المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالث: أسباب وقوع الترادف في اللغة: - جمهرة مقالات ورسائل الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور - جـ ٣

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌المِحْوَر الرَّابعفِي اللُّغَةِ وَالأَدَبِ

- ‌الفَرْع الأَوّلبحُوث وَتحقيقات لُغويَّة

- ‌اللفظ المشترك في اللغة العربية

- ‌الأسباب التي قضت بوقوع المشترك في اللغة:

- ‌محاولة العرب إيجاد فروق بين الألفاظ المشتركة

- ‌أثر المشترك في التخاطب:

- ‌وسائل علاج الأثر السيئ للمشترك:

- ‌كيفية استعمال المشترك:

- ‌مثال من المشترك هو أغرب تصرفاته:

- ‌المترادف في اللغة العربية

- ‌المبحث الأول: في ما هو الترادف وتحقيقه:

- ‌المبحث الثاني: هل المترادف واقع في اللغة العربية

- ‌معنى الوضع:

- ‌مذاهب العلماء في إثبات المترادف:

- ‌المبحث الثالث: أسباب وقوع الترادف في اللغة:

- ‌المبحث الرابع: فوائد المترادف في اللغة:

- ‌التحذير من الغفلة عن الفروق بين الكلمات:

- ‌عطف أحد المترادفين على الآخر:

- ‌فرق لغوي مغفول عنه: "لا ضرر ولا ضرار

- ‌لفظ "كل" حقيقة في الكثرة أيضًا مثل الشمول

- ‌قولهم: "كان مما يفعل كذا

- ‌[تقديم]

- ‌المقصد:

- ‌تذييل:

- ‌الاقتراح:

- ‌صوغُ "مفعلة" من أسماء الأعيان الثلاثية الأحرف مما وسطُه حرفُ علة

- ‌الصوت المجسَّد، تقفية وتأييد

- ‌مراجعة الأستاذ إبراهيم مصطفى:

- ‌جواب المصنف:

- ‌الفَرْعَ الثَّانِيدِراسَات فِي عُلوم البَلَاغَة

- ‌الجزالة

- ‌موجز البلاغة

- ‌[استهلال: ] هذا موجز علم البلاغة:

- ‌مقدمة

- ‌[البلاغة]

- ‌تاريخ علم البلاغة:

- ‌فن المعاني:

- ‌باب الإسناد:

- ‌1 - عوارض الإسناد وأحواله:

- ‌2 - عوارض أحوال المسند إليه:

- ‌3 - عوارض أحوال المسند

- ‌4 - عوارض أحوال متعلقات الفعل:

- ‌القصر

- ‌الإنشاء:

- ‌ الوصل والفصل

- ‌عطف الإنشاء على الخبر وعكسه:

- ‌الإيجاز والإطناب والمساواة:

- ‌فن البيان

- ‌التشبيه

- ‌الحقيقة والمجاز:

- ‌الكناية:

- ‌تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر

- ‌فن البديع

- ‌ملاحق موجز البلاغة

- ‌1 - تقريض الكتاب بقلم شيخ الإسلام الحنفي

- ‌2 - قرار النظارة العلمية

- ‌‌‌أصول الإنشاءوالخطابة

- ‌أصول الإنشاء

- ‌[استهلال]

- ‌مقدمة

- ‌كيفية الإنشاء للمعنى

- ‌مثال للتمرين:

- ‌أساليب الإنشاء:

- ‌القسم الأول: [الإنشاء] المعنوي

- ‌تعريف المعنى وتقسيمه

- ‌صفات المعنى

- ‌طرق أخذ المعنى

- ‌ترتيب المعاني وتنسيقها وتهذيبها

- ‌أخذ النتائج من المعاني

- ‌مقامات الكلام

- ‌القسم الثاني: [الإنشاء] اللفظي

- ‌أحوال الألفاظ المفردة

- ‌أحوال الألفاظ المركبة

- ‌تمرين

- ‌السجع والترسل

- ‌التمرن على الإجادة

- ‌[خاتمة]

- ‌فنُّ الخطابة

- ‌ما هي الخطابة

- ‌منافع الخطابة

- ‌أصول الخطابة

- ‌ الْخَطِيبَ

- ‌[عيوب الخطابة]

- ‌الخطبة

- ‌التدرب بالخطابة

- ‌الفَرْعُ الثَّالِثدِرَاسَات فِي الأَدَب والنَّقْد

- ‌شرح المقدمة الأدبية لشرح الإمام المرزوقي على ديوان الحماسة لأبي تمام

- ‌متن المقدمة الأدبية

- ‌شرح المقدمة الأدبية

- ‌[تقديم]

الفصل: ‌المبحث الثالث: أسباب وقوع الترادف في اللغة:

سموا دويبة من العنكبوت ليثًا، ثم شاع وصفُ الأسد بالليث حتى صار مرادفًا للأسد. وقد يتعاهدون الوصفيةَ فيجرونه صفة للأسد، كقول كعب بن زهير:

مِنْ خَادِرٍ مِنْ لُيُوثِ الأُسْدِ مَسْكَنُهُ

فِي بَطْنِ عَثَّرَ غِيلٌ دُونَهُ غِيلُ (1)

ويظهر ذلك في الغيث، فهو مرادف للمطر، لكنهم لا يستعملونه في المطر الضار كحجارة البرد. وفي القرآن:{أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} [الفرقان: 40]، {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال: 32] وقال: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد: 20]، فسماه غيثًا؛ لأنه مطر نبات.

‌المبحث الثالث: أسباب وقوع الترادف في اللغة:

السبب الأول: أن اللغة العربية قد تميزت عن أخواتها من اللغات السامية من حين انفصال العرب عن مواطن بقية الساميين لحلولهم في عربة، وهي تهامة (التي لأجلها سموا عربًا)، وهي الشاطئ الكائن على بحر القلزم (الأحمر) في جنوبه وشماله، وانتشروا حينئذ على ذلك الشاطئ، ثم على شاطئ بحر عدن. واستوطنوا ذلك الشاطئ وبعض سرواته، وهو بلاد اليمن، فتكلموا بلغتهم العربية العتيقة، أعني اللغة القحطانية. وتفرقوا قبائل، فنزلوا حضرموت، والأحقاف، وبلاد عمان، وبلاد البحرين، والسروات الفاصلة بين تِهامة والبحرين، وهي المسماة بنجد ثم بالحجاز.

