المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأسباب التي قضت بوقوع المشترك في اللغة: - جمهرة مقالات ورسائل الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور - جـ ٣

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌المِحْوَر الرَّابعفِي اللُّغَةِ وَالأَدَبِ

- ‌الفَرْع الأَوّلبحُوث وَتحقيقات لُغويَّة

- ‌اللفظ المشترك في اللغة العربية

- ‌الأسباب التي قضت بوقوع المشترك في اللغة:

- ‌محاولة العرب إيجاد فروق بين الألفاظ المشتركة

- ‌أثر المشترك في التخاطب:

- ‌وسائل علاج الأثر السيئ للمشترك:

- ‌كيفية استعمال المشترك:

- ‌مثال من المشترك هو أغرب تصرفاته:

- ‌المترادف في اللغة العربية

- ‌المبحث الأول: في ما هو الترادف وتحقيقه:

- ‌المبحث الثاني: هل المترادف واقع في اللغة العربية

- ‌معنى الوضع:

- ‌مذاهب العلماء في إثبات المترادف:

- ‌المبحث الثالث: أسباب وقوع الترادف في اللغة:

- ‌المبحث الرابع: فوائد المترادف في اللغة:

- ‌التحذير من الغفلة عن الفروق بين الكلمات:

- ‌عطف أحد المترادفين على الآخر:

- ‌فرق لغوي مغفول عنه: "لا ضرر ولا ضرار

- ‌لفظ "كل" حقيقة في الكثرة أيضًا مثل الشمول

- ‌قولهم: "كان مما يفعل كذا

- ‌[تقديم]

- ‌المقصد:

- ‌تذييل:

- ‌الاقتراح:

- ‌صوغُ "مفعلة" من أسماء الأعيان الثلاثية الأحرف مما وسطُه حرفُ علة

- ‌الصوت المجسَّد، تقفية وتأييد

- ‌مراجعة الأستاذ إبراهيم مصطفى:

- ‌جواب المصنف:

- ‌الفَرْعَ الثَّانِيدِراسَات فِي عُلوم البَلَاغَة

- ‌الجزالة

- ‌موجز البلاغة

- ‌[استهلال: ] هذا موجز علم البلاغة:

- ‌مقدمة

- ‌[البلاغة]

- ‌تاريخ علم البلاغة:

- ‌فن المعاني:

- ‌باب الإسناد:

- ‌1 - عوارض الإسناد وأحواله:

- ‌2 - عوارض أحوال المسند إليه:

- ‌3 - عوارض أحوال المسند

- ‌4 - عوارض أحوال متعلقات الفعل:

- ‌القصر

- ‌الإنشاء:

- ‌ الوصل والفصل

- ‌عطف الإنشاء على الخبر وعكسه:

- ‌الإيجاز والإطناب والمساواة:

- ‌فن البيان

- ‌التشبيه

- ‌الحقيقة والمجاز:

- ‌الكناية:

- ‌تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر

- ‌فن البديع

- ‌ملاحق موجز البلاغة

- ‌1 - تقريض الكتاب بقلم شيخ الإسلام الحنفي

- ‌2 - قرار النظارة العلمية

- ‌‌‌أصول الإنشاءوالخطابة

- ‌أصول الإنشاء

- ‌[استهلال]

- ‌مقدمة

- ‌كيفية الإنشاء للمعنى

- ‌مثال للتمرين:

- ‌أساليب الإنشاء:

- ‌القسم الأول: [الإنشاء] المعنوي

- ‌تعريف المعنى وتقسيمه

- ‌صفات المعنى

- ‌طرق أخذ المعنى

- ‌ترتيب المعاني وتنسيقها وتهذيبها

- ‌أخذ النتائج من المعاني

- ‌مقامات الكلام

- ‌القسم الثاني: [الإنشاء] اللفظي

- ‌أحوال الألفاظ المفردة

- ‌أحوال الألفاظ المركبة

- ‌تمرين

- ‌السجع والترسل

- ‌التمرن على الإجادة

- ‌[خاتمة]

