الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإيجاز والإطناب والمساواة:
الأصل في الكلام أن يكون تأدية للمعاني بألفاظ على مقدارها، أي: بأن يكون لكل معنى قصده المتكلم لفظ يدل عليه ظاهر أو مقدر (1). وتسمى دلالةُ الكلام بهاته الكيفية مساواة؛ لأن الألفاظ كانت مساويةً للمدلولات. فإذا نقصت الألفاظُ عن عدد المعاني مع إيفائها بجميع تلك المعاني، فذلك الإيجاز، مثل الحذف لما شأنه أن يُذكر في كلامهم إذا قامت القرينة، ومثل توخي لفظٍ يدل على مجموع معان إذا كان الغالب في الكلام الدلالة على تلك المعاني بعدة ألفاظ. فقول بشار:
مَنْ رَاقَبَ النَّاسَ لَمْ يَظْفَرْ بِحَاجَتِهِ
…
وَفَازَ بِالطَّيِّبَاتِ الفَاتِكُ اللهجُ
مساواةٌ، وقول سَلْم (2):
مَنْ رَاقَبَ النَّاسَ مَاتَ غمًّا
…
وَفَازَ بِاللَّذَّةِ الجَسُورُ (3)
= في خلال ذلك من مُهِمِّ كلام القوم ما يُمَكِّن بأيدي الطلبة مفاتيحَ معاقدها، وضربت صفحًا عما عدا ذلك، تاركًا إياه إلى أن تتهيأ الأفهام بعد هذه المرتبة. - المصنف. انظر في تلك التفاصيل: الجرجاني: كتاب دلائل الإعجاز، ص 222 - 248؛ السكاكي: مفتاح العلوم، ص 357 - 387 (نشرة هنداوي)؛ القزويني: الإيضاح، ص 118 - 138؛ الجرجاني: الإشارات والتنبيهات، ص 101 - 116.
(1)
لأن ما كان أسلوب كلامهم على تقديره، كالضمير المستتر في فعل الأمر، وكحذف المستثنى منه في الاستثناء المفرغ يُعتبر كالمذكور فلا يُعَدُّ حذفَه إيجازٌ. - المصنف.
(2)
هو سلم بن عمرو البصري، مولى بني تميم بن مُرة، ثم مولى آل أبي بكر الصديق رضي الله عنه. كان شاعرًا مطبوعًا، ذا قدرة كبيرة على الإنشاء على حرف واحد. كان من تلاميذ بشار بن برد وأحد رواته. قيل: لقب بالخاسر؛ لأن أباه لما مات ترك له مصحفًا فباعه واشترى بثمنه دفاتر شعر، وقيل: اشترى طنبورًا، وقيل: عودًا، وقيل: لأنه أنفق مائتي ألف في صناعة الأدب. . مدح خلفاء بني العباس: المنصور والمهدي والهادي، واختص بالرشيد والبرامكة. ذكر الصفدي أن سلمًا كان مسلَّطًا على بشار، يأخذ معانيه الجيدة فيسكبها في قالب أحسن من قالبها، فيشتهر قولُ سلم ويخمل قول بشار، ولهما في ذلك حكايات، منها ما سنذكره في الحاشية بعد هذه. توُفِّيَ في حدود الثمانين ومائة. الصفدي، صلاح الدين خليل بن أيبك: كتاب الوافي بالوفيات، تحقيق أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى (بيروت: دار إحياء التراث العربي ط 1، 1420/ 2000)، ج 15، ص 188 - 189.