وكانت لغتُهم متماثلةً متقاربة؛ إذ كانوا أمةً واحدة. ثم جاء إبراهيم بن تَارح العبري الكلداني (الخليل عليه السلام) بامرأته هاجر وابنه الغلام إسماعيل، فأودعهما بديار جُرهم في طريق تِهامة، بمحلٍّ يُقال له مكةَ أو بكة. فنزلت هاجر بغلامها في جوار

(1) البيت من قصيدة "بانت سعاد" التي قالها كعب رضي الله عنه في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد جاء صدره في رواية السكري بلفظ:"مِنْ ضَيْغَمٍ مِنْ ضِرَاءِ الأُسْدِ مُخْدَرُهُ". السكري، أبو سعيد بن الحسن بن الحسين بن عبيد الله: شرح ديوان كعب بن زهير، تحقيق عباس عبد القادر (القاهرة: دار الكتب والوثائق القومية، ط 3، 1423/ 2002)، ص 21.

ص: 1100

جرهم، وكانت تتكلم باللغة الكلدانية، أخت اللغة العربية، وأصل اللغة العبرانية. فاضطر المتجاوران للتعارف، واقتبس بعضُهم لغةَ الآخر. وكان حكمُ الطبع قاضيًا أن تتغلب لغةُ جُرْهُم على لغة امرأة نزلت بين ظهرانيهم، لكن ذلك لا يمنع أن تكون اللغةُ الغالبة قد اجتذبت بعضَ كلماتٍ انتخبتها من اللغة الجديدة حَسُن وقعُها في أسماع القبيلة.

وقد رأيتُ بعضَ الأدباء يزعمون أن اللغةَ العدنانية تميزت عن القحطانية بسبب دخول العَبْرانية فيها، وتصرف العرب في اللغة العبرانية بالتهذيب، كما حكاه ابن الأثير في "المثل" أن بعضَ علماء اليهود بالديار المصرية علَّلَ فصاحةَ العربية بأنها جاءت آخرًا فنفت القبيحَ من اللغات قبلها، وأخذت الحسنَ وخففته؛ فمن ذلك اسم الجمل فإنه في العبراني كوميل فصار في العربية جمل. قال ابن الأثير:"لقد صدق في الذي ذكره، وهو كلامُ عالِمٍ به". (1)

وأنا أَعُدُّ هذا جهلًا من اليهودي بقدم العربية، وظنًّا منه أن العربَ تكلموا بالعربية بعد إبراهيم الخليل. والحقيقةُ أن العربية أقدمُ من العبرانية، فإن قحطان أعلى طبقةً في سلسلة النسب السامي من إبراهيم الخليل، وتماثُلُ الكلمات في لغتين لا يعيِّن كونَ أحدهما فرعًا عن الأخرى؛ لأن تعيين الأصل منهما لا يخلو من تحكم.

على أنِّي أرى أن إبراهيمَ ما وقع اختيارُه في وضع أهله في بلاد العرب إلا وكان رائدُه الأول في ذلك إمكانَ عيش زوجه وابنه بينهم. وأولُ وسائل ذلك اتحادُ اللغة أو تقاربُها، أو تقاربُ الأخلاق والعوائد. ثم إنِّي لا أستبعد أن إبراهيمَ الذي عُرِفَ بأنه داعيةُ صلاح، وناشرُ حضارة وتهذيب - والذي قد جاب البلادَ يدعو إلى الدين وإلى نبذ الوثنية، وإلى أصول الحضارة والمدنية، فدعا إلى إصلاح التفكير

(1) انظر المثل السائر، صفحة 113 طبع بولاق سنة 1282 هـ. - المصنف. سبق توثيقُ ما حكاه ابن الأثير من الطبعة المحققة لكتاب "المثل السائر".

ص: 1101

بمفارقة الوثنية، وإلى إصلاح العمل بتأسيس أصول الحنيفية - قد كان يبث بين أصحاب أمانته كلماتٍ من لغته ليسَ عندهم ما يرادفها، أو تكون أخفَّ من مرادفها في لغتهم، ويبث فيهم أساليبَ من لغته تكون أتقنَ من أساليبهم، فيكون بمقامه بينهم قد أدخلَ في لغتهم كثيرًا من آثار اللغة التي كان ينطق بها، إذا جوزنا أن تكون لغتُه يومئذ أتقنَ من لغتهم.

السبب الثاني: اختلاف قبائل العرب في أسماء بعض الأشياء، فتشيع الأسماء التي ينطقون بها كلها في جميع قبائلهم لا سيما في الحجاز؛ لأنها قرار القبائل. قال الجاحظ في البيان والتبيين:"القمح لغة شامية، والحنطة لغة كوفية، والبر لغة حجازية. وقال أمية بن أبي الصلت: "لبَابَ البُرِّ يُلْبَكُ بالشِّهَادِ". (1) قلت: وأهل يثرب يسمونه الفوم، قاله المفسرون في قوله تعالى: "وفومها" في سورة البقرة، وأنشدوا على ذلك قولَ أُحيحة بن الجُلَاح (2):

قَدْ كُنْتُ أغْنَى الناسِ شخْصًا واحدًا

سَكَنَ المَدِينةَ مِنْ مَزَارِعِ فُومِ (3)

(1) الجاحظ: البيان والتبيين، ص 23 جزء 1، طبع المطبعة التجارية سنة 1345 هـ. - المصنف.

ساق المصنف كلامَ الجاحظ بشيء من التصرف، ونورده هنا بتمامه. وسياق الكلام بيان كيف كان واصل بن عطاء يتجنب في كلامه وخطبه حرفَ الراء بسبب لثغته فيه. قال الجاحظ:"وكان إذا أراد أن يذكر البر قال: القمح والحنطة. والحنطة لغة كوفية، والقمح لغة شامية. هذا وهو يعلم أن لغة من قال: بر أفصح من لغة من قال: قمح أو حنطة". وبعد أن أورد بيتًا للمتنخل الهذلي قال: "وقال أمية بن أبي الصلت في مدح عبد الله بن جدعان:

دَاعٍ بِمَكَّةَ مُشْمَعِلٌّ

وَآخَرُ فَوْقَ دَارَتِهِ يُنَادِي

إلَى رُدُحٍ مِنَ الشِّيزَى

لُبَابُ البُرِّ يُلبَكُ بِالشّهَادِ"

الجاحظ: البيان والتبيين، ج 1/ 1، ص 19؛ ديوان أمية بن أبي الصلت، ص 61 - 64.