- ‌فنُّ الخطابة

- ‌ما هي الخطابة

- ‌منافع الخطابة

- ‌أصول الخطابة

- ‌ الْخَطِيبَ

- ‌[عيوب الخطابة]

- ‌الخطبة

- ‌التدرب بالخطابة

- ‌الفَرْعُ الثَّالِثدِرَاسَات فِي الأَدَب والنَّقْد

- ‌شرح المقدمة الأدبية لشرح الإمام المرزوقي على ديوان الحماسة لأبي تمام

- ‌متن المقدمة الأدبية

- ‌شرح المقدمة الأدبية

- ‌[تقديم]

الفصل: ‌الأسباب التي قضت بوقوع المشترك في اللغة:

تألفت اللغة؛ لأن المعاني غيرُ متناهية والألفاظ متناهية، فيلزم الاشتراكُ ليمكن توزيعُ الألفاظ على المعاني.

‌الأسباب التي قضت بوقوع المشترك في اللغة:

لقد يخطر بالبال بادئ الرأي أن وقوعَ المشترك في لغة واحدة خللٌ في الوضع؛ لأنه ينافِي قصدَ الواضع من وضع اللغة كما قدمته. فلذلك احتاج القائلون بوقوع المشترك إلى أن يعتذروا للواضع، فقال فريقٌ منهم: يجوز أن يكون المشترك من وضع واضعَيْن لم يطلع أحدُهما على وضع الآخر على سبيل توارد الخواطر. وقال قوم: يجوز أن يكون الواضعُ الواحد يضع اللفظَ لمعنى وينقله الناسُ عنه، ثم ينسى أنه وضعه فيضعه ثانيًا لمعنى آخر.

وأظنُّ أن عبَّادًا الصيمري (1) - الذي قال بأن الألفاظ وُضِعتْ لمعانِيَ بمناسبة

= "هذا كتاب ذكر الحروف التي توقعها العربُ على المعاني المتضادة، فيكون الحرف منها مؤديًا عن معنيين مختلفين، ويظن أهلُ البدع والزَّيغ والإزراء بالعرب أن ذلك كان منهم لنُقصان حكمتهم، وقلة بلاغتهم، وكثرة الالتباس في محاوراتهم". الأنباري: كتاب الأضداد، ص 1.

(1)

هو أبو سهل عباد بن سليمان الصيمري، من شيوخ المعتزلة، كان من أصحاب هشام الفوطي ومن طبقة الجاحظ. وهو من أصحاب المقالات، وله ذكرٌ كثير في مواضع عديدة من "مقالات الإِسلاميين" لأبي الحسن الأشعري، شأنُه في ذلك شأن النَّظّام وأبي الهذيل العلاف وهشام الفوطي وغيرهم. وقد وسم الأشعريُّ موافقيه في الرأي باسم "العبادية" و "أصحاب عباد بن سليمان". وكذلك يتوارد ذكرُ الصيمري كثيرًا في كتب الأصول عند البحث في أصل اللغات. ترجم له ابنُ المرتضى ترجمة قصيرة جدًّا، فقال:"ومنها (أي الطبقة السابعة) عباد بن سليمان، وله كتب معروفة، وبلغ مبلغًا عظيمًا، وكان من أصحاب هشام الفوطي. وله كتاب يسمى الأبواب، نقضه أبو هاشم (يعني الجبائي) ". المرتضى، أحمد بن يحيى: باب ذكر المعتزلة من كتاب المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل، نشرة بعناية توما أرنلد (حيدرآباد الدكن: مطبعة دائرة المعارف النظامية، 1316)، ص 44. وقال البغدادي:(وقد جاء اسم والده عنده سلمان بدل سليمان): "كان أبو علي الجبائي يصفه بالحذق في الكلام". من تصانيفه "إنكار أن يخلق الناسُ أفعالهم"، و"تثبيت دلالة الأعراض"، و"إثبات الجزء الذي لا يتجزأ". الخطيب البغدادي، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت: =

ص: 1053

في تركيب حروفها (1) - لو استيقظ إلى المشترك، لزعم أن الواضعَ وضع اللفظَ الواحد لمعنيين فصاعدًا؛ لأنه رأى أن تلك المعاني جديرةٌ بتلك الحروف، فكان يتخذ من وجود المشترك في كلام العرب حجةً أدبية لمذهبه. لكن يُشكِل عليه الموضوعُ للضدين، وجوابُه: فإن للتضاد تناسبًا بذلك.

