المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌متن المقدمة الأدبية - جمهرة مقالات ورسائل الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور - جـ ٣

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌المِحْوَر الرَّابعفِي اللُّغَةِ وَالأَدَبِ

- ‌الفَرْع الأَوّلبحُوث وَتحقيقات لُغويَّة

- ‌اللفظ المشترك في اللغة العربية

- ‌الأسباب التي قضت بوقوع المشترك في اللغة:

- ‌محاولة العرب إيجاد فروق بين الألفاظ المشتركة

- ‌أثر المشترك في التخاطب:

- ‌وسائل علاج الأثر السيئ للمشترك:

- ‌كيفية استعمال المشترك:

- ‌مثال من المشترك هو أغرب تصرفاته:

- ‌المترادف في اللغة العربية

- ‌المبحث الأول: في ما هو الترادف وتحقيقه:

- ‌المبحث الثاني: هل المترادف واقع في اللغة العربية

- ‌معنى الوضع:

- ‌مذاهب العلماء في إثبات المترادف:

- ‌المبحث الثالث: أسباب وقوع الترادف في اللغة:

- ‌المبحث الرابع: فوائد المترادف في اللغة:

- ‌التحذير من الغفلة عن الفروق بين الكلمات:

- ‌عطف أحد المترادفين على الآخر:

- ‌فرق لغوي مغفول عنه: "لا ضرر ولا ضرار

- ‌لفظ "كل" حقيقة في الكثرة أيضًا مثل الشمول

- ‌قولهم: "كان مما يفعل كذا

- ‌[تقديم]

- ‌المقصد:

- ‌تذييل:

- ‌الاقتراح:

- ‌صوغُ "مفعلة" من أسماء الأعيان الثلاثية الأحرف مما وسطُه حرفُ علة

- ‌الصوت المجسَّد، تقفية وتأييد

- ‌مراجعة الأستاذ إبراهيم مصطفى:

- ‌جواب المصنف:

- ‌الفَرْعَ الثَّانِيدِراسَات فِي عُلوم البَلَاغَة

- ‌الجزالة

- ‌موجز البلاغة

- ‌[استهلال: ] هذا موجز علم البلاغة:

- ‌مقدمة

- ‌[البلاغة]

- ‌تاريخ علم البلاغة:

- ‌فن المعاني:

- ‌باب الإسناد:

- ‌1 - عوارض الإسناد وأحواله:

- ‌2 - عوارض أحوال المسند إليه:

- ‌3 - عوارض أحوال المسند

- ‌4 - عوارض أحوال متعلقات الفعل:

- ‌القصر

- ‌الإنشاء:

- ‌ الوصل والفصل

- ‌عطف الإنشاء على الخبر وعكسه:

- ‌الإيجاز والإطناب والمساواة:

- ‌فن البيان

- ‌التشبيه

- ‌الحقيقة والمجاز:

- ‌الكناية:

- ‌تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر

- ‌فن البديع

- ‌ملاحق موجز البلاغة

- ‌1 - تقريض الكتاب بقلم شيخ الإسلام الحنفي

- ‌2 - قرار النظارة العلمية

- ‌‌‌أصول الإنشاءوالخطابة

- ‌أصول الإنشاء

- ‌[استهلال]

- ‌مقدمة

- ‌كيفية الإنشاء للمعنى

- ‌مثال للتمرين:

- ‌أساليب الإنشاء:

- ‌القسم الأول: [الإنشاء] المعنوي

- ‌تعريف المعنى وتقسيمه

- ‌صفات المعنى

- ‌طرق أخذ المعنى

- ‌ترتيب المعاني وتنسيقها وتهذيبها

- ‌أخذ النتائج من المعاني

- ‌مقامات الكلام

- ‌القسم الثاني: [الإنشاء] اللفظي

- ‌أحوال الألفاظ المفردة

- ‌أحوال الألفاظ المركبة

- ‌تمرين

- ‌السجع والترسل

- ‌التمرن على الإجادة

- ‌[خاتمة]

- ‌فنُّ الخطابة

- ‌ما هي الخطابة

- ‌منافع الخطابة

- ‌أصول الخطابة

- ‌ الْخَطِيبَ

- ‌[عيوب الخطابة]

- ‌الخطبة

- ‌التدرب بالخطابة

- ‌الفَرْعُ الثَّالِثدِرَاسَات فِي الأَدَب والنَّقْد

- ‌شرح المقدمة الأدبية لشرح الإمام المرزوقي على ديوان الحماسة لأبي تمام

- ‌متن المقدمة الأدبية

- ‌شرح المقدمة الأدبية

- ‌[تقديم]

الفصل: ‌متن المقدمة الأدبية

‌شرح المقدمة الأدبية لشرح الإمام المرزوقي على ديوان الحماسة لأبي تمام

(1)

‌متن المقدمة الأدبية

(2)

الحمد لله خالق الإنسان متميزًا بما علمه من التبين والبيان، وصلى الله على أفضل من صدع بأمره وزجْره، داعيًا وناهيًا، وعلى الطاهرين من آله وسلم.

(1) نشر الشيخ ابن عاشور شرحَه لمقدمة المرزوقي ابتداءً منجَّمًا سبعة نجوم بعنوان: "مقدمة المرزوقي لشرحه لحماسة أبي تمام: شرح وضبط"، في مجلة المجمع العربي العلمي بدمشق: المجلدات: 29: 1373/ 1954 (العدد 3، ص 387 - 595؛ العدد 4، ص 544 - 552)؛ 30: 1374/ 1955 (العدد 1، ص 71 - 86؛ العدد 2، ص 281 - 287؛ العدد 3، ص 411 - 426؛ العدد 4، ص 572 - 589)؛ 31: 1375/ 1956 (العدد 1، ص 59 - 76)، على التوالي حسب الأرقام المثبتة قبل كلِّ نجم. ثم نشرته سنة 1377 هـ دارُ الكتب الشرقية بتونس في سِفْر واحد (من 145 صفحة) تحت عنوان "شرح المقدمة الأدبية لشرح الإمام المرزوقي على ديوان الحماسة لأبي تمام"، وأعادت نشرَه بالعنوان نفسه الدارُ العربية للكتاب (تونس/ ليبيا: 1398/ 1978) تصويرًا عن نشرة الشرقية. وبالمقابلة الدقيقة بين السفر والنجوم تبين أن المصنفَ قد أجرى تعديلاتٍ مهمة في مواضع عدة: من إعادة ترتيب، وحذف جزئيات، وتدراك مسائل، وإفاضة تحليل، وإضافة تفاصيل. ولذلك اعتمدنا نصَّ السفر باعتباره ممثلًا لما انتهى إليه المصنفُ في شرحه لنص المرزوقي، مع الاحتفاظ بالتقسيم الذي نُشر عليه الشرح في مجلة مجمع دمشق، كما أثبتنا في أوله المقدمة التي وضعها المصنف بين يدي الشرح في صورته الأولى بالمجلة لما لها من قيمة تاريخية تخص علاقته بمعاصريه من العلماء والباحثين. هذا وقد صدرت عن مكتبة دار المنهاج بمدينة الرياض سنة 1431 هـ نشرةٌ محققة لهذا الشرح بعناية ياسر بن حامد المطيري، اعتمد فيها بصورة خاصة على نشرتي الشرقية والعربية، فخدم الكتابَ خدمةً جليلة، وقد أفدنا من ضبطه وتعليقاته في مواضع.

