المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ترتيب المعاني وتنسيقها وتهذيبها - جمهرة مقالات ورسائل الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور - جـ ٣

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌المِحْوَر الرَّابعفِي اللُّغَةِ وَالأَدَبِ

- ‌الفَرْع الأَوّلبحُوث وَتحقيقات لُغويَّة

- ‌اللفظ المشترك في اللغة العربية

- ‌الأسباب التي قضت بوقوع المشترك في اللغة:

- ‌محاولة العرب إيجاد فروق بين الألفاظ المشتركة

- ‌أثر المشترك في التخاطب:

- ‌وسائل علاج الأثر السيئ للمشترك:

- ‌كيفية استعمال المشترك:

- ‌مثال من المشترك هو أغرب تصرفاته:

- ‌المترادف في اللغة العربية

- ‌المبحث الأول: في ما هو الترادف وتحقيقه:

- ‌المبحث الثاني: هل المترادف واقع في اللغة العربية

- ‌معنى الوضع:

- ‌مذاهب العلماء في إثبات المترادف:

- ‌المبحث الثالث: أسباب وقوع الترادف في اللغة:

- ‌المبحث الرابع: فوائد المترادف في اللغة:

- ‌التحذير من الغفلة عن الفروق بين الكلمات:

- ‌عطف أحد المترادفين على الآخر:

- ‌فرق لغوي مغفول عنه: "لا ضرر ولا ضرار

- ‌لفظ "كل" حقيقة في الكثرة أيضًا مثل الشمول

- ‌قولهم: "كان مما يفعل كذا

- ‌[تقديم]

- ‌المقصد:

- ‌تذييل:

- ‌الاقتراح:

- ‌صوغُ "مفعلة" من أسماء الأعيان الثلاثية الأحرف مما وسطُه حرفُ علة

- ‌الصوت المجسَّد، تقفية وتأييد

- ‌مراجعة الأستاذ إبراهيم مصطفى:

- ‌جواب المصنف:

- ‌الفَرْعَ الثَّانِيدِراسَات فِي عُلوم البَلَاغَة

- ‌الجزالة

- ‌موجز البلاغة

- ‌[استهلال: ] هذا موجز علم البلاغة:

- ‌مقدمة

- ‌[البلاغة]

- ‌تاريخ علم البلاغة:

- ‌فن المعاني:

- ‌باب الإسناد:

- ‌1 - عوارض الإسناد وأحواله:

- ‌2 - عوارض أحوال المسند إليه:

- ‌3 - عوارض أحوال المسند

- ‌4 - عوارض أحوال متعلقات الفعل:

- ‌القصر

- ‌الإنشاء:

- ‌ الوصل والفصل

- ‌عطف الإنشاء على الخبر وعكسه:

- ‌الإيجاز والإطناب والمساواة:

- ‌فن البيان

- ‌التشبيه

- ‌الحقيقة والمجاز:

- ‌الكناية:

- ‌تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر

- ‌فن البديع

- ‌ملاحق موجز البلاغة

- ‌1 - تقريض الكتاب بقلم شيخ الإسلام الحنفي

- ‌2 - قرار النظارة العلمية

- ‌‌‌أصول الإنشاءوالخطابة

- ‌أصول الإنشاء

- ‌[استهلال]

- ‌مقدمة

- ‌كيفية الإنشاء للمعنى

- ‌مثال للتمرين:

- ‌أساليب الإنشاء:

- ‌القسم الأول: [الإنشاء] المعنوي

- ‌تعريف المعنى وتقسيمه

- ‌صفات المعنى

- ‌طرق أخذ المعنى

- ‌ترتيب المعاني وتنسيقها وتهذيبها

- ‌أخذ النتائج من المعاني

- ‌مقامات الكلام

- ‌القسم الثاني: [الإنشاء] اللفظي

- ‌أحوال الألفاظ المفردة

- ‌أحوال الألفاظ المركبة

- ‌تمرين

- ‌السجع والترسل

- ‌التمرن على الإجادة

- ‌[خاتمة]

- ‌فنُّ الخطابة

- ‌ما هي الخطابة

- ‌منافع الخطابة

- ‌أصول الخطابة

- ‌ الْخَطِيبَ

- ‌[عيوب الخطابة]