وأحسن ما رأيتُ في الاعتذار عن وقوع المشترك هو قولُ ابن درستويه (2): اللغة موضوعةٌ للإبانة، والمشترك تعمية. ولكن قد جاء منه النادرُ لعلل، فيتوهم مَنْ لا يعرف العللَ أن اللفظَ وُضع لمعنيين، والسماع في ذلك صحيحٌ عن العرب. وإنما

= تاريخ مدينة السلام وأخبار محدثيها وذكر قطانِها العلماء من غير أهلها ووارديها، تحقيق بشار عواد معروف (بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط 1، 1422/ 2001)، ج 10، ص 551 - 552.

(1)

وقد حكى ابنُ جني هذا الرأي حيث قال: "وذهب بعضُهم إلى أن أصلَ اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعة، كدوي الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، وشحيج الحمار، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس، ونزيب الظبي، ونحو ذلك. ثُم وُلدت اللغاتُ عن ذلك فيما بعد. وهذا عندي وجهٌ صالح، ومذهب متقَبَّل". الخصائص، ج 1، ص 98 - 99. (والنزيب: صوت تيس الظبي عند السفاد). وقال السيوطي: "واحتج عباد بأنه لولا الدلالةُ الذاتية لكان وضعُ لفظٍ من بين الألفاظ بإزاء معنًى من بين المعاني ترجيحًا بلا مرجح". المزهر، ج 1، ص 18. ويُعرف هذا الرأي بالمحاكاة أو المضاهاة الطبيعية، ويقوم على افتراض وجود مناسبة طبيعية وعلاقة ضرورية بين اللفظ والمدلول هي التي تحمل الواضعَ على وضع اللفظ إزاء معنى أو شيء معين. وممن قال بها المعلم الثاني أبو نصر الفارابي، وقد أطنب في تحليلها والاستدلال عليها. انظر في ذلك: المسدي، عبد السلام: التفكير اللساني في الحضارة العربية (بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، ط 3، 2009)، ص 98 - 106.

(2)

هو أبو محمد عبد الله بن جعفر بن دَرَسْتَوَيْه بن المرزبان، الفارسي، الفسوي. كان من النحاة المشهورين، والأدباء المذكورين. ولد سنة 258/ 871 وتوفِّيَ سنة 347/ 958. أقام ببغداد، وأخذ عن أبي العباس المبرّد وقرأ عليه كتاب سيبويه، كما أخذ عن عبد الله بن مسلم بن قتيبة وعن الدارقطني وغيره. كان شديد الانتصار للبصريين في النحو واللغة. أخذ عنه عبيد الله المرزباني وغيره. كان ابن درستويه من كبار المحدثين، ثقة مع ما رُمي به من ضعف، وكان جيّدَ التصنيف كثيره. من تصانيفه: شرح كتاب المختصر للجرمي، وكتاب الإرشاد في النحو، وكتاب في الهجاء، وشرح الفصيح لثعلب، وكتاب الانتصار لكتاب العين، وغريب الحديث، ومعاني الشعر، وغيرها.

ص: 1054

يجيء ذلك من لغتين، أو لحذف واختصار وقع في الكلام، حتى اشتبه اللفظان، وخفي ذلك عن السامع فتأول فيه الخطأ (1).