(2)

أثبتنا نصَّ مقدمة الإمام المرزوقي لشرحه على ديوان الحماسة، وضبطناه بالاعتماد على تحقيق الأستاذ عبد السلام هارون، وسنثبت ما بينه وبين النسخ التي اعتمد عليها المصنف من اختلاف. وإنما قصدنا بذلك أن نجعل النصَّ الكامل للمقدمة بين يدي القارئ جملة واحدة قبل الولوج إلى شرح الشيخ ابن عاشور له وتعليقاته عليه.

ص: 1373

وبعد، فإنك جَارَيْتَنِي - أطال اللهُ بقاءَك في أشمل سعادة، وأكمل سلامة، لما رأيتني أقصُر ما أستفضله من وقتي، وأستخلصه من وُكدي، على عمل شرح للاختيار المنسوب إلى أبي تمام حبيب بن أوس الطائي، المعروف بكتاب "الحماسة" - أمرَ الشعر وفنونَه، وما قال الشعراءُ في الجاهلية وما بعدها، وفي أوائل أيام الدولتين وأواخرها من الرفعة به، إذ كان الله عز وجل قد أقامه للعرب مقامَ الكتب لغيرها من الأمم، فهو مستودعُ آدابها، ومستَحفَظُ أنسابها، ونظامُ فخارها يوم النفار، وديوانُ حجاجها عند الخصام.

ثم سألتَني عن شرائط الاختيار فيه، وعمَّا يتميز به النظمُ عن النثر، وما يُحمد أو يُذَمُّ من الغلو فيه أو القصد، وعن قواعد الشعر التي يجب الكلام فيها وعليها، حتى تصير جوانبُها محفوظةً من الوهن، وأركانها محروسة من الوهي؛ إذ كان لا يُحكم للشاعر أو عليه بالإساءة أو بالإحسان إلا بالفحص عنها، وتأمّل مأخذه منها، ومدى شأوه فيها، وتمييز المصنوع مما يحوكه من المطبوع، والأَتِيّ المستسهل من الأبِيَّ المستنكَر.

وقضيتَ العجبَ كيف وقع الإجماعُ من النقاد على أنه لم يتفقْ في اختيار المقطوعات أنقى مما جمعه، ولا في اختيار المقصَّدات أَوْفَى مما دوّنه المفضّلُ ونقدَه.

وقلتَ: إن أبا تمام معروفُ المذهب فيما يقرضه، مألوفُ المسلك بنظمه، نازعٌ في الإبداع إلى كل غاية، حاملٌ في الاستعارات كلَّ مشقة، متوصِّل إلى الظَّفر بمطلوبه من الصنعة أين اعتسف وبما عثر، متغلغلٌ إلى توعير اللفظ وتغميض المعنى أنّى تأتّى له وقَدَر. وهو عادلٌ فيما انتخبه في هذا المجموع عن سلوك معاطِفِ ميدانه، ومرتضٍ ما لم يكن فيما يصوغه في أمره وشانه. فقد فَلَيْتُه، فلم أجدْ فيه ما يوافق ذلك الأسلوبَ إلا اليسير. ومعلومٌ أن طبعَ كلِّ امرئ - إذا ملك زمامَ الاختيار - يجذبه إلى ما يستلذُّه ويهواه، ويصرفه عمَّا ينفر منه فلا يرضاه.

وزعمتَ - بعد ذلك أَجْمَعَ - أنك مع طول مجالستِك لجهابذة الشِّعر والعلماء بمعانيه، والمبَرِّزين في انتقاده، لم تقفْ من جهتهم على حدٍّ يؤديكَ إلى المعرفة بجيِّدِه

ص: 1374

ومتوسِّطِه ورديئه، حتى تُجرِّد الشهادةَ في شيء منه، وتبُتَّ الحكمَ عليه أو له آمنًا من المجاذبين والمدافعين. بل تعتقد أن كثيرًا مما يستجيزه زيد يجوز أن لا يطابقه عمرو، وأنه قد يُسْتَحْسَنُ البيتُ ويُثْنَى عليه، ثم يُستَهْجَنُ نظيرُه في الشبه لفظًا ومعنى حتى لا مخالفةَ، فيُعرَضُ عنه، إذْ كان ذلك موقوفًا على استحلاء المستحلي واجتواء المجتوي، وأنه كما يُرزق الواحدُ في مجالس الكبار من الإصغاء إليه والإقبال عليه، ما يُحرم صنوُه وشبيههُه، مع أنه لا فضيلةَ لذلك ولا نقيصةَ لهذا إلا ما فاز به من الجَدِّ عند الاصطفاء والقَسْم.

وقلتَ أيضًا: إني أتمنى أن أعرفَ السببَ في تأخُّر الشعراء عن رتبة الكُتَّاب البلغاء، والعذرَ في قلة المترسِّلين وكثرة المُفْلِقِين، والعلةَ في نباهة أولئك وخمول هؤلاء، ولماذا كان أكثرُ المترسِّلين لا يُفْلِقُون في قَرْض الشعر، وأكثرُ الشعراء لا يَبْرعون في إنشاء الكتب؟ حتى خُصَّ بالذكر عددٌ يسير منهم، مثلُ إبراهيم بن العباس الصولي، وأبي علي البصير، والعَتّابي، في جمعهم بين الفنَّيْن واغترَازِهم ركابَ الظَّهْرَيْن. هذا ونظامُ البلاغة يتساوَى في أكثره المنظومُ والمنثور.

