المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

إليها، كقول بعضهم: "من المعلوم وأنه كذا"، وقول بعضهم: "قيل - جمهرة مقالات ورسائل الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور - جـ ٣

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌المِحْوَر الرَّابعفِي اللُّغَةِ وَالأَدَبِ

- ‌الفَرْع الأَوّلبحُوث وَتحقيقات لُغويَّة

- ‌اللفظ المشترك في اللغة العربية

- ‌الأسباب التي قضت بوقوع المشترك في اللغة:

- ‌محاولة العرب إيجاد فروق بين الألفاظ المشتركة

- ‌أثر المشترك في التخاطب:

- ‌وسائل علاج الأثر السيئ للمشترك:

- ‌كيفية استعمال المشترك:

- ‌مثال من المشترك هو أغرب تصرفاته:

- ‌المترادف في اللغة العربية

- ‌المبحث الأول: في ما هو الترادف وتحقيقه:

- ‌المبحث الثاني: هل المترادف واقع في اللغة العربية

- ‌معنى الوضع:

- ‌مذاهب العلماء في إثبات المترادف:

- ‌المبحث الثالث: أسباب وقوع الترادف في اللغة:

- ‌المبحث الرابع: فوائد المترادف في اللغة:

- ‌التحذير من الغفلة عن الفروق بين الكلمات:

- ‌عطف أحد المترادفين على الآخر:

- ‌فرق لغوي مغفول عنه: "لا ضرر ولا ضرار

- ‌لفظ "كل" حقيقة في الكثرة أيضًا مثل الشمول

- ‌قولهم: "كان مما يفعل كذا

- ‌[تقديم]

- ‌المقصد:

- ‌تذييل:

- ‌الاقتراح:

- ‌صوغُ "مفعلة" من أسماء الأعيان الثلاثية الأحرف مما وسطُه حرفُ علة

- ‌الصوت المجسَّد، تقفية وتأييد

- ‌مراجعة الأستاذ إبراهيم مصطفى:

- ‌جواب المصنف:

- ‌الفَرْعَ الثَّانِيدِراسَات فِي عُلوم البَلَاغَة

- ‌الجزالة

- ‌موجز البلاغة

- ‌[استهلال: ] هذا موجز علم البلاغة:

- ‌مقدمة

- ‌[البلاغة]

- ‌تاريخ علم البلاغة:

- ‌فن المعاني:

- ‌باب الإسناد:

- ‌1 - عوارض الإسناد وأحواله:

- ‌2 - عوارض أحوال المسند إليه:

- ‌3 - عوارض أحوال المسند

- ‌4 - عوارض أحوال متعلقات الفعل:

- ‌القصر

- ‌الإنشاء:

- ‌ الوصل والفصل

- ‌عطف الإنشاء على الخبر وعكسه:

- ‌الإيجاز والإطناب والمساواة:

- ‌فن البيان

- ‌التشبيه

- ‌الحقيقة والمجاز:

- ‌الكناية:

- ‌تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر

- ‌فن البديع

- ‌ملاحق موجز البلاغة

- ‌1 - تقريض الكتاب بقلم شيخ الإسلام الحنفي

- ‌2 - قرار النظارة العلمية

- ‌‌‌أصول الإنشاءوالخطابة

- ‌أصول الإنشاء

- ‌[استهلال]

- ‌مقدمة

- ‌كيفية الإنشاء للمعنى

- ‌مثال للتمرين:

- ‌أساليب الإنشاء:

- ‌القسم الأول: [الإنشاء] المعنوي

- ‌تعريف المعنى وتقسيمه

- ‌صفات المعنى

- ‌طرق أخذ المعنى

- ‌ترتيب المعاني وتنسيقها وتهذيبها

- ‌أخذ النتائج من المعاني

- ‌مقامات الكلام

- ‌القسم الثاني: [الإنشاء] اللفظي

- ‌أحوال الألفاظ المفردة

- ‌أحوال الألفاظ المركبة

- ‌تمرين

- ‌السجع والترسل

- ‌التمرن على الإجادة

- ‌[خاتمة]

- ‌فنُّ الخطابة

- ‌ما هي الخطابة

- ‌منافع الخطابة

- ‌أصول الخطابة

- ‌ الْخَطِيبَ

- ‌[عيوب الخطابة]