(2)

أحيحة بن الجلاح الأوسي، شاعرٌ جاهلي من دهاة العرب وشجعانهم. تُوُفِّيَ سنة 130 قبل الهجرة (497 م). - المصنف.

(3)

قال ابن كثير: "وأما الفوم فقد اختلف السلف في معناه، فوقع في قراءة ابن مسعود: وثومها بالثاء، وكذلك فسره مجاهد والربيع بن أنس وسعيد بن جبير. وقال ابن جرير الطبري: فإن كان ذلك =

ص: 1102

وعليه فقد نطق القرآن بلغة أهل يثرب دون لغة أهل مكة. ثم قال الجاحظ: "وأهل الأمصار إنما يتكلمون على لغة النازلة فيهم من العرب. ولذلك تجد الاختلاف بين أهل الكوفة والبصرة، والشام ومصر. [حدثني أبو سعيد عبد الكريم بن روح قال: ] قال أهلُ مكة لمحمد بن المناذر (الشاعر البصري) (1): ليست لكم معاشرَ أهل البصرة لغةٌ فصيحة، إنما الفصاحة لنا أهل مكة. فقال ابن المناذر: أما ألفاظُنا فأَحْكَى الألفاظ للقرآن، وأكثرُها له موافقة، [فضعوا القرآن بعد هذا حيث شئتم]. أنتم تسمون القِدْرَ بُرْمة، وتجمعون البُرمة على بِرام، ونحن نقول قِدْر ونجمعها على قُدُور، قال الله تعالى: {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13]. وأنتم تسمون البيت إذا كان فوق البيت عُلِّيَّةٌ وتجمعون هذا الاسم على عَلَالِي، ونحن نسميه غرفة ونجمعها على غُرُفات وغُرَف، وقال [الله تبارك] وتعالى: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)} [سبأ: 37]، وقال: {لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} [الزمر: 20]. وأنتم تسمون الطَّلْعَ الإِغْرِيض والكَافور، ونحن نسميه الطَّلع، قال الله تعالى: {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148)} [الشعراء: 148] ". (2)

ثم قد يكون أحدُ اللفظين مجهولًا في بعض القبائل، كما رُوي أن عبد الله بن مسعود أقرأ بعضَ العرب:{إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44)} [الدخان: 43، 44]، فقرأ العربي: طعام اليتيم، فقال ابن مسعود: الأثيم. فقال العربي: اليتيم.

= صحيحًا، فإنه من الحروف المبدلة كقولهم: وقعوا في عاثور شر وعافور شر، وأثافي وأثاثي، ومغافير ومغاثير، وأشباه ذلك مما تُقلب فيه الفاء ثاء والثاء فاء لتقارب مخرجيهما. . . وقال البخاري: وقال بعضهم: الحبوب التي تُؤكل كلها فوم". شاكر، أحمد محمد (اختصار وتحقيق): مختصر تفسير القرآن العظيم المسمى عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير (المنصورة/ مصر: دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1، 1424/ 2003)، ج 1، ص 119 - 120.

(1)

هو محمد بن مناذر اليربوعي بالولاء، شاعر كثير الأخبار والنوادر، كان عالِمًا باللغة والأدب، تفقه وروى الحديث. غلب اللهو والمجون ووصف بالزندقة، اتصل بالبرامكة ومدحهم. أخرج من البصرة لهجائه أهلها، وذهب إلى مكة وتنسك، وتوفي فيها سنة 198 هـ.

(2)

الجاحظ: البيان والتبيين، ج 1/ 1، ص 20 (وما بين الحاصرتين لم يورده المصنف، أما ما بين القوسين فزيادة منه).

ص: 1103

فأراد ابنُ مسعود أن يبين له فقال: الفاجر، فقرأ: طعام الفاجر". (1) وهذا يدل على أن العربِيَّ لم يكن يعرف الأثيم، فلذلك أَكْذَبَ سَمعَه، وتوهم أن ابنَ مسعود يريد اليتيم، وأنه لم يُحسِنْ الإفصاحَ عن اللفظة. وقد تكون إحدى اللفظتين أغلبَ على الأخرى، مثل المدية عند بعض العرب، فإنها أغلبُ من السكين، كما سيأتي.

وقد تساءل كثيرٌ من الصحابة عن معنى الأبِّ في قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31]. وسأل عمر عن معنى التخوف في قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47] حتى قال شيخٌ من هذيل: هذه لغتنا. التخوف: التنقص، وقد قال شاعرُنا أبو كبير:

تَخَوَّف الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكًا قَرِدًا

كَمَا تَخَوَّف عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ (2)

السبب الثالث: اختلاف نطق قبائل العرب لبعض الحروف، مثل قولهم: ذُرُّوح وذُرْنُوح، وقولهم: صِراط وسِراط وزِراط، وقو لهم: صَقَر وسَقَر، وزُفَّة (اسم للطائر المعروف)، وقولهم: سَاطَ وشَاطَ، بمعنى خَلَط، وقولهم: ادَّكَر واذَّكَر (3). وكما قال معظمُ العرب: بَقِيَ ورَضِيَ، وقالت طيِّئ: بَقَى ورَضَى. وكما قالوا: قَلَيْته أُقْلِيه

(1) أخرج أبو عبيد بسنده "أن ابن مسعود أقرأ رجلًا: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44)} [الدخان: 43، 44]، فقال الرجل: طعام اليتيم، فرددها عليه فلم يستقم بها لسانه، فقال أتستطيع أن تقول: طعام الفاجر؟ قال: نعم. قال: فافعل". الهروي، أبو عبيد القاسم بن سلام: كتاب فضائل القرآن، تحقيق مروان العطية وزميليه (دمشق/ بيروت: دار ابن كثير، بدون تاريخ)، ص 311 - 312.

(2)

سبق توثيق هذه القصة في مقال "المحكم والمتشابه" من القسم الثاني.