وأنا - إن شاء الله وبه الحولُ والقوة - أُورد في كل فصل من هذه الفصول ما يحتمله هذا الموضع، ويمكن الاكتفاءُ به، إذ كان لتقصِّي المقال فيه موضعٌ آخر، من غير أن أنصِبَ لما تُصَوِّرُه النعوتُ الأمثلةَ، تفاديًا من الإطالة؛ لأنه إذا وضح السبيلُ وقعت الهدايةُ بأيسر دليل، والله عز وجل الموفِّق للصواب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

اعْلَمْ أنَّ مذاهبَ نُقَّاد الكلام في شرائط الاختيار مختلفة، وطرائقَ ذوي المعارف بأعطافها وأردافها مفترقة، وذلك لتفاوت أقدار مَنادحِها على اتساعها، وتنازُحِ أقطار مَظَانِّها ومعالِمها، ولأن تصاريفَ المباني التي هيَ كالأوعية، وتضاعيف المعاني التي هي كالأمتعة في المنثور، اتسع مجالُ الطبع فيها ومسرحُه، وتشعَّب مُرادُ الفكر فيها ومطرحُه.

فمِنَ البُلغاء مَنْ يقول: فِقَرُ الألفاظ وغُرَرُها كجواهر العقود ودُرَرِها، فإذا وُسِمَ أغفالُها بتحسين نُظومها وحُلِّيَ أعطالُها بتركيب شُذُورها، فراقَ مَسْموعُها ومَضْبوطُها،

ص: 1375

وزان مفهومُها ومحفوظُها، وجاء ما حُرِّرَ منها مصروفًا مِنْ كَدَرِ العِيِّ والخطَل، مُقوَّمًا مِنْ أَوَدِ اللَّحْن والخطأ، سالِمًا من جَنَفِ التأليف، موزونًا بميزان الصواب، يَمُوجُ في حواشيه رَوْنَقُ الصَّفَاءِ لفظًا وتركيبًا، قبِله الفهمُ والتذّ به السمع. وإذا ورد على ضدِّ هذه الصفة صدِئَ الفهمُ منه، وتأذَّى السمعُ به تأذِّيَ الحواسِّ بما يخالفها.

ومنهم مَنْ لَمْ يَرْضَ بالوقوف على هذا الحد فتجاوزه، والتزم من الزيادة عليه تتميمَ المقطع، وتلطيفَ المطلع، وَعَطْف الأَوَاخر على الأوائل، ودلالةَ الموارد على المصادر، وتناسُبَ الفصول والوصول، وتعادلَ الأقسام والأوزان، والكشفَ عن قناع المعنى بلفظ هو في الاختيار أولى، حتى يطابق المعنى اللفظَ، ويسابق فيه الفهمُ السمع.

ومنهم مَنْ ترقَّى إلى ما هو أشق وأصعب، فلم تُقنعه هذه التكاليف في البلاغة حتى طلب البديع: من الترصيع والتسجيع، والتطبيق والتجنيس، وعكس البناء في النظم، وتوشيح العبارة بألفاظ مستعارة، إلى وجوه أُخر تنطق بها الكتب المؤلفة في البديع، فإني لم أذكر هذا القدر إلا دلائلَ على أمثالها. ولكلٍّ مما ذكرته وما لم أذكره رسمٌ من النفوذ والاعتلاء بإزائه ما يضاده، فيُسلم للنكوص والاستفال. وأكثرُ هذه الأبواب لأصحاب الألفاظ؛ إذ كانت للمعاني بمنزلة المعارض للجواري، فأرادوا أن يلتذَّ السمعُ بما يدرك منه ولا يمجه، ويتلقاه بالإصغاء والإذن له فلا يحجبه.

وقد قال أبو الحسن ابن طَباطَبا في الشعر: هو ما إن عَرِيَ من معنى بديع لم يعر من حسن الديباجة، وما خالف هذا فليس بشعر.

ومِنَ البلغاء مَنْ قصد فيما جاش به خاطرُه إلى أن تكون استفادةُ المتأمل له والباحث عن مكنونه من آثار عقله أكثرَ من استفادته من آثار قوله أو مُثُله، وهم أصحاب المعاني. فطلبوا المعاني المُعْجِبة من خواص أماكنها، وانتزعوها جزلةً عذبة حكيمة طريفة، أو رائقة بارعة فاضلة كاملة، أو لطيفة شريفة زاهرة فاخرة. وجعلوا رسومَها أن تكون قريبة التشبيه، لائقةَ الاستعارة، صادقةَ الأوصاف، لائحةَ الأوضاح، خَلابةً في الاستعطاف، عطافةً لدى الاستنفار، مستوفيةً لحظوظها عند الاستهام من

ص: 1376

أبواب التصريح والتعريض، والإطناب والتقصير، والجد والهزل، والخشونة واللَّيان، والإباء والإسماح، من غير تفاوت يظهر في خلال إطباقها، ولا قصور ينبع من أثناء أعماقها، مبتسمةً من مثاني الألفاظ عند الاستشفاف، محتجبةً في غموض الصِّيَّان لدى الامتهان، تعطيك مرادَك إن رفقتَ بها وتمنعك جانبَها إن عَنُفْتَ معها.

فهذه مَنَاسِبُ المعاني لطلابها، وتلك مناصبُ الألفاظ لأربابها. ومتى اعترف اللفظ والمعنى فيما تصُوبُ به العقول، فتعانقا وتلابسا، متظاهرين في الاشتراك وتوافقا، فهناك يلتقي ثَريَا البلاغة فيُمطرُ روضُها، ويُنشر وشْيُها، ويتجلى البيانُ فصيحَ اللسان، نجيحَ البرهان، وترى رائدَيْ الفهم والطبع متباشرَيْن لهما من المسموع والمعقول بالمسرح الخصب والمَكْرع العذب.

فإذا كان النثرُ - بما له من تقاسيمِ اللفظ والمعنى والنظم - اتسع نطاقُ الاختيارِ فيه على ما بيناه، بحسب اتساع جوانبها وموادها، وتكاثر أسبابها ومَوَاتِّها، وكان الشعرُ قد ساواه في جميع ذلك وشاركه، ثم تفرَّد عنه وتميز بأن كان حدُّه:"لفظ موزون مقفّى يدل على معنى"، فازدادت صفاتُه التي أحاط الحدُّ بها بما انضم من الوزن والتقفية إليها - ازدادت الكُلَفُ في شرائط الاختيار فيه؛ لأن للوزن والتقفية أحكامًا تُماثلُ ما كانت (1) للمعنى واللفظ والتأليف أو تقارب. وهما يقتضيان من مراعاة الشاعر والمنتقِد مثلَ ما تقتضيه تلك من مراعاة الكاتب والتصفح لئلا يختلَّ لهما أصلٌ من أصولهما أو يعتل فرعٌ من فروعهما.