- ‌الخطبة

- ‌التدرب بالخطابة

- ‌الفَرْعُ الثَّالِثدِرَاسَات فِي الأَدَب والنَّقْد

- ‌شرح المقدمة الأدبية لشرح الإمام المرزوقي على ديوان الحماسة لأبي تمام

- ‌متن المقدمة الأدبية

- ‌شرح المقدمة الأدبية

- ‌[تقديم]

الفصل: إليها، كقول بعضهم: "من المعلوم وأنه كذا"، وقول بعضهم: "قيل

إليها، كقول بعضهم:"من المعلوم وأنه كذا"، وقول بعضهم:"قيل بكذا"، فكلٌّ من الواو والباء مزيدةٌ عبثا.

‌تمرين

كتب أبو إسحاق الصابي في طالعة بعضِ مكاتيبه: "الحمد لله الذي لا تدركه الأعينُ بألحاظها، ولا تَحُدُّه الألسُنُ بألفاظها، ولا تخلقُه العصورُ بمرورها، ولا تهرمُه الدهورُ بكرورها"، ثم قال:"لم ير للكفر أثرًا إلا طمسه ومحاه، ولا رسمًا إلا أزاله وعفَّاه. . ." إلخ (1). فكلٌّ من الفقرتين الرابعة والسادسة عينُ معنى الثالثة والخامسة. وكتب في بعض كتبه: "يُسافِرُ رأيُه وهو دانٍ لم ينزح، ويسير تدبيرُه وهو ثاوٍ لم يبرح"(2)، والفقرتان بمعنى واحد.

وكتب الصاحبُ بن عباد: "وصل كتابُه جامعًا من الفوائد أشدَّها للشكرِ استحقاقًا، وأتَمَّها للحمدِ استغراقًا، وتعرَّفْتُ من إحسان الله فيما وفَّره من سلامته وهيأه من كرامته، أنفسَ موهوبٍ ومطلوب، وأحمدَ مرقوب ومخطوب. . ." إلخ (3). وفي هذا ما يقرب من إعادة المعاني.

وقد شمل قولُنا "الاقتصاد" - الذي هو في اللغة الأخذُ بالعدل - ما يقابل ما وصفناه من الفضول، وذلك هو الإخلالُ بما يلزم من اللفظ لأداء المعنى، وهو عيبٌ إلا إذا كان مقصودًا لغرض، كالألغاز والمحاورات العلمية المشتملة على اصطلاحاتٍ لا يفهمُها غيرُ أهلِ ذلك العلم. وقد حصر الماورديُّ رحمه الله في كتاب "أدب الدين والدنيا" الأسبابَ المانعةَ من فهم الكلام لعلة فيه في ثلاثة، وهي تقصيرُ

= الخلال الحميدة، والخصال الشريفة السعيدة". ابن عرب شاه، أحمد بن محمد: كتاب فاكهة الخلفاء ومفكهة الظرفاء، نشرة بعناية غيورغ ولهلم غربتغ (بون: المطبعة الرسمية، 1832)، ص 95.

(1)

ابن الأثير: المثل السائر، ج 1، ص 202.

(2)

المصدر نفسه، ص 203.

(3)

المصدر نفسه، ص 203.

ص: 1313

اللفظ عن المعنى، وزيادةُ اللفظِ على المعنى، والمواضعةُ، أي الاصطلاحات (1).

وأما اتصالُ جُمَلِ الكلام فهو فُسْطاط علم الإنشاء، وحَلَبةُ استباقِ هِمَم المتضلِّعين فيه. وقد تَتَبَّعْتُ كلامَ أئمةَ الفن، فوجدتُ غايةَ ما تبلغ إليه الضوابطُ في اتصال جُمَلِ الكلام - على كثرةِ الأسماء والألقاب المتناثرة في كتبِ الأدب - أربعةَ أشياء: تناسبَ بعضِ الجمل مع بعض، وعدمَ انفكاك بعضِها عن بعض، والانتقالَ من أسلوب إلى أسلوب، وحسنَ الابتداء، والتخلصَ، والختام.

