الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتقرير له، كالاستعارة في مثل:"لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين"(1)، و"الإحسانُ سلاح النصر". وكذلك التقديم لإفادة الحصر ونحو ذلك، وقد يسمى بالشعور ما كان دقيقًا خفيًّا كالمعاني الشعرية.
صفات المعنى
للمعنى ثلاثُ صفاتٍ لِحُسْنِه يجب توخِّيها، وهي الوضوحُ والسَّدادُ والشَّرف.
أما الوضوحُ فهو سهولةُ مأخذه من قول صاحبه، بأن يخلُوَ عن اللَّبس، وعن التعقيد المعنوي، وعن الكنايات الخفية - وقد تكفل ببيانها علم البلاغة - إلا إذا كان في مقامٍ يُراد فيه الإخفاءُ أو التشكيك، فيجوز من اللبس والكناية ما هو خفيف. والأحسن أن يكون المعنى المطلوبُ أظهرَ من الآخر. فمن هذا قولُ المتنبي في كافور:
وَمَا طَرَبِي لمَّا رَأَيْتُكَ بِدْعَةً
…
لَقَدْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ أَرَاكَ فَأَطْرَبُ (2)
قال أبو الفتح ابن جني: "قرأت على أبي الطيب ديوانه إلى أن وصلت إلى هذا البيت فقلت له: يا أبا الطيب ما زدتَ على أن جعلته أبا زَنَّة، فضحك لقولي". (3)
(1) عن سعيد بن المسيَّب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يُلدغ المؤمن من جحرٍ واحد مرتين". صحيح البخاري، "كتاب الأدب"، الحديث 6133، ص 1068؛ صحيح مسلم "كتاب الزهد والرقائق"، الحديث 2998، ص 1144؛ سُنَن أبي دَاوُد، "كتاب الأدب"، الحديث 4862، ص 763.
(2)
البيت هو الثالث والأربعون من قصيدة من سبعة وأربعين بيتًا قالها المتنبي في مدح كافور الإخشيدي. البرقوقي: شرح ديوان المتنبي، ج 1، ص 311.
(3)
ونص كلام أبي الفتح هو: "لما قرأتُ عليه هذا البيت، قلتُ له: أجعلتَ الرجلَ أبا زَنة؟ فضحك لذلك". ثم قال: "وهذا البيت، وإن كان ظاهره مديحًا، فإنه إلى الهُزء أقرب". ابن جني، أبو الفتح عثمان: الفَسْر: شرح ابن جني الكبير على ديوان المتنبي، تحقيق رضا رجب (دمشق: دار الينابيع، ط 1، 2004)، ج 1، ص 583. وأبو زنة هو القرد. وقال ابن جني في موضع آخر مستخلصًا ما يشبه أن يكون قانونًا عامًّا في شعر المتنبي:"وهذا مذهبه في أكثر شعره، لأنه يطوي المديحَ على هجاء، حذقًا منه بصنعة الشعر وتداهيًا في القول". الفسر، ج 1، ص 1001. وسعيًا لإثبات هذه النظرية، سعى بعضهم لقلب ما مدح به المتنبي كافور الإخشيدي هجاء. انظر: عبد الرحمن =
وكذلك في مقام المزح أو الاستخفاف، مثل ما ذُكِر عن إياس القاضي مع الذي قال له: أين القاضي؟ فقال: بينك وبين الحائط، إلى أن قال له: اقض بيننا، قال: قد فعلت، قال: على من؟ قال: على ابن أخت خالتك (1). وقال النبي صلى الله عليه وسلم للذي تأول الخيطَ الأبيض والأسود على حقيقتهما: "إنك لعريض القفا". (2)
ومن هذا القبيل الإلغازُ لاختبار تنبه السامع، أو للإخفاء عن الغير (3)، كما حُكيَ أن أعرابيًّا أوصى إلى قومه ينذرهم عدوَّهم وكان أسيرًا بيد العدو: "إن
= ابن حسام الدين المعروف بحسام زاده الرومي: رسالة في قلب كافوريات المتنبي من المديح إلى الهجاء، تحقيق محمد يوسف نجم (بيروت: دار صادر، ط 2، 1413/ 1993).
