المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ثم جاء الشيخ عبد القاهر الجرجاني الأشعري الشافعي (المتوفَّى سنة - جمهرة مقالات ورسائل الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور - جـ ٣

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌المِحْوَر الرَّابعفِي اللُّغَةِ وَالأَدَبِ

- ‌الفَرْع الأَوّلبحُوث وَتحقيقات لُغويَّة

- ‌اللفظ المشترك في اللغة العربية

- ‌الأسباب التي قضت بوقوع المشترك في اللغة:

- ‌محاولة العرب إيجاد فروق بين الألفاظ المشتركة

- ‌أثر المشترك في التخاطب:

- ‌وسائل علاج الأثر السيئ للمشترك:

- ‌كيفية استعمال المشترك:

- ‌مثال من المشترك هو أغرب تصرفاته:

- ‌المترادف في اللغة العربية

- ‌المبحث الأول: في ما هو الترادف وتحقيقه:

- ‌المبحث الثاني: هل المترادف واقع في اللغة العربية

- ‌معنى الوضع:

- ‌مذاهب العلماء في إثبات المترادف:

- ‌المبحث الثالث: أسباب وقوع الترادف في اللغة:

- ‌المبحث الرابع: فوائد المترادف في اللغة:

- ‌التحذير من الغفلة عن الفروق بين الكلمات:

- ‌عطف أحد المترادفين على الآخر:

- ‌فرق لغوي مغفول عنه: "لا ضرر ولا ضرار

- ‌لفظ "كل" حقيقة في الكثرة أيضًا مثل الشمول

- ‌قولهم: "كان مما يفعل كذا

- ‌[تقديم]

- ‌المقصد:

- ‌تذييل:

- ‌الاقتراح:

- ‌صوغُ "مفعلة" من أسماء الأعيان الثلاثية الأحرف مما وسطُه حرفُ علة

- ‌الصوت المجسَّد، تقفية وتأييد

- ‌مراجعة الأستاذ إبراهيم مصطفى:

- ‌جواب المصنف:

- ‌الفَرْعَ الثَّانِيدِراسَات فِي عُلوم البَلَاغَة

- ‌الجزالة

- ‌موجز البلاغة

- ‌[استهلال: ] هذا موجز علم البلاغة:

- ‌مقدمة

- ‌[البلاغة]

- ‌تاريخ علم البلاغة:

- ‌فن المعاني:

- ‌باب الإسناد:

- ‌1 - عوارض الإسناد وأحواله:

- ‌2 - عوارض أحوال المسند إليه:

- ‌3 - عوارض أحوال المسند

- ‌4 - عوارض أحوال متعلقات الفعل:

- ‌القصر

- ‌الإنشاء:

- ‌ الوصل والفصل

- ‌عطف الإنشاء على الخبر وعكسه:

- ‌الإيجاز والإطناب والمساواة:

- ‌فن البيان

- ‌التشبيه

- ‌الحقيقة والمجاز:

- ‌الكناية:

- ‌تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر

- ‌فن البديع

- ‌ملاحق موجز البلاغة

- ‌1 - تقريض الكتاب بقلم شيخ الإسلام الحنفي

- ‌2 - قرار النظارة العلمية

- ‌‌‌أصول الإنشاءوالخطابة

- ‌أصول الإنشاء

- ‌[استهلال]

- ‌مقدمة

- ‌كيفية الإنشاء للمعنى

- ‌مثال للتمرين:

- ‌أساليب الإنشاء:

- ‌القسم الأول: [الإنشاء] المعنوي

- ‌تعريف المعنى وتقسيمه

- ‌صفات المعنى

- ‌طرق أخذ المعنى

- ‌ترتيب المعاني وتنسيقها وتهذيبها

- ‌أخذ النتائج من المعاني

- ‌مقامات الكلام

- ‌القسم الثاني: [الإنشاء] اللفظي

- ‌أحوال الألفاظ المفردة

- ‌أحوال الألفاظ المركبة

- ‌تمرين

- ‌السجع والترسل

- ‌التمرن على الإجادة

- ‌[خاتمة]

