيب حكمُه. وقد قال بعضُ الشعراء:

يَا أَبَا جَعْفَرٍ أَتَحْكُمُ فِي الشِّعْـ

ـرِ وَمَا فِيكَ آلَةُ الحُكَّامِ

إِنَّ نَقْدَ الدِّينَارِ إِلَّا عَلَى الصَّيْـ

ـرَفِ صَعْبٌ فَكَيْفَ نَقْدُ الكَلَامِ

ومراد المؤلف بـ "البديع" المعنى المبتَدع، وقد تقدم. و"المعارض" جمع مِعرض كمنبر، وهو الثوبُ للجارية، وقد تقدم بيانُه، وأراد بها الألفاظَ التي هي للمعاني كالمعارض للجواري. و"الاعتساف" المشيُ في الرمل. و"الابتحاث" المبالغة في البحث. و"النَّصَفة" - بالتحريك - اسم الإنصاف. و"المَعْدِلة"، بفتح الميم وكسر الدال، العدل.

"واعلَمْ أنه قد يعرِف الجيِّدَ مَنْ يجهل الرديء. والواجبُ أن تَعرِف المقابحَ المتَسخَّطة، كلما عَرَفتَ المحاسنَ المرتضاة"(1)،

هذا شروعٌ في التنبيه على علل اختلال الشعر وصفات رديئه، بعد أن انتهى من بيان أسباب الجودة والاختيار. وأراد بقوله:"قد يعرف الجيد من يجهل الرديء"، أنه قد يتمحَّضُ بعضُ الأدباء للانكباب على مطالعة المختارات والدواوين المشهود لها بالإجادة، ولا يشتغل بتتبع ساقط الأشعار؛ لأن في طباع الناس اتباعَ الكمال ومحبةَ العكوف على الحسن، إرضاءً لميل النفس إلى محاسن الأشياء وجمالها، فيبقى غيرَ عالمٍ بالرديء. وبتطاول الإعراض عن تتبع الرديء، يضعُف انتباهُه إلى علل السقوط وأسباب الرداءة.

= ينتهي إليه التخليص وتحيط به العبارة. ويبقى ما لا يمكن إخراجُه إلى البيان ولا إظهاره إلى الاحتجاج، وهو علة ما لا يُعرف إلا بالدربة ودائم التجربة وطول الملابسة. وبهذا يفضل أهلُ الحذاقة بكل علم وصناعة من سواهم ممن نقصت قريحته وقلة دربته". الموازنة، ج 1، ص 410 - 411.

(1)

نشرة هارون، ج 1، ص 15.

ص: 1495

وليس مرادُه يجهل الرديء العجزَ عن أن يدرك رداءةَ الرديء؛ فإن مَنْ عرف الجيدَ لا يعدم إدراكَ ما ليس بجيد، كما دل عليه قوله:"والواجب أن تعرف المقابح. . ." إلخ. فكما يجب معرفةُ أسبابِ الاختيار، يجب معرفةُ علل النقد. فلا جَرَم أن كان واجبًا على مَنْ يُعْنَى بالأدب اهتمامُه بمطالعة ما للشعراء من أسقاط (1) وأغلاط، كما يهتم بما لهم من بدائع أنماط؛ فإن ذلك يزيد في نفسه حسنًا، ولأنَّ ذلك يُكسِبُه ملكةَ الحكم ومقدرةَ الإقناع بأسباب الارتفاع والانحطاط.

"وجِمَاعُها إذا أُجْمِلتْ أنها أضدادُ ما بيَّنَّاه من عَمَدِ البلاغة وخصال البراعة في النظم والنثر"(2)،

أراد بـ "عَمَد البلاغة" ما سماه فيها تقدم "عمود الشعر"، وهو الأبوابُ السبعة، والعَمَد بفتحتين، وبـ "خصال البراعة" ما سبق من شروط الإجادة عند البلغاء.

"وفي التفصيل كأن يكون اللفظ وحشيًّا، أو غير مستقيم"(3) ، قوله "وفي التفصيل" عطفٌ على قوله "إذا أجملت". وهذا تفصيلُ ما أجمله آنفا. وقوله "كأن يكون اللفظ وحشيًّا"، يقال وحشي، ويقال حوشي، بطريق القلب المكاني. والوحشيُّ اللفظُ الذي يقِلُّ استعمالُه في الكلام الفصيح، أو يكون مرادُ الشاعر به غيرَ معلوم. ومثالُه ما وقع في شعر أبي حزام غالب العُكْلي، من شعراء زمن المهدي، من قوله:

تَذَكَّرْتُ سَلْمَى وَإِهْلَاسَهَا

فَلَمْ أَنْسَ وَالشَّوْقُ ذُو مَطْرُؤَه (4)

(1) جمع سَقط، وهو الشيء الساقط. - المصنف.

(2)

نشرة هارون، ج 1، ص 15.

(3)

المصدر نفسه.

(4)

قدامة بن جعفر: نقد الشعر، ص 149 - 150؛ المرزباني: الموشح، ص 394 - 395. البيت من قصيدة قالها أبو حزام في أبي عبيد الله كاتب المهدي. الإهلاس: ضحِكٌ فيه فتور، وأهلس بالحديث: أخفاه. والهَلْسُ والهُلاس: شدة السُّلال من الهزال، كذا قال الأزهري. وقال الجوهري: الهلاس: السِّل. ومطرؤة: على وزن مفعُلة، من طرأ عليه الأمر، إذا جاء من حيث لا يعلم ولا يحتسب. ولم يثبتها أصحاب المعاجم كالأزهري والجوهري وابن سيده وابن منظور. =

ص: 1496

وأنشد أحمدُ بنُ جحدر ابنَ الأعرابي أبياتًا، منها قولُه:

حَلَفْتُ بِمَا أَرْقَلَتْ نَحْوَهُ

هَمَرْجَلَةُ خَلْقُهَا شَيْظَمُ

فقال له ابنُ الأعرابي: "إن كنت جادًّا فحسيبك الله"(1) أي إن لم يكن مقصدُك بجلب هذين اللفظين المزحَ، فقد أسأتَ في صناعة الشعر، فلذلك دعا عليه بـ "حسيبك الله"، الذي يُستعمل كنايةً عن جزاء ارتكاب السيئة، لا دعاء.

"أو غير مستقيم"(2)، أراد به ما خالف قياسَ اللغة، كقول أبي النجم:"الحمدُ لله العَلِيِّ الأَجْلَل"(3) بفك الإدغام، أو ما خفي اشتقاقُه كقول العجاج:"وفاحمًا ومرسنًا مسرجًا"(4)، فلم يُدْرَ أَأَراد أنه منسوبٌ إلى السيف السُّرَيْجِيِّ في الدقة والاستواء، أم إلى السراج في البريق؟

= والواقع أن الشاعر المذكور في قصيدته التي أولها البيت المستشهد به قد جرى استعمال كثير من الألفاظ بنفس الوزن مما لا جريان له في الاستعمال، ولذلك فهي ليست مما أثبته كثير من أصحاب المعاجم. من ذلك "محْجُؤة، ومنهؤة، ومشكؤة، ومحمؤة".

(1)

ابن جعفر: نقد الشعر، ص 150؛ الموشح، ص 395 - 396. والبيت من قصيدة قالها الشاعر المذكور - أحمد بن جحدر الخراساني - في مالك بن طوق، ثم زاد قدامة أنه قيل هي لمحمد بن عبد الرحمن الغريبي الكوفي قالها في عيسى الأشعري. والهمرجلة: السريعة، والشيظم: الطويل الجسم.

(2)

نشرة هارون، ج 1، ص 15.

(3)

هذا صدر البيت الأول من أرجوزة اسمها "أم الرجز" وهي تشتمل على ثمانية ومائتي مشطور، أنشأها الشاعر في مدح هشام بن عبد الملك، وهذا لفظ المشطور الأول في الديوان، وتمام البيت كما هو شائع:

الحمْدُ لله العَليِّ الأَجْلَلِ

الوَاحِدِ الفَرْدِ القَدِيمِ الأَوَّلِ

وجاءت رواية الأصفهاني له بلفظ: "الحمد لله الموهوب المجزل". أما المشطور الثاني فلفظه في الديوان: "الواهب الفضل، الوهوب المجزل". ديوان أبي النجم العجلي، ص 337 - 363؛ الأغاني، ج 4/ 10، ص 114 - 118 (نشرة الحسين).

(4)

هذا عجز البيت التاسع والثلاثين من الأرجوزة رقم 33، وتمامه:

وَمُقْلَةً وَحَاجِبًا مُزَجَّجَا

وفَاحِمًا وَمَرْسِنًا مُسَرَّجَا

وتشتمل هذه الأرجوزة على مائة وسبعة وأربعين بيتًا من مشطور الرجز، ومطلعها: =

ص: 1497

"أو لَا يكون مستعملًا في المعنى المطلوب"(1)، يعني به الغلطَ في استعمال اللفظ، كما تقدم من قول المسيَّب بن عَلَس:"بِنَاجٍ عَلَيْهِ الصَّيْعَريَّةُ مِكْدَمِ".

ومثلُه الاستعارةُ المذمومة، كقول أبي تمام:

لَا تَسْقِنِي مَاءَ المَلَامِ فَإِنَّنِى

صَبٌّ قَدِ اسْتَعْذَبْتُ مَاءَ بُكَائِي (2)

حيث شبَّه اللوم بالماء المشروب.

"فقد قال عمر رضي الله عنه في زهير: لا يتتبع الوحشيَّ، ولا يعاظل في الكلام"(3)، ساقه المؤلفُ حجةً على السلامة من الوحشية ومن عدم الاستقامة، ولذلك لم يقتصر على إحدى الجملتين كما اقتصر على الجملة الثالثة فيما تقدم من قول عمر:"ولا يمدح الرجل إلا بما يكون للرجال"، حيث كانت ترجع إلى حسن معنى الوصف.

وقول عمر: "لا يعاظل "الكلام"، وقع في النسخ: "ولا يعاظل الكلام"، بسقوط حرف الظرفية، ولا يتعدى فعل يعاظل إلى الكلام بنفسه، فهو من باب نزع الخافض. وفي كتاب "جمهرة أشعار العرب" لأبي زيد: "ولا يعاظِل بين الكلامين" (4)، وفي "نقد الشعر" و"الموازنة" و"المثل السائر": "ولا يعاظل بين الكلام" (5). وإضافة

= مَا هَاجَ أَحْزَانًا وَشَجْوًا قَدْ شَجَا

مِنْ طَلَلٍ كَالأَتْحَمِيِّ أَنْهَجَا

ديوان العجاج، ج 2، ص 13 - 82.

(1)

نشرة هارون، ج 1، ص 15.

(2)

ديوان أبي تمام، ص 14. والبيت هو الثاني من قصيدة طويلة قالها أبو تمام في مدح يحيى بن ثابت.

(3)

نشرة هارون، ج 1، ص 15.

(4)

صفحة 25 طبع بولاق سنة 1308. - المصنف. الأنصاري: جمهرة أشعار العرب، ص 76 - 77. وتمام كلام عمر كما رواه أبو زيد:"لا يعاظل بين الكلامين، ولا يتتبع وحشيَّ الكلام، ولا يمدح أحدًا بغير ما فيه". وهو يرويه عن أبي عبيدة عن الشعبي يرفعه إلى ابن عباس. ورواه الآمدي بلفظ مختلف قليلًا: "كان لا يعاظل بين الكلامين، ولا يتتبع حوشيَه، ولا يمدح الرجلَ إلا بما في الرجل".

(5)

قدامة بن جعفر: نقد الشعر، ص 151؛ الآمدي: الموازنة، ج 1، ص 293؛ ابن الأثير: المثل السائر، ج 1، ص 285. وانظر كذلك: الأصفهاني: الأغاني، ج 4/ 11، ص 215.

ص: 1498

"بين" إلى الكلام وهو مفرد؛ لأنه على تقدير الأجزاء، أي بين أجزاء الكلام ومفرداته. ومعنى "يعاظل" يجعل الكلام متعاظلًا، كما جاء في الحديث:"سابق بين الخيل"(1)، أي جعلها تتسابق.