- ‌الخطبة

- ‌التدرب بالخطابة

- ‌الفَرْعُ الثَّالِثدِرَاسَات فِي الأَدَب والنَّقْد

- ‌شرح المقدمة الأدبية لشرح الإمام المرزوقي على ديوان الحماسة لأبي تمام

- ‌متن المقدمة الأدبية

- ‌شرح المقدمة الأدبية

- ‌[تقديم]

الفصل: ‌ترتيب المعاني وتنسيقها وتهذيبها

الوزير العالم أن يُضَمِّنَ وصيةَ أبنائه الغير الأنجاب ما يتعلمه الصبيانُ في أيام الكتَّاب، خصوصًا في أضيق أوقات الكلام وأحوجه إلى الملء بالمهام (1).

ومن العجائب أن ابنَ الأثير ذكر في "المثل السائر" فصلًا لنفسه من رسالة قال فيها: "أقبلت ربائب الكِنَاس في مُخْضَرِّ اللباس، فقيل: إنما يخترن الخضرةَ من الألوان ليصِحَّ تشبيهُهن بالأغصان"(2)، فعد هذا معنًى مبتدَعًا وأُعجب به، مع أنه معنى مبتذَلٌ شائع.

‌ترتيب المعاني وتنسيقها وتهذيبها

اعلمْ أنه لا سبيلَ إلى الاستنتاج إلا الترتيب، ولا يحصل ترتيبُ المعاني إلا بتقريرها في الذهن ابتداءً، ثم رَعْيِ التناسب بينها بتفكيكها وتقسيمها والموازنة بينها. والخطيبُ أحوجُ إلى هذا من الكاتب كما يأتي في الخطابة؛ لأنه يقول ولا يكتب، فلا يعينه إلا الاعتمادُ على الترتيب الطبيعي للكلام، حتى يعتادَ ذهنُه ذلك، ويصير له دربةً وسَجِيَّة، كي لا يُرتج عليه (3) إن لم يُقَرِّرِ المعاني في ذهنه، ولئلا يلعن بعضُ كلامه بعضًا إن لم يُرَتِّبْها ويُقَسِّمْها. ويشهد لهذا ما نُقل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال

= ومن وراء خطة النجاه، ونفَّقَ بضائعها المزجاه، بلطائفه المرتجاه، والسلام عليكم من حبيبكم المودع، والله يلأَمُه حيث شاء من شمل متصدع، والدكم محمد بن عبد الله بن الخطيب ورحمة الله وبركاته". المقري: أزهار الرياض في أخبار عياض، ج 1، ص 320 - 336. (والشاهد في ص 327).

(1)

ونحن لا نجاري المصنف فيما عابه على ابن الخطيب رضي الله عنهما جميعًا، وفي حكمه على الوصية. وإنما نقول كما قال المقري بحق: إنها حوت جملًا "من الحكم والوصايا النافعة" فيما يجب أن يكون عليه شأن الإنسان المسلم كله في هذه الحياة الدنيا فلا يبغته أجل الموت على غير عدة لاستقبال الآخرة، بل أقول إن لسان الدين ابن الخطيب قد برع في أن تكون وصاياه جامعة متوازنة بين ما ينبغي على المرء أن يحصله في حياته من أحوال وشروط توصله إلى سعادة الدنيا والفوز في الآخرة. وإنها لوصية جديرة بأن يدرسها الدارسون وينظر فيها الناظرون.

(2)

ابن الأثير: المثل السائر، ج 1، ص 309.

(3)

يقال: رَتِج في منطقه رَتَجًا، وأُريج عليه: استُغلِق عليه الكلام.

ص: 1285

لعبد الله بن رواحة: "كيف تقول الشعر؟ " فقال: "انظر ثم أقول". (1)

وأما التناسُبُ بين المعاني ففيه يبحث بابُ الفصل والوصل من علم البلاغة، وكذلك المطابقة المبحوث عنها في البديع، والمزاوجة أيضًا.