(3)

وقرئ بهما قوله تعالى: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)} في سورة القمر. "ومدكر أصله: مُذْتَكِر - مفتَعِل - من الذُّكْر بضم الذال، وهو التفكر في الدليل، فقُلِبت تاءُ الافتعال دالًا لتقارب مخرجيهما، وأُدغِم الذالُ في الدال لذلك. وقراءة هذه الآية مروية بخصوصها عن النبي صلى الله عليه وسلم". ابن عاشور، محمد الطاهر: تفسير التحرير والتنوير (تونس: دار سحنون/ القاهرة: دار السلام، 1997)، ج 12/ 27، ص 187. وانظر كذلك ج 6/ 12، ص 283.

ص: 1104

وقَلَيْته أقْلَاه في المضارع، وسَلَوته أسلوه وسَلَيْته أَسْلاه (1). وكما قالوا: جَدَث وجَدَف، وثُوم وفُوم، وقمّة الجبل وقُنّة الجبل، وتابوت وثَابوت (2).

قال المبرد في الكامل: "وبنو سعد بن زيد مناة من تميم يبدلون الحاء هاء، ولذلك قال النعمان بن المنذر لحَجْل بن نضلة: "أردت أن تَذِيمه فمدهته (يعني معاوية بن شكل)". (3) وقال رؤبة بن العجاج (4): "لله دَرُّ الغانياتِ المدَّهِ"، أراد

(1) صفحة 378 من الخصائص لابن جني. - المصنف. ابن جني: الخصائص، ج 1، ص 373.

(2)

انظر كلام أبي علي القالي في الأمالي في الحروف التي يبدل بعضها من بعض. الجزء 2 من أمالي أبي علي القالي - المصنف.

هذا وقد جاء هذا الكلام الذي أحال فيه المصنف على أبي علي القالي - ما عدا ذكر المصدر - في المتن ورأينا وضعه في الحاشية أولَى، وهو يشير إلى قوله:"اللغويون يذهبون إلى أن جميع ما أمليناه إبدال، وليس هو كذلك عند علماء أهل النحو؛ وإنما حروف الإبدال عندهم اثنا عشر حرفًا: تسعة من حروف الزوائد، وثلاثة من غيرها. فأما حروف الزوائد فيجمعها قولنا: اليوم تنساه، وهذا عمله أبو عثمان المازني. وأما حروف البدل فيجمعها قولنا: طال يوم أنجدته، وهذا أنا عملته. فالطاء تُبدل من التاء في افتعل إذا كانت بعد الضاد، نحو قولك: اضطهد. . ."، ثم ساق أمثلة على بقية الحروف. القالي، أبو علي إسماعيل بن القاسم بن عيذون: كتاب الأمالي، ومعه كتابا ذيل الأمالي والنوادر له وكتاب التنبيه على أبي علي في أماليه لأبي عبيد الله البكري الأندلسي، نشرة بعناية صلاح بن فتحي هلل وسيد بن عباس الجليمي (صيدا/ بيروت: المكتبة العصرية، 1427/ 2006)، ص 435.

(3)

أورد المصنف كلام المبرد بتصرف يسير، وسياقه أن المبرد قال بعد أن ساق بيتي أبي نواس:

مَا حطَّكَ الوَاشُونَ مِنْ رُتْبَةٍ

عِنْدِي وَلَا ضَرَّكَ مُغْتَابُ

كَأنَّما أثنَوْا وَلَمْ يَعْلَمُوا

عَلَيْكَ عِنْدِي بِالَّذِي عَابُوا

"وهذا المعنى عندي مأخوذٌ من قول النعمان بن المنذر لِحَجْل بن نضْلة، وقد ذكر معاويةَ بن شَكَلٍ، فقال: أبَيْتَ اللعن! إنه لقَعْوُ الأليتين، مقبَلُ النعلين، فحِجُ الفخذين، مشاءٌ بأقراءٍ، تباعُ إماءٍ، قتال ظباء. فقال النعمان: أردتَ أن تذيمه فمدهته". ثُم قال: "وقوله: فمدهته، يريد مدحته، فأبدل من الحاء هاءً، لقُرب المخرج. وبنو سعد بن زيد مناة بن تميم كذلك تقول، ولَخمٌ ومَنْ قاربها". ومعنى تذيمه: تعيبه، من الذام وهو العيب. الكامل في اللغة والأدب، ج 2، ص 113 - 114.

(4)

هو أبو محمد رؤبة بن العجاج - والعجاج لقب، واسمه أبو الشعثاء عبد الله - بن رؤبة البصري، التميمي، كان هو وأبوه رازجين مشهورين. "سمع أباه العجاج والنسابة البكري. روى عنه =

ص: 1105

المدح، وقال:"بَرَّاقُ أَصْلادِ الجبينِ الأَجْلَهِ"، وأراد الأجلح (1). وقال التبريزي في شرح ديوان الحماسة: أزد شنوءة يقلبون القاف جيمًا، قال الشنفرى:

وَلَوْ عَلِمَتْ جُعْسُوسُ أَنْسَابَ وَالِدِي

وَوَالِدِهَا ظَلَّتْ تَقَاصَرُ دُونَهَا

واسمها قُعسوس" (2).

ومن هذا قولُ العرب جَثَلْ بمعنى جزَلْ، قال العجاج (3): "قُرُونَ جَثْل وَارِدٍ

= يحيى القطان، والنضر بن شميل، وأبو عبيدة معمر بن المثنى، وأبو زيد النحوي، وغيرهم. وكان رأسًا في اللغة والشعر والرجز. كان أبوه قد سمع من أبي هريرة. قال خلف الأحمر: سمعت رؤبة يقول: ما في القرآن أعرب من قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94]. قال النسائي في رؤبة: ليس بالقوي. وقال غيره: توُفِّيَ سنة خمس وأربعين ومائة. ورؤبة بالهمز: قطعة من خشب يشعب بها الإناء، جمعها رئاب. والروبة بواو: خميرة اللبن. والروبة أيضًا: قطعة من الليل". الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان: سير أعلام النبلاء، تحقيق جماعة من العلماء بإشراف شعيب الأرنؤوط (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 11، 1417/ 1996)، ج 6، ص 162. وروي أنه لما مات رؤبة قال الخليل بن أحمد: "دفنا الشعر واللغة والفصاحة". ابن خلكان، أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق إحسان عباس (بيروت: دار صادر، 1414/ 1994)، ج 2، ص 304.

(1)

الشطران من قصيدة يمدح فيها الشاعر نفسه. ديوان رؤبة بن العجاج، جمع وترتيب وليم بن الورد البروسي تحقيق (الكويت: دار ابن قتيبة للطباعة والنشر والتوزيع، بدون تاريخ)، ص 165.