واختلفت أقوالهُم في تفسير المعاظلة اختلَافًا يتبعون فيه ما يقتضيه اشتقاقُ اللفظ: ففسر أبو زيد المعاظلة بأن يُرَدِّدَ الكلامَ في قافيةٍ لمعنى واحد، يعني الإيطاء. وفسرها قدامة بأنها أن يُدْخِل في الكلام "ما ليس من جنسه، وما هو غيرُ لائقٍ به"(2)، وهذا تفسيرٌ غلَّطه فيه الآمدي في الموازنة. وفسَّر هو المعاظلةَ بأنها شدةُ تعليق الشاعر ألفاظَ البيت بعضها ببعض، وأن يُداخِلَ لفظةً من أجل لفظة تُشبِهُها أو تُجانِسُها وإن اختلَّ المعنى بعضَ الاختلال، كأنه يعني الإفراطَ في التجنيس، ومثَّلها بقول أبي تمام:

خَانَ الصَّفَاءَ أَخٌ خَانَ الزَّمَانُ لَهُ

أَخَا فَلَمْ يَتَخَوَّنْ جِسْمَهُ الكَمَدُ (3)

لكثرة ألفاظ خان وتخون وأخ وأخا (4). وفسَّرها ابنُ الأثير في كتاب "المثل السائر" بما يشمل التعقيدَ اللفظي، والتعقيدَ المعنوي، والتنافرَ، وتكرارَ العوامل،

(1) عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي أُضْمرت: منَ الحَفْيَاء، وأمَدُها ثَنيَّةُ الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تُضمَرْ من الثنية إلى مسجد بني زُريق، وأن عبد الله بن عمر كان فيمن سابق بها". صحيح البخاري، "كتاب الصلاة"، الحديث 420، ص 73؛ "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة"، الحديث 7336، ص 1262؛ صحيح مسلم، "كتاب الإمارة"، الحديث 1870، ص 748؛ سُنَنُ أبي دَاوُد، "كتاب الجهاد"، الحديث 2575، ص 411؛ سنن النسائي، "كتاب الخيل"، الحديث 3583، ص 587. ومعنى أُضمرت، من الإضمار والضمور وهو الهزال، والخيل المضمرة هي التي ذهب رهلُها فقوي لحمها واشتد جريها.

(2)

قدامة بن جعفر: نقد الشعر، ص 151.

(3)

ديوان أبي تمام، ص 352. والبيت هو الثاني من قصيدة يرثي فيها بني حميد.

(4)

الآمدي: الموازنة، ج 1، ص 293 - 295. قال الآمدي في تفسير المعاظلة:"إن من المعاظلة التي قد لخصت معناها في الكتاب على قدامة (يعني الكتاب الذي صنفه في الرد على "نقد الشعر" لقدامة) شدة تعليق الشاعر ألفاظ البيت بعضها ببعض، وأن يداخل لفظة من أجل لفظة تشبهها =

ص: 1499

وتتابعَ الإضافات (1). ويظهر أن المؤلف يجعل المعاظلةَ كونَ اللفظ غير مستقيم الدلالة، أو غيرَ مستعمل في المعنى المطلوب. وهذا تفسيرٌ يشمل جميعَ ما فسروا به المعاظلة، فلله دره في إيجازه وإعزازه. وأيًّا ما كان تفسير المعاظلة، فهي عيب يتعلق بالألفاظ من حيث هي دالةٌ على المعاني التي تُفهم منها.

"أو يكون فيها زيادةٌ تُفسد المعنى أو نقصان"(2)،

أما "الزيادة المفسدة" فكقول الشاعر:

بِأَطْيَبَ مِنْ فِيهَا لَوْ أَنَّكَ ذُقْتَهُ

إِذَا لَيْلَةٌ أَسْجَتْ وَغَارَتْ نُجُومُهَا

فقوله: "لو أنك ذقته" زيادةٌ تُفسد المعنى؛ لأنها "توهم أنه لو لم يذقه لم يكن طيبا". (3) وأما "النقصان المفسد للمعنى" فهو أن يترك من اللفظ ما به تمامُ المعنى المراد، كقول الشاعر:

لَا يَرْمَضُونَ إِذَا حَرَّتْ مَشَافِرُهُمْ

وَلَا تَرَى مِنْهُمْ فِي الطَّعْنِ مَيَّالَا (4)

وَيَفْشِلُونَ إِذَا نَادَى رَبِيئُهُمْ

أَلَا ارْكَبُنَّ فَقَدْ آنَسْتُ أَبْطَالَا (5)

= أو تجانسها، وإن أخل بالمعنى بعض الإخلال". وقد تبعه ابن الأثير في تغليط قدامة بن جعفر في تفسيره للمعاظلة. المثل السائر، ج 1، ص 286. وقال الأصمعي: "يعاظل بين الكلام: يداخل فيه". الأصفهاني: الأغاني، ج 4/ 11، ص 216 (نشرة الحسين).

(1)

ابن الأثير: المثل السائر، ج 1، ص 286 - 296.

(2)

نشرة هارون، ج 1، ص 15.

(3)

قدامة بن جعفر: نقد الشعر، ص 176.

(4)

أرمض يرمض رمضًا، من باب تعب، إذا رعى البعير في الرمضاء. وحرَّت: أصابها الحر. شبههم بإبل لا ترضى برعي المرعى الذي أصابته الحرارة. - المصنف.

(5)

يصف قومًا بإباء الضيم، فشبههم بإبل لا ترمض، أي لا ترعى الرمضة، وهي الأرض التي اشتدت حرارةُ مرعاها من شدة الرمضاء. وفي "يرمضون" استعارة مكنية، ووصفهم بالنشاط إذا دُعُوا إلى منازلة الأبطال. - المصنف. الأرجح أن البيتين لأبي الصلت بن الربيع، شاعر من الطائف، فقد أورد الأولَ منهما ابن سلام ضمن قطعة من سبعة أبيات لأبي الصلت يمدح فيها =

ص: 1500

فقوله "ويفشلون" أراد أن يقول: "ولا يفشلون"، فحذف "لا" فصار إلى ضد المعنى (1). ومن هذا النوع الإيجازُ الذي لا يفي بالمقصود، كقول الحارث بن حلزة:

وَالعَيْشُ خَيْرٌ فِي ظِلَا

لِ النُّوكِ مِمَّنْ عَاشَ كَدَّا (2)

أراد العيشَ الناعم في حالة الحماقة خير من العيش بكد في حالة العقل، فقصر عن المراد.

- 7 -

"أو لَا يكون بين أجزاء البيت التئام، أو تكون القافيةُ قلقةً في مقرها أو معيبةً في نفسها"(3)، تقدم الكلامُ على هذا عند الكلام على باب التحام أجزاء النظم، وعند الكلام على عيار التحام أجزاء النظم.

أما قول المؤلف: "أو تكون القافيةُ قلقةً في مقرها"، فهو ما تقدم الكلامُ عليه عند الكلام على باب شدة اللفظ والمعنى للقافية من الأبواب السبعة التي هي عمود الشعر، وعند الكلام على عيار شدة اقتضاء اللفظ والمعنى للقافية. وأما قوله:"أو معيبةً في نفسها"، فالمرادُ به أن تكون كلمةُ القافية معيبةً بعيبٍ مما يرجع إلى عيوب اللفظ، مثل قول المتنبي:

يَصِيحُ القَطَا فِيهَا صِيَاحَ اللَّقَالِقِ (4)

= أهل فارس حين قتلوا الحبشة، وذكرهما قدامة دون نسبة. الجمحي: طبقات فحول الشعراء، ص 101؛ ابن جعفر: نقد الشعر، ص 175.

(1)

ابن جعفر: نقد الشعر، ص 176.

(2)

الأصفهاني: الأغاني، ج 4/ 11، ص 273 (نشرة الحسين).

(3)

نشرة هارون، ج 1، ص 15.

(4)

هذا عجز البيت، وصدره:"وملمومةٌ سيفيةٌ رَبَعية". والبيت هو الثلاثون من قصيدة قالها أبو الطيب يمدح سيف الدولة ويذكر ما أوقعه ببني عقيل وبني العجلان وكلاب لما عاثوا في بعض نواحي ملكه. البرقوقي: شرح ديوان المتنبي، ج 3، ص 67. (وفيه الحصى بدل القطا).

ص: 1501

وقوله:

لَوِ اسْتَطَعْتُ رَكِبْتُ النَّاسَ كُلَّهُمُ

إِلَى سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الله بُعْرَانَا (1)

فإن "اللقالق" و"بعرانا" لا يخلوان عن كراهة في السمع.

"أو يكون في القَسْمُ أو التقابل أو في التفسير فساد"(2)، أما "فساد التقسيم" فهو ضد صحة التقسيم، وهو يكون على وجهين: أحدهما أن يأتِيَ الشاعرُ بتقسيم وليس هو بتقسيم، كقول هذيل الأشجعي:

فَمَا بَرِحَتْ تُومِي إِلَيَّ بَطَرْفِهَا

وَتُومِضُ أَحْيَانًا إِذَا خَصْمُهَا غَفَلْ (3)

فإن "تومي" و"تومض" متساويان. وقريبٌ منه قول لبيد:

كَدُخَانِ مُشْعَلَةٍ يُشَبُّ ضِرَامُهَا

ثم قال بعده فيها:

كَدُخَانِ نَارٍ سَاطِعٍ أَسْنَامُهَا (4)

(1) البيت هو السادس عشر من قصيدة قالها المتنبي في مدح أبي سهل سعيد بن عبد الله بن عبيد الله بن الحسن الأنطاكي. البر قوقي: شرح ديوان المتنبي، ج 4، ص 355. وبُعران، جمع بعير، وهو في البيت منصوب على أنه حال من "الناس"، ويريد المتنبي بالناس جماعةً بأعيانهم، كما قال عبد الرحمن البرقوقي.

(2)

نشرة هارون، ج 1، ص 15.

(3)

قدامة بن جعفر: نقد الشعر، ص 165؛ الخفاجي: سر الفصاحة، ص 226. وقد أورد قدامة هذا البيتَ عند الكلام على التكرير من باب فساد التقسيم.

(4)

البيتان من المعلقة، وتمام الأول:

فَتَنَازَعَا سَبِطًا يَطِيرُ ظِلَالُهُ

كَدُخَانِ مُشْعَلَةٍ يُشَبُّ ضِرَامُهَا

وتمام الثاني:

مَشْمُولَةٍ غُلِثَتْ بنَابِتِ عَرْفَجٍ

كَدُخَانِ نَارٍ سَاطِعٍ أَسْنَامُهَا

القرشي: جمهرة أشعار العرب، ص 175 - 176؛ ديوان لبيد بن ربيعة، ص 103 و 110 على التوالِي.

ص: 1502

وثانيهما: أن يترك شيئًا من التقسيم، كقول جرير:

كَانَتْ حَنِيفَةُ أَثْلَاثًا فثُلْثُهُمُ

مِنَ العَبِيدِ وَثُلُثٌ مِنْ مَوَالِيهَا (1)

وسكت عن الثلث الثالث.

وأما "فساد التقابل"، فهو فساد التضاد المقصود، كقول أبي عدي:

رُحَمَاءُ لِذِي الصَّلَاحِ وَضرَّابُو

نَ قِدْمًا لِهَامَةِ الصِّنْدِيدِ (2)

فقابلَ ذا الصلاح بالصنديد، وقد يكون الصنديدُ صالِحًا لهم، أفيضربون هامته؟ وقد يكون غير الصنديد شريرًا، أفلا يضربون هامته.

وأما "فساد التفسير"، فهو فساد البيان بأن لا يلاقي البيانُ مَا أُجمل سابقًا، كقول بعضهم مادحًا:

فَيَا أَيُّهَا الحيْرَانُ فِي ظُلَمِ الدُّجَى

وَمَنْ خَافَ أَنْ يَلْقَاهُ بَغْيٌ مِنَ العِدَى

تَعَالَ إِلَيْهِ تَلْقَ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ

ضِيَاءً وَمِنْ كَفَّيْهِ بَحْرًا مِنَ النَّدَى (3)

(1) هو البيت قبل الأخير من قصيدة من ثلاثة عشر بيتًا يهجو فيها بني حنيفة. ديوان جرير، ج 2، ص 545. وفيه "صارت" بدل "كانت".

(2)

قدامة بن جعفر: نقد الشعر، ص 166؛ ابن منقذ: البديع في نقد الشعر، ص 152. ووجه فساد المقابلة - كما قال ابن منقذ - أن "الصنديد لا يوفق ذوي الصلاح، وإنما الصواب هامة الشرير". والشاعر هو أبو عدي - ويكنى كذلك بأبي علي - عبد الله بن عمر بن عبد الله بن علي بن عدي بن ربيعة بن عبد العُزى بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، القرشي، العبشمي، المعروف بالعَبْلي. شاعر حجازي، من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية. انظر ترجمته وأخباره في: الأصفهاني: الأغاني، ج 4/ 11، ص 424 - 433 (نشرة الحسين)؛ ابن عساكر، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله الشافعي: تاريخ مدينة دمشق وذكر فضلها وتسمية مَنْ حل بها من الأماثل أو اجتاز بنواحيها من وارديها وأهلها، تحقيق جماعة من العلماء (بيروت: دار الفكر، 1416/ 1996)، ج 31 ص 207 - 216.

(3)

قدامة بن جعفر: نقد الشعر، ص 167؛ المرزباني: الموشح، ص 284؛ ابن منقذ: البديع في نقد الشعر، ص 149؛ العلوي: نضرة الإغريض، ص 429؛ ابن معصوم المدني: أنوار، ج 6، =

ص: 1503

فتبيينُ ما يترقبه في ظلمة الدجى بحصول ضياء وجه الممدوح تفسيرٌ صحيح، ولكن تبيين ما يترقبه خائفُ البغي بحصول الكرم تبيين فاسد. ومن فساد التفسير سخافتُه، كقول عز الدين الموصلي في بديعيته:

ذِكْرُ الإِمَامِ وَابْنَيْهِ يُفَسِّرُهُ

عَلِيٌّ وَالحَسَنَانِ أَكْرِمْ بِذِكْرِهِمِ (1)

على ما في البيت من ضرورات ركيكة ثلاث.