وأما التفكيكُ والتقسيمُ فهما متشابهان، إلا أن التفكيكَ عبارةٌ عن استقلال كلِّ معنى بنفسه، وعدم تراكم المعاني، المسمى بالمعالظة، المعدود قديمًا من عيوب الكلام. وقد مدح عمر رضي الله عنه زهيرًا بأنه لا يعاظِلُ بين الكلامين (2). وذلك أن المتكلِّم

(1) عن عبد الله بن رواحة قال: "بينا أنا أجتاز في المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه إذ قال القوم: يا عبد الله بن رواحة، فظننت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونِي فجئت قال: "اجلس يا عبد الله بن رواحة، كيف تقول الشعر إذا أردت أن تقول؟ " قلت: انظر ثُمَّ أقول. قال: "عليك بالمشركين"، ولم أكن أعددت لذلك شيئًا فقلت:

فَخَبِّرُونِي أَثْمَانَ الْعَبَاءِ مَتَى كُنْتُمْ

مَطَارِيقَ أَوْ دَانَتْ لَكُمْ مُضَرُ

فنظرت الكراهيةَ في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جعلت قومه أثمان العباء، فنظرت ثم قلت:

يَا هَاشِمَ الْخَيْرِ إِنَّ اللهَ فَضَّلَكُمْ

عَلَى الْبَرِيَّةِ فَضْلًا مَالَهُ غِيَرُ

إِنِّي تَفَرَّسْتُ فِيكَ الْخيْرَ أَعْرِفُهُ

فِرَاسَةً خَالَفْتُهُمْ فِي الَّذِي نَظَرُوا

وَلَوْ سأَلْتَ أوِ اسْتَنْصَرْتَ بَعْضَهُمْ

فِي جُلِّ أَمْرِكَ مَا آوَوْا وَلَا نَصَرُوا

فَثَبَّتَ اللهُ مَا آتَاكَ مِنْ حُسْنٍ

تَثْبِيتَ مُوسَى وَنَصْرًا كَالَّذِي نُصِرُوا

قال: "وأنت فثبتك الله يا ابن رواحة". الهيثمي: بغية الرائد، "كتاب الأدب"، الحديث 13334، ج 8، ص 230 - 231. وقال الهيثمي:"رواه الطبراني ورجاله ثقات، إلا أن مدرك بن عمارة لم يدرك ابنَ رواحة".

(2)

روى أبو زيد عن أبي عبيدة عن الشعبي يرفعه إلى ابن عباس رضي الله عنه قال: "خرجنا مع ابن الخطاب في سفر فقال: ألا تزاملون؟ أنت يا فلان زميل فلان، وأنت يا فلان زميل فلان، وأنت يا ابن عباس زميلي، وكان لي محبًّا مقرِّبا، وكان كثيرٌ من الناس ينفسون علي لمكاني منه. قال: فسايرته ساعة ثم ثنى رجله على رحله، ورفع عقيرته ينشد:

وَمَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحِلِهَا

أَبَرَّ وَأَوْفَى ذِمَّةً مِنْ مُحَمَّدِ

ثم وضع السوطَ على رحله، ثم قال: أستغفر الله العظيم، ثم عاد فأنشد حتى فرغ ثم قال: يا ابن عباس ألا تنشدني لشاعر الشعراء؟ ! فقلت: يا أمير المؤمنين، ومن شاعر الشعراء؟ قال زهير! =

ص: 1286

قد يخطر بباله المعنيان فصاعدًا، فيحاول أن يمزجها جميعًا، ويُنْزِلُ السامعَ منزلةَ المطلعِ على ضميره، كما قال أبو تمام:

سَبَقَ المَشِيبَ إِلَيْهِ حَتَّى ابْتَزَّهُ

وَطَنَ النُّهَى مِنْ مَفْرِقٍ وَقِذَالِ (1)

أراد أن السيفَ سبق المشيبَ إلى رأس القِرْنِ فافتكَّ منه الرأسَ، ومرادُه أنهم لو لم يُقتَلوا لشَابُوا من هول الحرب. إلا أن هذا لا يدل عليه لفظُه، ولكنه شيءٌ قدَّره في نفسه، وتراكم بعضُه على بعض، فعبر عن الصورة التي حصلت في ذهنه دفعةً واحدة.

