الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصوت المجسَّد، تقفية وتأييد
(1)
نشر الأستاذ أنستاس الكرملي (2) عضو المجمع اللغوي مقالًا في الصفحة 269 من الجزء الرابع من مجلة المجمع اللغوي استيقظ فيه الأنظارَ إلى ما يقع في
(1) مجلة مجمع اللغة العربية (القاهرة: مطبعة وزارة التربية والتعليم، 1955)، الجزء الثامن (ص 196 - 200).
(2)
هو بطرس جبرائيل يوسف عواد المعروف بالأب أنستاس الكرملي، ولد في بغداد في شهر ربيع الأول 1283/ أغسطس 1866 لأب لبناني وأم بغدادية، فأبوه جبرائيل من بحر صاف من قرى لبنان قدم إلى بغداد في نحو سنة 1267/ 1850 وأقام بها، وتزوج من فتاة من بغداد تسمى مريم مرغريته، وأنجب منها خمسة بنين وأربع بنات، وكان ابنه بطرس الذي عرف بعد ذلك بأنستاس الكرملي الرابع بين أولاده. تلقى الكرملي تعليمه الابتدائي في مدرسة الآباء الكرمليين. وبعد أن أتم دراسته بها انتقل إلى مدرسة الاتفاق الكاثوليكي، وتخرج فيها سنة 1300/ 1882 وبدأ حياته معلمًا للعربية في مدرسته الأولى، وهو في السادسة عشرة من عمره، وأخذ ينشر وهو في هذا العمر الغض مقالات لغوية في العديد من الصحف المعروفة في ذلك الوقت مثل "الجوائب" و"البشير" و"الضياء". وحين بلغ العشرين غادر بغداد سنة 1304/ 1886 إلى بيروت، وعمل مدرسًا بكلية الآباء اليسوعيين. وفي الوقت نفسه أكمل دراسته في تعلم العربية واللاتينية واليونانية، وأتقن الفرنسية، وتوفر على دراسة آدابها. شغف الأب أنستاس باللغة العربية شغفًا كبيرًا، فانكب عليها قراءة ودراسة وتذوقًا وتحقيقًا، وحرص على خدمتها ونصرتها بكل ما يملك، ودفعه حبه لها أن يلمّ باللغات السامية الأخرى ويقف عليها كالسريانية والعبرانية والحبشية، فضلًا عن دراسته للغات الفارسية والتركية وإتقانه للإنجليزية والفرنسية والاطلاع على آدابهما. وقد حظي الكرملي بتقدير كثير من الهيئات والمجامع العلمية واللغوية، فانتخب عضوًا في مجمع المشرقيات الألماني سنة 1329/ 1911 والمجمع العلمي العربي في دمشق سنة 1339/ 1920، واختير ضمن أول عشرين عالِمًا ولغويًّا من مصر وأوروبا والعالم العربي لعضوية مجمع اللغة العربية بالقاهرة عند تأسيسه سنة 1351/ 1932. ترك الكرملي عددًا ضخمًا من الكتب لا يزال معظمه مخطوطًا. من أهم كتبه المطبوعة "أغلاط اللغويين الأقدمين"(بغداد 1932 م، و"نشوء اللغة العربية ونموها واكتهالها" (القاهرة 1938 م)، و"النقود العربية وعلم النميات"(القاهرة 1939 م) =.
بعض أمهات الدواوين اللغوية من كلام مغلق يكدُّ حلُّه أفهامَ الناظرين، وتزل في مزالقه أقدامُ الناقلين والمختصرين. فربما شوَّه بعضُهم اللغة تشويهًا شنيعًا، وربما عمد بعضُهم إلى حفظها فأصبح لها مضيعًا. واستظهر لذلك بشاهد واحد، والظن بضلاعته أنه قصد الاختصار لا أنه الآخر غير واحد.