"أو فِي المعنى تناقض"(2)، بحيث يقتضي بعضُ المعاني نقيضَ البعض الآخر في الغرض الواحد، بلا تأويل. ومن المعلوم مراعاةُ شروطِ التناقض في هذا، وهي ما يُعبَّر عنها بالوحدات الثمان في علم المنطق (3)، وإلا فإن من التناقض ما هو معدودٌ من لطائف الأساليب، كقوله تعالى:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17](4). ومنه ما يُسمى بالطباق، وهو الجمعُ بين معنيين متضادَّين ولو في الجملة:

= ص 126. والبيتان غير منسوبين في هذه المراجع كلها، ولكن قدامة ذكر أن قائلهما كان ممن يرتاد مجلسه، هو ويسمع خوضه "في أشياء من نقد الشعر".

(1)

ابن معصوم المدني: أنوار الربيع، ج 6، ص 127.

(2)

نشرة هارون، ج 1، ص 15.

(3)

وهذه الوحدات هي الشروط التي لا بد من وجودها حتى يتحقق التناقض بين القضيتين. وبعضهم عدها تسعة، وهي اتحاد القضيتين في الأمور الآتية: المحمول، والموضوع، والزمان، والمكان، الفعل والقوة، الكل والبعض، الإضافة، الشرط، الاتحاد في التحصيل والعدول. انظر للمزيد من التفصيل: الشنقيطي: آداب البحث والمناظرة، ص 89 - 95.

(4)

قال الميساوي: ذكر المطيريُّ في حاشية تحقيقه لشرح المقدمة الأدبية (ص 169، الحاشية 1) أن الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك انتقد على ابن عاشور عدَّه الآيةَ من قبيل التناقض، وذلك لما يسبق إلى الذهن من معنى مذموم عند سماع هذا اللفظ، ولما "في هذا الإطلاق من الشناعة". ويبدو أن صاحبَ هذا الانتقاد وناقله قد غفلا عن أمرين رئيسين في كلام ابن عاشور: الأمر الأول أن كلامه على التناقض هو من حيث اعتباره "من لطائف الأساليب". أما الأمر الثاني فهو أنه قد ذكر قيدًا مهمًّا في قبول حصول التناقض بهذا الاعتبار، وهو أن لا يفيد "بعضُ المعاني نقيضَ البعض =

ص: 1504

قِفْ بِالدِّيَارِ الَّتِي لَمْ يَعْفُهَا القِدَمُ

بَلَى، وغَيَّرَهَا الأَرْوَاحُ، وَالدَّيَمُ (1)

إذ جمع بين قوله "لم يعفها" وبين نقض النفي بحرف "بلى". وقد يُغتفر ذلك لضرب من التمليح، كقول بعض الأدباء:

أَسْكَرُ بِالأَمْسِ إِنْ عَزَمْتُ عَلَى الشُّرْ

بِ غَدًا إنَّ ذَا منَ الْعَجَب (2)

وليس ذلك بظريف، لما فيه من الغلو. وكذا قولُ ابن الفارض:

شَرِبْنَا عَلَى ذِكْرِ الحَبِيبِ مُدَامَةً

سَكِرْنَا بِهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُخْلَقَ الكَرْمُ (3)

وقد عابوا على عبد الرحمن بن عبد الله القَس قولَه:

وَإِنِّي إِذَا مَا المَوْتُ حَلَّ بِنَفْسِهَا

يَزَالُ بنَفْسي قَبْلَ ذَاكَ فَأُقْبَرُ

لأن شرط إذا يقتضي المستقبل، أي إذا هي ماتت يموت هو قبل ذلك (4).

= الآخر في الغرض الواحد، بلا تأويل"، وهذا يعني أن التناقضَ ظاهريٌّ وليس حقيقيًّا، وأنه يرتفع بالتأويل. وقد جلَّى ابنُ عاشور الأمرَ في خصوص الآية محل الشاهد بما لا يدع مجالًا لتوهمِ أنه كان غافلًا عن التمييز بين التناقض الظاهري والحقيقي. انظر: تفسير التحرير والتنوير، ج 5/ 9، ص 294 - 296.

(1)

ديوان زهير بن أبي سلمى، ص 113. والبيت من قصيدة يمدح فيها زهيرٌ هرِمَ بن سنان المري. الأصفهاني: الأغاني، ج 4/ 11، ص 223 (نشرة الحسين).

(2)

البيت من قصيدة لأبي الشكر محمود بن سليمان بن سعيد الموصلي، يعرف بابن المحتسب، تفقه ببغداد، وكان مصاحبًا لابن الشَّهْرَزُوري. ولي نظرَ أوقاف النظامية ببغداد. توفي سنة 598 هـ. ابن كثير: البداية والنهاية، ج 16، ص 720 - 721.

(3)

ديوان الشيخ عمر بن الفارض (القاهرة: المطبعة الميمنية لمصطفى البابي الحلبي وأخويه، 1322)، ص 97.

(4)

بين ابن سنان الخفاجي والمرزباني أن هذا من نوع المتناقض على طريق المضاف، حيث "جمع بين قبل وبعد وهما من المضاف؛ لأنه لا قبل إلا لبعد، ولا بعد إلا لقبل". فالشاعر "وضع هذا القولَ وضعَ الشرط، وجعل جوابه: يزال بنفسي، ثم قال: قبل ذاك. فكأنه قال: إن نفسي تزول بعد نفسها وقبلها، وهذا مثل قول القائل: إذا دخل زيد الدار دخل عمرو قبله، وذلك متناقض". المرزباني: الموشح، ص 263 - 264؛ الخفاجي: سر الفصاحة، ص 233. وقد عد أبو هلال العسكري =

ص: 1505

"أو خروج إلى ما ليس في العادة أو الطبع"(1)، سماه خروجًا؛ لأنه مخالفةٌ لصحة الكلام، فكأن صاحبه خرج من حظيرة معاني الشعر إلى الهَوَس، وهو يرجع إلى الخطأ في المعاني. مثالُ الخروج إلى ما ليس في العادة قولُ أبي الطيب:

يُرَادُ منَ القَلْب نِسْيَانُكُم

وَتَأْبَى الطِّبَاعُ عَلَى النَّاقِلِ (2)

إذ ليس من عادة المحبين الرغبةُ في نسيان الأحباب، إلا أن يكون الذي أراد منه ذلك غيرَ نفسه، فتأمله!

ومثال الخروج إلى ما ليس في الطبع قولُ المرار:

= هذا البيت "من الحال الذي لا وجهَ له". كتاب الصناعتين، ص 73. أما الشاعر القَس فهو "عبد الرحمن بن أبي عمار من بني جشم بن معاوية، وكان منزله بمكة. وكان سبب افتتانه بها فيما حدثني خلاد الأرقط قال سمعت من شيوخنا أهل مكة يقولون: كان القس من أعبد أهل مكة، وكان يشبه بعطاء بن أبي رباح، وأنه سمع غناء سلامة القس على غير تعمد منه لذلك. فبلغ غناؤها منه كل مبلغ، فرآه مولاها فقال له: هل لك أن أخرجها إليك أو تدخل فتسمع، فأبى. فقال مولاها: أنا أقعدها في موضع تسمع غناءها ولا تراها، فأبى. فلم يزل به حتى دخل، فأسمعه غناءها فأعجبه. فقال له: هل لك في أن أخرجها إليك؟ فأبى. فلم يزل به حتى أخرجها فأقعدها بين يديه، فتغنت، فشغف بها وشغفت به، وعرف ذلك أهلُ مكة. فقالت له يومًا: أنا والله أحبك. قال: وأنا والله أحبك. قالت: وأحب أن أضع فمي على فمك. قال: وأنا والله أحب ذاك. قالت: فما يمنعك؟ فوالله إن الموضع لخالٍ. قال: إني سمعت الله عز وجل يقول: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)} [الزخرف: 67]، وأنا أكره أن تكون خلةٌ ما بيني وبينك تؤول إلى عداوة. ثم قام وانصرف، وعاد إلى ما كان عليه من النسك"، وأنشأ في ذلك قصيدة مشهورة. الأصفهاني: الأغاني، ج 3/ 8، ص 454 و 457.

(1)

نشرة هارون، ج 1، ص 15.

(2)

البيت هو الثاني من قصيدة قالها المتنبي في مدح سيف الدولة وذكر استنقاذه أبا وائل تغلب بن داود بن حمدان العدوي من أسر الخارجي سنة 330، ومطلعها:

إِلَامَ طَمَاعِيَةُ العَاذِلِ

وَلَا رَأْيَ فِي الحُبِّ لِلْعَاقِلِ

البرقوقي: شرح ديوان المتنبي، ج 3، ص 153.

ص: 1506

وَخَالٍ عَلَى خَدَّيْه يَبْدُو كَأَنَّهُ

سَنَا البَرْقِ فِي دَعْجَاءَ بَادٍ دُجُونُهَا (1)

فجعل الخال مفرِطًا في البياض وطبيعة الخال السواد وإلا فقد انقلب بهقا.

"أو يكون الوصف غير لائق للموصوف"(2)، من أغلاط الشعراء في الجاهلية في الوصف قولُ المسيَّب بن علس:

وَقَدْ أَتَلَافَى الهَمَّ عِنْدَ احْتِضَارِهِ

بِنَاجٍ عَلَيْهِ الصَّيْعَرِيَّة مُكْدَم

الناجي الجمل الفحل، والصيعرية سمة يسم بها أهلُ اليمن النوقَ الكرائم، فلا يوسم بها الجمل. وأنشد هذا البيتَ بمحضر طرفة بن العبد وهو يومئذ صبي، فقال طرفة:"استنوق الجمل" وضحك منه، فأرسلها مثلا (3). وقد ورد في كتب الأدب كثيرٌ من هذا، كما في الموازنة للآمدي، ولذا قال المؤلف فيما مضى:"وعيارُ الإصابة في الوصف الذكاء، وحسنُ التمييز".

وقد يجيءُ الخطأُ من حَصَر في التعبير، كما وقع لعبد الله بن أبي السِّمط في مدح الخليفة المأمون العباسي قولُه:

أَضْحَى إِمَامُ الهُدَى المَأْمُونُ مُشْتَغِلًا

بِالدِّينِ وَالنَّاسُ بِالدُّنْيَا مَشَاغِيلُ

قالوا: لما سمعه المأمون نظر إليه نظرة كاد أن يصْطَلِمَهُ عليها، فلما حدّث عبدُ الله بذلك عمارةَ بن عقيل بن بلال بن جرير، قال عمارة: "لقد أحسَنَ إذ لم

(1) قدامة بن جعفر: نقد الشعر، ص 174. والشاعر هو أبو حسان المرار بن سعيد بن حَبيب بن خالد ابن نضلة، الفقعسي نسبة إلى أحد أجداده، الأسدي نسبة إلى قبيلته بني أسد بن خُزيمة. شاعرٌ إسلامي من شعراء الدولة الأموية، كان شجاعًا كريمًا من سكان البادية، وكان كثير الشعر، ولكنه كان من الشعراء اللصوص، وقد سجن مرتين. أكثر موضوعات شعره - الذي فقد أغلبه - الوصف والرثاء والفخر والغزل والهجاء. لم أعثر على تاريخ ولادته ولا وفاته.

(2)

نشرة هارون، ج 1، ص 15.

(3)

تقدم الكلام في هذا والتعريف بالشاعر.

ص: 1507

يؤدِّبْك، وإذا لم يشتغل هو بالدنيا فمن يشتغل بها؟ هلا قلت كما قال جدِّي جريرٌ في عمر بن عبد العزيز:

فَلَا هُوَ فِي الدُّنْيَا مُضِيعٌ لِدِينِه

وَلَا عَرَضُ الدُّنْيَا عَنِ الدِّينِ شَاغِلُهْ (1)

وفي رواية أنه قال له: "ما زدتَ على أن جعلتَ أميرَ المؤمنين عجوزًا في محرابها". (2)

"أو يكون في البيت حِشْوٌ لا طائلَ فيه"(3)، "الحِشْو" بكسر الحاء، هو الكلام الذي ليس فيه فائدةٌ في الغرض بمعنى المحشو؛ لأنه لا جدوَى له إلا الزيادة في الكلام، كقول مَصْقَلَة بن هبيرة:

(1) ديوان جرير (بشرح محمد بن حبيب)، ج 2، ص 703. وفيه "نصيبه" عوض "لدينه".

