الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحوال الألفاظ المفردة
وهي الفصاحةُ، والصراحةُ، والعزةُ، والرشاقة. أما الفصاحةُ فهي وصف الكلمة، وهي خُلوصُها مما يُكَدِّرها، ويُثْقِلها في السمع، ويُبْعدها عن سلامة الذوق العربي. وقد تكفَّل ببيانها أئمةُ علم المعاني.
وأما الصراحةُ فهي دلالةُ اللفظ على كمال المعنى المراد، بأن يتعيَّن المرادُ منه، قال الجاحظ في كتاب البيان:"حسن البيان هو الإبانةُ عمَّا في النفس بكلام بليغ، بعيدٍ عن اللَّبْس". (1) ويحصُلُ ذلك بأمور كثيرة:
منها توخِّي الألفاظِ الموضوعة للمقيَّدات، نحوُ "الخِوانُ" للمائدة قبل أن يُوضع عليها الطعام، و"الرَّسْفُ" لمشي الرجلِ المقَيَّد، و"القاني" لشديد الحمرة، و"الصباحةُ" للوجه، و"الوضاءةُ" للبَشَرة، و"اللَّباقَةُ" للشمائل، و"الرشاقةُ" للقَدِّ، و"الظَّرْفُ" في النطق، ونحوُ ذلك. ولذا تجب معرفةُ المترادفات؛ لأنها تخلو عن تقييد أو إطلاق.
ومنها تجنبُ استعمالِ المشترَك بدون قرينة، مثل كلمة "مُسَرَّج" في قول رؤبة بن العجاج:"وَفَاحِمًا وَمَرْسِنًا مُسَرَّجَا"(2)، فلم يُعرَفْ هل أراد أنه كالسراج أم كالسيف السُّرَيْجي في الدقة والاستواء. وقولنا:"بلا قرينة" يُخْرِجُ نحوَ قوله تعالى:
(1) لم أجد هذا الكلام عند الجاحظ، لا في "البيان والتبيين" ولا في "كتاب الحيوان"، وإنما هو بلفظه تقريبًا عند ابن أبي الإصبع، ونصُّه:"حسنُ البيان عبارةٌ عن الإبانة عما في النفسِ بألفاظٍ سهلة، بليغة، بعيدة من اللبس". المصري، ابن أبي الإصبع: تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن، تحقيق حفني محمد شرف (الجمهورية العربية المتحدة: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1963)، ص 489.
(2)
البيت ليس لرؤبة، وإنما هو لأبيه العجاج بن رؤبة، وهو التاسع والثلاثون من قصيدة تشتمل على مائة وسبعة وأربعين بيتًا، وتمامه:
وَمُقْلَةً وَحَاجِبًا مُزجَّجَا
…
وَفَاحِمًا وَمَرْسِنًا مُسَرَّجَا
ديوان العجاج، ج 2، ص 34.
{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ} [الأعراف: 157]، فإن عطفَ "نصروه" يُبَيِّنُ أن التعزيرَ هنا هو النصرُ لا ضرب الحد. ونحوَ قول الحريري:" فيدَّعِي تارةً أنه من آل ساسان" حيث علم أنه يريد ملوكَ الفرس، لمقابلته بقوله:"ويعتزِي مرةً إلى أَقْيَال غسان". (1) فانتفى احتمالُ أن يكون المراد الشحَّاذين الذين أَطلق عليهم هذا اللفظَ في موضع آخر.
وقد يدعو المقامُ للعدول عن الصراحةِ لأغراض، مثل التورية والتوجيه والمواربة. ويحسن ذلك في التخلص من المضايق، كقول بعضهم وقد سئل في مجلس جماعة من الشيعة عن الأفضل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"الذي كانت ابنتُه تحته"(2)، فاحتمل أن يريد أبا بكر وعليًّا رضي الله عنهما بحسب الترتيب في الضمير بين.