وإني وإن شاطرتُه رأيَه مشاطرةَ تأييد، ورجَّعْتُ نداءَه المهيب بالتقفية على رأيه السديد، فأنا أقفي على أثره مباحثَ على شهده الوحيد. فأقول: إن ما أخذه على صاحب "محيط المحيط"(1) في "الصوت المجسد" مأخذُ فطِنٍ لبيب، واعتراضه عليه
= حقق الكرملي عددًا من الكتب، في مقدمتها: معجم "العين" للخليل بن أحمد (لكنه لم يكمله بسبب ظروف الحرب العالمية الأولى)، و"نخب الذخائر في أحوال الجواهر" لابن الأكفاني، و"الإكليل للهمداني". وله فضلًا عن ذلك أكثر من 1300 مقالة في فنون وموضوعات مختلفة، وكثير منها في قضايا اللغة العربية.
(1)
صاحب "محيط المحيط" هو العلامة اللبناني بطرس البستاني الملقب بالمعلم، ولد سنة 1819 في قرية الدبِّية إحدى قرى قضاء الشوف بجبل لبنان. وفي كبرى مدارس هذه القرية تعلم العربية والسريانية واللاتينية والإيطالية، ودرس الفلسفة واللاهوت وما يتصل به. ثم انتقل عام 1840 إلى بيروت حيث اتصل ببعض عناصر الإرسالية الإنجيلية الأمريكية من مؤسسي الكلية الإنجيلية السورية التي أصبحت فيما بعد الجامعة الأمريكية ببيروت. وفي بيروت وسع البستاني دائرة معارفه فتعلم اللغتين اليونانية والعبرية، وانخرط في ضروب من النشاط العلمي والثقافي والاجتماعي، بما في ذلك إنشاء المجلات وتأسيس المدارس. ترك بطرس البستاني أثرين علميين مهمين: أولهما "دائرة المعارف" التي نال عنها "الوسام المجيدي الثالث" من السلطان العثماني عبد المجيد. أما الأثر الثاني فهو قاموس "محيط المحيط" الذي بناه على "القاموس المحيط" للفيروزآبادي. وقد بين منهجه في إنشائه حيث قال: "الحمدُ لله الذي أنطق العربَ بأفصَح الكلمات وجَعل العربية شامَةً في وَجْنَةِ اللغات. أمّا بعدُ فهذا المؤلَّفُ يَحتوي على ما في مُحيط الفَيروزآباديّ، الذي هو أشهرُ قاموس للعرَبيَّةِ، من مُفرداتِ اللغة وعلى زيادات كثيرة. فقَد أضَفْتُ إلى أصول الأركان فيه فُروعا كَثيرةً وتفاصيل شتى وَألحقتُ بذلك اصطلاحاتِ العلوم والفنون وكثيرًا من المسائل والقواعد والشوارد وغير ذلك مما لا يتعلق بمتن اللغة. وذكرت كثيرًا من كلام المُولَّدين وألفاظ العامة منبِّهًا في أماكنها على أنها خارجةٌ عن أصل اللغة، وذلك لكي يكونَ هذا الكِتابُ كامِلًا شامِلًا يجدُ فيه كُلُّ طالبٍ مَطلوبَهُ من هذا القبيل. وعلى هذا الأسلوب كان هذا الكتابُ قيدَ الأوابدِ ومَحَطَّ الشوارد، فاستحق أن يُسمَّى مُحيط المحيط لأنه قد جمع ما ذهب في كُتُب اللغَة شماطيط. =
ممسكٌ بالتلابيب. فالعلامة البستاني قد جاء بمزيج من اختصار وتفسير وتصحيف (1)، لا يسلمه عارف، ويؤاخذه عليه المطلع المنصف. ولقد كفانا الأستاذ الكرملي أمرَ نقده بما لا يزيد عليه من بعده. وأما فريتاغ (2) فقد احتكم حكمَ المستبد، فجعل وصفَ الصوت المجسد مأخوذًا من المصبوغ بالجساد أو الزعفران تقريبًا، يريد منه ترجيحَ لفظ "محسنة". فبقي أن نعود إلى تحقيق هذه العبارة الواقعة في معاجم اللغة المعتبرة.
وقد ذكر الأستاذ الكرملي عن نسختي القاموس لفظي "مجنة ومحسنة"، ونقل كلامَ صاحب "تاج العروس" في شرحه لتخطئة النسخة التي بلفظ محسنة (3). فيلزم تخطئةُ صاحب "اللسان" أيضًا؛ لأنه اقتصر عليها.