فإذا كان الأمرُ على هذا، فالواجبُ أن يُتبيَّنَ ما هو عمودُ الشعرِ المعروفُ عند العرب، ليتميَّزَ تليدُ الصنعة من الطريف، وقديمُ نظام القريض من الحديث، ولتُعرفَ مواطئُ أقدام المختارين فيما اختاروه، ومراسمُ إقدام المزيِّفين على ما زيَّفُوه، ويُعلمَ أيضًا فرقُ ما بين المصنوعِ والمطبوع، وفضيلةُ الأَتِيِّ السَّمْح على الأَبِيِّ الصعب، فنقول وبالله التوفيق:

(1) كذا في الأصل، والأولى "كان" لمعاده على ما الموصولية التي تقوم مقام المذكَّر في مثل هذا السياق عادة.

ص: 1377

إنهم كانوا يحاولون شرفَ المعنى وصِحتَه، وجزالةَ اللفظ واستقامتَه، والإصابةَ في الوصف - ومن اجتماع هذه الأسباب الثلاثة كثرت سوائر الأمثال وشوارد الأبيات - والمقاربةَ في التشبيه، والتحامَ أجزاء النظم والتئامَها على تخيرٍ من لذيذ الوزن، ومناسبةَ المستعار منه للمستعار له، ومشاكلةَ اللفظِ للمعنى، وشدةَ اقتضائهما للقافية حتى لا منافرةَ بينهما. فهذه سبعةُ أبواب هي عمود الشعر، ولكلِّ بابٍ منها معيار.

فعيار المعنى أن يعرض على العقل الصحيح، والفهم الثاقب، فإذا انعطف عليه جنبتا القبول والاصطفاء، مستأنِسًا بقرائنه، خرج وافيًا، وإلا انتقص بمقدار شَوْبه ووِحْشته.

وعيارُ اللفظِ الطبعُ والروايةُ والاستعمال، فما سلم مما يُهَجِّنُه عند العرض عليها فهو المختار المستقيم. وهذا في مفرداته وجملته مراعًى؛ لأن اللفظة تُستكره بانفرادها، فإذا ضامَّها ما لا يوافقها عادت الجملةُ هجينا.

وعيارُ الإصابةِ في الوصفِ الذكاءُ وحسنُ التمييز، فما وجداه صادقًا في العلوق، ممازجًا في اللصوق، يتعسَّرُ الخروجُ عنه والتبرُّؤُ منه، فذلك سيماءُ الإصابة فيه. ويُروى عن عمر رضي الله عنهم أنه قال في زهير:"كان لا يمدح الرجلَ إلا بما يكون للرجال"، فتأمل هذا؛ فإن تفسيره ما ذكرناه.

وعيارُ المقاربة في التشبيه الفطنةُ وحسن التقدير، فأصدقُه ما لا ينتقِضُ عند العكس، وأحسَنُه ما أُوقِع بين شيئين اشتراكُهما في الصفات أكثرُ من انفرادهما ليَبِينَ وجهُ التشبيه بلا كلفة، إلا أن يكون المطلوبُ من التشبيه أشهرَ صفات المشبَّه به وأملكَها له؛ لأنه حينئذٍ يدل على نفسه ويحميه من الغموض والالتباس. وقد قيل: أقسام الشعر ثلاثة: "مثلٌ سائر، وتشبيهٌ نادر، واستعارةٌ قريبة".

وعيارُ التحام أجزاء النظم والتئامه على تخَيُّرٍ من لذيذ الوزن، الطبعُ واللسان، فما لم يتعثَّرِ الطَّبْعُ بأبنيتِهِ وعقودِه، ولم يتحَبَّس اللسانُ في فصوله ووصوله، بل استمرَّا

ص: 1378

فيه واستسهلاه بلا مَلَالٍ ولا كلال، فذلك يُوشِكُ أن تكونَ القصيدةُ منه كالبيت، والبيت كالكلمة، تَسَالُمًا لأجزائه وتقارنًا، وألا يكون كما قيل فيه:

وَشِعْرٍ كَبَعْرِ الكَبْشِ فَرَّقَ بَيْنَهُ

لِسَانُ دَعِيٍّ فِي القَرِيضِ دَخِيلِ

وكما قال خلف:

وَبَعْضُ قَرِيضِ الشِّعْرِ أَوْلَادُ عَلَّةٍ

يَكُدُّ لِسَانَ النَّاطِقِ المُتَحَفِّظِ

وكما قال رُؤبةُ لابنه عقبة، وقد عرض عليه شيئًا مما قاله، فقال:"قد قلتَ لو كان له قران".

وإنما قلنا: "على تخير من لذيذ الوزن"؛ لأن لذيذَه يَطرب الطبعُ لإيقاعه، ويمازجُهُ بصفائه، كما يَطْرَبُ الفهمُ لصوابِ تركيبه، واعتداله نظومه. ولذلك قال حسَّان:

تَغَنَّ فِي كُلِّ شِعْرٍ أَنْتَ قَائِلُهُ

إِنَّ الغِنَاءَ لِهَذَا الشِّعْرِ مِضْمَارُ

وعيارُ الاستعارة الذِّهْنُ والفطنة، ومِلَاكُ الأمر تقريبُ التشبيه في الأصل حتى يتناسب المشبَّهُ والمشبَّهُ به، ثم يُكتفى فيه بالاسم المستعار؛ لأنه المنقول عما كان له في الوضع إلى المستعار له.