وهذا هو القولُ الفصل؛ وذلك أن مِمَّا يجب التيقُّظُ له أننا حين نذكر وضعًا لغويًّا وواضعًا لسنا نريد بذلك أن شخصًا أو جماعةً تصدَّوْا لوضع اللغة، فانتصبوا لذلك في أيامٍ أو ساعاتٍ يُرَكِّبون الحروف، ويصوغون الكلمات، ثم يلقنونها الأقوامَ الحافّين بهم؛ لأن هذا أمرٌ يحتاج إلى نُظم وتواطؤ، ولم يكن في أحوال الأمم السابقة ما يسمح بتكوين هذه الفكرة.

وإنما نريد من الواضع مجموعَ الفصحاء في عصور مختلفة وقبائل متعددة من خطبائها وشعرائها وحكمائها، الذين لم يزالوا يُهذِّبون مفرداتِ كلامهم وصيغَ تراكيبه، ليأتوا بالأحسن فالأحسن في أذواقهم، ويودعوه هم خطبَهم وأشعارهم، فيتلقفه عنهم

(1) ساق المصنف كلامَ ابن درستويه بتصرف، ولفظُه:"وإنما اللغةُ موضوعةٌ للإبانة عن المعاني، فلو جاز وضعُ لفظٍ واحد للدلالة على معنيين مختلفين، أو أحدهما ضدٌّ للآخر، لمَا كان ذلك إبانةً بل تعمية وتغطية. ولكن قد يجيء النادرُ من هذا لعلل، كما يجيء فعل وأفعل، فيتوهم مَنْ لا يعرف العللَ أنهما لمعنيين مختلفين، وإن اتفق اللفظان. والسماعُ في ذلك صحيحٌ من العرب، فالتأويلُ عليهم خطأ، وإنما يجيء ذلك في لغتين مختلفتين، أو لحذف أو اختصار وقع في الكلام، وخفيَ سببُ ذلك على السامع، فتأوَّل فيه الخطأ". وقال قبيل هذا: "ولا يكون فعل وأفعل بمعنى واحد، كما لم يكونا علي بناء واحد، إلا أن يجيء ذلك في لغتين مختلفتين. فأما من لغة واحدة، فمحالٌ أن يختلف اللفظان والمعنى واحد، كما يظن كثيرٌ من النحويين واللغويين". ثم أضاف: "وليس يجيء شيء من هذا الباب إلا على لغتين متباينتين كما بينا، أو يكون على معنيين مختلفين، أو تشبيه شيء بشيء، على ما شرحناه في كتابنا الذي ألفناه في افتراق معنى فعل وأفعل". ابن درستويه: تصحيح الفصيح وشرحه، تحقيق محمد بدوي المختون ومراجعة رمضان عبد التواب (القاهرة: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1419/ 1998)، ص 70 - 71. وانظر كذلك السيوطي: المزهر، ج 1، ص 302 - 303. وقال ابن درستويه في آخر الباب التاسع من الكتاب نفسه (ص 185):"النوء: الارتفاع بمشقة وثقل، ومنه قيل للكوكب: قَدْ ناء، إذا طلع. وزعم قوم من اللغويين أن النوء السقوط أيضًا، وأنه من الأضداد. وقد أوضحنا الحجة عليهم في ذلك في كتابنا في إبطال الأضداد".

ص: 1055

مَنْ يغشى مجالسَهم ومجامعَهم وأنديتهم. فبهذا يتضح لنا إمكانُ حدوثِ اللفظ المشترك من غير تبين للواضع. ولقد تتبعتُ ما استطعت، فانتهيتُ إلى عشرة أسباب لوقوع المشترك في اللغة وكتبها.

السبب الأول: تعدد الوضع وذلك على وجهين: الوجه الأول: تعدد الوضع في العربية أصالة؛ لأن قبائل العرب وإن اتحد معظمُ لغتها، فهي مع ذلك يختص بعضُها ببعض الألفاظ، ولا سيما الشعبان العظيمان عدنان وقحطان. وهذا مثل السدفة للظلمة في لغة تميم وللضوء في لغة قيس. ومثل العَجل، هو ضد البطء في لغة معظم العرب، وهو الطين في لغة حمير. ومثل ييأس، أي: ينقطع رجاؤه في لغة معظم العرب، وهو بمعنى يتبين في لغة هوازن والنخَع (1). فإذا دخل لفظٌ من لغة في لغة أخرى واتفق أن كان مُمَاثِلًا للفظ في اللغة المدخولة، سُمِّيَ مشتركًا.