= وقد اخترتُ في ترتيبه اعتبارَ أوَّل حرف من الكلمة دُونَ الأخير منها بخلاف اصطلاح الجمهور؛ لأن ذلك أيْسَرُ في التفتيش عليها. ولأجل التسهيل على الطالب ميَّزْتُ بينَ الأفعال والأسماء وبين المُجَرَّد والمَزِيد من الفريقَين - كُل نوع على حِدَتِه مُنْدَرِجًا مع نظيره من الأبنِية". توفي المعلم بطرس البستاني سنة 1883. البستاني، المعلم بطرس: محيط المحيط: قاموس مطول للغة العربية (بيروت: مكتبة لبنان، 1987)، ص 5.
(1)
قال البستاني: "وصوت مجسَّد، أي: قائمٌ على نغمات مُحِنة، أي: مطربة". محيط المحيط، ص 109.
(2)
هو جورج فيلهلم فريتاغ Georg Wilhelm Friedrich Freytag، مستشرق ألماني (1788 - 1861) درس اللغات العربية والتركية والفارسية في باريس على يد المستشرق الفرنسي سيلفستر دي ساسي Silvestre de Sacy. عين سنة 1819 أستاذًا للغات الشرقية بجامعة بون التي كانت في بداية نشأتها، واستمر فيها حتى وفاته. من مصنفات فريتاغ "قاموس عربي لاتيني"، وكتاب بعنوان "منتخبات عربية في النحو والتاريخ". كما حقق ونشر "ديوان الحماسة" لأبي تمام، وأجزاء من "زبدة الحلب في تاريخ حلب" لابن العميد، و"فاكهة الخلفاء" لابن عربشاه. ولم أقف على كلامه الذي انتقده فيه المصنف بشأن رأيه في المسألة موضوع البحث.
(3)
قال الزبيدي: "وقال الخليل: يقال: صوت مجسَّد - كمعظَّم - مرقوم على نغمات ومحنة. هكذا في النسخ، وفي بعضها: مرقوم على محسنة ونغم، وهو خطأ". تاج العروس، ج 7، تحقيق عبد السلام هارون (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1415/ 1994)، ص 501. ونص عبارة الخليل:"صوت مجسَّد، أي: مرقوم على محنة ونغمات". الفراهيدي: كتاب العين، ج 1، ص 241.
وقد رأيتُ في نسخة صحيحة من القاموس - مصرية الخط نفيسة نسخت سنة 938 هـ بخط محمد عمر الخفاجي الأزهري (1) - ثبت فيها ما نصُّه: "وصوت مجسَّد - كمعظَّم - مرقومٌ على نغمات ومِجْنَة"(بميم وجيم ونون وهاء، وشكلها بكسرة تحت الميم وسكون على الجيم وفتحة على النون)، وهي من عدة نسخ بخزانة كتبي. وفي نسخة صحيحة أخرى - نسخت سنة 993 هـ موجودة بخزانتي أيضًا كتب في آخرها أنها بخط "الصالح الفاضل والعالم الكامل منصور الحلبي نسبًا الزبيدي مولدًا رحمه الله"، وكتب في آخرها أنها "صححت على أم وأصل صحيح عليه خط المصنف رحمه الله سنة 1002 هـ" - كتبت كلمة "محنة" بدون نقط أصلًا، وذلك يدل على مثار اختلاف نسخ "القاموس" في ذلك اللفظ. فالظاهر أنه ثبت في أصل الفيروزآبادي بدون نقط، فحاكى الناسخُ صورةَ اللفظ كما وجدها لعدم اهتدائه إلى إعجامه.