(2)

روى ابن عبد ربه أن عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير قال: "إني بباب المأمون إذ خرج عبد الله بن أبي السِّمط، فقال لي: علمتُ أن أمير المؤمنين على كماله لا يعرف الشعر. قلت له: وبم علمت ذلك؟ قال: أسمعته الساعة بيتًا لو شاطرني ملكه عليه لكان قليلًا، فنظر إلي نظرًا شزرًا كاد يصطلمني. قلت له: وما البيت؟ فأنشد (وذكر البيت). قلت له: والله لقد حلم عليك إذ لم يؤدبك عليه. ويلك! وإذا لم يشتغل هو بالدنيا فمن يدبر أمرها؟ ألا قلتَ كما قال جدي في عبد العزيز بن مروان:

فَلَا هُوَ فِي الدُّنْيَا مُضِيعٌ نَصِيبَه

وَلَا عَرَضُ الدُّنْيَا عَنِ الدِّينِ شَاغِلُهْ

فقال: الآن علمتُ أنني أخطأت". ابن عبد ربه: العقد الفريد، ج 6، ص 214. وبيت جرير كما أوردناه في الحاشية هو رواية الديوان، وهو الحادي عشر من قصيدة قالها في مدح عبد العزيز بن مروان وقيل عبد العزيز بن الوليد. ديوان جرير، ج 3، ص 703. وابن أبي السِّمط هو عبد الله بن مروان بن أبي حفصة الأصغر، والسمط كنية لأبيه مروان، ولم أعثر له على ترجمة. أما البيت فقد نسبه العسكري والخفاجي والراغب لمروان بن أبي حفصة، ونسبه التنوخي والآمدي لابنه عبد الله. شعر مروان بن أبي حفصة، تحقيق حسين عطوان (القاهرة: دار المعارف، ط 2، 1982)، ص 117 و 133؛ الخفاجي: سر الفصاحة، ص 250؛ التنوخي، أبو علي المحسن بن علي: المستجاد من فعلات الأجواد، تحقيق محمد كرد علي (بيروت: دار صادر، تصوير عن طبعة المجمع العلمي العربي بدمشق، 1412/ 1992)، ص 249؛ الآمدي: الموازنة، ج 2، ص 355؛ الأصفهاني: محاضرات الأدباء، ج 2، ص 417.

(3)

نشرة هارون، ج 1، ص 15.

ص: 1508

ألِكْنِي إِلَى أَهْلِ العِرَاقِ رِسَالَةً

وَخُصَّ بِهَا - حُيِّيتَ - بَكْرَ بنَ وَائِل (1)

فقوله "حييت" دعاءٌ لا جدوى له في هذا المقام. ومنه قولُ أبي فراس:

وَلَكِنَّنِي - والحَمْدُ لله - حَازِمٌ

أَعِزُّ إِذَا ذَلَّتْ لَهُنَّ رِقَابُ (2)

فحمد الله هنا حشو؛ إذ لا جدوى في الغرض. ومن قبيحه قولُ بعضهم:

أُمَّ سَلَّامٍ أَثِيبِي عَاشِقًا

يَعْلَمُ اللهُ يَقِينًا رَبُّهْ

أَنَّكُمْ مِنْ عَيْشِهِ فِي نَفْسِهْ

يَا سُلَيْمَى فَاعْلَمِيهِ حَسْبُهْ (3)

فقوله "يقينًا ربه" حشوان، وكذلك "فاعلميه يا سليمى".

(1) أنشده قدامة بن جعفر في نقد الشعر ص 177. والشاعر هو مصقلة بن هبيرة بن شبل الثعلبي الشيباني، كان من ولاة معاوية وقادته العسكريين، قتل في فتح طبرستان حوالي سنة 50 هـ.

(2)

البيت هو الثالث من قصيدة قالها أبو فراس يعاتب ابن عمه سيف الدولة، ومطلعها:

أَمَا لِجَمِيلٍ عِنْدَكُنَّ ثَوَابُ

وَلَا لِمُسِيءٍ عَنْدَكُنَّ مَتَابُ

ديوان أبي فراس الحمداني، ص 45.

(3)

أنشده قدامة في كتاب نقد النثر، ص 74. - المصنف. وهذان البيتان من مقطوعة في أربعة أبيات من الصوت الثقيل الأول، وهو أحدُ المائة صوت من الغناء العربي التي اختارها إسحاقُ بن إبراهيم الموصلي بتكليف من الخليفة العباسي الواثق. وقد ذكرها أبو الفرج الأصفهاني في أخبار الوليد بن يزيد، وهي لأبي سلمى المدني (لم أعثر له على ترجمة) عن ابن خُرْداذْبه صاحب كتاب "اللهو والملاهي". وتمام المقطوعة:

أُمَّ سَلَّامٍ أَثِيبِي عَاشِقًا

يَعْلَمُ اللهُ يَقِينًا رَبُّهْ

أَنَّكُمْ مِنْ عَيْشِهِ فِي نَفْسِهْ

يَا سُلَيْمَى فَاعْلَمِيهِ حَسْبُهْ

فَارْحَمِيهِ إِنَّهُ يَهْذِي بِكُمْ

هَائِمٌ صَبٌّ قَدْ أَوْدَى قَلْبُهْ

أَنْتِ لَوْ كُنْتِ لَهُ رَاحِمةً

لَمْ يُكَدَّرْ يَا سُلَيْمَى شِرْبُهْ

كتاب الأغاني، ج 7، ص 42 (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج 3/ 7، ص 35 - 36 (نشيرة الحسين)؛ "ديوان الوليد بن يزيد"، تحقيق خليل مردم بك، مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، المجلد 15، الجزءان 1 و 2، شوال وذو القعدة 1355/ كانون الثاني وشباط 1937، ص 35 - 36.

ص: 1509

"إلى غير ذلك مما يحصِّله لك تأملُك جُمَلَ المحاسن وتفصيلَها، وتتبعُك ما يُضادُّها وينافيها، وهذا هَيِّنٌ قريب"(1)،

أي أن المحاسنَ وأضدادَها لا تنحصر فيما ذكره، فقد تُذكرُ بعضُ المحاسنِ ولا تُذكرُ أضدادُها، وقد تُذكرُ بعضُ العيوب ولا تُذكرُ محاسنُ الخلوِّ عنها. والتأملُ في الجميع يحصل للمتأمل انتباهًا إلى إدراك ما عسى أن يغفلَ عنه.

واسم الإشارة في قوله: "وهذا هَيِّنٌ"، راجعٌ إلى المذكور آنفًا من قوله:"واعلم أنه قد يعرف الجيد من يجهل الرديء" إلى قوله: "وهذا هين قريب"، يعني أنه إنما اهتم ببيان المقابح إجمالًا ثم تفصيلًا، لتكون نموذجًا من علل النقد وأسباب السقوط، بحيث يتمكن مزاولُها والمتأملُ فيها وفي ما يماثلها أن يبين وجهَ رَدَاءَةِ ما يحكم برداءته من الشعر؛ لأن بيانَ أسباب الرداءة أيسرُ من بيان أسباب الجودة. وقد تقدم قولُ الآمدي في الموازنة:"وأُبِينُ الرديء وأرذله"(2).

"وإنما قلت هذا؛ لأن ما يختاره الناقد الحاذق قد يتفق فيه ما لو سئل عن سبب اختياره إياه، وعن الدلالة عليه، لم يمكنه في الجواب إلا أن يقول: هكذا قضيةُ طبعي، أو ارجع إلى غيري ممن له الدربةُ والعلم بمثله، فإنه يحكم بمثل حكمي. وليس كذلك ما يسترذله النقد، أو ينفيه الاختيار؛ لأنه لا شيءَ من ذلك إلا ويمكن التنبيهُ على الخلل فيه، وإقامةُ البرهان على رداءته، فاعلمه"(3)،

مُرادُ المؤلف بقوله: "لأنه لا شيء إلا ويمكن التنبيه على الخلل فيه وإقامة البرهان على رداءته فاعلمه"، إظهارُ الفرق بين حالة الحكم بالإجادة وحالة الحكم بالرداءة، فإن الأولى قد يكون الرجوع فيها إلى الطبع والذوق، وإن الثانية لا يعسر

(1) نشرة هارون، ج 1، ص 15.

(2)

الآمدي: الموازنة، ج 1، ص 411.

(3)

نشرة هارون، ج 1، ص 15.

ص: 1510

معها الاحتجاج بعلة الرداءة. ولعله يشير بقوله "فاعلمه" إلى الرد على الآمدي، إذ سوّى بين الحالتين في الموازنة، فقال:"وأذكر من علل الجميع ما ينتهي إليه التخليص، وتحيط به العناية. ويبقى ما لا يمكن إخراجه إلى البيان، ولا إظهاره بالاحتجاج. وهو علة ما لا يعرف إلا بالدُّرْبة، ودائم التجربة، وطول الملابسة. وبهذا يفضل أهلُ الحذاقة بكل علم وصناعة مَنْ سواهم ممن نقصت تجربتُه وقلت دربتُه"(1).

وأما قوله: "فاعلمه"، فإشارةٌ إلى إبطال قول سائله:"مع أنه لا فضيلةَ لذلك ولا نقيصةَ لهذا إلا ما فاز به من الجَدِّ عند الاصطفاء والقَسْم". وقد اكتفى بهذه الإشارة؛ لأن فيها بسطًا من القول في أسباب التفاضل والاختيار، غنيَّة عن التصريح بالإبطال. وقد تقدم ذلك عند شرح قول المرزوقي:"وأما غلب على ظنك من أن اختيار الشعراء موقوف على الشهوات. . ." إلخ.

"وأما تمنيك معرفة السبب في تأخر الشعراء عن رتبة الكتاب والبلغاء والعذر في قلة المترسلين وكثرة المفلقين والعلة في نباهة أولئك وخمول هؤلاء ولماذا كان أكثر المفلقين لا يبرعون في إنشاء الكتب وأكثر المترسلين لا يفلقون في قرض الشعر فإني أقول في كل ذلك (2) بما يحضر، والله ولي توفيقي وهو حسبي وعليه توكلي"(3)،

جمع المؤلف هذه الأسئلة جمعًا واحدًا؛ لأنه أراد الجوابَ عنها برُمتها، إذ كان بيانُ أسبابها آخِذًا بعضُه بحُجَزِ بعض، كما سيأتي. واعلم أن هذا البحث خارجٌ عن مقام النقد إلى ميدان التفاضل بين الصناعتين وأهلهما، اقتضاه الجوابُ عما أورده السائل.

(1) الآمدي: الموازنة، ج 1، ص 411. وانظر أوجه الاختلاف بين النسخ في بعض الألفاظ كما أثبتها محقق الكتاب في الحاشية.

(2)

كذا في نشرة الدكتور شكري فيصل غير مثبت اختلاف النسخ. والذي في نسخة الآستانة ونسختَيْ تونس: "فإني أقول في كل فصل من ذلك". - المصنف. أقول: وما ذكره المصنف هو ما أثبته الأستاذ عبد السلام هارون في تحقيقه.

(3)

نشرة هارون، ج 1، ص 16.

ص: 1511

"اعلم أن تأخرَ الشعراء عن رتبة البلغاء موجِبُهُ تأخرُ المنظوم عن رتبة المنثور عند العرب لأمرين: أحدُهما أن ملوكَهم قبل الإسلام وبعده كانوا يتبجحون بالخطابة والافتنان فيها، ويَعُدُّونها أكملَ أسبابِ الرئاسة وأفضل آلات الزعامة. فإذا وقف أحدُهم بين السماطين لحصول تنافر أو تضاغن أو تظالم أو تشاجر، فأحسن الاقتضابَ عند البداهة، وأنجع في الإسهابِ وقت الإطالة، أو اعتلى في ذروة منبر فتصرف في ضروب من تخشين القول وتليينه، داعيًا إلى طاعة، أو مستصلحًا لرعية، أو غير ذلك مما تدعو الحاجة إليه، كان ذلك أبلغ عندهم من إنفاق مال عظيم وتجهيز جيش كبير"(1)

ابتدأ المبحثَ بالتفضيل بين الكلام النثر والنظم، وبنى تأخرَ الشعراء عن رتبة الخطباء والكتاب على أساس تأخر المنظوم على رتبة المنثور، فأثار مبحثًا قديمًا خاض فيه الأدباء. وقد احتفل به ابن الأثير في كتابه "الجامع الكبير" فقال:"اعلم أن الأقوال متعارضة في تفضيل كل واحد من هذين القسمين على الآخر، إلا أن المذهب الفحل والقول القوي هو أن الكلامَ المنثور أفضلُ من الكلام المنظوم. . ." إلخ (2).

وأقول: إن مناطَ التفاضل وموضوعَه إنما هو النثرُ الخاصُّ الذي يُقصد منه تأثُّرُ السامع وإقناعُه بغرض، وذلك هو النثر الذي يُصاغ في قالب البلاغة والفصاحة، كالخُطَب والرسائل والأمثال والقصص التي يُقصد حفظُها والتأدبُ بها، والأحاجي والنكت المستطْرَفَة، فيقصد واضعوها التأنقَ فيها لتكون أبقَى في ذهن السامع. فليس من موضوع التفاضل ما يجري بين الناس من المخاطبات في الشؤون المعتادة والمحادثات العادية، ولا نحو كتابة ديوان الجند وكتابة الأموال.

(1) نشرة هارون، ج 1، ص 16.

(2)

ابن الأثير: الجامع الكبير، ص 197.