الوجه الثاني: اشتراكٌ يعرض من إدخال العرب في لغتهم لفظًا من غير لغتهم، فإن عادتهم أن يغيروا اللفظَ المعرَّب ليصيِّروه على زِنَةٍ قريبة من أوزانهم، فيصادف تارة أن يشبه لفظًا عربيًّا سابقًا. وهذا مثلُ الجُلّ اسم للورد، وأصله فارسي "كُلْ"، وهو في الفارسية بين الجيم والقاف والكاف. فلما عرّبوه جعلوه بالجيم فأشبه الجُلّ، وهو الرداء الذي يُجعل على كَفَل الفرس أو ظهر البعير، يقول الأعشى:

وَشَاهِدُنا الجُلُّ وَاليَاسَمِيـ

نُ والمُسْمِعَاتُ وقُصُّابُها (2)

(1) النخع: قحطانيون. - المصنف.

(2)

كذا رواه أبو الفرج الأصفهاني خلال كلامه على نسب إسماعيل بن عمار وأخباره ضمن مقطوعة من ستة أبيات، هي جزء من قصيدة من بحر المتقارب، قالها الأعشى في مدح بني عبد المدان الحارثيين من بني الحارث بن كعب، وطالعها "تداويت منها بها". ومما جاء فيها:

فَكَعْبَةُ نَجْرَانَ حَتْمٌ عَلَيْكِ

حَتَّى تُنَاخِي بِأَبْوَابِهَا

نَزُورُ يَزِيدَ وَعْبَد المَسِيحِ

وَقَيْسًا هُمُ خَيْرُ أَرْبَابِهَا

وَشَاهِدُنَا الْجُلُّ وَالْيَاسَمِيـ

ـنُ وَالمُسْمِعَاتُ بِقُصَّابِهَا =

ص: 1056

فزعم مَنْ لم يعرفْ أصلَ الكلمة أن في البيت تحريفًا وأن صوابَه الفُل، والأعشى تنقَّل في القبائل وعرف مختلف اللغات. ومثل السَّري فهو الشريف بلغة العرب، وهو أيضًا النهر معرب من السريانية. قال تعالى:{قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)} [مريم: 24]، فاختلف المفسرون: هل أريد به النهر مثلما خلق لها الرطب، أو أريد به الابنُ الذي ولدته؟ وكذلك الشطرُ هو النصف عربي، والشطر بمعنى الجهة حبشي دخل في لغة العرب، قال تعالى:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144](1).

السبب الثاني: الاشتراك العارض من المجاز الذي يكثر في كلامهم حتى يساويَ الحقيقةَ أو يقاربها. وهذا أوسعُ مداخلِ الاشتراك إلى كلام العرب، وأمثلتُه كثيرة، منها: عضّه الكلب، وعضّه الدهر. ومنه البعل: السيد، ثم صار للزوج، ثم صار بمعنى الذكر، فسمّي به النبتُ الذي لا يسقى.

وقد رأيتُ أحسنَ ما يُؤْذِنُ بنشأة الاشتراك عن هذا السبب ما رُوِيَ في الصحيح أن عبد الله بن مسعود قال: "كنا إذا صلينا خلف رسول صلى الله عليه وسلم قلنا: السلام

= الأصفهاني، أبو الفرج علي بن الحسين: كتاب الأغاني (القاهرة: المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، بدون تاريخ)، ج 11، ص 380؛ الأغاني، تحقيق قصي الحسين (بيروت: دار ومكتبة الهلال، ط 1، 1422/ 2002)، ج 4/ 11، ص 478. وفيما اطلعت عليه من نشرات ديوان الأعشى جاء البيت محل الشاهد بلفظ "الورد" بدل "الجل". ديوان الأعشى الكبير ميمون بن قيس، تحقيق محمد محمد حسين (القاهرة: المطبعة النموذجية، 1950)، ص 173؛ ديوان الأعشى، تحقيق فوزي عطوي (بيروت: دار صعب، 1980)، ص 81؛ وكذلك ديوان الأعشى، تحقيق لجنة بإشراف كامل سليمان (بيروت: دار الكتاب اللبناني، ط 1، بدون تاريخ)، ص 26.