وإذ قد عزا صاحبُ "تاج العروس" تلك الجملة إلى الخليل، ولم يكن كتاب "العين" للخليل موجودًا (2)، فبنا أن نرجع إلى الكتب المتابعة لكتاب "العين" لنتمكن من فهم هذه الجملة التي هيَ من أمهات الكلمات اللغوية. فلما وجدنا الزبيدي قد عدل عن ذكرها في "مختصر العين"، ووجدنا ابن سيده عدل عنها أيضًا في كتابه "المحكم والمحيط الأعظم" الذي هو كالمختصر لكتاب "العين"(3)، علمنا
(1) وهو والد شهاب الدين الخفاجي، وقد ذكره الشهاب في ترجمة نفسه في كتاب "ريحانة الألباب" فقال:"ومقام والدي غنِيٌّ عن المدح، والورق بأوكارها لا تعلم الصدح". - المصنف. (جاء هذا التعليق في المتن، وقد رأينا وضعه في الهامش أنسب). الخفاجي، شهاب الدين أحمد بن محمد بن محمد بن عمر: ريحانة الألبَّا وزهرة الحياة الدنيا، نشرة بعناية أحمد عناية هارون (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1426/ 2005)، ج 2، ص 150.
(2)
من البين من كلام المصنف أن كتاب "العين" لم يكون مطبوعًا ولا متداولًا حين كتابة هذا المقال. أما وقد أصبح الكتاب منتشرًا فقد زال اللبس وارتفع الشك حول العبارة مثار الجدل، أعني عبارة "محنة". وسيأتي توثيقها في الحاشية التالية.
(3)
صاحب "المحكم" هو علي بن إسماعيل المعروف بابن سيده المرسي الأندلسي المتوفَّى سنة 458 هـ. وصاحب "مختصر العين" هو أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي الأندلسي المتوفَّى سنة 379 هـ - المصنف.
أن هذه العبارة موضعُ إشكال، فلذا حذفها مختصِراه. ولكن ابن سيده نفسه أثبت هذه العبارة في كتاب "المخصص" في "باب الملاهي والغناء"، فقال ما نصه:"صاحب العين: صوت مجسَّد: مرقوم على محنة ونغمات"(1)، وضبط مصحِّح "المخصص" كلمة محنة بكسر الميم وسكون الحاء وفتح النون.
وهذه العبارة عينُ عبارة "القاموس"، سوى أن صاحب "القاموس" قدم لفظ نغمات على لفظ محنة (2)، بخلاف كلام الخليل. ولا شك أن لصاحب "القاموس" مقصدًا في هذا التصرف، ولعله رأى أن كونَ الصوت على نغمات هو مقوِّم معنى كونه مجسدًا، وأن لفظ محنة تكملة للمعنى. وأما صاحب "اللسان" فتصرف فيه بتغيير لفظ "محنة" بلفظ "محسنة"(3) - إن كان ذلك من أصل ابن منظور لا من تصرفات الناسخ - وبتعويض لفظ نغمات بلفظ نغم، وهو هين.
وعلى هذا فالظاهر أن المجسَّد مشتق من الجسد وهو الجسم، خلافًا لما ظنه فريتاغ. فمجسَّد مثل قولهم: مجسَّم بمعنى مضخم في نوعه، تشبيهًا له في الغلظة بالجسم، أي: ضخم، حتى صار كالجسم بناءً على أن اللحون والنغمات تضاعف الحروفَ وترددها حتى تكاد الألفاظُ أن تصير أجسامًا. والعبارة جارية على أسلوب القدماء من أهل العربية، كشأن عبارات كتاب سيبويه قد تكون محلَّ توقف أنظار الناظرين كما هو معلوم. ولا بد من الاستعانة على فهم المراد منها بتتبع أساس
(1) ص 11 من الجزء الثالث عشر من المخصص، طبع المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق، مصر. - المصنف. ابن سيده، أبو الحسن علي بن إسماعيل: المخصَّص، تقديم خليل إبراهيم الجفال (بيروت: دار إحياء التراث العربي ومؤسسة التاريخ العربي، ط 1، 1417/ 1996)، ج 4، ص 10. وانظر الفراهيدي: كتاب العين، ج 1، ص 241.
(2)
القاموس المحيط، ج 1، ص 417 (باب الدال - فصل الجيم).
(3)
قال: "وصوت مجسَّد: مرقوم على مَحْسَنَةٍ ونغمات". ولم يعلق عليها محققو اللسان سوى بجلب عبارة القاموس وما قاله شارحه من تخطئة لفظ "محسنة"، دون الرجوع إلى كتاب "العين". ابن منظور: لسان العرب، مرتبًا على حروف المعجم، تحقيق عبد الله علي الكبير ومحمد أحمد حسب الله وهاشم محمد الشاذلي (القاهرة: دار المعارف، بدون تاريخ)، ج 8، ص 623.