فأما تناسبُ بعض الْجُمَلِ مع بعض - وهو المعبَّرُ عنه بالفصلِ والوصل - فموضِعُ القولِ فيه في علم البلاغة. وأما ارتباطُ الجُمَلِ وعدمُ انفكاكِ بعضِها عن بعضٍ فهو أن تَتَّصلَ الجملُ ولا يُفصَلَ بينها إلا بشيءٍ مناسبٍ لها، ويُعرَفَ كيف يكونُ الرجوعُ عما فُصِلتْ به إلى ما فُصِلتْ عنه؛ إذ المتكلِّمُ في المقاماتِ الخطابية لا يقتصِرُ على ما تكلَّم لأجله، وإلا لجاء الكلامُ قصيرًا، وما طالت الخطبُ والقصائد، وصار الكلامُ كلُّه أمرًا أو نهيًا أو خبرا (2).

(1) قال الماوردي في بيان العلل المانعة من فهم معاني الكلام: "وليس يخلو السبَبُ المانعُ من ذلك من ثلاثة أقسام: إما أن يكونَ لعلةٍ في الكلام المترجِمِ عنها، وإما أن يكونَ لعلةٍ في المعنى المستَوْدعَ فيها، وإما أن يكون لعلةٍ في السامِع المستخرج. فإن كان السبَبُ المانعُ من فهمها لعلة في الكلام المترجِم عنها، لم يخل ذلك من ثلاثةِ احوال: أحدها أن يكونَ لتقصيرِ اللفظ عن المعنى. . . الحال الثاني أن يكونَ لزيادةِ اللفظ على المعنى. . . والحال الثالث أن يكونَ لمواضعةٍ يقصدها المتكلِّمُ بكلامه". ثم بين أن "المواضعة ضربان: عامةٌ وخاصة"، وأن المواضعةَ العامة هي "مواضعةُ العلماء فيما جعلوه ألقابًا لمعانٍ لا يستغني المتعلمُ عنها"، وأما المواضعةُ الخاصة فهي "مواضعةُ الواحدِ يقصد بباطِنِ كلامِه غيرَ ظاهرِه". الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد: أدب الدنيا والدين، تحقيق محمد ياسر محمد الحسن (بيروت/ دمشق: دار النفائس، ط 1، 1432/ 2011)، ص 105 - 107.

(2)

اهتم المصنفُ في تفسيره بمواضع الاستطراد في القرآن وبيان علائق مستطرداته ومناسباتها ووظائفها البيانية والحجاجية، ومن المناسب أن نورد هنا أنموذجًا لذلك ما جاء في تفسيره لقوله تعالى:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} إلى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ =

ص: 1314

فلذلك احتِيجَ إلى تقديم المقدمات، وذكرِ العلل والغايات، والاستشهادِ بالمناسبات، واستطرادِ النَّظَائِرِ والأمثال. فقديمًا ما صُدِّر المديحُ بالنسيب، والخطبةُ بالثناء والاعتبار. فإذا علم المتكلِّمُ أيْنَ يَضَعُ أجزاءَ الكلام جاء كلامُه مرتبطًا، وإذا لم يُحْسِنْ ذلك اختلط عليه وخرج من غرضٍ إلى غرض. فإذا استطرَدَ أو قَدَّم أو ذَيَّل،

= يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)} [البقرة: 146 - 159]، قال بشأن الآية 146:"جملة معترِضة بين جملة: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة: 145] إلخ وبين جملة: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ} [البقرة: 148]، إلخ، اعتراضَ استطرادٍ بمناسبةِ ذكرِ مطاعنِ أهل الكتاب في القبلة الإسلامية، فإن طعنهم كان عن مكابرةٍ، ، مع علمهم بأن القبلة الإسلامية حق، كما دل عليه قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 144]، فاستطرد بأن طعنهم في القبلة الإسلامية ما هو إلا من مجموع طعنهم في الإسلام وفي النبي صلى الله عليه وسلم، والدليلُ على الاستطراد قوله بعده: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148]، فقد عاد الكلام إلى استقبال القبلة". ثم قال بصدد الآية 159: "فمناسبة وقع هاته الآية بعد التي قبلها أن ما قبلها كان من الأفانين القرآنية المتفننة على ذكر ما قابل به اليهودُ دعوةَ النبي صلى الله عليه وسلم وتشبيههم فيها بحال سلفهم في مقابلة دعوة أنبيائهم من قبل، إلى مبلغ قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ} [البقرة: 75] إلى قوله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ} [البقرة: 101] الآية، وما قابل به اشتباههم من النصارى ومن المشركين الدعوة الإسلامية، ثم أفضى ذلك إلى الإنحاء على المشركين قلة وفائهم بوصايا إبراهيم الذي يفتخرون بأنهم من ذريته وأنهم سدنة بيته فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} الآيات، فنوه بإبراهيم، وبالكعبة، واستقبالها، وشعائرها. وتخلل ذلك ردُّ ما صدر عن اليهود من إنكارِ استقبالِ الكعبة، إلى قوله: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)}، يريد علماءهم، ثم عقب ذلك بتكملةِ فضائلِ الكعبة وشعائرها، فلما تم جميعُ ذلك عطف الكلامَ إلى تفصيل ما رماهم به إجمالًا في قوله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ}، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا} إلخ، وهذه طريقةٌ في الخطابة هي إيفاءُ الغرض المقصود حقَّه، وتقصيرُ الاستطراد والاعتراض الواقعين في أثنائه، ثم الرجوعُ إلى ما يهم الرجوع إليه من تفصيل استطراد، أو اعتراض تخلل الغرضَ المقصود". ابن عاشور: تفسير التحرير والتنوير، ج 2، ص 39 و 65 - 66.

