الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر
اعلم أن البلغاء يتفننون في كلامهم، فيأتون فيه بما لا يجري على الظاهر الشائع بين أهل البلاغة، يقصدون بذلك التمليحَ والتحسين، أو يعتمدون على نكت خفية يقتضيها الحالُ ولا يتفطن لها السامعُ لو لم يلق إليه ما يخالف ظاهر الحال (1).
فلا ينبغي أن يُعَدَّ في خلاف مقتضى الظاهر ما كان ناشئًا عن اختلاف الدواعي والنكت مع وضوح الاختلاف، كالوصل في مقام الفصل وعكسه لدفع الإيهام، ولا الإطناب في مقام الإيجاز لاستصغاء السامع، لظهور نكتة ذلك. وكذا لا يُعَدُّ ما كان ناشئًا عن علاقة مجازية، كاستعمال الخبر في الإنشاء، ولا ما كان ناشئًا عن تنزيل الشيء منزلةَ غيره مع وضوح؛ لأنه من المجاز، كالقصر الادعائي وكعكس التشبيه.
فتعين أن يوضع ذلك ونظائره في مواضعه من أبوابه، وإن كان فيه رائحةٌ من تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، من حيث إن الأصل خلافُه، وإن الذهن لا ينصرف إليه ابتداء. وإنما يُعَدُّ من تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر ما لم يكن ناشئًا عن نكتة أصلًا، وهذا لا يوصف بموافقة مقتضى الحال ولا بمخالفته. وكذا يعد منه ما كان ناشئًا عن نكتة خفية لا يتبادر للسامع إدراكُها بسهولة، وهذا يوصف بأنه مقتضى حال لكنه خفيٌّ غيرُ ظاهر.
فمن الأول الالتفات، وهو انتقالُ المتكلم من طريق التكلم أو طريق الخطاب أو طريق الغيبة إلى طريق آخر منها انتقالًا غير ملتزم في الاستعمال (2)، نحو [قوله
(1) أردتُ بهذا أن أشير إلى أن النسبة بين مقتضى الظاهر ومقتضى الحال العمومُ والخصوص الوجهي، فيكون بين نقيضيهما وهما خلاف مقتضى الظاهر وخلاف مقتضى الحال، وقال: إن مقتضى الحال قد يكون مقتضى ظاهر وقد يكون غير مقتضى الظاهر، فتكون النسبة بين المقتضيين وبين خلاف المقتضيين العموم والخصوص مطلقًا وهو اصطلاح، والأول أولى. - المصنف.
(2)
احتراز مما كان ملتزمًا في الاستعمال بحسب قياس الكلام، مثل: أنا زيد وأنت عمرو، أو بحسب الطريقة المتبعة في نظائره، مثل نحن الذين فعلوا كذا؛ فإن طريقة العرب في ضمير الموصول أن يعود إليه بطريق الغيبة. - المصنف.
تعالى]: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} إلى قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 2 - 5]، فإن مقتضى الظاهر أن يقول: إياه نعبد، وقوله:{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ} [فاطر: 9]، فإن مقتضى الظاهر أن يقال: فساقه. وله نكتٌ تزيده حُسْنًا في الكلام، لها بيانٌ في المطولات (1).