تنبيه: مما يدخل تحت هذا الشرط التنبيهُ إلى كلمات كثيرة يستعملها الكتاب والمنشئون غلطًا، إما في معناها وإما في اشتقاقها. وقد ألف في ذلك الحريري "درة الغواص"، وألف فيه بعضُهم "لفُّ القِماط فيما يُستعمل من الأغلاط"(3). وقد أكثر الكتابُ المتأخرون من ذلك، وألف في ذلك الشيخ إبراهيم اليازجي كتابًا سماه "لغة الجرائد"، إلا أنه قليلُ الفائدة، كثيرُ الغلط في كثير مما عده غلطا.
(1) الحريري: مقامات الحريري، ص 25 (المقامة الحُلوانيّة).
(2)
قال ابن خلكان في ترجمة أبي الفرج ابن الجوزي: "وكانت له في مجالس الوعظ أجوبة نادرة، فمن أحسن ما يُحكى عنه أنه وقع النزاعُ ببغداد بين أهل السنة والشيعة في المفاضلة بين أبي بكر وعلي رضي الله عنهما، فرضيَ الكلُّ بما يجيب به الشيخ أبو الفرج، فأقاما (يعني الفريقين) شخصًا سأله عن ذلك وهو على الكرسي في مجلس وعظه، فقال: أفضلُهما مَنْ كانت ابنتُه تحته، ونزل في الحال حتى لا يُراجع في ذلك. فقالت السنة: هو أبو بكر؛ لأن ابنته عائشةَ رضي الله عنها تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت الشيعة: هو علي؛ لأن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، تحته، وهذا من لطائف الأجوبة". ابن خلكان: وفيات الأعيان، ج 3، ص 141 - 142.
(3)
وهو مصنَّفٌ من تأليف الشيخ صديق حسن خان القنوجي، كما ذكر في ترجمة نفسه في آخر كتابه "أبجد العلوم"، وعنوانه "لَفّ القِماط على تصحيح بعض ما استعملتْه العامةُ من الأغلاط". القنوجي، صديق بن حسن: أبجد العلوم: الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم، نشرة بعناية عبد الجبار زكار (دمشق: منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، 1978)، ج 3، ص 278.
فعلى المنشِئِ أن لا يتابعَهم في استعمال لفظٍ إلا بعد تحقيقِ معناه لغة. فمن أغلاطهم "رَدَحٌ من الزمن" يريدون حصةً قليلة، وإنما هو المدةُ الطويلة جدًّا، وقولهم:"باهِظُ الثمن" بمعنى كثير، وإنما هو الأمر المثقل. وقولهم:"توًّا" بمعنى الآن أو الوقت الحاضر، وهو غلَط؛ إذِ التَّوُّ الذهابُ على سواءٍ واستقامة، بحيث لا يُعَرجِّ على شيء، تقول:"سار توًّا، أي لم يقف ولم يعَرِّج. وقولهم: "ناهز"، يريدون تجاوز، وصوابه قارب، إلى غير ذلك.
وأما العِزَّةُ فهي سلامةُ الكلمة من الابتذال. والابتذالُ يقع على وجوه: أحدها نقلُ العامة الكلمةَ من معنى واستعمالُها في معنى غيرِ حسَن، كـ "البُهلول" فأصله السَّيِّدُ الجامعُ لصفاتِ الكمال، فأخرجه عامتُنا للمغفَّل، و"الخِرِّيت" أصله البصيرُ بالطرقات، كما رُوِي في حديث الهجرة (1) فاستعملوه للجبان. وكثيرٌ من أسماء الأضداد نشأ من مثل هذا.
الثاني أن تكون الكلمةُ من موضاعاتِ العامة المفقودة أو المنسِيَّةِ في فصيح الكلام، مثل "الخازِ باز" لذُباب الرياض، ومثل "اللقالق" جمع لقلق، وهو طائر له منقارٌ طويل دقيق، ورجلاه طويلتان (2).