وعيارُ مشاكلة اللفظِ للمعنى وشدةِ اقتضائهما للقافية، طولُ الدربة ودوامُ المدراسة، فإذا حكما بحسن التباسِ بعضها (1) ببعضٍ، لا جفاءَ في خلالها ولا نُبُوَّ، ولا زيادة فيه ولا قصور، وكان اللفظُ مقسومًا على رُتَبِ المعاني: قد جُعِل الأخصُّ للأخص، والأخسُّ للأخس، فهو البريء من العيب. وأما القافيةُ فيجب أن تكون

(1) قال الميساوي: الأولى أن يقال: "التباس بعضهما ببعض"؛ لأن الكلام على اللفظ والمعنى وما ينبغي أن يكون بينهما من مشاكلة، وكذلك الشأن بالنسبة للضمير الملحق بلفظة "خلال" الجائية بعدها، فالأَوْلَى أن يكون على التثنية لمعاده على اللفظ والمعنى. ولا يمكن أن يُعترض علينا بأن الضمير في المحلين عائد إلى اللفظ والمعنى والقافية؛ لأن القافية قد خصها المرزوقي بكلام مستقل بقوله بعدُ:"وأما القافيةُ فيجب. . ." إلخ، فتنَبَّهْ.

ص: 1379

كالموعود به المنتظر، يتشوَّقها المعنى بحقه واللفظ بقسطه، وإلا كانت قلقةً في مقرها، مُجتلَبةً لمستغنٍ عنها.

فهذه الخصالُ عمود الشعر عند العرب. فمَنْ لزمها بحقِّها وبنى شعرَه عليها، فهو عندهم المفلِقُ المعظَّم، والمحسِن المقدَّم. ومَنْ لم يجمعها كلَّها، فبقدر سُهْمَته منها يكون نصيبُه من التقدم والإحسان. وهذا إجماع مأخوذٌ به ومتَّبع نهجُه حتى الآن. واعلم أن لهذه الخصال وسائطَ وأطرافًا، فيها ظهر صدقُ الواصف، وغلوُّ الغالي، واقتصادُ المقتصد. قد اقتفرها (1) اختيارُ الناقدين:

فمنهم من قال: "أحسن الشعر أصدقه"، قال: لأن تجويد قائله فيه مع كونه في إسار الصدق يدل على الاقتدار والحذق.

ومنهم مَنِ اختار الغلوَّ حتى قيل: "أحسن الشعر أكذبه"؛ لأن قائلَه إذا أسقط عن نفسه تقابُلَ الوصف والموصوف، امتد فيما يأتيه إلى أعلى الرتبة، وظهرت قوتُه في الصياغة، وتمهرُه في الصناعة، واتسعت مخارجُه وموالجه، فتصرف في الوصف كيف شاء؛ لأن العمل عنده على المبالغة والتمثيل، لا المصادقة والتحقيق. وعلى هذا أكثر العلماء بالشعر والقائلين له.

وبعضُهم قال: "أحسن الشعر أقصده"؛ لأن على الشاعر أن يبالغه فيما يصير به القولُ شعرًا فقطِّ، فما استوفى أقسامَ البراعة والتجويد أو جلَّها من غير غلو في القول ولا إحالة في المعنى، ولم يُخرج الموصوفَ على أن لا يُؤْمَنَ بشيء من أوصافه، لظهور السَّرَف في آياته وشمول التَّزيُّد لأقواله، كان بالإيثار والانتخاب أولى.

ويتبع هذا الاختلافَ ميلُ بعضِهم إلى المطبوع وبعضهم إلى المصنوع. والفرقُ بينهما أن الدواعِيَ إذا قامت في النفوس وحرَّكَتِ القرائحَ أعملت القلوب، وإذا جاشت العقولُ بمكنون ودائعها وتظاهرت مكتسباتُ العلوم وضرورياتها، نبعت

(1) اقتفر الأمر: اقتفاه وتتبعه.

ص: 1380

المعاني ودَرَّت أخلافُها، وافترقت خفِيَّاتُ الخواطر إلى جلِيَّاتِ الألفاظ. فمتى رُفِض التكلُّفُ والتعمُّلُ، وخُلَّيَ الطبعُ المهذَّبُ بالرواية المدرَّبُ في الدراسة لاختياره فاسترسل غيرَ محمول عليه ولا ممنوعٍ مما يميل إليه، أدَّى من لطافة المعنى وحلاوة اللفظ ما يكون صفوًا بلا كدَر وعفوًا بلَا جُهد؛ وذلك هو الذي يُسمَّى المطبوع. ومتى جُعل زمامُ الاختيار بيد التعمُّل والتكلف، عاد الطبعُ مستخْدَمًا متمَلَّكًا، وأقبلت الأفكارُ تستحمله أثقالَها، وتردده في قبول ما يؤديه إليها، مطالبةً له بالإغراب في الصنعة، وتجاوز المألوف إلى البدعة، فجاء مؤداه وأثرُ التكلُّفِ يلوحُ على صفحاته؛ وذلك هو "المصنوع".

وقد كان يتَّفِقُ في أبياتِ قصائدهم - من غير قصدٍ منهم إليه - اليسيرُ النزر، فلما انتهى قرضُ الشعر إلى المحدَثين ورأوا استغرابَ الناسِ للبديع على افتنانهم فيه، أُولِعوا بتورِّده إظهارًا للاقتدار، وذاهبًا على الإغراب. فمن مُفرِّطٍ ومقتصد، ومحمودٍ فيما يأتيه ومذموم، وذلك على حسب نهوضِ الطبع بما يُحمَّل، ومدى قواه فيها يُطلب منه ويُكَلَّف. فمَنْ مال إلى الأوَّلِ، فلأنه أشبهُ بطرائقِ الإعراب، لسلامته في السبك، واستوائه عند الفحص. ومَنْ مال إلى الثاني، فلدلالته على كمال البراعة، والالتذاذ بالغرابة.

وأما تعجُّبُك من أبي تمامٍ في اختيار هذا المجموع، وخروجه عن ميدان شعره، ومفارقته ما يهواه لنفسه، وإجماع نقاد الشعر بعده على ما صحبه من التوفيق في قصده، فالقولُ فيه أن أبا تمَّامٍ كان يختارُ ما يختاره لجودته لا غير، ويقول ما يقوله من الشعر بشهوته. والفرقُ بين ما يُشتهَى وبين ما يُستجَادُ ظاهر، بدلالة أن العارفَ بالبَزِّ قد يشتهي لُبسَ ما لا يستجيده، ويستجيد ما لا يشتهي لُبسَه. وعلى ذلك حالُ جميع أعراض الدنيا مع العقلاء العارفين بها في الاستجادة والاشتهاء.