ص: 1315

فلْيقتصِرْ على قدر الحاجة؛ فإنه إن زادَ على ذلك سَمُج، كما ترى في مُستطرَدات "حياة الحيوان"(1).

ولقد نال شيءٌ من ذلك بعضَ مواضع كتاب "كليلة ودمنة" لابن المقفع، على مكانته من علم البلاغة، إلا أنه كان كتابًا مترجمًا من لغة الفرس. ومن وجيزِ مُسْتَطْردَاتِه قولُه:"فلما قرب ذو القرنين من فُورِ الهندِيِّ، وبلغه ما قد أعدَّ له من الخيل التي كأنها قِطعُ الليل، مِمَّا لم يلقَهُ بمثلِه أحدٌ من الملوك الذين كانوا في الأقاليم، تخوَّف ذو القرنين من تقصيرٍ يقع به إن عجَّل المبارزة. . ." إلخ (2)، فلقد أسرع الرجوعَ إلى الغرض.

وقولُ الفتح في "قلائد العقيان": " [أخبرني ابن زرقون] أنه حضر مَجلسَ راح، ومَكنِس ظِباءٍ وأفراح، وفيهم جماعةٌ منهم الوزيرُ أبو بكر [بن القَبْطُرْنة]، شيخ الفُتُوَّة ومعرِضُ فتياتها المجلوة، ومعهم سعد بن المتوكِّل وهو غلام ما نضَا عنه الشبابُ بردَه، ولا أَذْوَى ياسَمينَه ولا وَردَه، فكان الوزيرُ وأخواه [أبو محمد وأبو

(1)"حياة الحيوان الكبرى" كتاب من تصنيف أبي البقاء محمد بن موسى بن عيسى الدميري المتوفَّى سنة 808 هـ.

(2)

ورد هذا الكلام في مقدمة للكتاب وصفها ابن المقفع بأنها من "وضع بهنود بن سحوان ويُعرف بعلي بن الشاه الفارسي، ذكر فيها السبب الذي من أجله عمل بيدبا الفيلسوف الهندي رأس البراهمة لدبشليم ملك الهند كتابه الذي سماه كليلة ودمنة، وجعله على ألسنة الحيوانات"، وفي هذه المقدمة ذكرٌ لذي القرنين وملك الهند. ومن الغريب أن هذه المقدمة غير موجودة في النشرة التي حققها العلامة عبد الوهاب عزام عليه رحمة الله، ونشرتها دار الشروق بالقاهرة بعناية عدد من الأساتذة. ويجدر التنبيه هنا إلى اختلاف الناشرين في نسبة الكتاب، فبعضهم ينسبه إلى بيدبا بينما ينسبه آخرون إلى عبد الله بن المقفع. انظر مثلًا: بيدبا الفلسوف: كتاب كليلة ودمنة، ترجمة عبد الله بن المقفع (القاهرة: المطبعة الأميرية ببولاق، 1937)، ص 9 و 11؛ ابن المقفع، عبد الله: كليلة ودمنة (القاهرة: كلمات عربية للترجمة والنشر، 2011)، ص 9 - 10. وقارن: ابن المقفع، عبد الله: كليلة ودمنة، تحقيق عبد الوهاب عزام وتقديم أحمد طالب الإبراهيمي (القاهرة: دار الشروق/ الجزائر: الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، ط 2، 1401/ 1981)، وقد حليت هذه النشرة بأنها "أكملُ النسخ وأصحها وأقدمها".