(1) عَنْ عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها، قالت:"وَاسْتَأْجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ، ثُمَّ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ هَادِيًا خِرِّيتًا، الْخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ، قَدْ غَمَسَ يَمِينَ حِلْفٍ فِي آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَأَمِنَاهُ، فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، فَأَتَاهُمَا برَاحِلَتَيْهِمَا صَبِيحَةَ لَيَالٍ ثَلَاثٍ، فَارْتَحَلَا وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَالدَّلِيلُ الدِّيِليُّ، فَأَخَذَ بِهِمْ أَسْفَلَ مَكَّةَ وَهُوَ طَرِيقُ السَّاحِل". صحيح البخاري، "كتاب الإجارة"، الحديث 2263، ص 360. والرجل الخرِّيتُ هو عبد الله بن أبي أرَيْقِط، وكان أبو بكر هو الذي استأجره، كما ذكر ابن سعد. الزهري: كتاب الطبقات الكبير، ج 1، ص 196.
(2)
أشرنا إلى قولِ أبي الطيب شعرًا: "كأنها الخاز باز" وإلى قوله: "يصيح الحصا فيها صياح اللقالق". - المصنف. وقد جاء ذلك في البيتين الآتيين:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ
…
شُعَرَاءٌ كَأَنَّهَا الْخَازِبَازِ
وَمَلْمُومَةٌ سَيْفِيَّةٌ رَبَعِيَّةٌ تَصِيحُ
…
الْحَصَى فِيهَا صِيَاحَ اللَّقَالِقِ =
الثالثُ أن يحصلَ مِنْ بعضِ صِيَغِ الاشتقاقِ ما يُوهِمُ معنًى مُسْتَبْشَعًا، مثل أنْ يُشتَقَّ مِنْ "همَّه الأمرُ" وزن فاعلة، فيقال عرضت له نازلة هامة، أي مهمة، فيُتَوَهَّم أنها الهامةُ بمعنى الدَّاهِية.
الرابعُ أن يكونَ معنى الكلمةِ سخيفًا، فيجب على الكاتبِ إنِ اضطر إلى التعبير عن مدلولها أن يتنَكَّبَ عنها إلى مسالك الكناية تنزيهًا للسان، كما جاء في القرآن العظيم:{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43؛ المائدة: 6]، {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة: 235]. ويُغتَفَرُ استعمالُ المبتذَلِ في مقام الهزل، أو الحكاية، أو المشاتمَة، مثل ما وقع في أوائل رسالة ابن زيدون المشهورة برسالة ولادة (1).
= والبيتُ الأول هو الثالثُ قبل الأخير من قصيدة في ثمانية وثلاثين بيتًا بعنوان "عقل المجيز عقل المجاز"، قالها المتنبي بدمشق يمدح أبا بكر علي بن صالح الروذباري الكاتب. والخازباز "حكاية صوت الذباب، ثم سمي به الذبابُ نفسه. يقول [لممدوحه]: أنت طب بالشعر ناقد له، وغيرك لا يعرف الشعرَ ولا يميز جيده من رديئه، فيجوز عليه شعراء يهذون بما لا حفل له كأنهم الذباب حين يطن"، قاله البرقوقي. أما الثاني فهو التاسع والعشرون من قصيدة في سبعة وأربعين بيتًا قالها يمدح سيف الدولة ويذكر إيقاعه ببني عقيل وقشير وبني عجلان وكلاب لما عاثوا في بعض نواحي ملك الممدوح. وملمومة صفة لكتيبة، وسيفية نسبة لسيف الدولة، ورَبَعية نسبة إلى ربيعة. البرقوقي: شرح ديوان المتنبي، ج 2، ص 291 - 292؛ ج 3، ص 67.