تعبيرهم وما تفيده المفرداتُ اللغوية المناسبة للغرض المسوقة إليه العبارة ومقتضى كتابة العبارة الجارية على طريقة الكتابة في ذلك العصر.
فبنا أن نتأمل في المعنى من قوله: "مرقوم". فالمرقوم الذي جعل له الرقم، والرقم علامة ترقم، أي: تُنقش. فقد يكون حروفًا، وقد يكون علامة، ومنه الرقم في الثوب. وقال تعالى:{كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)} [المطففين: 9]، فقيل في وجه وصف الكتاب بالمرقوم: إن المراد كتاب معلم متميز. ولما وصف الصوت بالمرقوم تعين أنه رقم اعتباري، أي: صوت مكيف بكيفية تميزه عن غيره، وهي كيفية اللحن الخاص. ومعنى كلمة "على" الاستعلاء المجازي - لا محالة - الذي يؤول إلى معنى الملابسة، مثل [قوله تعالى]:{عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة/ لقمان: 5]، أي: مميز بكيفية خاصة ملابسة لنغمات. وتفسيره المجسد بالمرقوم على نغمات يدل على أن وصفه بالمجسد؛ لأنه صوتٌ محدد بلحن خاص يعينه ويشخصه ويميزه عما سواه، وذلك بنغمات مخصوصة يصير بها الصوتُ مضبوطًا مُعيَّنًا يشبه الجسدَ المحدد بالشكل؛ لأن الرقم يكون واضحًا متميزًا في الطرس أو الثوب.
فاللحونُ كلها حدودٌ للأصوات تُعرف بها، فيكون الصوتُ المجسَّد على هذا هو الصوتُ الملحن المتغنَّى به، شأن الأصوات المذكورة في "كتاب الأغاني"(1).
و[بنا](2) أن نتأمل في سبب التردد في كلمة "محنة أو مجنة"، وذلك أنها كلمةٌ مركبة من أربعة حروف: الأول منها يتعين لكونه ميمًا، والرابع يتعين لكونه هاء تأنيث، والثالث لم يختلفوا في كونه نونا.
(1) انظر في الأصوات المذكورة وسبب اختيارها وتعيينها: الأصفهاني: كتاب الأغاني، ج 1، ص 7 -
11 (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج 1/ 1، ص 11 - 15 (نشرة الحسين).
(2)
هذه العبارة اقتضاها السياق وتفريع الكلام الذي بدأ من قبل بقول المصنف: "فبنا أن نتأمل في المعنى قوله مرقوم".
فأما الحرف الثاني فشكله يحتمل الجيم والحاء المهملة والخاء المعجمة؛ لأن أشكال هذه الحروف الثلاثة في الرسم العربي متحدةٌ ولا تتمايز إلا بأحد أمرين: الإعجام إن كانت الكتابة معجمة، أو دلالة المقام إن كانت الكتابةُ خاليةً عن الإعجام، كما هو غالب حال الكتابة في عصر الخليل حين كان الكتاب يعدون الإعجام عيبًا.
فأما احتمال الخاء معجمة الذي وقع في "محيط المحيط" للبستاني فهو خطأ لا يستقيم معه المعنى بحال، ولم ينقل عن كتاب من الكتب، فلنضرب عنه صفحا.
فبقي احتمالان: أن يكون جاء مهملة وهو أصل الإهمال، أو جيمًا وهو ما بقي. فأما الحاء فهو الأصل في إهمال مثل ذلك الحرف، وعلى ذلك الاعتبار جرت طبعة "المخصص" وغالب نسخ القاموس، وهو الموافق لنسخة من القاموس بخط ومقابلة وتحقيق العلامة الأديب اللغوي محمد الورغي التونسي كاتب دولة الأمير علي بن حسين بن علي سنة 1117 هـ. وإما أن يكون الحرف جيمًا، وهو الذي وقع في النسخة المصرية التي بخط الخفاجي.