ص: 1316

الحسن] مُختَصِّين بالفضلِ أخيه، اختصاصَ الأنوار بالكمائم، واللَّبَّات بالتمائم، فتذاكروا فقدَه، وكيف شفى منه الزمنُ حِقدَه. . . فهاج شجوُه، وبَانَ طربُه ولهوُه، وأرسل مدامعَه سجالًا، وقال ارتجالًا. . ." إلخ (1).

وكذا من الشعر قولُ النابغة:

فَمَا الْفُرَاتُ إِذَا جَاشَتْ غَوَارِبُهُ

تَرْمِي أَوَاذِيُّهُ الْعَبْرَيْنِ بِالزَّبَدِ

يُمِدُّهُ كُلُّ وَادٍ مُتْرَعٍ لَجِبٍ فِيهِ

رُكَامٌ مِنَ الْيَنْبُوتِ وَالْخَضَدِ

يَظَلُّ مِنْ خَوْفِهِ المَلَّاحُ مُعْتَصِمًا

بِالْخَيْزُرَانَةِ بَعْدَ الأَيْنِ وَالنَّجَدِ

يَوْمًا بِأَجْوَدَ مِنْهُ سَيْبَ نَافِلَةٍ

وَلَا يَحُولُ عَطَاءُ الْيَوْمِ دُونَ غَدِ (2)

وربما طال الاستطرادُ لاقتضاء المقام ذلك، فيناسب عند الرجوع إلى الغرض المقصود أن يُنَبَّهُ السامعُ لذلك بإعادة الكلمة التي تربط الغرض، مثل كلمة "لولا" في قوله تعالى:{فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83)} إلى قوله: {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)} [الواقعة: 83 - 87]؛ لأن أصلَ الكلام: "فلولا إذا بلغت الحلقوم ترجعونها إن كنتم صادقين في أنكم غير مربوبين". (3)

(1) الفتح بن خاقان: قلائد العقيان (نشرة ابن عاشور)، ص 117؛ قلائد العقيان (نشرة خريوش)، ج 1، ص 140 - 141.

(2)

الأبيات هي الثالثُ حتى السادس قبل الأخير من قصيدةٍ طويلة يمدح فيها الشاعرُ النعمانَ بن المنذر ويعتذر إليه مما بلغه عنه بشأن وصفه للمتجردة زوج النعمان. ديوان النابغة الذبياني، ص 87 - 88 (نشرة ابن عاشور)؛ ص 26 - 27 (نشرة محمد أبي الفضل إبراهيم). وتجدر الإشارةُ هنا إلى أن هناك اختلافًا غير يسير بين النشرتين في ضبط أبيات هذه القصيدة.

(3)

قال المصنفُ في تفسير هذه الآية وبيان دلالة نظمها: "فبقي الإشكالُ في جعل "ترجعونها" من جملة جواب شرط إنْ؛ إذ لا يلزم من عدم قدرتهم على صدِّ الأرواح عن الخروج، أن يكون خروجُها لإجراء الحساب. ودَفْعُ هذا الإشكال وجوبُ تأويل "ترجعونها" بمعنى تحاولون إرجاعَها، أي عدمُ محاولتكم إرجاعَها منذ العصور الأولى دليلٌ على تسليمكم بعدم إمكان إرجاعها، وما ذلك إلا لوجوب خروجها من حياة الأعمال إلى حياة الجزاء. وأصلُ تركيب هذه الجملة: إذا كنتم =

ص: 1317

وأشدُّ مَنْ يظهر احتياجُه إلى رَعْيِ قواعدِ هذا الاتصال الخطباء، فإن من دأبهم التطرقَ إلى موضوعاتٍ كثيرة، فإنْ هم لم يُحْسِنُوا ترتيبَها جاء الكلامُ نُتَفًا ينبُو بعضُه عن بعض. وقد رأينا الشعراءَ لا يزيدون في انفكاك الغرض على أكثر من ثلاثة أبيات، ويتوخَّوْن من الصفات ونحوها ما له علاقةٌ بالغرض شديدة، وكذلك شأنُ الكاتب أيضًا.