وهذا الرجلُ لم يعمِدْ من الشعراء إلى المشتهرين منهم دون الأغفال، ولا من الشِّعرِ إلى المتردِّدِ في الأفواه والمجيب لكل داع، فكان أمره أقرب. بل اعتسفَ في دواوين الشعراء، جاهليِّهم ومخضْرَمِهم وإسلاميِّهم ومولَّدهم، فاختطف منها

ص: 1381

الأرواحَ دون الأشباح، واخترف الأثمارَ دون الأكمام، وجمع ما يوافق نظمَه ويخالفه؛ لأن ضروبَ الاختيار لم تخفَ عليه، وطرقَ الإحسان والاستحسان لم تستتر عنه، حتى إنك تراه ينتهي إلى البيت الجيِّدِ فيه لفظةُ تشِينُه فيَجْبُرُ نقيصتَهُ من عنده، ويبدِّل الكلمةَ بأختها في نقده.

وهذا يَبِينُ لمَنْ رجع إلى دواوينهم فقابل ما في اختياره بها. ولو أن نقدَ الشعر كان يُدرَك بقوله، لكان مَنْ يقول الشعرَ من العلماء أشعرَ الناس. ويكشِف هذا أنه قد يُمَيِّزُ الشعرَ مَنْ لا يقوله، ويقول الشعرَ الجيِّدَ مَنْ لا يعرِف نقدَه. على ذلك كان البُحْتُرِيُّ؛ لأنه فيما حُكِيَ عنه كان لا يُعْجَبُ من الشعر إلا بما وافق طبعَه ومعناه ولفظَه.

وحكى الصوليُّ أنه سمع المبرَّد يقول: "سمعتُ الحسن بن رجاء يقول: ما رأيتُ أحدًا قط أعلمَ بجيِّدِ الشعر قديمه وحديثه من أبي تمام". وحُكِيَ عنه أنه مَرَّ بشعرِ ابن أبي عُيَيْنَة فيما كان يختارُه من شِعْرِ المحدَثين فقال: "وهذا كلُّه مختار". هذا وشعره أبعد الأشياء من شعره، وهذا واضح.

وأما ما غلب على ظنِّك من أن اختيارَ الشعراء موقوفٌ على الشهوات؛ إذ ما كان يختاره زيدٌ يجوز أن يزَيِّفَه عمرو، وأن سبيلَها سبيلُ الصور في العيون، إلى غير ذلك مما ذكرته، فليس الأمرُ كذلك؛ لأن مَنْ عرف مستورَ المعنى ومكشوفَه، ومرفوضَ اللفظ ومألوفَه، وميَّز البديعَ الذي لم تقتسمْه المعارضُ ولم تعتسفه الخواطر، ونظَرَ وتبَحَّر، ودار في أساليب الأدب فتخَيَّر، وطالت مجاذبتُه في التذاكر والابتحاث، والتداول والابتعاث، وبان له القليلُ النائبُ عن الكثير، واللَّحْظُ الدالُّ على الضمير، ودرى تراتيبَ الكلام وأسرارَها، كما درى تعاليقَ المعاني وأسبابَها، إلى غير ذلك مما يُكمِّل الآلةَ ويشحذ القريحة - تراه لا ينظُرُ إلا بعينِ البصيرة، ولا يسمع إلا بأُذُنِ النَّصَفَة، ولا ينتقد إلا بيد المَعْدِلة، فحكمُه الحكمُ الذي لا يبدَّل، ونقدُه النَّقْدُ الذي لا يُغيَّر.

واعلم أنه قد يعرِف الجيدَ مَنْ يجهل الرديء. والواجبُ أن تَعرِف المقابحَ المتَسخَّطة، كما عَرَفتَ المحاسنَ المرتضاة. وجِماعُها إذا أُجْمِلتْ أنها أضدادُ ما بيَّنَّاه من

ص: 1382

عَمَد البلاغة وخصال البراعة في النظم والنثر. وفي التفصيل كأن يكون اللفظ وحشيًّا أو غير مستقيم، أو لَا يكون مستعملًا في المعنى المطلوب، فقد قال عمر رضي الله عنه في زهير:"لا يتتبع الوحشيَّ، ولا يُعاظل في الكلام"، أو يكون فيها زيادةٌ تُفسد المعنى أو نقصان، أو لَا يكون بين أجزاء البيت التئام، أو تكون القافيةُ قلقةً في مقرِّها أو مَعيبةً في نفسها، أو يكون في القَسْمُ أو التقابل أو في التفسير فسادٌ، أو فِي المعنى تناقضٌ أو خروجٌ إلى ما ليس في العادة أو الطبع، أو يكون الوصفُ غيرَ لائقٍ بالموصوف، إلى غير ذلك مما يحصِّله لك تأملُك جُمَلَ المحاسن وتفصيلها، وتتبعُك ما يضادُّها وينافيها، وهذا هَيِّنٌ قريب.

وإنما قلت هذا؛ لأن ما يختاره الناقدُ الحاذقُ قد يتَّفِقُ فيه ما لو سُئِلَ عن سبب اختياره إياه، وعن الدلالة عليه، لم يمكنه في الجواب إلا أن يقول: هكذا قضيةُ طَبْعِي، أو ارجِعْ إلى غيري مِمَّنْ له الدُّربةُ والعلمُ بمثله، فإنه يحكُمُ بمثلِ حكمي. وليس كذلك ما يسترذِلُه النقدُ أو ينفيه الاختيار؛ لأنه لَا شيءَ من ذلك إلا ويمكن التنبيهُ على الخللِ فيه، وإقامةُ البرهان على رداءته، فاعلمْه.

وأما تمنِّيك معرفةَ السببِ في تأخُّرِ الشعراء عن رُتْبَةِ الكتاب والبلغاء، والعذرِ في قلةِ المترسِّلين وكثرةِ المفلقين، والعلةِ في نباهة أولئك وخمولِ هؤلاء، ولماذا كان اكثرُ المُفْلِقِين لا يَبْرَعُون في إنشاء الكتب، وأكثرُ المترسِّلين لا يُفْلِقُون في قرض الشعر، فإني أقول في كل ذلك بما يحضر، والله ولي توفيقي، وهو حسبي وعليه توكلي.