(2)

الخطيب التبريزي: شرح ديوان الحماسة، ج 1، ص 351. وقد ساق المصنفُ كلام الخطيب التبريزي بتصرف تقديمًا وتأخيرًا وإعادة ترتيب للألفاظ، وأصله: "قعسوس: لقب لها (أي الجارية السلامية التي قال فيها الشنفرى شعره)، وجَعسوس بلغة أزد شنوءة". وانظر البيت في ديوان الشنفرى، ص 78. وقد أورد محققه البيت بلفظ "قُعسوس" بدل "جعسوس".

(3)

هو أبو الشعثاء عبد الله بن رُؤبة بن لبيد بن صخر، وقد ترجم له الأصمعي ذاكرًا نسبه حتى مضر ابن نِزار بن مَعَد بن عدنان. سمي العجاج لقوله:"حَتَّى يَعُجَّ ثَخَنًا مَنْ عَجْعَجَا"، في البيت السادس والأربعين بعد المائة من الأرجوزة المذكورة في الحاشية التالية. ولد العجاج ونشأ في الجاهلية وفيها قال الشعر، ثم أسلم. كان العجاج من المعمرين حيث عاش إلى أيام عبد الملك بن مروان، توفي نحو سنة 90 هـ. يقال إنه أول من رفع الرجز وشبهه بالقصيد. وهو والد رؤبة بن العجاج الراجز المشهور.

ص: 1106

مُجَثَّلِ" (1). ومثل لثام ولفام، ورُضَاض بمعنى حطام العود، ورُفَاض بمعناه، وسَجَحَت، أي: سجعَت. وقالوا: سلحب وسلهب للطويل، وبنو فُقيم يبدلون الياء المشددة في آخر الكلمة جيمًا فيقولون في العشي العشجّ، وفي عليّ علجّ.

السبب الرابع: تخفيفُ بعض قبائل العرب بعضَ الكلمات، فتصير الكلمةُ بالتخفيف ككلمة أخرى مرادفة لمعنى الكلمة قبل التخفيف، كما قالوا حِظَة بمعنى حُظْوة، قالت ابنة الخُس:"إِنْ هِيَ إِلَّا حِظَةٌ أَوْ تَطْلِيق"(2). وفي شرح الحماسة للتبريزي أن أزد شنوءة يقولون: كاك بمعنى كذلك (3). قلت: وتقول العرب: هَيْدَ مَا لَكَ، وكلاهما اختصار لقولهم: يا هذا مَا لَكَ، وقالوا: علّ بمعنى لعل، وكي بمعنى كيف، وكذلك قالوا: سِوى وسُوى وسُواء، وقالوا: أكد ووكد. وحاشا وحاشَ وحشَى وإما وإيما، وعابٌ وعَيْبٌ، وذامٌ وذَمٌّ.

(1) هو عجز البيت الخامس والأربعين من الأرجوزة رقم 12، وتمام البيت:

تَكْسُو الشَّراسِيفُ إِلَى المُجَدَّلِ

قُرُونَ جَثلٍ وَارِدٍ مُجَثَّلِ

ديوان العجاج (عبد الله بن رؤبة)، رواية الأصمعي وشرحه، تحقيق عبد الحفيظ السطلي (دمشق: مكتبة أطلس، 1971)، ج 1، ص 226.

(2)

ذكر ابن منظور عن الجوهري: "والهاء قد تكون كناية عن الغائب والغائبة، تقول: ضربه وضربها، وهو للمذكر، وهي للمؤنث. وإنما بنوا الواو في هو والياء في هي على الفتح ليفرقوا بين هذه الواو والياء التي هي من نفس الاسم المكنى وبين الواو والياء اللتين تكونان صلة في نحو قولك: رأيتهو ومررت بهي؛ لأن كل مبني فحقه أن يبنى على السكون، إلا أن تعرض علةٌ توجب الحركة، والذي يعرض ثلاثة أشياء: أحدها اجتماع الساكنين مثل كيف وأين، والثاني كونه على حرف واحد مثل الباء الزائدة، والثالث الفرق بينه وبين غيره مثل الفعل الماضي يبنى على الفتح؛ لأنه ضارع بعضَ المضارعة ففرق بالحركة بينه وبين ما لم يضارع، وهو فعل الأمر المواجه به نحو افعل. وأما قول الشاعر:

مَا هِيَ إِلَّا شَرْبَةٌ بِالحَوْأَبِ

فَصَعِّدَي مِنْ بَعْدِهَا أَوْ صَوِّبِي

وقول بنت الحمارس:

هَلْ هِيَ إِلَّا حِظَةٌ أَوْ تَطْليقْ

أَوْ صَلَفٌ منْ بين ذاكَ تَعْليقْ

فإن أهل الكوفة قالوا: هي كناية عن شيء مجهول، وأهل البصرة يتأولونها القصة". لسان العرب، ج 15 (باب حرب الألف اللينة فصا الهاء)، ص 479.

(3)

الخطيب التبريزي: شرح ديوان الحماسة، ج 1، ص 351.

ص: 1107

السبب الخامس: ما دخل في لغات العرب من الألفاظ الأعجمية، وهي ما يُسمَّى بالمعرب، وهي كثيرة جدًّا في العربية. وقد قيل: إن القرآن اشتمل على ما يُنيف على مئة كلمة من المعرب، وفي عد بعضها تسامح. وقد استوفاها السيوطي في الإتقان، مثل القسطاس للعدل من الرومية قاله مجاهد، ومثل الجُلّ اسم للورد (من الفارسية) في قول الأعشى:

وَشَاهِدُنا الجُلُّ وَاليَاسَمِيـ

ـنُ والمُسْمِعَاتُ وقُصَّابها

ومثل بستان (الحائط) بالفارسية؛ فإنه مركَّبٌ من كلمتي "بو" بمعنى فاكهة (1)، و"سَتان" بمعنى موضع. قال الجاحظ في البيان:

"ألا ترى أن أهلَ المدينة لما نزل فيهم ناسٌ من الفرس في قديم الدهر، علقوا بألفاظ من ألفاظهم، ولذلك يسمون البِطِّيخ الخِرْبِز، ويسمون السَّميط الزَّرْدَق، ويسمون المصوص المزوز، ويسمون الشِّطْرَنْج الإشترنج إلى غير ذلك من الأسماء. وكذلك أهلُ الكوفة يسمون المسحاة بال، وبال بالفارسية. . . ويسمي أهلُ الكوفة الحَوْك (أي: البقلة الحمقاء) الباذروج، والباذروج بالفارسية، والحوك كلمة عربية. وأهلُ البصرة إذا التقت أربع طرق يسمونها مربعة، ويسميها أهلُ الكوفة الجهار سُوك؛ والجهار سوك بالفارسية. ويسمون السوق أو السُّوَيْقة وازار؛ والوازار بالفارسية، ويسمون القِثَّاء خيارًا والخيار فارسية، ويسمون المجدوم وَيْذِى بالفارسية". (2)

(1) البستان هو الحديقة، وأصله بُوسْتان بالفهلوية (bostan) بالضمة غير المشبعة، وهو مركب من (بو) أي: الرائحة، وستان للاحقة تفيد الزمان والمكان، فمعنى بستان: موضع الرائحة الطيبة. المعرب للجوالقي ص 166، حقق كلماته د. ف. عبد الرحيم، دار القلم، دمشق، ط 1، 1410 هـ/ 1990 م.

(2)

الجاحظ: البيان والتبيين، ج 1/ 1، ص 20 - 21. هذا وقد أورد المصنف كلامَ الجاحظ مختصرًا وفضلنا إيراده كاملا.

ص: 1108

السبب السادس: كثرة المجاز في كلام شعراء العرب حتى يشيع شيوعًا يقربه من الحقيقة فتحدث بسبب ذلك ألفاظ مرادفة في المعنى المراد للألفاظ الحقيقية، وينسى منها اعتبار العلاقة التي أوجبت المجاز بها، فالمجاز مفتاح باب المترادف.

فإن الشاعر يطلق لفظ معنى على معنى آخر على طريقة المجاز والمرسل والاستعارة، فيعجب السامعين فينطقون به لظرافته، حتى إذا شاع صار لفظًا جديدًا يعبر عن المعنى المقصود. ومثال هذا إطلاقُ لفظ البكر على السحابة، وإطلاق لفظ الحرة على كثيرة الماء في قول عنترة:

جَادَتْ عَلَيْهِ كُلُّ بِكْرٍ حُرَّةٍ

فَتَرَكْنَ كُلَّ قَرَارَةٍ كَالدِّرْهَمِ (1)

فإنك لا تشك أن كلا اللفظين على سبيل المجاز بالاستعارة؛ لأن البكر حسنة المنظر والحرة كثيرة الولادة؛ لأنهم كانوا يتجنبون استيلاد الإماء. وقد أطلق كعب بن زهير - كما تقدم - لفظ الحرة على أذن الناقة في قوله:

قَنْواءُ في حُرَّتَيها للبَصير بها

عِتقٌ مبِينٌ وفي الخَدَّينِ تسهيلُ

السبب السابع: التوسع في الاستعمال ثم اشتهاره. من ذلك إطلاق الوصف المشهور بدون ذكر الموصوف، نحو إطلاق المدام والمدامة على الخمر؛ لأن أصل المدام أنه وصف، أي الذي أديم في الدن حتى تعتق، ثم شاعت حتى صارت اسْمًا من أسماء الخمر. ومن ذلك إطلاقُ اسم الشيء على ما يشتمل على معناه، مثل المنحة هي في الأصل الناقة أو الشاة يعطيها الموسرُ من أصحاب الأنعام للفقير يشرب لبنها ثم يردها، فكثر استعمالُها حتى صارت المنحةُ بمعنى مطلق العطية. قال ذلك أبو عبيدة في تفسير قول النابغة:

(1) سبق توثيق البيت والإشارة إلى اختلاف رواياته.

ص: 1109

إِنّي أتَمِّمُ أَيْسَارِي وَأَمْنَحُهُم

مَثْنَى الأَيَادِي، وَأَكْسُو الجَفْنَةَ الأُدُمَا (1)

ومن ذلك إهمالُ العرب ما بين اللفظين اللذين من جنس واحد من الفروق وإطلاقهما على معنى متساو، مثاله أن ثمر الأراك إذا كان رطبًا يُسَمَّى البَرَم، فإذا أدرك سُمِّيَ المَرد، فإذا يبس سميَ الكَبَاث. مع أنك تجدهم يطلقون أحدَ هذه الأسماء على حالة غيره، كقول النابغة:"ولا تبيعُ بِجَنْبَيْ نخلَةَ البَرَما"(2)، والبَرَم لا يأكله الناسُ إلا إذا صار كباثًا، كما ورد في حديث سعد بن أبي وقاص (3). وقد استعمل طرفة بن العبد في قصيدته اسمين من هذه الأسماء في معنى واحد، إذ قال:"وَفِي الحَيِّ أَحْوَى ينْفُضُ المَرْدَ شَادِنٌ"، وقال:"تَنَاولُ أطْرَافَ البَرِيرِ وَتَرْتَدِي"(4).

(1) ديوان النابغة الذبياني، ص 63 (نشرة محمد أبو الفضل إبراهيم) وص 218 (نشرة ابن عاشور). والبيت من قصيدة من بحر البسيط.

(2)

والبيت من القصيدة نفسها المشار إليها في الحاشية السابقة، وتمامه:

لَيْسَتْ مِنَ السُّودِ أَعْقَابًا إِذَا انْصَرَفَتْ

وَلَا تَبِيعُ بِجَنْبَيْ نَخْلةَ البُرَمَا

المصدر نفسه، ص 61.

(3)

الصحيح حديث ابن مسعود، فعن أبي الطفيل أنه "ذهب ابن مسعود وناس معه إلى كباث (الغض من ثمر الأراك) فصعد ابنُ مسعود شجرة ليجتني منها، فنظروا إلى ساقيه فضحكوا من حموشتهما (دقتهما) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أي شيء تضحكون؟ "، قالوا: من حموشة ساقي ابن مسعود! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والله إنهما لأثقل في الميزان من أحد". ثم ذهب كل إنسان فاجتنى فحلًا يأكله، وجاء ابن مسعود بجنائه قد جعله في حجره، فوضعه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال:

هَذَا جَنَايَ وَخِيَارُهُ فِيهِ

وَكُلُّ جَانٍ يَدُهُ إِلَى فِيهِ

فأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم". قال الحافظ الهيثمي: "رواه الطبراني، وفيه محمد بن عُبَيد الله العرزمي وهو متروك". الهيثمي، نور الدين علي بن أبي بكر: بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، تحقيق عبد الله محمد الدرويش (بيروت: دار الفكر، 1414/ 1994)، "كتاب المناقب"، الحديث 15564، ج 9، ص 473 - 474.