وأما الانتقالُ من غرض إلى غرض ومن أسلوب إلى أسلوب، فهو زينةُ الكلام للكاتب والشاعر والخطيب، وهو أحسنُ تطريةً لنشاط السامع، وأكثرُ إيقاظًا للإصغاء إليه. ويختصُّ من اللطافة بمثل ما قرره علماءُ المعاني للالتفات، فقد سماه السكاكي "قِرَى الأرواح"(1). ولا بد فيه من مراعاة المناسبة، كما ترى في انتقالاتِ القرآن العظيم.

وأما حسنُ الابتداء والتخلصُ والختامُ، فإنما خُصَّتْ بالبحث وإن كان جميعُ الكلام مشروطًا بالحسن، فذلك لأن الإجادةَ فيها أعسر؛ إذ الابتداءُ هو أولُ ما يقرع السمعَ، وأولُ ما يبتدئ به المتكلِّمُ، وهو مفتاحُ الكلام، فإن هو أتقنه، كان إتقانُه

= صادقين في أنكم غيرُ مدينين فلولا حاولتم عند كل محتضر إذا بلغت الروحُ الحلقومَ أن ترجعوها، فما صرفكم عن محاولة ذلك إلا العلمُ الضروريُّ بأن الروح ذاهبةٌ لا محالة. فإذا علمتَ هذا، اتضح لك انتظامُ الآية التي نُظمت نظمًا يديعًا من الإيجاز، وأُدمج في دليلها ما هو تكملةٌ للإعجاز". تفسير التحرير والتنوير، ج 13/ 27، ص 343.

(1)

قال السكاكي في بيان معنى الالتفات ووظائفه وفوائده: "واعلم أن هذا النوع - أعني نقلَ الكلام عن الحكاية إلى الغيبة - لا يختص المسند إليه، ولا هذا القدر، بل الحكاية والخطاب والغيبة ثلاثتها يُنقل كلُّ واحدٍ منها على الآخر. ويسمى هذا النقلُ التفاتًا عند علماء علم المعاني، والعربُ يستكثرون منه، ويرون الكلامَ إذا انتقل من أسلوبٍ إلى أسلوب أدخلَ في القبول عند السامع، وأحسنَ تطرية لنشاطه، وأملأَ باستدرار إصغائه، وهم أحرياءُ بذلك. أليس قِرَى الأضياف سجيتهم ونحر العشار للضيف دأبهم وهِجِّيراهم؟ . . . أفتراهم يحسنون قرى الأشباح فيخالفون فيه بين لون ولون، وطعم وطعم، ولا يحسنون قِرَى الأرواح فلا يخالفون فيه بين أسلوب وأسلوب وإيراد وإيراد؟ ! فإن الكلامَ المفيد عند الإنسان، لكن بالمعنى لا بالصورة، أشهى غذاءً لروحِه وأطيبُ قرًى لها". مفتاح العلوم، ص 296 (نشرة هنداوي).

ص: 1318

معينًا على النسج على منواله، كما يُقال:"الحديث شجون"(1). وكذلك التخلصُ من المقدمة إلى الغرض، فإنه يحتاج إلى فضلِ براعةٍ في الارتباط بينهما. وكذلك الختام؛ لأنه يجب أن يكونَ قد استوعب ما تكلم لأجله حتى لا يثني إليه عنانَ الكلام مرةً أخرى بعد السكوت. ولا جرمَ أن يكون ما يتخلل بين هذه الثلاثةِ رشيقًا بليغًا، متى سهلت على المتكلم الإجادةُ في هذه الثلاثة. وهذا هو المرادُ من التأنُّقِ الذي حَرَّضَ عليه أئمةُ البلاغة في هاته المواضع الثلاثة.

ولنرجِعْ إلى الحالةِ السادسة من أحوال الألفاظ المركَّبة، وهي مناسبةُ الكلام للغرض بأن يُناسِبَهُ في الرِّقَّة والجَزَالة، وبأن تُنَاسِبَهُ كيفيةُ انتظامه: من سجع، وترسل، وإيجاز، وإطناب، وبساطة وضعه. وهذا أهمُّ شيءٍ في الإنشاء بعد ما تقدم وأصعبُه.