اعلم أن تأخرَ الشعراء عن رتبة البلغاء موجِبُه تأخُّرُ المنظوم عن رتبة المنثور عند العرب لأمرين:

أحدهما أن ملوكَهم قبل الإسلام وبعده كانوا يتبجَّحُون بالخطابة والافتنان فيها، ويَعُدُّونها أكملَ أسبابِ الرئاسة، وأفضلَ آلات الزعامة. فإذا وقف أحدُهم بين السِّمَاطين لحصول تنافرٍ أَو تضاغُنٍ أو تظالُمٍ أو تشاجر، فأحسنَ الاقتضابَ عند البداهة، وأَنْجَعَ في الإسهابِ وقتَ الإطالة، أو اعتلى في ذِرْوة مِنْبَرٍ فتصرَّف في

ص: 1383

ضروبٍ من تخشينِ القول وتليينه، داعيًا إلى طاعة، أو مستصلِحًا لرعية، أو غير ذلك مما تدعو الحاجةُ إليه، كان ذلك أبلغَ عندهم من إنفاقِ مالٍ عظيم، وتجهيزِ جيشٍ كبير. وكانوا يأنَفُون من الاشتهار بقَرْض الشعر، ويَعُدُّه ملوكُهم دناءة، وقد كان لامرئ القيس في الجاهلية مع أبيه حُجْر بن عمرو حين تعاطى قولَ الشعر فنهاه عنه وقتًا بعد وقت وحالًا بعد حالٍ، ما أخرجه إلى أن أمر بقتله، وقصتُه مشهورة، فهذا واحد.

والثاني أنهم اتخذوا الشعرَ مكسَبَةً وتجارة، وتوصَّلوا به إلى السُوَقة، كما توصَّلوا به إلى العلية، وتعرضوا لأعراض الناس، فوصفوا اللئيمَ عند الطمع فيه بصفة الكريم، والكريمَ عند تأخر صلته بصفة اللئيم، حتى قيل:"الشعر أدنى مروءة السري وأسرى مروءة الدني". فهذا البابُ ظاهر. وإذا كان شرف الصانع بمقدار شرف صناعته، وكان النظمُ متأخرًا عن رتبة النثر، وجب أن يكون الشاعرُ أيضًا متخلفًا عن غاية البليغ.

ومما يدلُّ على أن النثرَ أشرفُ من النظم أن الإعجازَ من الله تعالى جده والتحدي من الرسول عليه السلام وقعا فيه دون النظم، يكشف ذلك أن معجزاتِ الأنبياء عليهم السلام في أوقاتهم كانت من جنسِ ما كانت أُممُهم يولَعون به في حينهم، ويغلب على طبائعهم، وبأشرف ذلك الجنس. على ذلك كانت معجزةُ موسى عليه السلام؛ لأنها ظهرت عليه وزمنُه زمنُ السِّحر والسَّحرة، فصارت من ذلك الجنس وبأشرفه. وكذلك كان حالُ عيسى عليه السلام؛ لأن زمنه كان زَمنَ الطب، فكانت معجزتُه - وهي إحياء الموتى - من ذلك الجنس وبأشرفه.

فلما كان زمنُ النبي صلى الله عليه وسلم زمنَ الفصاحة والبيان، جعل الله معجزتَه من جنسِ ما كانوا يُولَعون به وبأشرفه، فتحدَّاهم بالقرآن كلامًا منثورًا، لا شعرًا منظومًا. وقد قال الله عز وجل في تنزيه (1) النبي صلى الله عليه وسلم: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْر

(1) جاء في بعض النسخ "تنويه" بدل "تنزيه"، وهو ما أثبته الأستاذ عبد السلام هارون في نشرته، وعلق عليه فقال: "يقال نوه فلانًا ونوه به، إذا رفعه وطير به وقواه، ومنه قول أبي نُخيلة: =

ص: 1384

وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)} [يس: 69]، وقال أيضًا:{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225)} [الشعراء: 224، 225]. ولَمَّا كان الأمرُ على ما بينَّاه، وجب أن يكون النثرُ أرفعَ شأنًا وأعلى سمكًا وبناءً من النظم، وأن يكون مزاولُه كذلك، اعتبارًا بسائر الصناعات وبمزاوليها.

وأما السببُ في قلةِ المترسِّلين وكثرة المفلِقين وعِزِّ مَنْ جمع بين النوعين مبرِّزًا فيهما، فهو أن مَبْنَى "الترسُّل" أن يكون واضحَ المنهج، سهلَ المعنى، ممتدَّ الباع، واسعَ النطاق، تدُلُّ لوائحُه على حقائقه، وظواهرُه على بواطنه؛ إذ كان مورُده على أسماعٍ مفترقة: من خاصِّي وعامي، وأفهامٍ مختلفة: من ذكِيٍّ وغبي. فمتى كان متسهَّلًا متساوقًا، ومتسلسلًا متجاوبًا، تساوتِ الآذانُ في تلقيه، والأفهامُ في درايته، والألسُن في روايته، فيَسْمَحُ شاردُه إذا استُدعِي، ويتعجَّلُ وافدُه إذا استُدنِي، وإنْ تطاول أنفاسُ فصوله، وتباعَد أطرافُ حزونه وسهوله.

= وَنَوَّهْتَ لِي ذِكْرِي وَمَا كَانَ خَامِلًا

وَلَكِنَّ بَعْضَ الذِّكْرِ أَنْبَهُ مَنْ بَعْضِ

المرزوقي، أبو علي أحمد بن محمد بن الحسن: شرح ديوان الحماسة، تحقيق عبد السلام هارون (القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، ط 1، 1371/ 1951)، ج 1، ص 17، الحاشية رقم 2. وقلت: بيت أبي نُخيلة هكذا أورده ابن منظور في اللسان والزبيدي في التاج، ورواه الآمدي والقالي بلفظ "من ذكري" بدل "لي ذكري". الآمدي، أبو القاسم الحسن بن بشر: الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري، تحقيق السيد أحمد صقر (القاهرة: دار المعارف، ط 4، 1992)، ج 1، ص 99؛ القالي: كتاب الأمالي، ص 41. وجاء في روايات أخر "نبهت" و"أحييت" عوض "نوهت". والشاعر هو أبو نخيلة (وهذا اسمه وكنيته أبو الجنيد) بن حزن بن زائدة بن لقيط بن هدم، من بني حمّان (بكسر الحاء وتشديد الميم)، من سعد بن زيد مناة بن تميم، الحماني السعدي التميمي. شاعر راجز، كان عاقًّا لأبيه، فنفاه أبوه عن نفسه، فخرج إلى الشام فاتصل بمسلمة بن عبد الملك فاصطنعه وأَحسن إِليه وأوصله إلى الخلفاء واحدًا بعد واحد، فأغنوه. ولما نكب بنو أمية وقامت دولة بني العباس، انقطع إليهم ولقّب نفسه بشاعر بني هاشم، ومدحهم وهجا بني أمية، ويقال إنه قال في المنصور أرجوزة يغريه فيها بخلع عيسى بن موسى من ولاية العهد، فسخط علمِه عيسى؛ فهرب يريد خراسان، فأدركه مولى لعيسى فذبحه وسلخ وجهه.