وأما التقسيمُ فهو جَمْعُ طائفةٍ من المعاني في شقٍّ من الكلام لارتباطٍ لها ببعضها، واتفاقٍ في نوعٍ، أو غايةٍ، أو نحوهما. وقد نُقل عن بعضِ الحكماء أنه قال:"الخطابة صحةُ التقسيم". (2) وأكمَلُه ما استوعبَ الأقسامَ كلَّها، كقول علي رضي الله عنه:

= قلت: ولم صيَّرته شاعرَ الشعراء؟ قال: لأنه لا يعاظل بين الكلامين، ولا يتتبَّع وحشيَّ الشعر، ولا يمدح أحدًا إلَّا بما فيه". القرشي: جمهرة أشعار العرب، ص 76.

(1)

البيت من قصيدة طويلة قالها يمدح الخليفة المعتصم. ديوان أبي تمام، ص 247. والمفرق هو وسط الرأس، والقذال مؤخره.

(2)

وقد سماها ابنُ رشد في بعض نسخ التلخيص "جودة التقسيم". تلخيص الخطابة، تحقيق عبد الرحمن بدوي (القاهرة: مكتبة نهضة مصر، 1960)، ص 250. وصحةُ التقسيم أحدُ المفاهيم الرئيسة في نظرية الخطابة عند اليونانيين، وقد اهتم علماءُ البلاغة العربية بهذا الموضوع في مؤلفاتهم، وربما أخذ المصنفُ هذا التعريفَ مما ذكره الجاحظ حيث قال: "وقيل لليوناني: ما البلاغة؟ قال: تصحيح الأقسام، واختيار الكلام". البيان والتبيين، ج 1/ 1، ص 68. وقال ابنُ أبي الحديد:"وصحةُ التقسيم بابٌ من أبوابِ علم البيان، ومنه قوله سبحانه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)} [فاطر: 32]، وهذه قسمة صحيحة؛ لأن المكلَّفين إما كافرٌ، أو مؤمن، أو ذو المنزلةِ بين المنزلتين. هكذا قسَّم أصحابُنا [أي المعتزلة] الآيةَ على مذهبهم في الوعيد. وغيرُهم يقول: العباد إما عاصٍ ظالِمٌ لنفسه، أو مطيعٌ مبادرٌ إلى الخير، أو مقتصد بينهما. . . ووقف سائلٌ على مجلسِ الحسن البصري فقال: رحم الله عبدًا أعطى من سَعَة، أو واسَى من كفاف، أو آثر من قلة. فقال الحسن: لم تترك لأحد عذرَا". ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (بيروت: دار الجيل، ط 2، 1416/ 1996)، ج 4/ 7، ص 184.

ص: 1287

"الحق ثقيلٌ مريء، والباطل خفيف وبِيء، وأنت رجلٌ إن صدقت سخطت، وإن كذبت رضيت"(1)؛ لأنه إذا شذت بعضُ الأقسام عُدَّ الكلامُ معيبًا. كما قيل إن ابن مَنارة هرب أحدُ عماله من صارفه، فكتب ابنُ مَنارة إليه:"إنك لا تخلو في هروبك من صارفك أن تكون قدمت إليه إساءة خفته معها، أو خشيت في عملك خيانة فلا بد من مطالبتك"، فوقَّع العاملُ تحته:"في الأقسام ما لا يدخل فيما ذكرته، وهو أني خفت من ظلمه إياي بالبعد عنك، وتكثيره على الباطل عندك، فوجدتُ الهرب إلى حيث يمكنني فيه دفعُ ما يتحرجه أنفَى للظنة عني، وبُعدي عَمَّنْ لا يُؤمَنُ ظُلمُه أولَى بالاحتياط لنفسي". (2)

وأما الموازنةُ بين المعاني، فهي من ضروبِ النقد المعنوي، وإنما تعرض بين المعنيين المتشابهين فصاعدًا عند قصد التخيير لِما يناسب منها، وكذلك تعرض بين طريقَيْ أداء المعنى الواحد. فمن الأول ما يعرض بين تشبيه وحيد عصره فضلًا وعلمًا بالمسك من بين الدماء، كما صنع أبو الطيب، أو بالذهب من المعادن كما ورد في الحديث (3)، أو بالبيض من الدماء، كما قيل في انتقاد بيت أبي الطيب (4). وطريق

(1) ابن الأثير: المثل السائر، ج 2، ص 265.