وقد ورد في حديث جابر بن عبد الله، انظر صحيح البخاري (3406) و (5453)، ومسلم (2050).

(4)

البيتان هما السادس والسابع من المعلقة، وتمامهما: =

ص: 1110

السبب الثامن: وهو نادر، ادعاءُ بعضِ علماء اللغة معانِيَ كلماتٍ رادفت بها كلماتٍ أخرى. مثال ذلك ما حكاه الخليل في كتاب "العين" عن بعض أهل اللغة في قوله تعالى:{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37]، أن العجل الحمأة، قال: ولم يستشهد عليه (1). قال الشريف المرتضى في أماليه: "كما قال تعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)} [السجدة: 7]، ووجدنا قومًا يطعنون في هذا الجواب، ويقولون ليس بمعروف أن العجل هو الطين". (2)

= وَفِي الحَيِّ أَحْوَى ينْفُضُ المَرْدَ شَادِنٌ

مُظَاهِرُ سِمْطَيْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدِ

خَذُولٌ تُرَاعِي رَبْرَبًا بِخَمِيلَةٍ

تَنَاولُ أطْرَافَ البَرِيرِ وَتَرْتَدِي

ديوان طرفة بن العبد، ص 26.

(1)

ونص كلامه: "وبعضُهم يُفسِّرُ قول الله: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 27]، أنه الطين، والله أعلم". الفراهيدي، الخليل بن أحمد: كتاب العين مرتَّبًا على حروف المعجم، ترتيب وتحقيق: عبد الحميد هنداوي (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1424/ 2003)، ج 3، ص 104. وذكر ابن منظور: "وقيل: العجل ههنا [يعني في الآية] الطين والحمأة، وهو العجلة أيضًا، قال الشاعر:

وَالنَّبْعُ فِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ مَنْبَتُهُ

وَالنَّخْلُ يَنْبُتُ بَيْنَ المَاءِ وَالعَجَل

قال الأزهري: وليس عندي في هذا حكاية عمَّن يُرجَع إليه في علم اللغة". لسان العرب، ج 11، ص 429.

(2)

جاء كلام المرتضى في سياق تأويل قوله تعالى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37]، حيث ذكر عدة أوجه في تأويلها خمسة أوجه جاء فيها قوله: "وخامسها: ما أجاب به بعضُهم من أن العَجَلَ الطين، فكأنه تعالى قال: خُلِق الإنسان من طين، كما قال تعالى في موضع آخر:{وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)} [السجدة: 7]، واستشهد بقول الشاعر:

وَالنَّبْعُ يَنْبُتُ بَيْنَ الصَّخْرِ ضَاحِيَة

وَالنَّخْلُ يَنْبُتُ بَيْنَ المَاءِ وَالعَجَل

ووجدنا قومًا يطعنون في هذا الجواب، ويقولون: ليس بمعروف أن العَجَلَ هو الطين". الشريف المرتضى، علي بن الحسين الموسوي العلوي: غرر الفوائد ودرر القلائد أو أمالي المرتضى، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (بيروت: المكتبة العصرية للطباعة والنشر، 2004)، ج 1، ص 444 - 445.

ص: 1111

وأنا في زمرة الطاعنين على هذا التفسير، ولا أرى حَمَلَهم عليه إلا الولعُ بمقابلة الآي بعضها ببعض، فلما وجدوا آيةً فيها ذكر "خلق الإنسان" وفيها وجودُ "من" داخلة على ما خلق من الإنسان، وهي:{وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)} [السجدة: 7]، حملوا عليها آيةً صادفَ أن كانت مثلها، وهي:{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37].

وكأني بهؤلاء لو قيل لهم: ما المرادُ بأحسن تقويم في قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)} [التين: 4]؟ لقالوا، هو بطن الأم؛ لقوله تعالى:{يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [الزمر: 6]، إذ نجد في الآيتين خلقًا وحرف "في" داخلة على شيء، فيجب أن يكون دخولُها في الموضعين متحدا.

السبب التاسع: ضرورةُ الشعر، وبخاصة القافية؛ فإن الشعراء تسامَحوا لأنفسهم في تغيير أحكام بعض الكلمات، وتسامح لهم العربُ في ذلك (1). فربما غيروا الكلمةَ بحكم الضرورة، فصادف ذلك التغييرُ إحداثَ حسن في الكلمة يبعث الناسَ على استعمال أمثاله كثيرًا في الشعر، ثم يصير شائعًا في الكلام نظمًا ونثرًا، وهذا مثلُ كلمة عَلَا المرادفة لعلو، فقد قال امرؤ القيس:"كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ"(2) للضرورة، وقال غيره:

(1) انظر باب ما يحتمل في الشعر من كتاب سيبويه، وانظر الضرائر وما يجوز للشاعر. - المصنف. هذه الإحالة وردت في المتن، ورأينا وضعها في الحاشية أولَى. سيبويه، عمرو بن عثمان بن قنبر: الكتاب، نشرة بعناية إميل بديع يعقوب (بيروت: دار الكتب العلمية، 1420/ 1999)، ج 1، ص 53 - 65. وأما الكتاب الثاني لعل المصنف يقصد به كتاب "الضرائر وما يسوغ للشاعر دون الناثر" للعلامة محمود شكري الآلوسي، وقد شرحه وعلق عليه محمد بهجت الأثري وطبع قديما بالقاهرة سنة 1341 هـ، ثم أعيد طبعه حديثًا بواسطة دار الآفاق العربية بالقاهرة سنة 1998.

(2)

وهو عجز البيت رقم 53 من معلقته. ديوان امرؤ القيس، ص 54.

ص: 1112

وقد حَدَوْناها بِهَيْدٍ وهَلَا

حَتّى تَرَى أسفلَها صارَ علَا (1)

السبب العاشر: ما نشأ من اختلاط العرب بعد الإسلام في الفتوح، فكثر بذلك المترادف، إذ زِيدَ في دخول المعرب من الفارسية والرومية شيءٌ كثير، وإذ زيد ما دخل من لغات أهل الأمصار ما لم يكن يعْلقُ بمسامع العرب، مثل الدراقن للتفاح، والقط للهر، وعَلُو بمعنى علَى، كل ذلك في لغة أهل بغداد.

