الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو كما قال (1)، إلا أني أخالفه فيما وجَّه به، وأرى الموجِبَ للفرق بين اللفظين حالَ الإفراد والتثنية.
الفائدة الثالثة أن العربية لغة تفنن، فهم يكرهون التكرار والإعادة، إلا في مقاماتٍ قليلة تسمح بذلك. وفي المترادف عون على تجنب إعادة اللفظة إذا اقتضى الحالُ إعادة الحديث عن مدلولها، وهذا من أسباب التعبير في القرآن بلفظ في موضع آخر مثله. وإن بعض علماء البلاغة قد يتكلفون لإبداء التعليل في وجه ذلك الاختلاف، ولا يعرجون على أنه قد يكون لمجرد قصد التفنن، قال تعالى:{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)} [يونس: 35] إلى آخر الآية. فعدّى يَهْدِي مرة بإلى، ومرة باللام، كراهية تكرير التعدية باللام ثلاثَ مرات.
التحذير من الغفلة عن الفروق بين الكلمات:
التطرفُ يعلم القصد. فلما وجدنا متطرفين في إنكار الترادف، وجب علينا أن نقتصد في دعوى وقوعه، فلا نقع فيما وقع فيه ظاهريةُ اللغويين من الحكم بالترادف بين كلماتٍ تقاربت معانيها فجَرَّؤُوا الشادين في اللغة على اعتقاد ترادفها، وعلى استعمال بعضها موضعَ بعض. فكان ذلك مبدأ أخطاء كثيرة، ومسرَى داءٍ وبيل لانحلال عَقْد العربية. وقديمًا أهمَّ ذلك كثيرين من النحارير مثل أبي علي الفارسي،
= ص 198. التبريزي، الخطيب: شرح ديوان أبي تمام، نشرة بعناية راجي الأسمر (بيروت: دار الكتاب العربي، ط 2، 1414/ 1994)، ج 1، ص 440. وانظر بشأن ما قيل من نقد في هذا البيت وغيره ممن شعر أبي تمام: الجرجاني، القاضي علي بن عبد العزيز: الوساطة بين المتنبي وخصومه، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي (صيدا/ بيروت: المكتبة العصرية، ط 1، 1427/ 2006)، ص 26 - 29 و 64 - 75؛ العسكري، أبو الهلال الحسن بن عبد الله بن سهل: كتاب الصناعتين الكتابة والشعر (الآستانة: مطبعة محمود بك، ط 1، 1320)، ص 235 - 237؛ الجرجاني: كتاب دلائل الإعجاز، ص 47؛ ابن الأثير: المثل السائر، ج 1، ص 277.
(1)
الجرجاني: كتاب دلائل الإعجاز، ص 46 - 47.
وابن جني، فنبهوا على أغلاط كثيرة. من ذلك قصةُ أبي علي الفارسي مع ابن خالويه في أسماء السيف.
ولذا ألَّف الأئمةُ وبوبوا أبوابًا للفروق بين الكلمات المتقاربة المعاني، كما فعل ابن قتيبة في "أدب الكاتب"(1)، وأبوابًا لإيضاح الألفاظ الدالة على معان كلية يقع اللفظُ منها على جزئياتِ المعنى الكلي بسبب كونها جزئيات معنى واحد لا بسبب الترادف، كما فعل أبو منصور الثعالبي في مقدمة "فقه اللغة"(2).
والواجبُ على الساعين في تجديد شباب العربية، وانتشالها من وصمة عدم الانضباط، أن يجدوا وسائلَ لبيان جميع الفروق في اللغة، حتى لا يبقوا من المترادف إلا ما هو مترادفٌ بلا شبهة. وكذلك يجب على الذين يتهمَّمُون بإتقان علم اللغة، ويتنافسون في التحلي بحلية الكتَّاب والبلغاء، أن يتوخوا جهدهم مطابقةَ الألفاظ لأكمل معانيها الموضوعة لها في اللغة.
وسأمثل لك مثالًا يكون لك في نسيج هذا النمط منوالًا: تجد في العربية كلمةَ "غير"، وكلمة "دون"، تجدهما لفظين ملازمين للإضافة دالَّيْن على معنى كالواحد، وهو الشيء الذي لا يلاقي ما تُضافان إليه، فيُخَيَّل إليك صحةُ استعمال أحدهما في مكان الآخر عند التعبير على مغايرة شيء لآخر.