ص: 1512

والمؤلف بنى تفضيلَ النثر على ما حفَّ بصناعته من العوارض العُرفية والدينية، وذكر لتفضيل النثر على الشعر سببين وعزَّزَهما بثالث، وابن الأثير ذكر أربعةَ أسباب، واثنان منها يتداخلان مع ما ذكر المؤلف، واثنان منها محلُّ نظر، وما ذكره المؤلفُ أمتن (1).

وقول المؤلف: "عن رتبة البلغاء"، أراد بالبلغاء غيرَ الشعراء؛ لأن الشعراءَ وإن كانوا من أهل البلاغة، إلا أنهم لَمَّا كان لصناعة الشعر اسمٌ خاص من بين الكلام البليغ، شاع إطلاقُ وصف الشعراء عليهم، وبقيَ وصفُ البلغاء مطلقًا على من عداهم من الخطباء والكتاب، وهو إطلاقٌ قديم مشهور، ومنه قولُ أبي العلاء المعري:

(1) قال ابن الأثير عقب كلمته التي ذكرت آنفًا: "والدليل على ذلك من أربعة وجوه. الأول: أن القرآن ورد نثرًا، وهو معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن المعجزات لا تجيء إلا من طريق الأصعب. ولما كان النثر من الأقوال الشاقة، أنول الله القرآن الذي هو معجزة على قانونه، وأيضًا فإن أرباب النثر لو أريد حصرهم من أول الزمان إلى وقتنا هذا، لكانوا عددًا يسيرا. وأما أرباب النظم فلو أريد حصرهم، بل حصر أهل عصر واحد منهم، لتعذر حصولُ ذلك. الوجه الثاني: أن النثر ينوب مناب النظم، ولا ينوب النظم مناب النثر. وذلك أنه إذا أخذ معنى وعبر عنه بلفظ من الكلام المنثور، فإنه لا يمكن التعبير عنه بمقدار ذلك اللفظ بالشعر؛ لأن الشعر يحتاج إلى إقامة الوزن، وهذا لا يتم إلا بزيادة لفظ أو نقصان لفظ، وإذا زِيدَ صار من الكلام ما لا حاجةَ إليه، وإذا نقص صار المعنى ناقصًا. الوجه الثالث: أن النثر لا يُنال إلا بعد تحصيل آلاته المذكورة في صدر كتابنا هذا أو بعضها، وذلك بخلاف النظم فإنه يقوله من لم يحصل من آلاته شيئًا. قلت: ومما يدلك على أن النثر أشق من النظم مأخذًا، أن العرب كانوا أفصح الناس وأكثرهم قدرة على التفنن في الكلام، ومع هذا لم فلم يسمع لأحد منهم نثرٌ إلا لقس بن ساعدة ولأقوام آخرين وهم قليل. وأما النظم فإن جميع العرب كانوا يقولونه. الوجه الرابع: أن الناثر تعلو درجته حتى ينال الوزارة للخلفاء والملوك، وأما الشاعر فلا تعلو درجته عن رتبة المستعطين". - المصنف. ساق المصنف كلام ابن الأثير باختصار. الجامع الكبير، ص 197 - 200.

ص: 1513

لَا تَطْلُبَنَّ مِنْ غيرِ حَظٍّ رُتْبَةً

قَلمُ البَلِيغِ بِدونِ حَظٍّ مِغْزَلُ (1)

يعني بالبليغ الناثرَ المتطلِّبَ لرتبة الكاتبة الديوانية أو الوزارة.

وابتدأ المؤلفُ بحالةِ العصر الجاهلي، فقصر كلامَه على الخطباء؛ إذ لم تكن في الجاهلية رسائل. واعتبر المؤلفُ من عصر الجاهلية العصرَ الذي عُنِيَ الأدباءُ بتدوين آثاره دون ما قبل ذلك، فقد قيل إنه مضى عصرٌ كان الشاعرُ فيه يُعَدُّ أرفعَ منزلةً من الخطيب. قال ابنُ رشيق في "العمدة" في باب التكسب بالشعر: إن الشاعر كان "في مبتدأ الأمر أرفعَ منزلةً من الخطيب، لحاجتهم إلى الشعر في تخليد المآثر، وشدة العارضة، وحماية العشيرة، وتهيُّبِهم عند شاعر غيرهم من القبائل، فلا يُقْدِمُ عليهم خوفًا من شاعرهم على نفسه وقبيلته. فلما تكسَّبوا به، وجعلوه طعمة، وتولوا به الأعراضَ وتناولوها، صارت الخطابةُ فوقه". (2) وهو مأخوذٌ من كلام الجاحظ عن أبي عمرو بن العلاء، كما سيأتي قريبا.

ووقع في كلام المؤلف "الزعامة"، وهي الشرفُ وسيادة القوم. ووقع فيه لفظ "السَّماطين"، وهو تثنيةُ سِماط بكسر السين، وهو الصف. وأراد سِمَاطيْ المجمع من الناس؛ إذ يقف كلُّ شيعة سماطًا مقابلَ سماطِ ضدهم، ووقع مثلُ هذا اللفظ في

(1) لم أجده في اللزوميات ولا في سقط الزند، وقد ذكر ابن كثير وابن خلكان البيتين التاليين منسوبين للمعري، حيث جاء أولهما مختلفًا قليلًا عما أورده المصنف، وهما:

لَا تَطْلُبَنَّ بِآلَةٍ لَكَ رُتْبَةً

قَلَمُ البَلِيغِ بِغَيْرِ جَدٍّ مِغْزَلُ

سَكَنَ السِّمَاكَانِ السَّمَاءَ كِلَاهُمَا

هَذَا لَهُ رُمْحٌ وَهَذَا أَعْزَلُ

ابن كثير: البداية والنهاية، ج 15، ص 753؛ ابن خلكان، أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق إحسان عباس (بيروت: دار صادر، 1414/ 1994)، ج 1، ص 114. هذا ومعنى البيت كما أورده المصنف أقوم.

(2)

الصحيح أن ابن رشيق لم يذكر هذا الكلام على أنه رأي له، وإنما نسبه لغيره بعبارة "قالوا". القيرواني: العمدة، ج 1، ص 88. وهذا الرأي لأبي عمرو بن العلاء كما ذكر الجاحظ، وسيورد المصنف كلامه بعد قليل.

ص: 1514

"البيان والتبيين" للجاحظ في "باب ذكر ناس من البلغاء والخطباء"(1). ووقع فيه لفظ "الاقتضاب" وهو القطع، واستعاره للكلام الفصل، الذي هو كالحكم.

"وكانوا يأنَفُون من الاشتهار بقَرْضِ الشعر، ويَعُدُّه ملوكُهم دناءة، وقد كان لامرئ القيس في الجاهلية مع أبيه حُجْر بن عمرو حين تعاطى قولَ الشعر، فنهاه عنه وقتًا بعد وقت، وحالًا بعد حالٍ، ما أخرجه إلى أنْ أمر بقتله وقصتُه مشهورة، فهذا واحد"(2)،

عدَّ المؤلفُ أَنَفَةَ سادةِ العرب في الجاهلية - من الاشتهار بقرض الشعر - تكملةً للأمر الأول من أسباب تأخر الشعراء عن رتبة الكتَّاب، وهو عنايتُهم بالخطابة على نحو عنايتهم بعد عصر الجاهلية بالكتابة. وكان الأولى للمؤلف أن يجعلَه من جملة الأمر الثاني؛ لأن الأنفةَ من قرض الشعر عندهم أوجبَها اعتيادُ الشعراء التلبُّسَ بالأحوال التي هي من شأن أهل البطالة، والتي لا تليق بالسؤدد في عرف زمانهم. ومن ذلك ما سيذكرُه المؤلفُ عند تعرُّضِه لأحوال الشعراء في مقابلة أحوال الكُتَّاب؛ إذ لا فرقَ - في تلك الأحوال - بين شعراء الجاهلية والإسلام، وما قصةُ امرئ القيس مع أبيه إلا من ذلك القبيل. فكان الوجهُ تأخيرَ هذا ليستقيم قولُ المؤلف:"فهذا واحد".

وأشار المؤلفُ إلى قضية امرئ القيس مع أبيه حُجْرٍ ملك بني أسد، وحاصلُها حسبما يؤخذ من "الشعراء" لابن قتيبة و"الأغاني" و"صبح الأعشى": "كانت الملوكُ تأنف قول الشعر، وكان امرؤ القيس يخالط شُذَّاذَ العرب، من طيء وكلب وبكر بن وائل، وكان قد عشِق فاطمةَ التي لَقَبُها عنيزة، وكان يطلبُها زمانًا، ويطلب منها

(1) وردت هذه اللفظة في كلام لعبد الله بن المقفع في بيان معنى البلاغة ومقاماته. الجاحظ: البيان والتبيين، ج 1/ 1، ص 85.

(2)

نشرة هارون، ج 1، ص 16.

ص: 1515

غِرَّةً، إلى أن أصاب منها غرةً يوم الغدير بدارة جلجل، وقال فيها القصيدَة المشهورة:"قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ"(1).

فلما بلغ ذلك أباه حجر بن عمرو، وهو ملك بني أسد، نهاه وأغلظ له، وتوعَّده بالقتل فلم ينته، فطرده من وجهه. وقيل إن حجرًا سمع امرأ القيس يترنم في مجلس بقوله:

اسْقِيَا حُجْرًا عَلَى عِلَّاتِهِ

مِنْ كُمَيْتٍ لَوْنُهَا لَوْنُ العَلَقْ (2)

فهَمَّ بقتله (3). ولعل القصص متعددة.

"والثاني أنهم اتخذوا الشعر مكسِبَةً وتجارة، وتوصَّلوا به إلى السُوَقة، كما توصلوا به إلى العلية، وتعرضوا لأعراض الناس، فوصفوا اللئيمَ عند الطمع فيه بصفة الكريم، والكريمَ عند تأخر صلته بصفة اللئيم، حتى قيل: "الشعر أدنى مروءة السَّريِّ وأسرى مروءة الدنِيِّ" (4)، فهذا البابُ ظاهر. وإذا كان شرفُ الصانع بمقدار

(1) هذا صدر معلقته وقد سبق توثيقه.

(2)

البيت ليس في ديوان امرئ القيس، ولم ينشده غير القلقشندي من المراجع المذكورة في الحاشية الآتية. ويبدو أن من أقدم من ذكره الوزير أبا القاسم الحسين بن علي المغربي في كتابه "أدب الخواص" حسبما نقل عنه ابن العديم في تاريخه، ولكن الجزء الأول الذي وصلنا من هذا الكتاب (بتحقيق حمد الجاسم) ليس فيه ذكر للبيت. ابن العديم، الصاحب كمال الدين عمر بن أحمد بن أبي جرادة: بغية الطلب في تاريخ حلب، تحقيق سهيل زكار (بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بدون تاريخ)، ص 1994.

(3)

الدينوري: الشعر والشعراء، ص 41 - 32؛ الأصفهاني: الأغاني، ج 3/ 9، ص 575 (نشرة الحسين)، القلقشندي، أحمد بن علي: صبح الأعشى في صناعة الإنشا، نشرة بعناية محمد حسين شمس الدين (بيروت: دار الكتب العلمية، بدون تاريخ)، ج 1، ص 91.

(4)

روى الجاحظ أن أبا عمرو بن علاء قال: "كان الشاعر" الجاهلية يُقدَّم على الخطيب، لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي كان يقيد عليهم مآثرَهم، ويُفخِّم شأنَهم، ويهوِّل على عدوِّهم ومَنْ غزاهم، ويُهيِّب من فرسانهم، ويُخوِّف من كثرة عددهم، ويهابُهم شاعرُ غيرهم فيراقب شاعرَهم. فلما كثر الشعرُ والشعراء، واتخذوا الشعرَ مكسبةً، ورحلوا إلى السوقة، وتسرعوا إلى أعراض =

ص: 1516

شرف صناعته، وكان النظمُ متأخرًا عن رتبة النثر، وجب أن يكون الشاعرُ أيضًا متخلفًا عن غاية البليغ" (1)،

يعني أن الشعراءَ في الجاهلية اتخذوا الشعرَ مكسِبة، وتعرضوا به للعطاء - مثل الأعشى والنابغة الذبياني وزهير - فغضَّ منهم. وفي "صبح الأعشى" - في موادِّ البيان - يُروى أن النابغةَ الجعدي رضي الله عنه "كان سيِّدًا في قومه، لا يقطعون أمرًا دونه، وأن قولَ الشعر نقَصَهُ وحطَّ رتبته". (2) وبعضُهم تعرَّض به إلى أعراض الناس بالطعن في الهجاء، مثل الزبير بن عبد المطلب (3) والحطيئة، أي فكره الناسُ ذلك منهم. وسكت المؤلِّفُ عن الذين اتخذوه للغزل واللهو، فشغلهم عن عظائم الأمور.

