الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والقصر نوعان: حقيقي وإضافي؛ لأن التخصيص لشيء إن كان مبنيًّا على أنه كذلك في الواقع ونفس الأمر فهو القصر الحقيقي، وإن كان مبنيًا على النظر لشيء آخر يقابل الشيء المخصَّص به فقط لإبطال دخول ذلك المقابل، فهو قصرٌ إضافِيٌّ تدل عليه القرينة. فالأول كقولك:"إنما الخليفة فلان"، والثاني كقولك:"إنما الكاتب زيد"، أي: لا عمرو ردًّا على من زعم أن عمرًا كاتب، ولا تريد أن زيدًا هو الكاتب في الأرض أو في البلد دون غيره. والحزم سوء الظن بالناس، أي: ليس حسن الظن بحزم، ولم يرد أن الحزم كله في سوء الظن.
ومن القصر الحقيقي ما يُسمَّى بالادعائي، وهو أن تدعيَ قصرَ الصفة على الموصوف لقصد المبالغة، نحو قوله تعالى:{إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)} [النساء: 117]، مع أنهم دعوا هبل ويغوث ويعوق، لكنهم لمَّا أكثروا دعوةَ اللات والعزى ومناة جُعِلوا كالذي لا يدعو إلا إناثًا. وقوله في حق المنافقين:{هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون: 4]، مع أن المتظاهرين بالشرك والكفر أعداء، لكن لمَّا كانت مضرةُ عداوة المنافقين أشدَّ جُعِلت عداوةُ غيرهم كلا عداوة.
الإنشاء:
الكلامُ كلُّه إما خبر أو إنشاء. فالخبر هو الكلام الذي يحتملُ الصدقَ والكذب بأن يكون للنسبة المعنوية التي تضمنها الكلام خارج، أي: وجودٌ في نفس الأمر يوافقها تارةً ولا يوافقها أخرى. فإن وافقها الخارجُ فهي صادقة، وإن خالفها فهي كاذبة؛ لأن الخبر يُقصد منه حكايةُ ما في الوجود الخارجي. فلا جرم لزم عَرْضُ نسبته على ما في الخارج، فإن نشأ عن ذلك العرض علمٌ بأنها مطابقة للخارج المحكي فهي صادقة، أو عُلِم بأنها غير مطابقة بل هي مخالفة للخارج فهي كاذبة.
والإنشاءُ الكلام الذي لا يحتمل الصدق والكذب؛ لأنه لم يُقصد منه حكايةُ ما في الخارج، بل هو كاسمه إحداثُ معنى بالكلام لم يكن حادثًا من قبل في قصد المتكلم. وكلُّ ما تقدم من الأحكام في الأبواب الماضية يجري في الخبر والإنشاء، فلا
غرضَ لذكر بابٍ يخص الإنشاء هنا إلا للتنبيه على الفرق بينه وبين الخبر، وللإشارة إلى أحكام قليلة بلاغية تختص بالإنشاء.
ينقسم الإنشاء إلى قسمين: طلبي وغير طلبي. فالطلبي هو الأمر، والنهي، والاستفهام، والتمني، والترجي، والنداء. وغير الطلبي: القَسَم، والتعجب، وإنشاء المدح والذم نحو نعم وبئس، وإنشاء الوجدانيات كالتحسر والفرح والترحم، وصيغ العقود نحو أبيع وأشهد، والأجوبة الدالة على الامتثال كجواب النداء نحو لبيك وسمعًا وطاعة. وصيغُها وأدواتُها وأحكامُها مقررةٌ في النحو. وإنما الذي يهم البليغَ من أحوال الإنشاء مسائل:
الأولى: قد يأتي الإنشاء في صورة الخبر، وهو ما يعبرون عنه بالخبر المستعمل في الإنشاء، مثل استعماله في الدعاء في نحو:"رحمه الله"، وفي الطلب نحو قول الظمآن: إني عطشان، والتحسر نحو قول جعفر بن علبة الحارثي (1):
هَوَايَ مَعَ الرَّكْبِ اليَمَانِينَ مُصْعِدٌ
…
جَنِيبٌ، وَجُثْمَانِي بِمَكَّةَ مُوثَقُ (2)
والسؤال نحو: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)} [القصص: 24].