وربما جرَّأك على ذلك وجدانُك كثيرًا من المتكلمين يُطلقون أحدَهُما في مكان الآخر، إلا أنك إذا رجعتَ إلى أصل الوضع فوجدتَ "غير" اسمًا دالًّا على إثبات المغايرة، ووجدتَ "دون" ظرفًا دالًّا على مكانٍ ناء عن المضاف إليه، خالَجَك الظنُّ
(1) الدينوري: أدب الكاتب، ص 97 - 138.
(2)
الثعالبي، أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل: فقه اللغة، تحقيق عمر الطباع (بيروت: شركة دار الأرقم، ط 1، 1420/ 1999)، ص 24. ومما قاله الثعالبي:"كل ما علاك فهو سماء، كل أرض مستوية فهي صعيد. . .، كل ما يُستحيا من كشفه فهو عورة. . . كل نازلة شديدة بالإنسان فهي قارعة. . . كل بُستان عليه حائط فهو حديقة".
بأن اختلافَ وضعِهما لا بد أن يكون مؤثِّرًا في فرق ما بينهما، فيظهر له أثرٌ في مواضع استعمالهما، فتظنَّ أن "غيرًا" تكون أولَى بالتعبير عن المعنى المقصودُ منه إثباتُ شيءٍ موجودٍ مغايِرٍ للمضاف إليه، وتظن أن "دون" أولَى بالتعبير عن معنى مقصودٌ منه الإخبارُ بالمضادة والتجافي للمضاف إليه، فإذا تأملتَ في قول المعرّي:
لَا تَطْلُبَنَّ مِنْ غيرِ حَظٍّ رُتْبَةً
…
قَلمُ البَلِيغِ بِدونِ حَظٍّ مِغْزَلُ (1)
بان لك تضلعُ المعرِّي في العربية، وحسنُ اختياره لوقع الكلام؛ لأنه لمَّا أراد اليأسَ من تطلب المرتبة الرفيعة بشيء من الأشياء غير البخت أتى بلفظة "غير" الدالة على الذات لمناسبة تعلق الطَّلَب بالذات، ولما أراد إفادةَ عدم جدوى البلاغة بدون بخت أثبت أن قلم البليغ إذا حلَّ في مكان بعيد عن الحظ، كان كالمِغْزل. فلو أن المعري عكس فجاء بدون في الأول، وغير في الثاني، لكان صحيحًا في الظاهر خطأ عند التأمل، إذ لا يتعلق المطلب بالدون، ولا يكون قلم البليغ مصاحبًا لأشياء هي مغايرة لحظ، ولو أتى بكلمة غير فيهما أو بدون فيهما لمَا سلم من الخطأ في أحد اللفظين.
ومع تحذيرك من الغفلة عن هاته الفروق، ينبغي لك أن تحذر من الغلوِّ في دعوى وجود الفرق بين مترادفات كثيرة. فيرمى بك ذلك إلى تعسفاتٍ ثقيلة، مثل مَنْ تطلَّب الفرقَ بين القعود والجلوس، وبين النأي والبعد، وبين الكذب والمين.
(1) لم أجده في اللزوميات ولا في سقط الزند، وقد ذكر ابنُ كثير وابن خلكان البيتين التاليين منسوبين للمعري، حيث جاء أولهما مختلفًا قليلًا عما أورده المصنف، وهما:
لَا تَطْلُبَنَّ بِآلَةٍ لَكَ رُتْبَةً
…
قَلَمُ البَلِيغِ بِغَيْرِ جَدٍّ مِغْزَلُ
سَكَنَ السِّمَاكَانِ السَّمَاءَ كلَاهُمَا
…
هَذَا لَهُ رُمْحٌ وَهَذَا أَعْزَلُ
ابن كثير القرشي الدمشقي، عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر: البداية والنهاية، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي (القاهرة: دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1، 1417/ 1997)، ج 15، ص 753؛ ابن خلكان، أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد ابن أبي بكر: وفيات الأعيان، ج 1، ص 114. هذا ومعنى البيت كما أورده المصنف أقوم ولفظه به أسعد.