والحاصلُ أن في نحلة الشعر ما كان مجلبةً للغضِّ من أصحابه بالرغم مما يعترفُ لهم به الناسُ من حسن البيان. فقول من قال: "الشعر أدنى مروءة السَّرِي، وأسرى مروءة الدني"، قولٌ صادر عمَّنْ لحظ من الشعر بعضَ عوارضه. وإلا فقد كانوا يعدون الشاعرَ ينافح عن القبيلة ويرفع من ذكرها، فقيل كانوا يُولمون إذا نبغ فيهم شاعر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن من الشعر لحكمة". (4)

= الناس، صار الخطيبُ عندهم فوق الشاعر. ولذلك قال الأول: الشعر أدْنَى مروءةَ السَّرِيِّ وأسرى مروءة الدَّنِي. قال: ولقد وضع الشعر من قدر النابغة الذبياني، ولو كان في الدهر الأول ما زاده ذلك إلا رفعة". الجاحظ: البيان والتبيين، ج 1/ 1، ص 166 - 167.

(1)

نشرة هارون، ج 1، ص 16 - 17.

(2)

القلقشندي: صبح الأعشى، ج 1، ص 91.

(3)

هو الزبير بن عبد المطلب الهاشمي القرشي الكناني كبير بني هاشم بعد أبيه وسيدهم في حرب الفجار بين كنانة وقيس عيلان، وهو أكبر أعمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أدركه النبي عليه السلام في طفولته.

(4)

أخرج البخاري من حديث عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث عن أُبيِّ بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من الشعر حكمة". صحيح البخاري، "كتاب الأدب"، الحديث 6145، ص 1071؛ وأخرجه الترمذي عن عاصم عن زر عن عبد الله، وقال:"هذا حديث غريب من هذا الوجه، إنما رفعه أبو سعيد الأشج عن ابن أبي غنية، وروي من غير وجه عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم". سنن الترمذي، "كتاب الأدب"، الحديث 2844، ص 662؛ وخرج أبو غدة روايات منها الرواية التي أخرجها البخاري عن أبي بن كعب، وما رواه ابن عباس قال: "جاء أعرابي إلى =

ص: 1517

وقد تصدَّى عبدُ القاهر في أول "دلائل الإعجاز" لإبطال شُبَه مَنْ ساء اعتقادُهم في الشعر، فانظره (1). قال الجاحظ في البيان:"قال أبو عمرو بن العلاء: كان الشاعر في الجاهلية يُقّدَّمُ على الخطيب لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقَيِّد مآثرهم، ويُفخم شأنَهم ويُهول على عدوهم إنْ غزاهم، ويُهيبُ من فرسانهم، ويُخوف من كثيرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم، فلما كثر الشعرُ والشعراء واتخذوا الشعر مكسبَة، ورحلوا إلى السوقة، وتسرعوا إلى أعراض الناس، صار الخطيبُ عندهم فوق الشاعر. ولذا قال الأوَّل: "الشعر أدنى مروءة السري، وأسرى مروءة الدني. . . ولقد وضع الشعرُ من قدر النابغة الذبياني، ولو كان في الدهر الأول ما زاده ذلك إلا رفعة". (2)

وقولهم: "أدنى مروءة السَّرِي"، هو من الدناءة، بمعنى الحِطَّة؛ أي هو أحط مروءة السري. فالمروءةُ اجتماع الصفات التي تعتبر في الرجال، وقد اشتُقَّت من لفظ المرء، كما اشتقت الرُّجلة من لفظ الرجل. فالشعر من المزايا التي يمتاز بها صاحبُها؛ إذ لا يحصل لكل أحد، فجعلوه أقلَّ كمالاتِ الإنسان الشريف، وجعلوه أشرفَ كمالاتِ الدَّنِيِّ، وحسبُك بهذا ثناءً عليه. ولكن غرضَ المؤلف التنبيهُ إلى أعراضٍ أوجبت تنقُّصَ الشعر، وأن النثر سالم من تلك الأعراض، وأنه - وإن شغل أصحابَه عن عظائم الأمور - لم يخلُ من إفادتهم قبولًا في قومهم، ونفعًا يجره إليهم. وقد قال بعضُ شعراء بكر بن وائل:

أَلْهَى بَنِي تَغْلَبٍ عَنْ كُلِّ مَكْرُمَةٍ

قَصِيدَةٌ قَالَهَا عَمْرُو بْنُ كُلْثُومِ

= النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يتكلم بكلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن من البيان سحرًا، وإن من الشعر حُكما"". سُنَن أبي دَاوُد، "كتاب الأدب"، الأحاديث 5009 - 5012، ص 783 - 784.

(1)

الجرجاني: دلائل الإعجاز، نشرة شاكر، ص 11 - 28.

(2)

ج 1 ص 170 طبع التجارية سنة 45 - المصنف. الكلام لأبي عمرو بن العلاء، وقد سبق توثيقه قبل قليل.

ص: 1518

يُفَاخِرُونَ بِهَا مُذْ كَانَ أَوَّلُهُمْ

يَا لَلرِّجَالِ لشعر غير مسؤوم (1)

ووقع في كلام المؤلف "مكسِبة"، وهو بفتح الميم وكسر السين، اسم مصدرٍ لمعنى الكسب، أي سبب كسب. ووقع في كلامه لفظُ "السُّوَق"، وهو بضم السين وفتح الواو بوزن صُرد، اسم جمع سوقة، والسوقة اسم للجماعة المنسوبة إلى السوق، وهم العامةُ من الناس (2). و"العِلية"، بكسر العين وسكون اللام، الجماعةُ المعتَلُون، أهلُ الرِّفعة والخصوصية.

• "ومما يدل على أن النثرَ أشرفُ من النظم أن الإعجاز من الله تعالى جده والتحدي من الرسول عليه السلام وقعا فيه دون النظم، يكشف ذلك أن معجزاتِ الأنبياء عليهم السلام في أوقاتهم كانت من جنس ما كانت أُممُهم يولَعون به في حينهم، ويغلبُ على طبائعهم، وبأشرف ذلك الجنس. على ذلك كانت معجزةُ موسى عليه السلام؛ لأنها ظهرت عليه وزمنُه زمنُ السِّحر والسَّحرة، فصارت من ذلك الجنس وبأشرفه. وكذلك كان حالُ عيسى عليه السلام؛ لأن زمنَه كان زَمنَ الطب، فكانت معجزتُه - وهي إحياء الموتى - من ذلك الجنس وبأشرفه. فلما كان زمنُ النبي صلى الله عليه وسلم زمنَ الفصاحة والبيان، جعل الله معجزتَه من جنس ما كانوا يُولَعون به وبأشرفه، فتحدَّاهم بالقرآن

(1) الأصفهاني: الأغاني، ج 4/ 11، ص 276 (نشرة الحسين)؛ وقد أورد الجاحظ البيت الأول دون نسبة. البيان والتبيين، ج 2/ 4، ص 26.

(2)

قال المطيري: "قال الجوهري: السوقة الرعية وخلاف الملك. [و] قال ابن منظور: وكثير من الناس يظنون أن السوقة أهل الأسواق. الصحاح واللسان: (سوق). وينظر التكملة للجواليقي". ويضيف الميساوي: قال الجواليقي بعد أن ذكر جملة من الألفاظ التي يخطئ الناس في معناها: "ومن ذلك السوقة: يذهب عوامُّ الناس إلى أنهم أهل السوق، وذلك خطأ. إنما السوقة عند العرب مَن ليس بملِك، تاجرًا كان أو غير تاجر، بمنزلة الرعية التي تسوقها الملوك. وسُموا سوقة؛ لأن الملك يسوقهم فينساقون له، ويصرفهم على مراده. يقال للواحد: سوقة، وللاثنين: سوقة، وربما جُمع سُوَقًا"، ثم ساق على ذلك شواهد من الشعر. الجواليقي، أبو منصور موهوب بن أحمد: تكملة إصلاح ما تغلط فيه العامة، تحقيق حاتم صالح الضامن (دمشق: دار البشائر، ط 1، 1428/ 2007)، ص 55 - 56.

ص: 1519

كلامًا منثورًا لا شعرًا منظومًا. وقد قال الله عز وجل في تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]، وقال أيضًا:{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225)} [الشعراء: 224، 225]. ولمَّا كان الأمرُ على ما بينَّاه، وجب أن يكون النثرُ أرفعَ شأنًا وأعلى سمكًا وبناءً من النظم، وأن يكون مزاولُه كذلك، اعتبارًا بسائر الصناعات وبمزاوليها" (1)،

ساق المؤلفُ هذا الكلامَ كتكملةٍ للسبب الثاني في تفضيل النثر على الشعر (2)، وكان حقُّه أن يُجعلَ سببًا ثالثًا، فقد عده ابنُ الأثير في "الجامع الكبير" سببًا مستقِلًّا (3). وهو أيضًا راجعٌ إلى التفاضل بين الصناعتين، خارجٌ عن مقام النقد. وحاصلٌ بهذا أن فضلَ النثر على الشعر ثبت من عهد الجاهلية، وعززه الإسلام.

(1) نشرة هارون، ج 1، ص 17 - 18.

(2)

لأبي سليمان السجستاني المنطقي الفيلسوف كلامٌ لطيف في المفاضلة بين النثر والنظم قرر فيه أن "النثر أشرف جوهرًا، والنظم أشرف عرَضًا"، وعلَّل ذلك تعليلًا فلسفيًّا بأن "الوحدة في النثر أكثر، والنثر إلى الوحدة أقرب، فمرتبة النظم دون مرتبة النثر، لأن الواحد أول، والتابع له ثان". ثم قال: "ومما يشهد لهذا الرأي الذي نصرناه، والمعنى الذي اجتبيناه، أن الكتب السماوية وردت بألفاظ منثورة، ومذاهب مشهورة، حتى إن مَنْ اصطُفِيَ بالرسالة في آخر الأمر غلبت عليه تلك الوحدة، فلم ينظم من تلقاء نفسه، ولم يستطعه، ولا أَلقَى إلى الناس عن القوة الآلهية شيئًا على ذلك النهج المعروف، بل ترفع عن ذلك، وخص في عرض ما كانوا يعتادونه ويألفونه، بأسلوب حيَّر كلَّ سامع، وبرَّد غلة كل مصيخ، وأرشد كلَّ غاو، وقوَّم كل معاند، وأفاد كلَّ لبيب، وأوجد كل طالب، وخسَّأ كل مُعرض، وهدى كل ضال، ورفع كل لبس، وأوضح كل مشكل، ونشر كل علم، وأفاء كل شارد، وقمع كل مارد". التوحيدي، أبو حيان: المقابسات، تحقيق محمد توفيق حسين (بيروت: دار الآداب، ط 2، 1989)، ص 222 - 223 (المقابسة الخامسة والستون)

(3)

وفي ذلك يقول: "والدليل على ذلك (أي على تفضيل الكلام المنثور على المنظوم) من أربعة أوجه: الأول أن القرآن الكريم ورد نثرًا، ولولا فضله وعلو درجته لما نزل كتاب الله عز وجل على أسلوبه ونهجه، وأيضًا فإن معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن المعلوم أن المعجزات لا تجيء إلا من طريق الأصعب، بحيث إنه لا يمكن أحدًا من خلق الله الوصول إليها والإتيان بمثلها. ولما كان النثر من الأقوال الشاقة والأشياء المتصعبة، أنزل الله تعالى القرآن الذي هو معجزة على قانونه". ابن الأثير: الجامع الكبير، ص 197.

ص: 1520

وفي نسخة الآستانة بعد قوله: "على أن النثرَ أشرفُ من النظم"، زيادة:"وأن النظم أقصرُ درجة من النثر"، وهي مستغنًى عنها.

"وأما السببُ في قلة المترسلين وكثرة المفلِقين وعِزِّ من جمع بين النوعين مبرِّزًا فيهما، فهو أن مَبْنَى "الترسُّل" أن يكون واضحَ المنهج، سهلَ المعنى، ممتدَّ الباع، واسعَ النطاق، تدل لوائحُه على حقائقه، وظواهرُه على بواطنه؛ إذ كان مورده على أسماعٍ مفترقة من خاصِّي وعامي، وأفهامٍ مختلفة من ذكِيٍّ وغبي. فمتى كان متسهَّلًا متساوقًا، ومتسلسلًا متجاوبًا، تساوت الآذانُ في تلقيه، والأفهامُ في درايته، والألسن في روايته، فيسمح شارده إذا استُدعي ويتعجل وافده إذا استُدنِي، وإنْ تطاول أنفاسُ فصوله وتباعَد أطراف حزونه وسهوله. ومبنى "الشعر" على العكس من جميع ذلك؛ لأنه بُنِيَ (1) على أوزانٍ مقدرة، وحدودٍ مقسمة، وقوافٍ يُساق ما قبلها إليها مهيأة، وعلى أن يقوم كلُّ بيت بنفسه غيرَ مفتقر إلى غيره، إلا أن يكون مضمنًا بأخيه وهو عيب فيه. فلما كان مداه لا يمتد بأكثرَ من مقدار عَرُوضه وضربه وكلاهما قليل، وكان الشاعرُ يعمل قصيدته بيتًا بيتًا، وكلُّ بيت يتقاضاه بالاتحاد، وجب أن يكون الفضلُ في أكثر الأحوال في المعنى، وأن يبلغ الشاعرُ في تلطيفه والأخذ من حواشيه حتى يتسعَ له اللفظ، فيؤديَه على غموضه وخفائه حدًّا يصير المدركُ له والمشرفُ عليه كالفائز بذخيرة اغتنمها، والظافرِ بدفينة استخرجها. وفي مثل ذلك يحسن انْمحاءُ الأثر (2)، وتباطؤ المطلوب على المنتظر. فكلُّ ما يُحمد في الترسل ويُختار يُذَمُّ في الشعر ويُرفض. فلما اختلف المبنيان كما بينَّا، وكان المتولِّي لكلِّ واحد منهما يختار أبعدَ

(1) وفي نسخة "مبنيٌّ" وهي القراءة التي أثبتها الأستاذ عبد السلام هارون في المتن، وأشار إلى التي اعتمدها المصنف في الحاشية. المرزوقي: شرح ديوان الحماسة، تحقيق عبد السلام هارون، ج 1، ص 18.