المسألة الثانية: يستعمل بعض صيغ الإنشاء في بعض فيجيء الأمر للتمني نحو قول امرئ القيس:
أَلَا أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلَا انْجَلِ
…
بِصُبْحِ، وَمَا الإِصْبَاحُ مِنْكَ بِأَمْثَلِ (3)
(1) من الشعراء الفرسان، تشرد وسجن. مات نحو 125/ 743.
(2)
البيت هو الأول من مقطوعة في ستة أبيات من الطويل أوردها أبو تمام في بداية كتاب الحماسة (الحماسية 6). المرزوقي: شرح ديوان الحماسة، ج 1، ص 55؛ التبريزي: شرح ديوان الحماسة، ج 1، ص 40.
(3)
البيت السادس والأربعون من المعلقة. ديوان امرئ القيس، ص 18.
فقوله: "انجل" تمن. وللتعجب نحو قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} [الفرقان: 9]، ويجيء الاستفهام للنهي نحو:{أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ} [التوبة: 13]، وللأمر نحو:{فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة: 91]، وللتعجب نحو:{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} [الفرقان: 7].
ويجيء النداءُ للتعجب في باب الاستغاثة، نحو قول امرئ القيس:
فَيَا لَكَ مِنْ لَيْلٍ كَأَنَّ نُجُومَهُ
…
بِكُلِّ مُغَارِ الْفَتْلِ شُدَّتْ بِيَذْبُلِ (1)
(1) البيت هو السابع والأربعون من المعلقة، وقد جاء بهذا اللفظ عند المبرد والأنباري والسكري والتبريزي والقالي والأعلم وابن رشيق وابن أيوب البَطَلْيوسي. انظر: المبرد: الكامل في اللغة والأدب، ج 2، ص 82؛ ديوان امرئ القيس وملحقاته، بشرح أبي سعيد السكري، تحقيق أنور عليان أبو سويلم ومحمد علي الشوابكة (العين: مركز زايد للتراث والتاريخ، ط 1، 1421/ 2000)، ج 1، ص 243؛ الخطيب التبريزي: أبو زكريا يحيى بن علي بن محمد، شرح المعلقات العشر، تحقيق فخر الدين قباوة (دمشق: دار الفكر، ط 1، 1418/ 1997)، ص 62؛ القالي: كتاب الأمالي، ص 68؛ الأعلم الشمنتري، يوسف بن سليمان بن عيسى: أشعار الشعراء الستة الجاهليين، (بيروت: منشورات دار الآفاق الجديدة، ط 3، 1403/ 1983)، ج 1، ص 36؛ القيرواني، أبو علي الحسن بن رشيق: العمدة في محاسن الشعر، تحقيق محمد عبد القادر عطا (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1422/ 2001)، ج 2، ص 29؛ البطليوسي، أبو بكر عاصم بن أيوب: شرح الأشعار الستة الجاهلية، تحقيق ناصيف سليمان عواد ولطفى التومي (بيروت: المعهد الألماني للأبحاث الشرقية، ط 1، 2008)، ج 1، ص 48. وروي الشطر الثاني من البيت بلفظ:"بِأَمْرَاسِ كَتَّانٍ إِلَى صُمِّ جَنْدَلِ"، وأشار إلى هذه الرواية الأنباري في شرحه. انظر: الزوزني، أبو عبد الله الحسين بن أحمد: شرح المعلقات السبع، تقديم عبد الرحمن المصطفاوي (بيروت: دار المعرفة، ط 2، 1425/ 2004)، ص 46؛ الأنباري، أبو بكر بن القاسم: شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات، تحقيق عبد السلام محمد هارون (القاهرة: دار المعارف، ط 5، 1993)، ص 79.