- ‌فنُّ الخطابة

- ‌ما هي الخطابة

- ‌منافع الخطابة

- ‌أصول الخطابة

- ‌ الْخَطِيبَ

- ‌[عيوب الخطابة]

- ‌الخطبة

- ‌التدرب بالخطابة

- ‌الفَرْعُ الثَّالِثدِرَاسَات فِي الأَدَب والنَّقْد

- ‌شرح المقدمة الأدبية لشرح الإمام المرزوقي على ديوان الحماسة لأبي تمام

- ‌متن المقدمة الأدبية

- ‌شرح المقدمة الأدبية

- ‌[تقديم]

الفصل: ثم جاء الشيخ عبد القاهر الجرجاني الأشعري الشافعي (المتوفَّى سنة

ثم جاء الشيخ عبد القاهر الجرجاني الأشعري الشافعي (المتوفَّى سنة 471 هـ)، فألف كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، أولهما في علم المعاني والثاني في علم البيان. فكانا أولَ كتابين ميزا هذا العلمَ عن غيره، ولكنهما كانا غير ملخصين ولا تامَّيْ الترتيب، فهما مثل در متناثر كنزه صاحبه لينظم منه عقدًا عند تآخيه. فانبرى سراجُ الدين يوسف بن محمد بن علي السكاكي الخوارزمي المعتزلي (المولود سنة 555 هـ والمتوفَّى سنة 626 هـ) إلى نظم تلك الدرر، فألف كتابه العجيب المسمَّى "مفتاح العلوم في علوم العربية"، وأودع القسمَ الثالث منه - الذي هو المقصود من التأليف - مسائلَ البلاغة، دوَّنها على طريقة علمية صالحة للتدريس والضبط. فكان الكتابَ الوحيد اقتبسه من كتابَيْ الشيخ عبد القاهر ومن مسائل الكشاف في تفسير القرآن للزمخشري، فأصبح عمدةَ الطالبين لهذا العلم. وتتابع الأدباءُ بعده في التأليف في هذا العلم الجليل.

‌فن المعاني:

المعاني علمٌ تُعرف به أحوالُ اللفظ العربي التي بها يكون بليغًا فصيحًا في إفراده وتركيبه (1). فالفصاحةُ أن يكون الكلامُ خالصًا، أي: سالِمًا مما يُعَدُّ عيبًا في اللغة بأن يَسْلَم من عيوبٍ تعرض للكلمات التي تركَّب منها الكلام، أو تعرض لمجموع الكلام (2). فالعيوبُ العارضة للكلمات ثلاثة: الغرابة، وتنافر الحروف،

(1) يعني تعرف أحوال الألفاظ المفردة لتكون فصيحة، وتعرف أحوال الألفاظ المركبة - وهي الجمل والكلام - ليكون كلامًا فصيحًا وبليغًا. - المصنف.

(2)

أعلم أن الفصاحة من أخص أوصاف كلام العرب، وعدُّها في علم المعاني من حيث إنها شرطٌ في البلاغة؛ إذ لا يُعتدُّ بالكلام البليغ إلا إذا كان فصيحًا، فلما توقف وصفُ البلاغة على تعقل معنى الفصاحة ذكروها هنا لئلا يحيلوا المتعلم على علم آخر. وقد كان الشأن أن تُعدَّ الفصاحة من مسائل علم الإنشاء، والمتقدمون عدوها في المحسنات البديعية نظرًا لكونها حسنًا لفظيًّا، لكن الحق أن كونها أقوى اعتبارًا من البلاغة مانعٌ من عدها في المحسنات التي هي توابع. فالوجهُ عدُّها من مسائل الإنشاء، وأن ذكرها هنا مقدمة للعلم. وإنما اشترطت الفصاحة في تحقيق البلاغة؛ لأن الكلام إذا لم يكن فصيحًا لم تُقبل عليه أفهامُ السامعين، فيفوتها كثيرٌ مما أودعه المتكلِّمُ في كلامه من الدقائق. - المصنف.