ومن الأدباء مَنْ يُقَسِّم الإنشاءَ إلى عالٍ وَوَسَطٍ وسافل، فيظن مَنْ لا يتأمل أن هذا التقسيمَ يدخل في التعليم، وهو غلط؛ إذ التعليمُ لا يقصد إلا الغايةَ العليا من

(1) الصيغة المعروفة هي قولهم: "الحديث ذو شجون". قال أبو هلال: "وهو على ما تقول العامة: الحديث يجر بعضه بعضًا". وأول مَنْ أرسل هذا المثل ضبَّة بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مُضرَ بن نزار. وذلك أنهُ كان لهُ ابنان يقال لأحدهما سعد، وللآخر سعيد، فنفرت إبلٌ لضبَّة في الليل، فأرسل ولديه في طلبها فتفرَّقا فوجدها سعدٌ وردَّها، وبقي سُعيدٌ ماضيًا في طلبها. فلقيَهُ الحارث بن كعب، وكان على الغلام بُردان، فسأَله إيَّاهما فأبى عليه، فقتله وأخذهما. ولما أبطأَ سعيدٌ جزع عليه أبوه وأقام ينتظرهُ متوقعًا رجوعَه، فكان إذا رأَى سوادًا في الليل قال: أسعدٌ أم سُعَيدٌ؟ فذهب قولهُ مَثَلًا. ثم إن ضبَّة حجَّ فوافى عكاظ فلقي بها الحارث، ورأى عليهِ بُردَيْ ابنهِ سعيد فعرفهما، فقال له: ما أحسن هذين البردين، فمن أين أخذتهما؟ فقال: لقيت غلامًا فقتلتهُ وأخذتهما، فقال أبِسيفك هذا؟ قال نعم، فقال أرني إياهُ فإني أظنُّه صارمًا، فلمَّا أخذهُ من يدهِ هزَّهُ وقال:"إن الحديث ذو شجون"، ثم ضربهُ بهِ فقتله. وكان ذلك في الشهر الحرام، فلامهُ بعض من حضر على قتلهِ فيه، فقال:"سبق السيفُ العَذَل"، فأرسلها مثلًا. العسكري، أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل: كتاب جمهرة الأمثال، تحقيق أحمد عبد السلام وأبي هاجر محمد سعيد بن بسيوني زغلول (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1408/ 1988)، ج 1، ص 303 - 304. ومعنى "الحديث ذو شجون" أن الكلام يذكر بعضه ببعض ويجر بعضه إلى بعض وتتشعب المسائل فيه بعضها عن بعض، لما بين أغراض الحديث من اتصال بعضها ببعض وتقاطع فيما بينها. وعادةً ما يُساق هذا المثلُ في مقام الاستطراد والخروج عن الغرض الرئيس للكلام.

ص: 1319

الفنِّ الذي يُعَلَّم. وإنما المرادُ التنبيهُ على مراتبِ الإنشاء في الخارج، والموازنة بينها، ليحصُلَ من ذلك تمرينٌ على اختيار أحسنه. نعم، يكتفي معلِّمُ المبتدئين منهم بالإنشاء السافل، لكن لا ليبقوا في تلك المرتبة، بل ليرتقُوا عنها رُوَيْدًا رويدًا، ويحتذوا في كلِّ صنفٍ آثارَ المجيدين فيه: من كتاب دولة، وأدباء، وموثقين، وصحافيين، وخطباء، ومؤرخين، ومؤلفين، وشعراء. فتوجد في كلِّ صنفٍ منها مراتبُ في البساطة والتأنُّق، بحسب أحوالِ المخاطَبين من خاصة وعامة، وأذكياء وأغبياء.

ولا شكَّ أن لأحوال المتكلمين أيضًا علاقةً بحالة إنشائهم، فلذلك غلب على العرب الأندلسيين الرقةُ في الكلام، وعلى العربِ في صدر الإسلام الجزالة، وعلى أهل الحواضر والسبق في المدنية مُخترَعَ المعاني، وبعكسهم أهلُ البوادي. وقد قال بعضُ الأدباء لما قيل له: ما يمنعك أن تقول مثلَ قول ابن المعتز في تشبيه الهلال:

فَانْظُرْ إِلَيْهِ كَزَوْرَقٍ مِنْ فِضَّةٍ

قَدْ أَثْقَلَتْهُ حُمُولَةٌ مِنْ عَنْبَر (1)

فقال: "كلٌّ يقول بما يرى في بيته". (2)

ولا بأسَ أن نُمَثِّلَ هنا لشيءٍ من أغراضِ الكلام وما يُناسبها من أحوال الألفاظ المركَّبة، وإن كان ذلك لا ينحصر، ولكن لتحصيل أنموذج منه للمتعلِّم.