(1)

السيوطي: الإتقان في علوم القرآن، ج 1، ص 400 - 401. وذكر المبرد أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عن ذلك في الآية المذكورة فقال: "هو الجدول، فسأله عن الشواهد، فأنشده:

سلمًا ترى الدالج منها أزْوَرَا

إذا يَعجُّ في السري هرهرا"

المبرد، أبو العباس محمد بن يزيد: الكامل في اللغة والأدب، تحقيق عبد الحميد هنداوي (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1424/ 2003)، ج 2، ص 160.

ص: 1057

على الله، السلام على النبي، على فلان، فالتفت إلينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال:"إن الله هو السلام (أي هو الذي يؤمننا)، فإذا صلَّى أحدُكم فليقل: التحيات لله" إلخ (1). فعوَّض لهم لفظَ السلام بالتحيات المرادفة للفظ السلام، لرفع ما يُوهِمُه لفظُ السلام من معناه الأصلي، وهو الأمان. ونظيرُ هذا في القرآن قوله تعالى:{قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)} [مريم: 23]، قالوا النسي: الشيء الحقير (2). فكان من بديع نسج القرآن أن أجرى عليه صفةً تُنَبِّه إلى أصله، فإنه نُقل من الشيء المنسِيِّ فصار بمعنى الحقير؛ لأن شأنَ الحقير أن يُنسى.

(1) يبدو أن المصنف جمع بين ألفاظ أكثر من رواية للحديث. وهو عند البخاري بلفظ: "كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم قلنا: السلام على جبريل وميكائيل، السلام على فلان وفلان، فالتفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله هو السلام، فإذا صلى أحدُكم فليقل: التحياتُ لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. فإنكم إذا قلتموها، أصابت كلَّ عبد لله صالح في السماء والأرض، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله"". البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل: صحيح البخاري (الرياض: دار السلام، ط 2، 1419/ 1999)، "كتاب الأذان"، 831، ص 135؛ وهو عند مسلم بلفظ:"كنا نقول في الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام على الله، السلام على فلان، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: "إن الله هو السلام، فإذا قعد أحدُكم في الصلاة فلْيَقُلْ: التحياتُ لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، - فإذا قالها أصابت كلَّ عبد لله صالح في السماء والأرض - أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ثم يتخير من المسألة ما شاء"". النيسابوري، أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري: صحيح مسلم (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1421/ 2001)، "كتاب الصلاة"، الحديث 402؛ ص 157.

(2)

انظر في ذلك مثلًا: الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي (القاهرة: هجر للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1، 1422/ 2001)، ج 15، ص 498؛ ابن عطية الأندلسي، أبو محمد عبد الحق بن غالب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1422/ 2001)، ج 4، ص 10. قال ابن عطية:"والنسي في كلام العرب الشيء الحقير الذي شأنه أن يُنسَى فلا يُتَألَّم لفقده".

ص: 1058

السبب الثالث: ما يأتِي من عوارض تصريفية. وهذا لا يمكن التحرزُ منه؛ لأنه يقع في الكلام اتباعًا لقواعد مطردة لم يخطر ببال الواضعين أنها إذا جرت على بعض المواد نشأ منها التباس، وقلما استحضر المتكلمُ جميعَ النظائر التي تشابهها. وذلك مثل فُلك للمفرد والجمع، بضم اللام وسكونها، فإن أصلَ المفرد بالسكون وأصل الجمع بالضم. ثم إنهم - أي العرب - يُتْبِعُون حركةَ العين لحركة اللام، وقد يخففون العينَ بالسكون فيهما، فاستويا عند الاستعمال في التقادير كلها.