(2)

في نسخة "امِّحاء" بإدغام النون والميم. نشرة هارون، ج 1، ص 19.

ص: 1521

الغايات لنفسه فيه، اختلفت فيهما الإصابتان، لتباين طرفيهما، وتفاوت قُطريهما، فبعد (1) على القرائح الجمعُ بينهما" (2)،

انتقل المؤلفُ إلى بيان فضل النثر البليغ على الشعر البليغ في عصور دول الإسلام، وجمع هنا الجوابَ عن مسألتين: مسألة السبب في قلة المترسِّلين من الكتاب وكثرة المفلقين من الشعراء، ومسألة السبب في عزة مَنْ يجمع بين الترسل والشعر.

وابتدأ بجواب المسألة الثانية في سبب عزة الجمع بين الترسل والشعر بقوله: "فهو أن مبنى الترسل" إلى قوله "أولى وأخص". وحاصلُ السببِ أن مقتضى الصناعتين مختلف، فكان ذلك الاختلافُ سببًا في نُدرة العقول التي تُجيدُ كلتا الصناعتين؛ لأن العناية بأحد الأسلوبين وإجادتَه تُباعد الفكرَ عن الاهتمام بالآخر والاشتغال به. والانصرافُ والتوجُّهُ إلى إحدى الصناعتين حتى تستولِيَ على الذهن هو أمرٌ يتبع اختلافَ توجهِ النفوس وميلها.

وقوله: "فَيَسمح شاردُه إذا استُدعي، ويتعجَّل وافدُه إذا استُدنِي"، بفتح حرف المضارعة في يسمح ويتعجل مبنيين إلى الفاعل. وأراد بـ "الشارد" المعنى العزيزَ الممتنِع، وبـ "الوافد" المعنى السهل. استعار الشاردَ للنادر لقلة حضوره، واستعار الوافدَ للسهل؛ لأنه كالذي يأتي بدون استدعاء. واستعار لمحاولة اختراع المعنى النادر وللتمكُّنِ من تقويمه في الذهن فعلَيْ التعجل والاستدناء؛ لأن الوافدَ يُستدنَى للإكرام والقِرى.

وقوله: "وإنْ تطاول أنفاسُ فصوله. . ." إلخ، مبالغةٌ في أحوال تأثير الترسُّلِ على (3) الأسماع والأفهام، أي تساوت الأفهامُ في درايته، والألسنُ في روايته، في جميع

(1) في نسخة "وبعد". المصدر نفسه.

(2)

المصدر نفسه، ص 18 - 19.

(3)

الأصح والأفصح أن يقال: "في".

ص: 1522

الأحوال، حتى في حالة طول فقراته، وبعد ما بين أوائل قرائنه وأواخرها. فالواو في كلامه واوُ الحال، وحرف "إن" وصليَّة، مثل "لو" الوصلية، كما هي في قول عمرو بن معد يكرب:

لَيْسَ الجمالُ بِمِئْزَرٍ

فاعْلَمْ، وإِنْ رُدِّيتَ بُرْدَا (1)

وضمائر "فصوله"، و"حزونه" و"سهوله" عائدة إلى الترسل. وأثبت للفصول أنفاسًا على طريقة المجاز العقلي، وإنما هي أنفاس الكاتب والتالي لذلك الترسل. وجعل للترسل حُزونًا وسهولًا استعارةً لأوائل الترسل وأواخره، أوائل كل فقرة منه وأواخرها؛ لأن أول الشيء يُشبِهُ أعلى الأَكَمة، وآخره يشبه السهل من الجبل.

وعطفُ "وعز" على "قلة وكثرة" عطفُ الفعل على الاسم الشبيه بالفعل، وهو كثير. وجرد "تطاول" من تاء التأنيث؛ لأن فاعله وهو "أنفاس" جمعُ تكسير، فيجوز فيه حذفُ التاء.

وقول المؤلف: "إلا أن يكون مضمنًا بأخيه وهو عيب فيه"، أشار إلى ما يُسَمَّى عند علماء العروض بالتضمين، وهو أن يتوقَّف فهمُ معنى البيت على معرفة البيت الذي بعده، وهو عيبٌ في الشعر العربي. ومع ذلك وقع في شعر فحول الشعراء، ووقع لنابغة في عدة قصائد كقوله:

فَهُمْ دِرْعِي الَّتِي اسْتَلْأَمْتُ فِيهَا

وَهُمْ أَصْحَابُ يَوْمِ عُكَاظٍ إِنِّي

(1) الشاعر هو أبو ثور عمرو بن مَعْدِيكَرِب الزبيدي، كان من فرسان العرب المشهورين بالبأس في الجاهلية، أدرك الإسلام وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد بعد وفاته فيمن ارتد من أهل اليمن، ثم هاجر إلى العراق فأسلم، وشهد القادسية وأبلى فيها البلاء الحسن. أما البيت فهو طالع قصيدة مشهورة خالصة النسبة لعمرو، وهي تقع في سبعة عشر بيتًا من مجزوء الكامل، وقد أوردها كاملة أبو تمام في "ديوان الحماسة". المرزوقي: شرح ديوان الحماسة، ج 1، ص 174 (الحماسية 34)؛ شعر عمرو بن معدي كرب الزبيدي، جمعه ونسقه مطاع الطرابيشي (دمشق: مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، ط 2، 1405/ 1985)، ص 79.

ص: 1523

شَهِدْتُ لَهُمْ مَوَاطِنَ صَادِقَاتٍ

شَهِدْنَ لَهُمْ بِصِدْقِ الوُدِّ مِنِّي (1)

وقوله: "كل بيت يتقاضاه بالاتحاد"، وقع في نسخة الآستانة مخالفةٌ بالترتيب وبالإعجام، فكتب:"يتقاضاه كلُّ بيتٍ بالاتخاذ"، بالخاء والذال المعجمتين. والمعنى على نسختَيْ المهملتين؛ أن كلَّ بيتٍ يطالب الشاعرَ بأن يجعله متحدًا مع الأبيات أقرانه. ففي ذلك التقاضي زيادةُ كُلْفَةٍ للشاعر وعمل، ليناسب بين البيت وأخيه، كما قال رؤبة:"وقد قلت لو كان له قران"، فتأمل (2). وأما "الاتخاذ" بالمعجَّمتين فلا يظهر له معنى؛ لأن الشاعر إذا نظم البيت فقد اتخذه، فهذا تحصيلُ حاصل.

وقوله: "وفي مثل ذلك يحسن انمحاء الأثر": انمحاءُ الأثر هو زوالُ آثار السائرين على الطريق، وهو كنايةٌ عن كثرة التَّرْداد على الطريق حتى لا تَبِينَ فيه آثارُ أقدامٍ معينة. وقد جعله تمثيلًا لحالة وفرة المحاولين لانتزاع المعاني وتهذيبها، ولإفراغها في قوالب النظم، بحالةِ كثرة السائرين في جادَّة الطريق حتى تصيرَ الطريقُ صُلبةً لا تظهر فيها آثارُ أقدام السائرين ولا سنابك الرِّكاب، كما يُقال "بيض الطرائق". والمعنى أن في هذا العمل ومثله يحسن الدَّأَبُ على الطلب، ومحاولةُ الظفَر بالغاية.

وقوله: "وتباطؤ المطلوب على المنتظِر"، أي هذا تباطؤٌ حسنٌ غيرُ مذموم، وانتظارٌ لذيذٌ لأجل ما يجده المنتظر في أثناء انتظاره من توسِّم نوال غُنم نفيس، وظهور بشائر اقترابه، كما قال أبو الطيب:

(1) وقع سقط وإخال لبعض الشعر في بعض، والصواب:

فَهُمْ دِرْعِي الَّتِي اسْتَلْأَمْتُ فِيهَا

إِلَى يَوْمِ النِّسَارِ وَهُمْ مِجَنِّي

وَهُمْ وَرَدُوا الجِفَارَ عَلَى تَمِيمِ

هُمْ أَصْحَابُ يَوْمِ عُكَاظٍ إِنِّي

شَهِدْتُ لَهُمْ مَوَاطِنَ صَادِقَاتٍ

أَتَيْنَهُمْ بِوِدِّ الصَّدْرِ مِنِّي

ديوان النابغة الذبياني، ص 253 (نشرة ابن عاشور)؛ وص 127 - 128 (نشرة أبي الفضل، وفيها "أيتُهم" عوض "أتينهم").

(2)

سبق توثيق كلام رؤبة بن العجاج.

ص: 1524

وَمِنَ الخَيْرِ بُطْءُ سَيْبِكَ عَنِّي

أَسْرَعُ السُّحْبِ فِي المَسِيرِ الجَهَامُ (1)

"يكشف ذلك أن الرَّجَزَ وإنْ خالف القصيدَ مخالفةً قريبة ترجع إلى تقطيع شأو اللفظ فيه، وتزاحُمِ السَّجْعِ عليه، قلّ عددُ الجامعين بينهما لتقاصر الطباع عن الإحاطة بهما. فإذا كان الرَّجَزُ والقصيدُ - مع أنهما من واد واحد - أفضت الحالُ بمتعاطيهما إلى ما قلتُ على خلاف يسير بينهما، فالنثرُ والنظم - وهما في طرفين ضِدَّيْن وعلى حالتين متباينتين - أولى وأخص"(2)،

كان العربُ قد خصُّوا الرَّجَزَ بأغراض غير مهمة، وهي الحداء، والمتح على المياه، وترقيص الأمهات أطفالهن، وكانوا ينظمونه على حالةِ عجلة وكيفما اتفق. فلذلك لم يكن يَعبأُ به الشعراء. وربما ارتجز البطلُ عند الخروج إلى صف المقاتلة، يُرهِبُ الناسَ بما يذكره من بأسه، إلى أن ظهر منهم الرجاز المجيدون، مثل العَجَّاج وأبي النجم. وكانوا كلهم من أهل البداوة، فبقي الرجز شعارَ الأديب البدوي، ولم يبرِّز فيه أهلُ الحضر. وقد عُد من مقدرة بشار بن برد أنه ارتجز بأراجيز فاق فيها مشاهير الرُّجَّاز، مثل أرجوزته الطويلة:

يَا طَلَلَ الحَيِّ بِذَاتِ الصَّمْدِ

بِالله حَدِّثْ: كَيْفَ عُدْتَ بَعْدِي (3)

وقصتُه فيها مع عقبة بن رؤبة مذكورة في ترجمة بشار (4).

(1) البرقوقي: شرح ديوان المتنبي، ج 4، ص 224. والبيت من قصيدة قالها في مدح صديقه أبي الحسن علي بن أحمد المري الخراساني، ومطلعها:

لَا افْتِخَارٌ إِلَّا لِمَنْ لَا يُضَامُ

مُدْرِكٍ أَوْ مُحَارِبٍ لَا يَنَامُ

(2)

نشرة هارون، ج 1، ج 1، ص 19.

(3)

ديوان بشار بن برد، ج 1/ 2، ص 156. وفيه:"الضمد" عوض "الصمد"، و"كنتَ" بدل "عدت". والبيت هو مطلع أرجوزة يمدح فيها بشار عقبةَ بن سلم.

(4)

وانظر القصة المشار إليها في: الجاحظ: البيان والتبيين، ج 1/ 1، ص 43؛ الأصفهاني: الأغاني، ج 3، ص 174 - 175 (نشرة الحسين).

ص: 1525

"وأما السبب في قلة البلغاء وكثرة الشعراء ونباهة أولئك وخمول هؤلاء"(1)،

هذا جوابٌ عن المسألة الأولى في كلام السائل، وأراد بالبلغاء الكتَّابَ البلغاء، كما يبينه قوله:"منها أن المترسل محتاج. . ." إلخ، ويبينه أيضًا أنه موضوع البحث لقوله في حكاية السؤال:"معرفة السبب في تأخر الشعراء عن رتبة الكتاب والعذر في قلة المترسلين وكثرة المفلقين". وقد تقدم وجهُ هذه العبارة عند شرح قوله: "اعلم أن تأخر الشعراء عن رتبة البلغاء. . ." إلخ.