(1) ديوان ابن المعتز، ص 247؛ ديوان أشعار الأمير أبي العباس، ج 2، ص 185 (وفيه و"انظر" عوض "فانظر").

(2)

"يُحكى عن ابن الرومي أن لائمًا لامه وقال له: لم لا تشبه تشبيهَ ابن المعتز وأنت أشعر منه؟ فقال له: أنشدني شيئًا من قوله أعجز عن مثله، فأنشده في صفة الهلال"، وذكر البيت، "فقال له ابن الرومي: زدني، فأنشده:

كَأَن أَذَرْيُونَهَا

وَالشَّمْسُ فِيهِ كَالِيَهْ

مَدَاهِنٌ مِنْ ذَهَبٍ

فِيهَا بَقَايَا غَالِيَهْ

فقال: وَاغَوْثَاه! لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، ذاك إنما يصف ماعون بيته؛ لأنه ابن الخلفاء. وأنا مشغولٌ بالتصرف في الشعر، وطلَبِ الرِّزق به، أمْدَحُ هذا مرةً وأهجو هذا كرة، وأُعَاتِبُ هذا تارةً وأستعطف هذا طورا". القيرواني: العمدة، ج 2، ص 171.

ص: 1320

وعلى المدرس أن يأتي لكل صنف منها بمثال من المنشآت، ليحترز من الغلَطِ في وضع بعض هاته الفنون في غير ما يليق به من الأغراض. فإن مَنْ عكف على بعضِ هاته الفنون، وارتسم حَدُّه في ذهنه، لم يكد يعدوه إلى غيره، فربما وضعه في غيرِ ما يَحسُنُ وضعُه فيه، مع أن الواجبَ الأخذُ من كل فنٍّ والاطلاعُ على جميعها.

وبيانُ ذلك أن الرِّقَّةَ والصَّنعة تُستحسنان في الأغراضِ الهزْليَّة، والتَّهاني، والمقامات، والمواعظِ الترغيبية، ومخاطباتِ الأصدقاء في المودة، ونحوها. والجزالةُ وما يقرب منها تُستحسن في المراثي، والترهيبات، والحروب، والمخاطبات من العظماء، والأدعية، والتآليف العلمية. والسجعُ يحسن وقعُه في المقامات، والتهاني، والوداديات، والغراميات، لقربه من الشعر، وديباجاتِ التآليف، ومقدماتِ التحلية في المخاطبات، والأمثال والحكم؛ لأن المرادَ تعلُّقُها بالحفظ، والسَّجْعُ يُعِينُ على ذلك مثل النظم. والترسُّلُ يحسُنُ في الأدعية، والخطب والمواعظ، والعِلمِيَّات، والتاريخ والتراجم، ومخاطبات العموم، والمراسلات الدولية، والصُّكوك، والشروط، ونحوها.

ومتى وُضع فنٌّ مِنْ فُنون أحوالِ الألفاظ المركَّبة في غيرِ موضِعهِ المناسب جاء سَمِجًا، كما ترى مِنْ سماجَةِ خُطَبِ الخطباء المنْتَحَلة من خطب الشيخ ابن نُباتة ونحوه، مع أن المخاطَبَ بها العمومُ الذين لا يتفطَّنُون لما أكَدَّ الخطيبُ فيه ذهنَه. وكما ترى من ثقل "التاريخ اليميني" للكاتب أبي نصر العتبي، فإنه أودعه من السَّجْعِ ومحاسن الصنعة ما كان بعيدًا عن أن يُودَعَ في تاريخِ الحوادث.

وكذلك كُتُبُ التراجم - مثل الرَّيْحَانة للخفَّاجي - التي ظَنَّ أصحابُها أنهم يتبعون فيها الفتحَ بن خاقان الأندلسي صاحب "قلائد العِقْيان"(1)، مع الغفلةِ عن الفَرْق بينهم وبينه، فإنَّ الْمُهِمَّ مِنْ غرَضِه هو ذكرُ مُلَحِ المترجَم لهم في البلاغة،

(1) انظر تعريف المصنف بالفتح ابن خاقان وبكتابه "قلائد العقيان" في الفرع الأول من المحور الخامس.

ص: 1321