ص: 1186

ومخالفةُ قياس التصريف. والعيوب العارضة لمجموع الكلام ثلاثة: التعقيد (1)، وتنافر الكلمات، ومخالفة قواعد النحو، ويسمى ضعف التأليف.

أما الغرابةُ فهي قلةُ استعمال الكلمة في متعارَف أهل اللغة أو تناسيها في متعارَف الأدباء، مثل الساهور اسم الهلال، ومثل تكأكأ بمعنى اجتمع، وافرنقع بمعنى تفرق في قول أبي علقمة أحد الموسوسين وقد أصابه صرعٌ فأحاطت به الناس:"ما لكم تكأكأتم علي كما تكَأْكَؤُونَ على ذي جِنَّة؟ افرنقعوا"(2).

وأما تنافرُ الحروف فهو ثقل قوي في النطق بالكلمة لاجتماع حروف فيها يحصل من اجتماعها ثقل نحو: "الخعخع"، نبت ترعاه الإبل. وأقلُّ منه في الثقل "مستشزرات"؛ بمعنى مرتفعات (3). وأما الثقلُ الذي لا يُضجر اللسان، فلا يضر نحو "وسَبِّحْهُ"، وقول زهير:"وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ المَنَايَا يَنَلْنَهُ"(4).

(1) ويقال له التعقيد اللفظي. وهنالك تعقيدٌ يوصف بالمعنوي يرجع إلى الكناية التي تخفى لوازمُها خفاء شديدًا، كما قال بعض المهوسين في مدح بعض علماء تونس:"يا قريب العهد من شرب اللبن"، وقال: أردت أنه قال العلم على صغر سنه. ولا حاجة إلى التعرض له هنا لقلة جدواه، ولأنه لا علاقة له باللفظ الذي هو معروضُ الفصاحة، ولأن الفصاحةَ ليست من فن البيان ولا من فن المعاني، بل هي من مقدمات الفن ولا شيء من المقدمات بمسائل. - المصنف.

(2)

أعلم أن الحكم على الكلمة بالغرابة عَسِرٌ جدًّا بالنسبة للمولدين؛ لأن استعمالَ العرب بعد عنا. وعليه فنحن نعرف غرابة الكلمة إما بكونها غيرَ جارية على الأوزان المتعارفة والحروف المألوفة، نحو هَلَّوَّف أي يوم ذو غيم، وإما بكون الكلمة غيرَ متكررة الاستعمال في المحفوظ من فصيح نظم العرب ونثرهم، نحو "خنفقيق"، أي الداهية المهلكة، فقد قال المهلهل:

قُلْ لِبَنِي حِصْنٍ يَرُدُّونَهُ

أَوْ يَصْبِرُوا للصَّيْلَمِ الخَنْفَقِيق

وإما بوجود مرادف أكثر استعماله ونُسِيَ الآخر، نحو حيدر بمعنى قصير، فإنه ورد في كلامهم بقلة. - المصنف.

(3)

وقد جاءت في البيت السادس والثلاثين من معلقة امرئ القيس، حيث يقول:

غَدَائِرُهُ مُسْتَشْزِرَاتٌ إِلَى العُلَا

تَضِلُّ العِقَاصُ فِي مُثَنَّى وَمُرْسَلِ

ديوان امرئ القيس، ص 17.

(4)

هذا صدر بيت من قصيدة من البحر الطويل، قالها زهير في مدح الحارث بن عوف بن أبي حارثة، وتمامه: =

ص: 1187

وأما مخالفةُ قياس التصريف، فهو النطقُ بالكلمة على خلاف قواعد الصرف، كما يقول في الفعل الماضي من البيع بَيَعَ، لجهله بأن حرف العلة إذا تحرك وانفتح ما قبله يُقلَبُ ألفا.