ومنها وقوف مصدر وقف، ووقوف جمع واقف. فالأول بقاعدة مصدر فَعَل اللازم، والثاني بقاعدة جمع فاعل وصفًا. قال:"وقوفًا بها صحبي"(1). ومنه "مختار" مشترك بين اسم الفاعل واسم المفعول، و"يضار" مشترك بين المبنِيِّ للمعلوم والمبنِيِّ للمجهول، ووقع في قوله تعالى:{وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البقرة: 282].

ومن أجل ذلك اختلفوا: هل يجب على الشاهد التحملُ إذا كان ذلك يشغله عن عمله؟ وهذا النوعُ من الاشتراك عدّه ابنُ جني في الخصائص بناءً على ظهوره في الاستعمال في زِنَةٍ واحدة بقطع النظر عن كون بعضها أصلًا وبعضها عارضًا (2).

السبب الرابع: ما يعرض من الحذف كحذف المفعول في نحو: وجد الضالة، ووجد على فلان، أي: غضب، ووجد عليه وجدًا شديدًا، أي: حزن. فهذه المعاني راجعةٌ إلى معنى حصول ما لم يكن حاصلًا. وقد يعرض من حذف الحرف، مثل علّ فِعل لمعنى سقى ثانيًا

(1) هذا صدر البيت الثاني من معلقة طرفة بن العبد، وتمامه مع الأول:

لِخَوْلَةَ أَطْلَالٌ ببرقة ثَهْمَدِ

تَلُوحُ كَبَاقِي الوَشْمِ فِي ظَاهِرِ اليَدِ

وُقُوفًا بِهَا صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ

يَقُولُونَ لَا تَهْلِكْ أَسًى وتَجلَّدِ

ديوان طرفة بن العبد، نشرة بعناية حمدو طماس (بيروت: دار المعرفة، 1424/ 2003)، ص 25؛ القرشي، أبو زيد محمد بن أبي الخطاب: جمهرة أشعار العرب، نشرة بعناية علي فاعور (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 3، 1424/ 2003)، ص 197.

(2)

ابن جني: الخصائص، ج 1، ص 466 - 468.

ص: 1059

بعد سقْي أول، وعلّ لغة بمعنى لعل بحذف اللام. وكذلك اشتراك إِنْ المخفَّفة من الثقيلة مع أن النافية، وأَنْ المخففة مع أن المصدرية. ومن هذا خير بمعنى الأمر المبارك، وخير الذي هو تفضيل بمعنى أَخْيَر، وكذلك شر في ضديهما.

السبب الخامس: ما يعرض من التخفيف والتثقيل، مثل قِط لذَكَر الهر، وقط بالإدغام أصله قسط (1)، ومثل أَدْفَأَ مهموزًا، أزال عنه البرد، فإذا خففه القرشي على لغته في تخفيف الهمزة صار أدفا، فشارك أدْفَا بمعنى قَتَل من دَفَوْتَ الجريح إذا أجهزتَ عليه، وسأنبه على قصةٍ في هذا.

السبب السادس: الإبدال كإبدال الفاء ثاء، مثل القوم اسم الحنطة، فيصير كاسم البقلة المعروفة. وكذلك أرَّج مشتق من الأريج، وهو طيب الرائحة، وأرّج الذي أصله هرّج بالهاء وهو الشغب. يقال: هرج الأسد، وأسد مؤَرّج بالهمزة مبدلة من الهاء. وكذلك قالوا في هرج: حرّش، بابدال الهاء حاءً والجيم شينًا، جاء مشتركًا مع حرّش إذا أكثر صيد الضِباب (وقالوا فيه: أرش بإبدال الهاء بل بإبدال الحاء همزة، فصار مشبهًا مما يصاغ من الأرش، وهو غُرم الجراحات).

السبب الرابع: إطلاق اسم الشيء على ضد معناه الموضوع له، لتفاؤل أو تشاؤم أو تلطف أو تنزه، كإطلاق اسم السليم على الملدوغ، وإطلاق الجون على الأسود، وإطلاق البصير على الأعمى. والقاعدة في هذا هي أن نجزم أن المعنى الأصلي هو المعدول عنه، والمعنى العارض هو المعدول إليه.