(1) انظر في ذلك: السكاكي: مفتاح العلوم، ص 296 - 304 387 (نشرة هنداوي)، القزويني: الإيضاح، ص 68 - 70؛ العلوي اليمني، الإمام يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم: كتاب الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز، نشرة بعناية محمد عبد السلام شاهين (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1415/ 1995)، ص 265 - 269؛ ابن الأثير: المثل السائر، ج 2، ص 3 - 16؛ ابن الأثير، عز الدين: الجامع الكبير في صناعة المنظوم من الكلام والمنثور، تحقيق عبد الحميد هنداوي (القاهرة: دار الآفاق العربية، 1428/ 2006)، ص 227 - 231. تجدر الإشارة هنا إلى أن هناك اختلافًا في نسبة هذا الكتاب إلى أحد إخوة ثلاثة: مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم ابن الأثير (544 - 606 هـ) صاحب "جامع الأصول في أحاديث الرسول"، وعز الدين أبي الحسن علي بن محمد بن محمد بن عبد الكريم ابن الأثير (555 - 630 هـ) صاحب كتاب "الكامل" في التاريخ، ونصر الله أبي الفتح ضياء الدين بن محمد بن محمد بن عبد الكريم ابن الأثير (558 - 637 هـ) صاحب كتاب "المثل السائر". ولم يتردد الأستاذان مصطفى جواد وجميل سعيد - محققا الكتاب في طبعته الصادرة ببغداد عن المجمع العلمي العراقي سنة 1375/ 1955 - في نسبته إلى ضياء الدين ابن الأثير، على الرغم من اعتمادهما في التحقيق على مخطوطة واحدة. وكذلك جزم الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور بنسبته إليه في حاشية بشرحه على مقدمة المرزوقي لشرح ديوان الحماسة وفي المقال الذي خص به كتاب "الجامع الكبير"(وكلاهما في هذا القسم من الكتاب)، مجريًا مقارنة داخلية بينه وبين كتاب "المثل السائر" من حيث أسلوب كل منهما ومسائله. إلا أن الدكتور عبد الحميد هنداوي في تحقيقه الجديد لكتاب "الجامع الكبير" لا يقف عند التشكيك في هذا النسبة، بل يرجح كونه من تأليف الأوسط من الإخوة الثلاثة، أعني عز الدين ابن الأثير، دونما أدلة كافية ومقنعة سوى أن كتب التراجم قد نسبت الكتاب له ولم تنسبه لأخيه ضياء الدين (انظر مقدمته للجامع الكبير، ص 32 - 37). ومع ذلك لم يخلُ أمره من تناقض، فهو يستكمل بعضَ مواضع النقص التي واجهته في المخطوط الذي اعتمده في التحقيق من كتاب "المثل السائر" لضياء الدين ابن الأثير، ويورد شواهد منه لتفصيل ما جاء مجملًا في "الجامع الكبير". وإذا كان هذا يعني شيئًا فإنما يعني أن الكتابين قد صدرا عن مشكاة واحدة، وأن مؤلفهما قد رأى ما بينهما من تكامل فأجمل في أحدهما ما فصله في الآخر، وفصل في هذا ما أجمله في ذاك. ولو أن الأستاذ هنداوي أخذ بعين الاعتبار هذا التكامل الموضوعي =
ومنه أيضًا الأسلوب الحكيم، وهو تلقي مَنْ يخاطبك بغير ما يترقب، أو سائلك بغير ما يتطلب، بأن تحمل كلام مخاطِبك (بكسر الطاء) على خلاف مراده، تنبيهًا على أنه الأولى له بالقصد، كقول [ابن] القبعثري للحجاج وقد قال له الحجاج متوعدًا إياه:"لأحملنك على الأدهم"؛ يعني القيد فقال له [ابن] القبعثري: "مِثْلُ الأمير يحمل على الأدهم والأشهب"، صير مرادَه للفرس (1). ومنه قولُ [حاتم الطائي] (2):
أَتَتْ تَشْتَكِي مِنِّي مُزَاوَلَةَ القِرَى
…
وَقَدْ رَأَتْ الضِّيفَانَ يَنْحُونَ مَنْزِلِي
فَقُلْتُ لَها لمَّا سَمِعْتُ كَلَامَهَا:
…
هُمُ الضَّيْفُ جِدِّي فِي قِرَاهُمْ وَعَجِّلِي (3)
= والمنهجي بين الكتابين، وقرأهما قراءة تناص في سياق واحد، ولو أنه نظر فيما كتبه غيره من قبل في هذا الشأن، لما استعجل - على الأقل - ترجيح نسبة كتاب "الجامع الكبير" إلى عز الدين ابن الأثير. هذا وقد كان من حق هذه الحاشية أن تُلحق بمقال المصنف "نظرة في كتاب الجامع الكبير لابن الأثير" الذي يأتي لاحقًا في هذا القسم من الكتاب، إلا أن الحاجة إلى الإحالة على كتاب "الجامع الكبير" اقتضت تقديمها هنا، تنبيهًا للقارئ. ولا تكفي نسبةُ حاجي خليفة الكتابَ إلى علي ابن الأثير دليلًا قاطعًا على كونه من تأليفه، وهو ما يبدو أن هنداوي قد استند إليه.