(2)

الخوارزمي، محمد بن أحمد بن يوسف: مفاتيح العلوم، تحقيق إبراهيم الأبياري (بيروت: دار الكتاب العربي، بدون تاريخ)، ص 98؛ العسكري: كتاب الصناعتين، ص 269 - 270؛ الخفاجي: سر الفصاحة، ص 226 - 227 (وهو ينقل عن قدامة بن جعفر).

(3)

عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون خير الناس في هذا الشأن أشد له كراهية، وتجدون شر الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، ويأتي هؤلاء بوجه". صحيح البخاري، "كتاب المناقب"، الحديثان 3493 و 3496، ص 588؛ صحيح مسلم، "كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم"، الحديث 2526، ص 981.

(4)

قال أبو الطيب:

فَإِنْ تَفُقِ الأَنَامَ وَأَنْتَ مِنْهُمْ

فَإِنَّ الْمِسْكَ بَعْضُ دَمِ الْغَزَالِ

فانتُقدت القصيدة بقوله قبل: "كأنك مستقيم في محال" غلط، والصواب كأنك مستقيم في اعوجاج. فقيل إن ذلك يفسد عليه التشبيه بالسك من دم الغزال، فأُجيب بأنه يتمكن من أن =

ص: 1288

الموازنة في هذا النظرُ إلى أنزه الأشياء وأقربها لمحاسن الموصوف.

والثاني كالموازنة بين أداء المعنى بالحقيقة أو بالمجاز، وبالتصريح أو بالكناية مثلا. فقد ذكر الأصوليون والبيانيون مقاماتِ العدول عن الحقيقة إلى المجاز (1)، ألا ترى أن المجاز قد يقبح في مقام الجد والحزن - مثلًا - مثل ما ترى في قول بعضهم:"دمعة أمطرتها عيني فأعشب لها قلبي"(2)؛ إذ لَا تناسبَ بين امتلاء القلب حزنًا وبين اعشيشاب الأرض، بل هو لخلاف المقصود أقرب. وكذا قولُ الزمخشري في رثاء شيخه أبي مُضر:

وَقَائِلَةٍ مَا هَذِهِ الدُّرَرُ الَّتِي

تَسَاقَطُ مِنْ عَيْنَيْكَ سِمْطَيْنِ سِمْطَيْنِ (3)

= يقول: "فإن البيض بعضُ دم الدجاج"، وهو كما ترى في الابتذال. - المصنف. قال الميساوي: البيت هو الأخير من قصيدة من خمسة وأربعين بيتًا يرثي فيها المتنبي والدة سيف الدولة عندما جاءه الخبر بموتها إلى حلب سنة 337 هـ. أما البيت الذي انتقدت بسببه القصيدة فهو قوله:

رَأَيْتُكَ فِي الَّذِينَ أَرَى

مُلُوكَا كَأَنَّكَ مُسْتَقِيمٌ فِي مُحَالِ

البرقوقي: شرح ديوان المتنبي، ج 3، ص 151.

(1)

انظر في ذلك مثلًا: الرازي: المحصول، ج 1، ص 334 - 336؛ الزركشي، بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله: البحر المحيط في أصول الفقه، تحقيق محمد محمد تامر (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1421/ 2000)، ج 1، ص 545 - 547؛ الجرجاني: كتاب أسرار البلاغة، ص 408 - 422؛ الرازي: نهاية الإيجاز، ص 97 - 98؛ ابن الأثير: المثل السائر، ج 1، ص 78 - 79؛ الجامع الكبير، ص 151 - 153؛ الرازي: نهاية الإيجاز، ص 97 - 98.