السبب الثامن: ما طرأ على اللغة من المصطلحات الشرعية، كالإيمان والإسلام والتيمم من قوله تعالى:{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} [المائدة: 6]. وكذلك المصطلحات العلمية، مثل المصدر والإضافة.

السبب التاسع: تساهلُ بعضِ علماء اللغة والنحو في تكثير معاني اللفظ الواحد بحسب اختلاف مؤدّي المعنى باختلاف المواقع، مثل معاني فَوْق. قال في

ص: 1060

أدب الكاتب: "وكذلك فوْق تكون بمعنى دون ذلك، قاله الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26] ، أي فما دونها، [هذا قولُ أبي عبيدة] "(1)، مع ظهور أن معنى الدون هنا نشأ من كون الفوقية على البعوضة لا تُعقل إلا في تفاوت في الحقارة.

وقد عدّ بعضُ أهل اللغة الزوج مشتركًا بين زوج المرأة وزوجة الرجل. والحق أن كلمة زوج لفظُ عدد يوصف به كلُّ ما يصير مع غيره ثانيًا، ولذلك لا يقولون للمرأة زوجة إلا نادرًا، كما سنبين وجه ذلك.

وقد أكثر النحاةُ من هذا النوع في معاني الحروف، وفي كتاب "مغني اللبيب" من ذلك شيءٌ كثيرٌ من معاني الحروف (2). وقد أنكر أبو الفتح ابن جنّي في الخصائص على النحاة ادعاءَ وقوع حرف جر بمعنى حرف جر آخر، وأطال فيه بما لا داعيَ إلى ذكره هنا (3).

(1) الدينوري، أبو محمد عبد الله مسلم بن قتيبة: أدب الكاتب، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد (القاهرة: دار الطلائع، 2005)، ص 138. وقد ساق المصنف كلامَ ابن قتيبة بتصرف وأثبتناه بلفظه، وما بين معقوفتين أوردناه حرصًا على بيان دقة ابن قتيبة في نسبة الأقوال إلى أصحابها.

(2)

انظر: الأنصاري، ابن هشام: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد (بيروت: المكتبة العصرية، 1422/ 2001)، ص 19 - 430.

(3)

ابن جني: الخصائص، ج 2، ص 91 - 97 (باب في استعمال الحروف بعضها مكان بعض). قال أبو الفتح (ص 91 - 92):"هذا باب يتلقاه الناس مغسولًا ساذجًا من الصنعة، وما أبعدَ الصواب عنه وأوقفه دونه. وذلك أنهم يقولون: إن (إلى) تكون بمعنى مع. ويحتجون لذلك يقول سبحانه: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [الصف: 14] ، أي مع الله. ويقولون: إن (في) تكون بمعنى (على)، ويحتجون بقوله عز اسمه: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] أي: عليها. ويقولون: تكون الباء بمعنى (عن) و (على)، ويحتجون بقولهم: رميت بالقوس، أي: عنها وعليها. . . ولسنا ندفع أن يكون ذلك كما قالوا، لكنا نقول: إنه يكون بمعناه في موضع دون موضع، على حسب الأحوال الداعية إليه، والمسوِّغة له. فأما في كلِّ موضع وعلى كل حال، فلا. ألا ترى أنك إذا أخذتَ بظاهر هذا القول غُفلًا هكذا لا مقيَّدًا، لزمك عليه أن تقول: سرت إلى زيد، وأنت تريد: معه، وأن تقول: زيد في الفرس، وأنت تريد: عليه، وزيد في عمرو، وأنت تريد: عليه في العداوة، وأن تقول: رويت الحديث بزيد، وأنت تريد: عنه، ونحو ذلك، مما يطول ويتفاحش. ولكن سنضع في ذلك رسمًا يُعمل عليه، ويُؤمَن الشناعة لمكانه". ج 14، ص 278 - 284.

ص: 1061