ولقد اقتحموا فأدخلوا الكلماتِ الفارسية والحضرية في الشعر قبل أن يسبق تعريبُها، كما قال العُمانِيُّ (2) في رجز يمدح الخليفةَ الرشيد:

مَنْ يَلْقَهُ مِنْ بَطَلٍ مُسْرَنْدِ فِي

زَغْفَةٍ مُحْمَكَةٍ بِالسَّرْدِ

يَجُولُ بَيْنَ رَأْسِهِ وَالكَرْدِ

لمَّا هَوَى بَيْنَ غِيَاضِ الأُسْدِ

وَصَارَ فِي كَفِّ الهِزَبْرِ الوَرْدِ

آلَى يَذُوقُ الدَّهْرَ آبَ سَرْدِ (3)

(1) هذا الرجز مما أنشده أبو عمرو بن العلاء للقتال الكلابي. الجوهري، إسماعيل بن حماد: الصحاح، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار (بيروت: دار العلم للملايين، ط 4، 1990)، ج 2، ص 486 (فصل الهاء من باب الدال). وفيه "حتى يُرى أسفلُها" بالبناء للمجهول.

(2)

هو أبو العباس محمد بن ذُؤيب الفُقيميُّ، لم يكن من أهل عُمان وإنما قيل له عماني؛ لأن دُكينًا الراجز نظر إليه وهو يسقي الإبل ويرتجز فرآه غُليِّمًا مصفرَّ الوجه مطحولًا فقال: من هذا العمانيُّ؟ فلزمه الاسم. وإنما نسبه إلى عُمان؛ لأن عمان وبيئةٌ وأهلها مصفرةٌ وجوههم، مطحولون، وكذلك البحران، قال الشاعر:

مَنْ يَسْكُنِ البَحْرَيْنِ يَعْظُمْ طِحَالُهُ

وَيُغْبطْ بِمَا فِي بَطْنِهِ وَهوَ جَائِعُ

الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر: كتاب الحيوان، تحقيق عبد السلام محمد هارون (بالقاهرة: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، ط 2، 1385/ 1965)، ج 4، ص 139؛ ابن قتيبة الدينوري، أبو محمد عبد الله بن مسلم: الشعر والشعراء أو طبقات الشعراء، تحقيق مفيد قميحة ومحمد الأمين الضناوي (بيروت: دار الكتب العلمية، 1426/ 2005)، ص 454.

(3)

الجاحظ: البيان والتبيين، ج 1/ 1، ص 102 - 103. والمُسْرَنْد: الغالب المتفوق، والزَّغْفَة: الدرع التي تسمح للمحارب بالتحرك، والهِزَبْر الوَرْد: الأسد ذو الجلد الأحمر، وآب سَرْد: الماء البارد.

ص: 1113

فالكرد اسم العنق بالفارسية. وقال غيره:

وَتَرْمِينِي حَبِيبَةُ بِالدُّرَاقِنْ

وَتَحْسبُنِي حَبِيبَةُ لَا آرَاهَا

وقال آخر:

سَلُورٌ فِي القِدْرِ وَيْلِي عَلُوهُ

جَاءَ القِطُّ فَأَكَلَهُ وَيْلِي عَلُوهُ

أي: عليه (1).

السبب الحادي عشر: القلب في الكلمة، وهو يقع لبعض قبائل العرب، كقولهم للأصلع أصعل. وحكى ابن جني عن عيسى بن عمر، قال: "سمعت ذا الرمة ينشد:

وَظَاهِرْ لَهَا مِنْ يَابِسِ الشَّخْتِ وَاسْتَعِنْ

عَلَيْهَا الصَّبَا وَاجْعَلْ يَدَيْكَ لَهَا سِتْرَا

(1) لهذا البيت والذي قبله قصةٌ طريفة أوردها الأصفهاني في خبر معبد بن وهب المغني (مولَى العاص بن وابصة المخزومي): "قال إسحاق: قال معبد: أرسل إلي الوليد بن يزيد، فأُشْخِصتُ إليه. فبينا أنا يومًا في بعض حمامات الشام إذ دخل عليَّ رجلٌ له هيبة ومعه غلمان له، فأطلي واشتغل به صاحبُ الحمام عن سائر الناس. فقلت: والله لئن لم أطلع هذا على بعض ما عندي لأكونن بمزجر الكلب؛ فاستدبرته حيث يراني ويسمع مني، ثم ترنمت، فالتفت إلي وقال للغلمان: قدموا إليه جميع ما ها هنا، فصار كلُّ ما بين يديه عندي. قال: ثم سألني أن أسير معه إلى منزله فأجبته، فلم يدعْ من البر والإكرام شيئًا إلا فعله، ثم وضع النبيذ، فجعلت لا آتِي شيئًا إلا خرجتُ إلى ما هو أحسنُ منه، وهو لا يرتاح ولا يحتفل لِمَا يرى مني. فلما طال عليه أمري قال: يا غلام، شيخنا شيخنا، فأُتِي بشيخ، فلما رآه هشَّ إليه، فأخذ الشيخُ العودَ ثم اندفع يغني:

سَلُورٌ فِي القِدْرِ وَيْلِي عَلُوهُ

جَاءَ القِطُّ فَأَكَلَهُ وَيْلِي عَلُوهُ

قال معبد: فجعل صاحب المنزل يصفق ويضرب برجله طربًا وسرورًا، قال: ثم غناه:

وَتَرْمِينِي حَبِيبَةُ بِالدُّرَاقِنْ

وَتَحْسبُنِي حَبِيبَةُ لَا آرَاهَا

السلور: السمك الجري بلغة أهل الشام. الدراقن: اسم الخوخ بلغة أهل الشام. فكاد الشيخ أن يخرج من جلده طربًا، قال: وانسللتُ منهم، فانصرفت ولم يعلم بي، فما رأيتُ مثلَ ذلك غناءً أضيع، ولا شيخًا أجهل! " كتاب الأغاني (نشرة القاهرة)، ج 1، ص 28 - 29؛ الأغاني (نشرة الحسين)، ج 1/ 1، ص 48 - 49.

ص: 1114