وكأن اللام في "البلغاء" للعهد؛ لأنه لما ذَكَرَ في صدر المقدمة رغبةَ السائلِ الكشفَ عما تحيَّر فيه قال هنالك: "وقلتَ أيضًا: أتمنى أن أعرف السبب في تأخر الشعراء عن رتبة الكتاب البلغاء. . ." إلخ، وسببُ ذلك كلِّه أن أغلبَ المترسلين كانوا في عِدَادِ كُتَّاب الدولة، فصار الترسُّلُ مُقارِنًا في الأذهان لصناعة الكتابة التي لها نباهةٌ في الدولة. ولذلك لم يتعرض المؤلفُ للخطباء في الإسلام، اكتفاءً بما ذكره من فضل الخطابة في العصر الجاهلي، واعتدادًا بأن الكتابةَ غطت على الخطابة وغَمَرَتْها بين أهل الدولة.

و"النباهة" مصدر نَبُهَ بضم الباء، ويجوز فيها الفتحُ والكسر، وهي الشرفُ وعلوُّ القدر. و"الخمولُ" ضِدُّ النباهة، ولم يصرِّح بحركة الخاء منه، ولكن قياسه ضمُّ الخاء؛ لأن مصدر فعل المفتوح العين اللازم يكون على وزن فَعول - بضم الفاء - باطراد، إلا في أفعال الامتناع، وأفعال الاضطراب، وأفعال الأدواء (2).

"فهو أن المترسِّلَ محتاجٌ إلى مراعاة أمور كثيرة، إن أهملها أو أهمل شيئًا منها، رجعت النقيصةُ إليه، وتوجهت اللَّائمةَ عليه"(3)،

(1) نشرة هارون، ج 1، ص 19.

(2)

راجع في ذلك: البُدير، صلاح بن محمد: حصول المسرة بتسهيل لامية الأفعال بزيادة بَحْرقَ والاحمرار والطرة (الرياض: مكتبة دار المنهاج، 1428).

(3)

نشرة هارون، ج 1، ص 19.

ص: 1526

يبين كلامَ المؤلف هنا كلامٌ صدر عن ابن الأثير في الفصل الثاني من مقدمة "المثل السائر" إذا قال: "وقد قيل: ينبغي للكاتب أن يتعلق بكل علم، حتى قيل: كلُّ ذي علم يسوغ له أن ينسُبَ نفسَه إليه فيقول: فلانٌ النحوي، وفلانٌ الفقيه، وفلان المتكلم، ولا يسوغ له أن ينسب نفسه إلى الكتابة فيقول: فلانٌ الكاتب، وذلك لِمَا يفتقر إليه من الخوض في كل فن". (1) وذكر ابنُ الأثير أن فنَّ الكتابة يفتقر إلى سبعةِ أنواعٍ من الآلات، هي علوم العربية، وعلم اللغة، وأمثال العرب، والاطلاع على تآليف مَنْ تقدمه من أرباب الصناعة المنظومة والمنثورة، ومعرفة الأحكام السلطانية، وحفظ القرآن، وحفظ ما يحتاج إليه من الأخبار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم (2).

وقال القلقشندي: "إن كاتبَ الإنشاء في الحقيقة لا يستغني عن علم، ولا يسعه الوقوف عند فن"(3). وعلى هذا الاعتبار توسع القلقشنديُّ فألف كتابه "صبح الأعشى في صناعة الإنشاء" في عشرين جزءًا. وقال: "واعلمْ أنَّ كاتب الإنشاءَ وإن كان يحتاج إلى التعلق بجميع العلوم، فليس احتياجُه إلى ذلك على حدٍّ واحد، بل منها ما يحتاج إليه بطريق الذات، وهي موادُّ الإنشاء التي يستمد منها [ويقتبس من مقاصدها]، كاللغة [التي منها استمدادُ الألفاظ]، والنحو [الذي به استقامةُ الكلام، وعلوم] البلاغة [من المعاني والبيان والبديع التي هي مناطُ التحقيق والتحسين والتقبيح ونحو ذلك مما يجري هذا المجرى]. . . ومنها ما يحتاج إليه بطريق العَرَض كالطب والهندسة [والهيئة ونحوها من العلوم]؛ فإنه يحتاج إلى الألفاظ الدائرة بين أهل كل علم، وإلى معرفة المشهورين من أهله، ومشاهير الكتب المصنفة فيه. . . بل ربما احتاج إلى معرفة مصطلح سفل الناس لكتابة أمور هزلية. . ." إلخ (4). وهذا الكلام تقييدٌ لكلام ابن الأثير.

(1) ابن الأثير: المثل السائر، ج 1، ص 27.

(2)

المصدر نفسه، ص 29، وقد فصل ابن الأثير الكلام على هذه الأشياء في الصفحات 29 - 48.

(3)

القلقشندي: صبح الأعشى، ج 1، ص 181.

(4)

المرجع نفسه، ص 181 - 182. وقارن ذلك بما في: ابن الأثير: الجامع الكبير، ص 125 - 140.

ص: 1527

وأقول: إن الكتَّابَ المشروطةَ فيهم هذه الشروطُ هم كُتَّابُ الرسائل السلطانية، ومَنْ كان في مرتبتهم. وهمُ الذين منهم تُختار الوزراء دون أصنافٍ آخرين من الكتاب، مثل كاتب القاضي، وكاتب الخراج، وكاتب الجند، وكاتب الحساب وغيرهم، وهم مراتب، وشروطُهم كذلك، وهي منحصرة فيما به إجادة عملهم.

"منها تَبَيُّنُ مقادير مَن يكتب عنه وإليه، حتى لا يرفع وضيعًا ولا يضع رفيعا. ومنها وزنُ الألفاظ التي يستعملها في تصاريفه، حتى تجيءَ لائقةً بمن يُخاطب بها، مفخِّمةً لحضرة سلطانه التي يصدر عنها. ومنها أن يعرف أحوالَ الزمان وعوارضَ الحدَثَان، فيتصرَّفَ معها على مقاديرها في النقض والإبرام، والبسط والانقباض. ومنها أن يعلم أوقاتَ الإسهاب والتطويل، والإيجاز والتخفيف، فقد يتفق ما يُحتاج فيه إلى الإكثار حتى يستغرق في الرسالة الواحدة أقدارَ القصائد الطويلة؛ ويتفق أيضًا ما تغني فيه الإشارةُ وما يجري مجرى الوحي في الدلالة. ومنها أن يعرف من أحكام الشريعة ما يقف به على سواء السبيل، فلا يشتطُّ في الحكومة، ولا يعدل فيما يخط عن المحجة؛ فهو إنما يترسل في عهود الولاة والقضاة، وتأكيد البيعة والائتمان، وعمارة البلدان، وإصلاح فساد، وتحريض على جهاد، وسد ثغور، ورتق فتوق، واحتجاج على فئة، أو مجادلة لملة، أو دعاء إلى ألفة، أو نهي عن فرقة، أو تهنئة بعطية، أو تعزية برزية، أو ما شاكل ذلك من جلائل الخطوب وعظائم الشؤون التي يحتاج فيها إلى أدوات كثيرة ومعرفة مفتنة"(1).

أشار إلى أشد ما يحتاج إليه كاتب الإنشاء، وهو أهمُّ ما ذكره صاحبُ "صبح الأعشى" آنفا. ومرجع ذلك كله إلى أن يكون ما يصدر عن الكاتب مصادفًا للصواب، سالمًا من أن يرد عليه طعنٌ أو تخطئة؛ لأنه إن عُرِّصت الدولةُ إلى الطعن أو التخطئة فيما يصدر عنه، زالت حُرمَةُ السلطان، أو نُسِب إلى الجور.

(1) نشرة هارون، ج 1، ص 19 - 20.

ص: 1528

وأراد بـ "أحوال الزمان" أحوالَ الناس في زمانه ليخاطبهم بما يناسب عقولهم، ولا يحملهم على ما يَعُدونه إرهاقًا وإعناتا. والمرادُ بـ "النقص" إبطالُ عملٍ عمله الناس، أو تغيير سيرة، أو منعهم مما يريدونه. والمراد بـ "الإبرام" الإلزامُ بفعل، والحمل على سيرة خاصة، شبَّه الإلزامَ بفتل الحبل وهو الإبرام، وشبَّهَ الإبطالَ بحل الحبل المفتول، قال تعالى:{كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا} [النحل: 92]. و"البسط" التوسِعةُ في شيء، وإظهار الرضا عن حال. و"الانقباض" التضييق في التصرف، وإظهار الكراهية من الشيء. و"الإسهاب" إكثار الكلام، أي الإكثار في عبارات الرسالة، وأراد به الإطناب؛ لأنه قابله بالإيجاز، وهما وصفان للتراكيب كما هو معلوم في علم المعاني. و"التطويل" تطويل الرسالة بإكثار الأغراض، أو بالاستطراد ونحوه. ويقابله التخفيفُ، وهو الاقتصارُ على أقل ما يلزم في الغرض.

وقولُ المؤلِّف: "فهو إنما يترسَّلُ. . ." إلخ، تفريعٌ على ما ذكره من قوله:"فهو أن المترسِّلَ محتاجٌ إلى أمورٍ كثيرة. . ." إلخ، أتى به كالدليل على ذلك الاحتجاج، ولذلك ختمه بقوله:"التي يُحتاج فيها إلى أدواتٍ كثيرة، ومعرفة مفتنَّة".

"فلما كان الأمرُ على هذا، صار وجودُ المضطلعين بجودة النثر أعز، وعددُهم أنزر. وقد وسمتهم الكتابةُ بشرفها، وبوأتهم منزلةَ رئاستها، فأخطارُهم عاية بحسب عُلُوِّ صناعتهم، ومعاقد رئاستهم، وشدة الفاقة إلى كفايتهم"(1)،

جعل السببَ في قلة الكتاب هو السبب أيضًا في رفعة شأنهم، وقد يكون للسبب الواحد مسببان فأكثر. وحاجةُ السلاطين والأمراء والسادة إلى الكتاب معلومة، وفي تضاعيف شواهد التاريخ منها كثير. وقصةُ غَناء عبد الله بن المقفع الكاتب عن مخدومه علي بن عبد الله بن عباس في صده كيد السفاح عنه بما كتبه من صيغة الأمان الذي رضيَ السفاح ببذله لعمه علي بن عبد الله بن عباس مذكورة في ترجمة ابن المقفع، ويقال هي كانت سببَ نكبة ابن المقفع (2).

(1) المصدر نفسه، ص 20.

(2)

كذا قال الذهبي. سير أعلام النبلاء، ج 6، ص 209.

ص: 1529

وذكر الحريريُّ في المقامة الثانية والعشرين (الفراتية) بعضَ مزايا الكتاب أهل الإنشاء وبعضَ وجوه الحاجة إليهم، فقال:"والمنشئُ جهينةُ الأخبار، وحقيبةُ الأسرار، ونجيُّ العظماء، وكبيرُ النُّدماء. وقلمُه لسانُ الدولة، وفارس الجولة، ولقمان الحكمة، وترجمان الهمَّة. وهو البشير والنذير، والشفيع والسفير، به تُستخلص الصياصي، وتُملك النواصي، ويُقتاد العاصي، ويُستدنَى القاصى. وصاحبه بريء من التبعات، آمن كيد السعاة"(1).

وفي "صبح الأعشى" من كلام أبي جعفر الفضل بن أحمد: "للكتّاب أقرت الملوك بالفاقة والحاجة، وإليهم ألقوا الأعنة والأزمة، وبهم اعتصموا في النازلة والنكبة، وعليهم اتكلوا في الأهل والولد، والذخائر والعقد، وولاية العهد، وتدبير الملك، وقرع الأعداء، وتدبير الفيء، وحياطة الحريم، وحفظ الأسرار، وترتيب المراتب، ونظم الحروب"(2).

"والشعراء إنما أغراضُهم التي يسددون نحوها، وغايتهم التي ينزِعون إليها، وصفُ الديار والآثار، والحنينُ إلى المعاهد والأوطان، والتشبيبُ بالنساء، والتلطيفُ في الاجتداء، والتَّفَنُّنُ في المديح والهجاء، والمبالغةُ في التشبيه والأوصاف. فإذا كان كذلك، لم يتدانَوْا في المضمار، ولا تقاربوا في الأقدار. وإذ قد أتينا بما أردنا، ووفينا بما وعدنا، فإنا نشتغل بما هو القصد من شرح الاختيار، والله الموفق للصواب، والصلاة والسلام على رسوله وآله الأخيار"(3)،

أشار إلى أن أغراضَ الشعراء وإن كانت رائقةً للنفوس، ومرغوبةً عند أهل الذوق السليم، فإن للكتَّاب المرتبةَ المَهِيبة، والآثارَ العجيبة.

(1) الحريري: مقامات الحريري، ص 216.

(2)

القلقشندي: صبح الأعشى، ج 1، ص 73. وأبو جعفر لعل المقصود به الخليفة العباسي الفضل بن أحمد بن عبد الله، المسترشد بالله بن المستظهر بالله بن المقتدي بالله، بويع بالخلافة سنة 512 هـ.

(3)

المصدر نفسه، ص 20.

ص: 1530