وقيام كلا الاحتمالين هو الذي حمل ناسخَ النسخة الحلبية على ترك الإعجام.
ثم ينشأ احتمالُ أن تكون الكلمةُ مركبةً من خمسة حروف بأن تكون المطَّةُ التي بين الحرفين الثاني والثالث سينًا؛ لأن كثيرًا من الخطوط المشرقية يكتب حرف السين دون أسنان بل يكتفي بمطة طويلة، وإن كان ذلك لا يلتبس على الممارسين لكيفيات الخطوط. وبهذا الاحتمال تصير كلمة مركبة من خمسة أحرف فيحدث حرف ثالث هو "سين" وهو الذي نشأت عنه كلمة محسنة الواقعة في نسخة "القاموس" حسبما ذكره صاحب "تاج العروس"، ولعلها من تصرفات بعض الناسخين للقاموس.
فإذا كان هذا اللفظ هو المثبت في أصل كتاب "المخصص"، فالظن أن بعضًا ممن نسخوا القاموس -[و] لهم (1) اطلاعٌ على كتاب "لسان العرب" - يحسبون أنهم
(1) زيادة حرف الواو اقتضاها السياق وموقعها هو إفادة الحالية ليستقيم بذلك مجيء "جملة يحسبون. . ." خبرًا لحرف أن في قوله: "فالظن أن بعضًا. . ."، وذلك هو المساق الصحيح للكلام.
يصلحون عبارة "القاموس"، ولا يبعد أن يكون وقوعُ ذلك في نسخة اللسان من تصرفات الناسخ أيضًا، فينبغي أن نشتغل بتفسير لفظة محنة الذي هو المشهور من عبارة الخليل.
والمحنة ما يُمتحن به المرء من المصائب؛ فصوتُ ذي المحنة يكون فيه غلظ وبحة، ويقال له: صوت أجش، وهو الذي يخرج من أعلى الحلق والخياشيم. وذلك مما يضخم الصوتَ فيصير كأنه جُسِّد، فيكون المجسَّد بمعنى المضخَّم. وقريبٌ منه وصفُ الأصوات بالثقيل تارة وبالخفيف أخرى، كما تجده في كتاب الأغاني. والثِّقل والخفة من صفات الأجسام، فعلى صحة هذا اللفظ يكون الصوتُ المجسَّد من صفات أصوات الحزن في النياحة ونحوها.
وأما على ما في نسخة "القاموس" الخفاجية من لفظ "مجنة" - بالجيم وبالضبط بكسر الميم وسكون الجيم كما تقدم، في صيغة هيئة مشتقة من المجن، والمجن يرجع إلى معاني اللهو والهزل والانخلاع. وشأن اسم الهيئة إذا لم يضف إلى ما يميز هيئته أن يكون اسْمًا لهيئة الجنس المشتق هو من لفظه، أعني أن يكون اسْمًا للمصدر كقولهم الحيطة بمعنى الاحتياط والحيضة بمعنى الحيض - فإذا صحت هذه اللفظةُ على هذا الوجه، كان المعنى واضحًا؛ فإن شأن الغناء أن يكون في مقام المجون والطرب.
فأما لفظ "محسنة" الواقع في طبعة "اللسان" وبعض نسخ "القاموس"، فلا أراه يستقيم له معنًى مع دخول حرف الاستعلاء عليه. ولا أشاطر الأستاذَ الكرملي في توجيهه؛ لأن المعنى المقصود من الصوت المجسد لا يختص بالمرأة المغنية، بل أكبر الأصوات إتقانًا وإبداعًا هو من صنعة مغنين كالموصلي ومعبد ومخارق وأضرابهم. على أني لا أرى في الفقرات التي استشهد بها الأستاذ الكرملي لتوجيه لفظ "محسنة" ما يقتضي اعتبارهم ذلك اللفظ اعتبار الأسماء الصناعية، بل ليس هو إلا من الأوصاف المشتقة المعروفة، وحسبك أنه لم يثبت له ذلك المعنى في شيء من دواوين اللغة.
فهذا ما بدا من النظر في إقامة هذه الكلمة الخليلية نكله إلى تحقيق رجال المجمع ونشفعه بأطيب تحية.