(2)

ذكر الحصري: "قال أعرابِيٌّ في امرأةٍ ودّعها: والله ما رأيت دمعةً ترقرقُ من عينٍ بإثمد على ديباجة خد، أحسن من عبرة أمطرتها عينها فأعشب لها قلبي". الحصري القيرواني، أبو إسحاق: نور الطرف ونور الظرف، تحقيق لينا عبد القدوس أبو صالح (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 1، 1996)، ص 291.

(3)

ابن خلكان: وفيات الأعيان، ج 5، ص 172؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 20، ص 154 (وفيه "تساقطها عيناك" بدل "تساقط من عينيك"). وأبو مضر - كما قال ياقوت - "هو محمود بن جرير الضبي الأصبهاني، أبو مضر النحوي، كان يلقب فريد العصر، وكان وحيد دهره وأوانه في علم اللغة والنحو والطب، يضرب به المثل في أنواع الفضائل، أقام بخوارزم مدة وانتفع الناس بعلومه ومكارم أخلاقه، وأخذوا عنه علمًا كثيرًا، وتخرج عليه جماعة من الأكابر في اللغة والنحو، =

ص: 1289

فإن المقامَ ليس مقامَ تشبيهِ دمع الحزن بالدُّرر، وإن كان قصدُه أن يصلَ بذلك إلى تشبيه فوائد شيخه، لكنه جاء بافتتاح تنكره النفس، خلاف قول الآخر:

وَأَمْطَرَتْ لُؤْلُؤًا مِنْ نَرْجَسٍ وَسَقَتْ

وَرْدًا وَعَضَّتْ عَلَى العُنَّابِ بِالْبَرَدِ (1)

= منهم الزمخشري. وهو الذي أدخل على خوارزم مذهب المعتزلة ونشره بها، فاجتمع عليه الخلق لجلالته وتمذهبوا بمذهبه. . . ولست أعرف له مع نباهة قدره وشيوع فكره مصنفًا مذكورًا، ولا تأليفًا مأثورًا، إلا كتابًا يشتمل على نتف وأشعار وحكايات وأخبار، سماه زاد الراكب. مات بمرو سنة سبع وخمسمائة". وللبيت الذي ذكره المصنفُ ثان وهو قولُ الزمخشري:

فَقُلْتُ هُوَ الدُّرُّ الَّذي قَدْ حَشَا به

أَبُو مُضَر سَمْعي تَسَاقَطَ منْ عَيْني

الحموي الرومي، ياقوت: معجم الأدباء: إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب، تحقيق إحسان عباس (بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط 1، 1993)، ج 6، ص 2685 - 2686.

(1)

هذا البيت مما اهتم به النقادُ وعلماء البلاغة القدامى اهتمامًا كبيرًا لِمَا فيه من تزاحم الصور، حيث جاء فيه - كما قال ابن رشيق - "تشبيه خمسة بخمسة"، دون استخدام أدوات التشبيه، فقد شبه قائلُه عينَيْ المحبوبة بالنرجس، ودموعَها باللؤلؤ، وخدَّها بالورد، وأصابعَها بالعُناب، وأسنانها بالبرَد. وهو من قصيدة من القصائد المغناة قديمًا وحديثًا، عُرفت بقصدة "مطر اللؤلؤ"، واختُلف في نسبتها وفي عدد أبياتها، ومطلعُها:

نَالَتْ عَلَى يَدِهَا مَا لَمْ تَنَلْهُ يَدِي

نَقْشًا عَلَى مِعْصَمٍ أَوْهَتْ بِهِ جِلْدِي

فقد نُسبت إلى عدد من الشعراء في مقدمتهم الوأواء الدمشقي ويزيد بن معاوية بن أبي سفيان، والأكثرون على نسبتها إلى الأول. انظر: الثعالبي: يتيمة الدهر، ج 1، ص 337؛ القيرواني: العمدة، ج 1، ص 297 (وفيهما:"وأسبلت" بدل "وأمطرت")، الشريشي، أبو العباس أحمد بن عبد المؤمن القيسي (577 - 619 هـ): شرح مقامات الحريري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (صيدا/ بيروت: المكتبة العصرية، 1413/ 1992)، ج 1، ص 113؛ ابن خلكان: وفيات الأعيان، ج 7، ص 51 (وقد ساق القصيدة في ثلاثة وعشرين بيتا)؛ الصفدي: الوافي بالوفيات، ج 2، ص 39 (وذكر أن الحريري بنى المقامة الحلوانية على هذا البيت)؛ الكتبي، محمد بن شاكر: فوات الوفيات، تحقيق إحسان عباس (بيروت: دار صادر، 1974)، ج 3، ص 240؛ ديوان أبي الفرج محمد بن أحمد الغساني اللقب بالوأواء الدمشقي، جمعه وصححه وترجمه نثرًا إلى اللغة الروسية أغناطيوس كراتشقوفسكي (ليدن: مطبعة بريل، 1331/ 1913)، ص 137 (وجاءت القصيدة في ثمانية عشر بيتًا)؛ الأنطاكي، داود بن عمر: تزيين الأسواق بتفصيل أشواق العشاق، تحقيق أيمن عبد الجابر البحيري (القاهرة: دار البيان العربي، 1422/ 2002)، ج 2، ص 158 (نسبه إلى يزيد، وفيه: "استمطرت" بدل "وأمطرت")؛ طلاس، العماد مصطفى: شاعر وقصيدة: مختارات شعرية =

ص: 1290

وعلى هذا قياسُ غيرِه.

وأما تنسيقُ المعاني وتهذيبُها فهو تنقيحُها عن كلِّ ما يعلَقُ بها مما يكون غريبًا عنها، ولا مناسبةَ له بها من خطإ أو صواب. وأظهرُ مواقعِ الحاجة إليه مقامات الاستطراد، ويُسَمَّى الاعتراض. فإن المتكلمَ أو الكاتب أو الخطيب قد تدعوه إلى الاستطراد دواع كثيرةٌ ليلقيَ من المعاني التي يرى الداعيَ لإلقائها موجودًا، ويخشى أن لا يجد لها مناسبةً غيرَ ذكرها عند نظيرها، وذلك كاستطراد الدعاء في طوالع الرسائل، أو استطراد قصة أو حادثة أو شعر في أثناء رسالة أو خطبة.

وتلك سنةٌ قديمة شائعة بين الكتَّاب والخطباء، فيجب أن يكون ذلك الاستطرادُ شديدَ التعلق بالموضوع: إما لثناءٍ، أو بيانٍ، أو تحسينٍ، أو إظهارِ إمكانِه، أو تنظيرِه، أو تذكيرٍ بسابق، أو نحو ذلك. فإن عريَ الاستطرادُ عن شيءٍ من العلاقات المقبولة الواضحة صار أشبهَ بالهذيان، مثل ما وقع لأبي العلاء المعري في نثر في رسالة كتب بها إلى قاض شافعي:"كتابي - أطال الله بقاءَ سيِّدي القاضي شافِي العِيِّ وخليفةِ الشافعِيِّ - ما جاز خيارُ مجلس، ووجب حجرٌ على مفلس. . ." إلخ (1). فإن هذا الظرف الذي استطرده لدعائه لا مناسبةَ بينه وبين الموضوع، إلا أنه ذكر شيئًا من علائق القضاة فرماه جزافًا؛ إذ ليس ذلك بأولَى من أن يقول: ما رُدت شهادة زنديق وقُبل الشاهدان في التطليق.

= (دمشق: طلاس للدراسات والترجمة والنشر، ط 2، 1985)، ج 1، ص 258 - 259 (وجاءت القصيدة فيه في سبعة عشر بيتًا منسوبة جميعًا إلى يزيد، ولم يتعرض صاحب هذا الكتاب لما ثار حول البيت - بل القصيدة كلها - من خلاف بين النقاد، لا من قريب ولا من بعيد).

(1)

هو الكتاب الذي بعث به المعري إلى القاضي طاهر بن عبد الله بن طاهر ببغداد، المعروف بالقاضي أبي الطيب الطبري (المتوفى سنة 450 هـ)، ولكنه لم يتمه فيوصل إليه. رسائل أبي العلاء (letters of abu Al-Ala of Maarrat al-Numan)، تحقيق وترجمة دايفيد سمويل مرجوليوث (أوكسفورد: مطابع كلاريندن، 1898)، ص 302.

ص: 1291