وأما التعقيد، فهو عدمُ ظهور دلالة الكلام على المراد لاختلال في نظمه، ولو كان ذلك الاختلالُ حاصلًا من مجموع أمور جائزة في النحو، كقول الفرزدق يمدح إبراهيم بن هشام المخزومي خال الخليفة هشام بن عبد الملك:

وَمَا مِثْلُهُ فِي النَّاسِ إِلَّا مُمَلَّكًا

أَبُو أُمِّهِ حَيٌّ أَبُوهُ يُقَارِبُهْ (1)

أراد: وما مثله في الناس حي يقاربه، أي في المجد إلا ملكًا أبو أم الملك أبو هذا الممدوح، فشتت أوصال الكلام تشتيتًا تضل فيه الأفهام (2).

وأما التنافر فهو ثقلُ الكلمات عند اجتماعها حين تجتمع حروفٌ يعسر النطقُ بها، نحو قول الراجز الذي لا يُعرف:

وَقَبْرُ حَرْبٍ بِمَكانِ قَفْرٍ

وَلَيْسَ قُرْبَ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُ (3)

= وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ المَنَايَا يَنَلْنَهُ

وَلَوْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ

ديوان زهير بن أبي سلمى، اعتنى به علي حسن فاعور (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1408/ 1988)، ص 111.

(1)

لم أجده في "ديوان الفرزدق"، وقد ذكره مفردًا ابن قتيبة. الدينوري، ابن قتيبة: كتاب المعاني الكبير في أبيات المعاني، صححه المستشرق سالم الكرنكوي (بيروت: دار النهضة الحديثة، بدون تاريخ)، ص 506.

(2)

إذ يتوهم السامعُ أنه يقول لا مثل له إلا ملكًا جده للأم حي وأبوه يقارب جده للأم في المجد أو في العمر، وهذا معنى مضحك. - المصنف.

(3)

هذا الشعر قيل إنه من أشعار الجن، قالوه عندما قتلوا حربًا، وحرب هذا هو جد أمية بن عبد شمس جد معاوية بن أبي سفيان. وقالوا: الدليل على أن هذا البيت من أشعار الجن أن أحدًا لا يستطيع أن ينشده ثلاثَ مرات متصلة لا يتتعتع فيها، ولو كان يستطيع أن ينشد أثقلَ شعر في الأرض وأشقه عشرات المرات ولا يتتعتع ولو كان المتنبي وأبو نواس. وقيل هو للمتنبي. =

ص: 1188

فكلُّ كلمةٍ منه لا تنافرَ فيها، وإنما حصل التنافرُ من اجتماعها، حتى قيل إنه لا يتهيأ لأحد أن ينشد النصف الآخر ثلاث مرات متواليات، فلا يتلعثم لسانُه.

وأما مخالفةُ قياس النحو فهو عيب كبير؛ لأنه يصير الكلام مخالفًا لاستعمالات العرب الفصحاء، فهو يعرض للمولَّدين. والمرادُ منه مخالفةُ ما أجمع النحاةُ على منعه، أو ما كان القول بجوازه ضعيفًا ووروده في كلام العرب شاذًّا، نحو تعريف "غير" في قول كثير من طلبة العلم "الغير كذا"، ونحو تقديم التأكيد على المؤكد في قول المعري:

تَعَبٌ كُلُّهَا الحَيَاةُ فَمَا أَعْـ

ـجَبُ إِلَّا مِنْ طَامِعٍ فِي ازْدِيَادِ (1)

وكذلك كل ما جوزوه في ضرورة الشعر إذا وقع شيء منه في النثر، فضعف التأليف عيب لا يوجب انبهام المعنى بخلاف التعقيد.

والبلاغة اشتمال الكلام على أحوال خصوصية (2) تستفاد بها معان زائدة على أصل المعنى (3) بشرط فصاحته، كاشتمال قوله تعالى:{فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)}

= انظر نسبة هذا البيت وغيره للجن في الراغب الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن المفضل: محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، تحقيق عمر الطباع (بيروت: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم، 1420/ 1999)، ج 2، ص 663.