(1)
هي رسالة هزلية كتبها ابن زيدون على لسان ولادة إلى ابن عبدوس منافسه في الحب والسياسة جاء في مقدمتها: "أما بعد أيها المصاب بعقله، المورَّط بجهله، البَيِّنُ سَقَطه، الفاحش غلطه، العاثر في ذيل اغتراره، الأعمى عن شمس نهاره، الساقط سقوط الذباب على الشراب، المتهافت تهافت الفراش إلى الشهاب. . ." الرسالة الهزلية ضمن ديوان ابن زيدون ورسائله، تحقيق علي عبد العظيم (القاهرة: نهضة مصر للطباعة والنضر والتوزيع، 1980)، ص 634 - 635. وقد شرحها الصفدي شرحًا واسعًا مفصلًا، متعرضًا لما فيها من نكتٍ ومسائلَ في اللغة والأدب والحكمة والتاريخ وما إلى ذلك من شعب المعرفة. انظر: الصفدي، خليل بن أيبك: تمام المتون في شرح رسالة ابن زيدون، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (صيدا/ بيروت: المكتبة العصرية، 1389/ 1969).
وأما الرَّشَاقَةُ فهي مناسَبَةُ حالِ اللفظ لمقام الكلام؛ فإن الألفاظَ منها جَزْلٌ، ومنها سَهْل. فالجزلُ يُستعمَلُ في ذكر الحروب، والحماسة، والتوبيخ، ونحوها. والسَّهلُ في مقام الملاطفة، والغزل، والمديح. ومنها ما لا يُوجِبُ شيئًا من الأمرين. والتحقيقُ أن كل هذا لا يَتْبَعُ وصفَ الألفاظ في ذاتها؛ إذ ليس وصفُها مختلفًا، ولكنه يَتْبَعُ جلبَ بعضِ الألفاظ وترك البعض بحسب المقام، كما حسن استعمالُ "سيِّدتي" في قول أبي العتاهية:
أَلَا مَا لِسَيِّدَتِي مَالَهَا
…
تُدِلُّ فَأَحْمِلُ إِدْلَالَهَا (1)
ولو جِيءَ به في مقامٍ آخر لقَبُح. وقد عيب على جميل قولُه:
(1) البيت هو طالع قصيدة قصيرة أنشدها أبو العتاهية في مجلس الخليفة العباسي المهدي. قال أشجع السلمي الشاعر المشهور: "أذن الخليفة المهدي للناس في الدخول عليه فدخلنا، فأمرنا بالجلوس، فاتفق أن جلس بجنبي بشار بن برد. وسكت المهدي فسكت الناس، فسمع بشار حسًّا فقال لي: من هذا؟ فقلت: أبو العتاهية، فقال: أتراه ينشد في هذا المحفل؟ فقلت: أحسبه سيفعل، فقال: فأمره المهدي أن ينشد، فأنشد:
أَلَا مَا لِسَيِّدَتِي مَا لَهَا؟
…
أَدَلَّتْ، فَأَجْمَلَ إِدْلَالُهَا
قال: فنخسني بشار بمرفقه وقال: ويحك! أرأيتَ أجسرَ مِنْ هذا؟ ينشد مثلَ هذا الشعر في مثل هذا الموضع، حتى بلغ إلى قوله:
أَتَتْهُ الْخِلافَةُ مُنْقَادَةً
…
إِلَيْهِ، تُجَرِّرُ أَذْيَالَهَا
فَلَمْ تَكُ تَصْلُحُ إِلَّا لَهُ
…
وَلَمْ يَكُ يِصْلُحُ إِلَّا لَهَا
وَلَوْ رَامَهَا أَحَدٌ غَيْرُهُ
…
لَزُلْزِلتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا
وَلَوْ لَمْ تُطِعْهُ بَنَاتُ الْقُلُوبِ
…
لمَا قَبِلَ اللهُ أَعْمَالَهَا
فقال لي بشار: انظر ويحك يا أشجع، هل طار الخليفة عن عرشه؟ قال أشجع: فوالله ما انصرف أحدٌ عن هذا المجلس بجائزة غير أبي العتاهية". ديوان أبي العتاهية (بيروت: دار بيروت للطباعة والنشر، 1406/ 1986)، ص 375؛ الأغاني (نشرة الحسين)، ج 2/ 4، ص 27 - 28 (وفيه "أَدَلًّا" عوض "تدل" و"أدلت").