(3)
مما قيل إن سلمًا غلب فيه بشارًا قولُه: =
إيجاز؛ وإذا زادت الألفاظ على عدد المعاني مع عدم زيارة المعاني، فذلك الإطناب مثل التوكيد اللفظي والتكرير، وذكر الخاص بعد العام والتفسير نحو:{إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20)} [المعارج: 19، 20] إلخ. ومثل قوله:
الألمَعِيُّ الَّذِي يَظُنُّ بِكَ الظَّنْـ
…
ـنَ كأَنْ قَدْ رَأَى وَقَدْ سَمِعَا (1)
ومبنى كلام العرب على الإيجاز ما وجدوا إليه سبيلًا؛ لأن الأمة العربية أمةٌ ذكية، فابتنى كلامُها على مراعاة سبق أفهامها (2). فقول المبرد في كامله: "من كلام
= مَنْ رَاقَبَ النَّاسَ مَاتَ غمًّا
…
وَفَازَ بِاللَّذَّةِ الجَسُورُ
حيث أخذ معناه من قول بشار:
مَنْ رَاقَبَ النَّاسَ لَمْ يَظْفَرْ بِحَاجَتِهِ
…
وَفَازَ بِالطَّيِّبَاتِ الفَاتِكُ اللهجُ
وقد قيل: إن بشارًا غضب على سلم الخاسر بسبب ذلك، "فاستشفع عليه بجماعة من إخوانه، فجاؤوه في أمره. فقال لهم: كل حاجة لكم مقضيةٌ إلا سلْمًا، قالوا: ما جئناك إلا في سلم، ولا بد من أن ترضى عنه لنا، فقال: أين هو الخبيث؟ قالوا: ها هو ذا؛ فقام إليه سلمٌ فقبل رأسه، ومثل بين يديه وقال: يا أبا معاذ، خِرِّيجُك وأديبك"، فسأله بشار عن قائل البيت الأول فأجابه بقوله:"أنت يا أبا معاذ، جعلني الله فداك! "، ثم سأله عن قائل البيت الثاني، فقال:"جِريجك يقول ذلك (يعني نفسه)، قال [بشار]: أفتأخذ معانِيَّ التي قد عُنيتُ بها وتعبت في استنباطها، فتكسوها ألفاظًا أخفَّ من ألفاظي حتى يُروى ما تقول ويذهب شعري! لا أرضى عنك أبدًا"، "فما زال [سَلْمٌ] يستضرع إليه، ويشفع له القومُ حتى رضي عنه". الأصفهاني: كتاب الأغاني، ج 3، ص 199 - 200 (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج 1/ 3، ص 685 (نشرة الحسين). وانظر كذلك الأصفهاني: محاضرات الأدباء، ج 2، ص 108 - 109.
(1)
الدينوري: عيون الأخبار، ج 1، ص 43. والبيت لأوس بن حجَر هو الثالث في قصيدة تشتمل على ثلاثة عشر بيتًا من بحر المنسرح، لأوس بن حجَر التميمي، قالها يرثي فضالة بن كلدة الأسدي. البغدادي: منتهى الطلب من أشعار العرب، ص 130؛ ديوان أوس بن حجر، تحقيق محمد يوسف نجم (بيروت: دار صادر، ط 3، 1399/ 1979)، ص 53 - 55.
(2)
أي إلا إذا منع منه مانع المقام، كمقام خطاب الغبي ومقام التهويل فكلاهما مقام إطناب. - المصنف.
العرب الإيجاز المفهم والإطناب المفخم" (1)، تنويعٌ للكلام لا قصد للتساوي بينهما، وكلها تجري على حسب مقتضى الحال.
أما المساواة فنحو قوله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]، والإيجاز يكون إيجاز حذف، وإيجاز اختصار أو قِصَر (بكسر القاف وفتح الصاد). فإيجاز الحذف كحذف المسند إليه والمسند والمفعول والتحذير والإغراء، وحذف المفعول أكثرُ أنواع الحذف في الإيجاز نحو:"قد كان منك ما يسوء"، أي كلّ أحد، نحو:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يونس: 25]، "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، وحذف المضاف نحو:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، وحذف الصفة نحو:{فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)} [الكهف: 79] أي: صالحة، وحذف الجملة أو الجمل التي يدل عليها السياق نحو:{أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63]، أي: فضرب ونحو: {فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} [يوسف: 45، 46]، أي: فأرسلوه فقال: وكثير من أمثال العرب يشتمل على إيجاز لحذف.