(1)

البيت هو الثاني عشر من قصيدة بعنوان "ضجعة الموت رقدة". سقط الزند، ص 8 (وفيه:"رَاغِبٍ" عوض "طامع").

(2)

نسبة للخصوص، وهم خاصة الناس في هذا الباب، أعني بلغاء الكلام؛ لأن هاته الأحوال لا توجد إلا في كلام البلغاء دون كلام السوقة، ولئن وجدت في كلام السوقة فإنها غير مقصود بها مرماها. - المصنف.

(3)

أصل المعنى هو المقدار الذي يتعلق غرض المتكلم بإفادته المخاطب، سواء كان قليلًا، نحو نزل المطر، أو بزيادة معنى نحو نزل الجود ورسف فلان، فإنه يفيد أزيد من نزل المطر ومشى فلان، لكنه أفاده بمدلول الكلمات. وقد تكون الزيادة في المعنى، نحو جاء فلان الكاتب. وكل هذا من قبيل أصل المعنى؛ لأن جميعه تعبيرٌ لزمت إفادتُه. فالحاصل أن أصل المعنى يطول ويقصر بحسب الغرض، وهو فوائد أصلية، ثم إذا كيف المتكلم بكيفياتٍ فتلك الكيفياتُ زائدةٌ على أصل المعنى. - المصنف.

ص: 1189

على حالة خصوصية وهي التأكيد بـ "إن" لإفادة معنى زائد وهو توكيد الخبر لأجل إبطال تردد المخاطبين فيه، وذلك أمر زائد على أصل المعنى، وهو الإعلام بكونهم رسلًا الذي يكفي لإفادته أن يقال "أرسلنا إليكم" أو "نحن إليكم مرسلون". وتسمى هذه الأحوال الخصوصية بالنكت وبالخصوصيات، وهي تكثر وتقل في الكلام بحسب وجود الدواعي والمقتضيات من كثرة وقلة، كالأدوية فإنها تشتمل على عقاقير كثيرة تارة وقليلة أخرى بحسب ما يحتاجه المزاجُ لإصلاحه.

انظر مثلًا قولَه تعالى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الحديد: 9]، فنجد في قوله "ينزل" خصوصيتين: إحداهما التعبيرُ بصيغة "فعَّل" الدالة على التكرير، والثانية التعبيرُ بصيغة المضارع الدالة على التجدد والاستمرار؛ لأن المقام للتبشير بزيادة الإخراج من الظلمات إلى النور يومًا فيومًا وفي كل حال، وانظر قوله في الآية الأخرى:{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آل عمران: 3]، فلا تجد في "نزل" إلا خصوصيةً واحدة وهي التعبير بصيغة "فَعَّل"؛ لأن المقام للامتنان، والامتنان يكون بما وقع لا بما سيقع.

والبليغ في إتيانه بهذه الأحوال في كلامه يراعي أحوالَ المخاطبين ومقامات الكلام (1)، فلا يأتي بنكتة وخصوصية إلا إذا رأى أن قد اقتضاها حالُ المخاطَب واستدعاها مقامُ الكلام. وبمقدار تفاوت المتكلمين في تنزيلها على مواقعها، يتفاوت الكلامُ في مراتب البلاغة إلى أن يصل إلى حد الإعجاز الذي يعجز البشر عن الإتيان بمثله، وهو الذي اختصَّ به نوابغُ بلغاء العرب، مثل امرئ القيس، والنابغة، والأعشى، وسحبان في أكثر كلامهم.

(1) أحوال المخاطبين مثل حال المنكِر، والمتردد، والمعتقد العكس في القصر، وحال الذكي والغبي في إيراد الكناية. وأما المقامات فهي أغراضُ الكلام والمواقع التي يتكلم فيها البليغ، مثل مقام الحرب، ومقام السلم، ومقام الحب، ومقام الموعظة، ومقام الاستدلال العلمي، ومقام الخطابة الإقناعي. - المصنف.

ص: 1190