ص: 1385

ومبنى "الشعر" على العكس من جميع ذلك؛ لأنه مبنِيٌّ على أوزانٍ مقدرة، وحدودٍ مقسمة، وقوافٍ يُساق ما قبلها إليها مهيأة، وعلى أن يقوم كلُّ بيتٍ بنفسه غيرَ مفتقرٍ إلى غيره، إلا أن يكون مضمَّنًا بأخيه، وهو عيب فيه. فلما كان مداه لا يمتدُّ بأكثرَ من مقدارِ عَرُوضِه وضَرْبِه، وكلاهما قليل، وكان الشاعرُ يعمل قصيدتَه بيتًا بيتًا، وكلُّ بيتٍ يتقاضاه بالاتحاد، وجب أن يكون الفضلُ في أكثر الأحوال في المعنى، وأن يبلغ الشاعرُ في تلطيفه والأخذ من حواشيه حتى يتسعَ له اللفظ، فيؤديَه على غموضه وخفائه - حدًّا يصير المدركُ له والمشرفُ عليه كالفائز بذخيرةٍ اغتنمها، والظافرِ بدفينةٍ استخرجها. وفي مثل ذلك يحسن امِّحاء الأثر (1)، وتباطؤ المطلوب على المنتظر. فكلُّ ما يُحمد في الترسل ويُختار يُذَمُّ في الشعر ويُرفض.

فلما اختلف المبنيان كما بينَّا، وكان المتولِّي لكلِّ واحد منهما يختار أبعدَ الغايات لنفسه فيه، اختلفت فيهما الإصابتان، لتباين طرفيهما، وتفاوت قُطريهما، وبَعُد على القرائح الجمعُ بينهما. يكشف ذلك أن الرَّجَزَ وإنْ خالف القصيدَ مخالفةً قريبة ترجع إلى تقطيع شأو اللفظ فيه، وتزاحم السجع عليه، قلّ عددُ الجامعين بينهما لتقاصر الطباع عن الإحاطة بهما. فإذا كان الرجزُ والقصيد مع أنهما من واد واحد، أفضت الحالُ بمتعاطيهما إلى ما قلتُ على خلاف يسير بينهما، فالنثر والنظم، وهما في طرفين ضِدَّيْن وعلى حالتين متباينتين، أولى وأخص.

وأما السَّبَبُ في قلةِ البلغاءِ وكثرةِ الشعراء، ونباهةِ أولئك وخمولِ هؤلاء، فهو أن المترسِّلَ محتاجٌ إلى مراعاة أمورٍ كثيرة، إن أهملَها أو أهملَ شيئًا منها رجعت النقيصةُ إليه، وتوجهت اللَّائمةُ عليه.

(1) رُسمت في الأصل و"م": "انْمحاء"، مع وضع شدة على النون. - عبد السلام هارون (شرح ديوان الحماسة، ج 1، ص 19، الحاشية 1).

ص: 1386

ومنها تَبَيُّنُ مقادير مَن يكتب عنه وإليه، حتى لا يرفعَ وضيعًا ولا يضَعَ رفيعا.

ومنها وزِنُ الألفاظ التي يستعملها في تصاريفه، حتى تجيءَ لائقةً بمن يُخاطب بها، مفخِّمة لحضرةِ سلطانه التي يصدر عنها.

ومنها أن يعرِفَ أحوالَ الزمان وعوارضَ الحدَثَان، فيتصرَّفَ معها على مقاديرِها في النَّقْضِ والإبرام، والبسطِ والانقباض.

ومنها أن يعلم أوقاتَ الإسْهابِ والتطويل، والإيجاز والتخفيف، فقد يتَّفِقُ ما يُحتاج فيه إلى الإكثار حتى يستغرق في الرسالة الواحدة أقدارَ القصائد الطويلة؛ ويتفق أيضًا ما تُغْنِي فيه الإشارةُ وما يجري مجرى الوحْيِ في الدلالة.

ومنها أن يعرف من أحكام الشريعة ما يقف به على سواء السبيل، فلا يشتطُّ في الحكومة، ولا يعدل فيما يخُطُّ عن المحجة. فهو إنما يترسَّل في عهود الولاة والقضاة، وتأكيدِ البيعة والأيمان، وعمارةِ البلدان، وإصلاحِ فسادٍ، وتحريضٍ على جهاد، وسدِّ ثُغورٍ، ورَتْقِ فتوق، واحتجاجٍ على فئة، أو مجادلةٍ لملة، أو دُعاءٍ إلى ألفة، أو نهيٍ عن فرقة، أو تهنئةٍ بعطية، أو تعزيةٍ برزية، أو ما شاكل ذلك من جلائل الخطوبِ وعظائمِ الشؤون التي يُحتَاجُ فيها إلى أدواتٍ كثيرة، ومعرفةٍ مُفْتَنَّة.

فلما كان الأمرُ على هذا، صار وجودُ المضطلِعين بجودة النثر أعزَّ، وعددُهم أنزر. وقد وَسَمَتْهم الكتابةُ بشرفها، وبوأتهم منزلةَ رئاستها، فأخطارُهم عاية بحسب عُلُوِّ صناعتهم، ومعاقد رئاستهم، وشدة الفاقة إلى كفايتهم.

والشعراء إنما أغراضُهم التي يُسَدِّدُون نحوها، وغايتهم التي ينزِعون إليها، وصفُ الديار والآثار، والحنينُ إلى المعاهد والأوطان، والتَّشْبِيبُ بالنساء، والتلطيفُ في الاجتداء، والتَّفَنُّنُ في المديح والهجاء، والمبالغةُ في التشبيه والأوصاف. فإذا كان كذلك، لم يتدانَوْا في المضمار، ولا تقاربوا في الأقدار.

وإذ قد أتينا بما أردنا، ووفَّيْنا بما وعَدْنا، فإنَّا نَشتغل بما هو القصدُ من شرحِ الاختيار، والله الموفِّق للصواب، والصلاة والسلام على رسوله وآله الأخيار.

ص: 1387