(1)
وتحكى هذه القصةُ أيضًا في أخبار القاضي المشهور أبي شريح شريح بن الحارث بن قيس الكندي، وأن الذي حصلت معه هذه القصة هو عدي بن أرطأة، وربما كانت نسبةُ المصنف إياها إلى إياس بن معاوية سبق قلم. قال ابن عبد ربه:"دخل عديّ بن أرطأة على شريحِ فقال له: أين أنت أصلحك الله؟ فقال: بينك وبين الجدار. قال: إني رجل من أهل الشام، قال: نائي الحل، سحيق الدار. قال: تزوجتُ عندكم، قال: بالرفاء والبنين. قال: وأردتُ أن أرحِّلها، قال: الرجلُ أحقُّ بأهله. قال: وشرطتُ لها دارَها، قال: الشرطُ أملك. قال: فاحكم الآن بيننا، قال: قد فعلتُ، قال: على من قضيتَ؟ على ابنِ أمك، قال: بشهادة مَنْ؟ قال: بشهادة ابن أخت خالتك، يريد إقراره على نفسه". ابن عبد ربه: العقد الفريد، ج 1، ص 82؛ وانظر كذلك ابن خلكان: وفيات الأعيان، ج 2، ص 461. وروى الإمام عبد الرزاق بسنده عن محمد بن سيرين قال:"اعترف رجلٌ عند شريح بأمرٍ ثم أنكره، فقضى عليه باعترافه، فقال [يعني الرجل]: أتقضي عليَّ بغيرِ بينة؟ فقال [أي شريح]: شهد عليك ابنُ أختِ خالتك". الصنعاني، أبو بكر عبد الرزاق بن همام: المصنف، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي (بيروت: المكتب الإسلامي، 1392/ 1972)، "كتاب البيوع - باب الاعتراف عند القاضي"، الحديث 15301، ج 8، ص 303 (وانظر أيضًا الحديث الذي يليه).
(2)
عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: "قلت: يا رسول الله، ما الخيط الأبيضُ من الخيط الأسود؟ أهما الخيطان؟ قال: "إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين"، ثم قال: "لا، بل هو سواد الليل وبياض النهار"". صحيح البخاري، "كتاب التفسير"، الحديث 4510، ص 766.
(3)
الفصيح أن تُجرَّد "غير" من الألف واللام، بسبب إيغالها في الإبهام، وهو ما قرره سيبويه حيث قال:"وغيرٌ أيضًا ليس باسم متمكِّن. ألا ترى أنها لا تكونُ إلا نكرة، ولا تُجمع، ولا تدخلها الألف واللام! " الكتاب، ج 3، ص 532 (باب ما يحقر لدنوه من الشيء وليس مثله). وهذا ما قرره المصنف نفسه في مبحث فن المعاني من رسالة "موجز البلاغة" المنشورة في هذا المجموع، وعده من باب مخالفة قياس النحو مما يعرض للمولَّدين.
العوسج قد أورق، واشتكت النساء، واتركوا ناقتي الحمراءَ فلطالمَا ركبتموها، واركبوا جملي الأسود، واسألوا الحارثَ عن خبري". (1) قال ابن الأثير في المثل:"إن الكاتب أو الشاعر ينظر إلى الحال الحاضرة، ثم يستنبط لها ما يناسبها من المعاني". (2)
وأما السَّدادُ، فهو الموافقةُ للواقع، والمطابقةُ لمقتضى الحال من غير زيادة، كقول لُبيد:
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا الله باطلُ
…
وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ (3)
(1) أراد من العوسج الذي هو شجر ذو شوك أن الناس أخذت السلاح لقتال قومه. ومعنى اشتكت النساء: اتخذت الشكوات لمخض اللبن. وأراد بالناقة الحمراء الأرض السهلة، وبالجمل الجبل. - المصنف. هذا وقد أورد القصة أبو علي القالي في سياق الحديث عن اللحن حيث قال:"وأصل اللَّحن: أن تريد الشيء فتورِّي به عنه بقول آخر، كقول رجل من بني عنبر كان أسيرًا في بكر بن وائل، فسألهم رسولًا إلى قومه. قالوا له: لا ترسل إلا بحضرتنا؛ لأنهم كانوا أزمعوا غزو قومه فخافوا أن ينذر عليهم، فجيء بعبد أسود فقال له: أتعقل؟ قال: نعم إني لعاقل. قال: ما أراك عاقلًا، ثم قال: ما هذا؟ وأشار بيده إلى الليل، فقال: هذا الليل؛ فقال أراك عاقلا. ثم ملأ كفيه من الرمل فقال: كم هذا؟ فقال: لا أدري، وإنه لكثير، فقال أَيُّها أكثر، النجوم أو النيران؟ قال: كلٌّ كثير، فقال أبلغ قومي التحية، وقل لهم: ليكرموا فلانًا - يعني أسيرًا كان في أيديهم من بكر بن وائل - فإن قومه لِي مكرمون، وقل لهم: إن العرفج قد أدْبَى، وقد شَكَّت النساء. وأْمُرهم أن يُعْرُوا ناقتِي الحمراء فقد أطالوا ركوبَها، وأن يركبوا جملي الأصهب بآية ما أكلتُ معكم حيسًا، واسألوا الحارث عن خبري. فلما أدى الرسالة إليهم قالوا: لقد جنَّ الأعور، والله ما نعرف له ناقة حمراء، ولا جملًا أصهب، ثم سرحوا العبد ودعَوُا الحارث فقصوا عليه القصة، فقال: قد أنذركم! فأما قوله: قد أدْبَى العرفج، فإنه يريد أن الرجال قد استَلأَمُوا، أي لبسوا الدروع، وقوله: شَكَّت النساء، أي اتَّخذن الشِّكاء للسفر، وقوله: ناقتي الحمراء، أي: ارتَحِلوا عن الدَّهْنَاء واركبوا الصَّمَّان وهو الجمل الأصهب، وقوله: بآية ما أكلت معكم حيسًا، يريد أخلاطًا من الناس قد غزوكم؛ لأن الحيس يجمع التمر والسمن والأقط. فامتثلوا ما قال، وعرفوا فحوى كلامه". القالي: كتاب الأمالي مع كتابي ذيل الأماني والنوادر، ص 19 - 20. وانظرها مع بعض الاختلاف في: الدينوري: عيون الأخبار، ج 1، ص 194 - 195.
(2)
ابن الأثير: المثل السائر، ج 1، ص 307.
(3)
البيت هو التاسع من قصيدته التي يرثي فيها النعمان بن المنذر. ديوان لُبيد بن ربيعة، نشرة بعناية حمدو طماس (بيروت: دار المعرفة، ط 1، 1425/ 2004)، ص 85.
وقول الآخر:
إِذَا امْتَحَنَ الدُّنْيَا لَبِيبٌ تَكَشَّفَتْ
…
لَهُ عَنْ عَدُوٍّ فِي ثِيَابِ صَدِيق (1)
وقد يخرج عن ذلك المبالغةُ إن اقتضاها الحال، فيُقبل منها ما اقتُصِد فيه، كما تقرر في البيان (2).
وأما الشَّرفُ فهو أن لا يكون المعنى سخيفًا، ولا مشتملًا على فضول، سواء كان سابقًا للذهن أم مبتكرًا، وكلاهما يُجتنب إذا كان سخيفًا مبتذَلا. ومن المبتكَر السخيف قولُ المعري:
فَيَا وَطَني! إنْ فَاتَنِي بِكَ سَابِقٌ
…
مِنَ الدَّهْرِ فَلْيَنْعَمْ لِسَاكِنِكَ الْبَالُ
فَإنْ أَسْتَطِعْ فِي الْحَشْرِ آتِكَ زَائِرًا
…
وَهَيْهَاتَ لِي يَوْمَ الْقيَامَةِ أَشْغَالُ (3)
وقوله في مرثية لوالد الشريف الرضي:
إنْ زَارَهُ المَوْتَى كَسَاهُمْ فِي الْبِلَى
…
أَكْفَانَ أَبْلَجَ مُكْرِمِ الأَضْيَافِ
واللهُ إنْ يَخْلَعْ عَلَيْهِمْ حُلَّةً
…
يَبْعَثْ إلَيْهِ بِمِثْلِهَا أَضْعَافِ (4)
ومن غير المبتَكَر - وهو سخيف - ما خطب به والٍ من ولاة اليمامة يعظ الناس فقال: "إن الله لا يُقَارُّ عباده على المعاصي، وقد أهلك الله أمةً عظيمةً في ناقة ما كانت تساوي مائتي درهم"، وفي رواية:"قيمتها مائتا درهم"، فلقبوه مقوم
(1) البيت هو الخاص من قصيدة لأبي نواس في خداع الدنيا. ديوان أبي نواس (بيروت: دار صادر، بدون تاريخ)، ص 465.
(2)
راجع في ذلك "موجز البلاغة" للمصنف.
(3)
البيتان هما السادس والسابع بعد الأربعين من القصيدة الثامنة والخمسين من السقط، وعنوانها "لقد زارني طيفُ الخيال فهاجني"، وهي من بحر الطويل. المعري: سقط الزند، ص 237 - 249.
(4)
المعري: سقط الزند، ص 253. والقصيدة من بحر الكامل، وهي في رثاء الشريف أبي أحمد الملقب بالطاهر، وتعزية ولديه الشريف الرضي والشريف المرتضى.