وإيجاز الاختصار أداء المعاني بألفاظ أقل منها عددًا دون حذف، بل بتوخِّي ما يفيد من الألفاظ عدةَ معان، نحو قولهم في المثل:"القتل أنفى للقتل"، وقوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، وقوله في الحديث:"ليكن ثوبك إلى الكعبين فإنه أنقى وأبقى"(2)، وقول المعري:"أولو الفضل في أوطانهم غرباء"، أراد أن يقول
(1) المبرد: الكامل في اللغة والأدب، ج 1، ص 56.
(2)
أخرج الترمذي عن الأشعث بن سُليم قال: "سمعتُ عمتي [رُهْم بنت الأسود بن حنظلة] تحدث عن عمها [عبيد بن خالد، قال: بينا أمشي بالمدينة إذا إنسان خلفي يقول: "ارفع ثوبك؛ فإنه أتْقى وأبقى"، فالتفتُّ فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إنما هي بُردة مَلْحاء، قال: "أما لك فِيَّ أُسوة؟ "، فنظرت فإذا إزاره إلى نصف ساقيه". الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة: الشمائل المحمدية والخصائل المصطفوية؛ تحقيق صلاح الدين محمود السعيد (المنصورة: دار الغد الجديد، =
إنهم مخالفون لأحوال عامة الناس، كما بينه في بقية البيتين (1).
وكثيرٌ من أمثال العرب يشتمل على إيجاز الاختصار، وكذلك حِكمُ الحكماء. وأما الإطناب فبالتكرير في مقام التهويل، نحو:{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)} في
= ط 1، 1426/ 2005)، الحديث 115، ص 54؛ النسائي، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب: السنن الكبرى، تحقيق حسن عبد المنعم شلبي (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 1، 1421/ 2001)، "كتاب الزينة"، الحديثان 9602 و 9603، ج 8، ص 428 - 429 (مع اختلاف يسير). وأخرج أحمد عن وكيع، عن سفيان [بن عيينة]، عن أشعث عن عمته عن عمها قال:"إني لَبِسُوق ذي المجاز عليَّ بردةٌ لي ملحاء أسحبها، قال: فطعنني رجل بمِخْصَرة فقال: "ارفع إزارك فإنهَ أبقى وأنقى، فنظرت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظرت فإذا إزاره إلى أنصاف ساقيه". ابن حنبل، أحمد: مسند الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق جماعة من الباحثين بإشراف شعيب الأرنؤوط (بيروت: مؤسسة الرسالة، الطبعة والأولى، 1416/ 1995)، الحديث 23086، ج 38، ص 177 (وانظر الحديث الذي يليه 23087). انظر تفصيل تخريجه في حاشية المسند، وقد ضعفه الألباني الحديث 1857 من "سلسلة الأحاديث الضعيفة") ومحققو المسند من أجل عمة أشعث. قال محقق الشمائل: "صحيح بشواهده". وقال الألباني: "لكن للحديث شاهد قاصر من حديث الشريد ابن سويد"، مشيرًا إلى ما أخرجه أحمد عن عمرو بن الشريد عن أبيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم تبع رجلًا من ثقيف، حتى هرول في أثره، حتى أخذ ثوبه، فقال:"ارفع إزارك". قال: فكشف الرجل عن ركبتيه، فقال: يا رسولَ الله، إني أحنف، وتصطك ركبتاي، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلُّ خلق الله عز وجل حسن". قال: ولم يُرَ ذلك الرجلُ إلا وإزاره إلى أنصاف ساقيه حتى مات". المسند، الحديث 19472، ج 32، ص 221 - 223. وقد رجح ابن حجر العسقلاني لفظ الرواية التي أوردها المصنف في سياق بيانه لعلة النهي عن جر الثوب حيث قال بعد ذكر الأحاديث الواردة في ذلك: "ويتجه المنع فيه من جهة أن لابسه لا يأمن من تعلق النجاسة به، وإلى ذلك يشير الحديث الذي أخرجه الترمذي في الشمائل والنسائي من طريق أشعث بن أبي الشعثاء"، ثم ساق الحديث. فتح الباري، "كتاب اللباس - باب مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ مِنْ الخُيَلَاءِ"، ج 3، ص 2574.