(1)
واسمه الغضبان ابن القبعثري بن هوذة، كان فصيحًا من دهاة العراف، وكان على صلة بالحجاج بن يوسف، ثم مال إلى أبن الأشعث وصار من الخوارج، فسجنه الحجاج، وقد حفظ التاريخ له معه حكايات طريفة. وكثير من كلامه مما يستشهد به في معرض الحديث عن الفصاحة والبلاغة. ومعنى كلمة القبعثري: الفصيل المهزول، والجمل الضخم.
(2)
فراغ في الأصل المطبوع.
(3)
البيتان بلا نسبة في: السكاكي: مفتاح العلوم، ص 435 - 387 (نشرة هنداوي)؛ القزويني: الإيضاح، ص 71؛ الجرجاني: الإشارات والتنبيهات، ص 55. وجاء صدر البيت الثاني في هذه المصادر:"فَقُلْتُ كَأَنِّي مَا سَمِعْتُ كَلَامَهَا"، بينما جاء في صدر البيت الأول "عندي" عوض "مني". وممن عزاهما لحاتم الطائي محمدُ عبد المنعم خفاجي في تحقيقه لـ "الإيضاح في علوم البلاغة" ولم تردا في ديوانه.
وبأن تجيب سؤال السائل بغير ما يتطلب تنبيهًا على أنه الأولى بحاله أو المهم له، كقوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189].
ومنه القلب، وهو جعلُ أحد أجزاء الكلام مكانَ الآخر لغير داع معنوي دون تعقيد ولا خطأ ولا لبس (1)، ويقصده البلغاء تزيينًا للكلام. فمنه ما ليس بمطرد، نحو "عرضت الناقة على الحوض"، و"أدخلت الخاتم في إصبعي". ومنه مطرد في الكلام كثير عندهم حتى صار أكثرَ من الأصل، نحو قولهم:"ما كاد يفعل كذا" يريدون كاد ما يفعل، وعليه قوله تعالى:{وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)} [البقرة: 71]، وقوله:{لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40]. ومن هذا النوع التشبيهُ المقلوب المذكورُ كله في البيان، وعليه قول رؤبة:
وَمَهْمَهٌ مُغْبَرَّةٌ أَرْجَاؤُهْ
…
كَأنَّ لَوْنَ أَرْضِهِ سَمَاؤُهْ (2)
وقد ظهر أن هذا النوع كله لا حالَ تقتضيه، ولكنه تمليح في الكلام.
ومن النوع الثاني من أنواع تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر ما تقدم في باب الإسناد من تنزيل غير السائل منزلةَ السائل، ومنه مخاطبةُ الذي يفعل بالأمر بالفعل لقصد الدوام على الفعل كما في:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء: 136]، ولعدم الاعتداد بفعله كما في الحديث:"صلّ فإنك لم تصل"(3).
(1) احتراز عما كان قلبًا يوجب تعقيدَ الكلام، أو كان عن خطأ أو كان موجبًا للبس. - المصنف.
(2)
البيت هو طالع القصيدة الأولى من ديوانه المطبوع وهي في وصف المفازة والسراب، وقد جاء صدره مختلفًا عما أورده المصنف، إذ هو بلفظ:"وبَلَدٍ عاميةٍ أعماؤه". مجموع أشعار العرب، نشرة بعناية وليم بن الورد البروسي (ليبسيغ: مطبعة دروغولين، 1903)، ج 3: ديوان رؤبة بن العجاج (تصوير دار ابن قتيبة بالكويت، بدون تاريخ)، ص 3.
(3)
سبق تخريجه.