(1)
تمام البيتين:
[أُولُو الفَضْلِ فِي أَوْطَانِهِمْ غُرَبَاءُ]
…
تَشُدُّ وَتَنْأَى عَنْهُمُ القُرَبَاءُ
فَمَا سَبَؤُوا الرَّاحَ الكُمَيْتَ لِلَذَّةٍ
…
وَلَا كَانَ مِنْهُمْ لِلْخِرَادِ سِبَاءُ
- المصنف. والبيتان هما الأول والثاني من القصيدة الأولى من اللزوميات، وهي من بحر الطويل. وسبأ الخمر: اشتراها، والكميت: الخمرة في لونها سواد وحمرة، والخراد: جمع خريدة، وهي الفتاة العذراء. المعري: لزوم ما لا يلزم، ج 1، ص 27.
سورة المرسلات، ونحو:"قَرِّبَا مَرْبَطَ النَّعَامَةِ مِنِّي" في قصيدة الحارث بن عباد من أبطال حرب البسوس (1)، وكنحو ذلك.
واعلم أن الإطناب والإيجاز قد يُطلقان على التوسع في الغرض المسوق له الكلام والاقتصاد فيه، فيُعَدُّ من الإطناب الإتيانُ بالجملة المعترضة أو كثرة البيان
(1) قصيدة الحارث بن عباد من أشهر قصائد حروب الجاهلية، قالها أثناء حرب البسوس حينما قَتَل المهلهل بن ربيعة بجيرًا بن الحارث وقال: إنه قتله بِشسع نعل كليب، فأجبر ذلك الحارث على خوض تلك الحرب التي حاول باستماتة تجنبها والنأي عن أُوارِها، فدخل الحربَ طلبًا للثأر، إذ شَّمر عن ساعديه وارتجل قصيدته الشهيرة التي كرر فيها قوله:"قربا مربط النعامة مني" أكثر من خمسين مرة، والنعامة فرسه، فجاؤوا بها إليه، فَجزَّ ناصيتها وقطع ذَنَبَها، فسنَّ بذلك سنة جاهلية لمن أراد الأخذ بثأره. ولم يكن هذا من التكرار، بل جاء على سبيل التأكيد، ومن تلك القصيدة قوله:
كُلُّ شَيءٍ مَصيرُهُ لِلزَّوالِ
…
غَيْرَ رَبِّي وَصالِحِ الأَعْمَالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَعامةِ مِنّي
…
لَقِحَت حَربُ وائِل عَن حِيالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي
…
لَيسَ قَوْلِي يرَادُ لَكِنْ فِعَالِي
قَرِّبا مَربَطَ النَعامةِ مِنّي
…
جَدَّ نَوْحُ النّسَاءِ بِالإِعْوالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَعامةِ مِنّي
…
شابَ رَأسي وَأَنكَرَتني القَوَالِي
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي
…
لِلسُّرَى وَالغُدُوِّ وَالآصَالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي
…
طالَ لَيلي عَلى اللَيالي الطِوالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَعامةِ مِنّي
…
لاعْتِنَاقِ الأَبْطالِ بِالأَبْطَالِ
وهناك قصيدة أخرى من خمسة وأربعين بيتًا نسبت للمهلهل بن ربيعة، سار فيها على المنوال نفسه، فكرر فيها الشطر الآتِي:"قَرِّبا مَربَطَ المشهرِ مِنّي" عدة مرات، يقول في مطلعها:
هَلْ عَرَفْتَ الغَدَاةَ مِنْ أَطْلَالِ
…
رَهْنِ رِيحٍ وَدِيمَةٍ مِهْطَال
قَرِّبا مَرْبِطَ المشهرِ مِنِّي
…
لِكُلَيْب الَّذِي أَشَابَ قَذَالي
وقد سار على هذا النمط من التكرار شعراء آخرون، منهم عمرو بن كلثوم الذي يكرر الشطر "بِأَيِّ مَشيئَةٍ عَمرُو بنَ هِندٍ"، وابن نباتة المصري حيث كرر في إحدى قصائده:"قربا مربط الكآبة مني"، وابن القلاقس حيث قال:
قَرِّبَا مَربِطَ الصَّبَابَةِ مِنِّي
…
شَابَ رُشْدِي بِهِمْ وشَبَّ ضَلَالِي