الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب التنازع
ويسمى أيضًا باب الإعمال اقتضى عاملين، أو ثلاثة من الفعل، أو شبهه، مقتضى، لم يمنع مانع لفظي من العمل فيه، والتقديم في المقتضى هو أكثري لا شرط خلافًا لمن اشترط التقديم، فقد أجاز الفارسي توسطه.
وقد ذكر بعض أصحابنا تقدم المعمول نحو: أي رجل ضربت، أو شتمت فعلى هذا لا يكون التقدم في المقتضى شرطًا، والعامل قد يكون جيء به للتوكيد نحو: قام قام زيد و:
هيهات هيهات العقيق
…
...
…
...
…
...
فأجاز فيه الإعمال الفارسي، وتبعه الجرجاني، وأبو الحسن بن أبي الربيع فقال الفارسي: ارتفع (العقيق) بهيهات الثانية، وأضمرت في الأول أو بالأولى، وأضمرت في الثانية، وقال أبو الحسن: قام قام زيد، «زيد» فاعل بالثاني، وفاعل الأول مضمر كأنه من باب الإعمال، أو يقال: إن زيدًا فاعل بـ (قام) الأول، والثاني لا يحتاج إلى مسند إليه، إذ لم يؤت به، لذلك إنما جيء به للتوكيد قال: وهذا الوجه الثاني حسن.
وشرط كون المقتضى لغير توكيد ابن مالك، وصاحب البسيط، والاقتضاء أعم من الاقتضاء باتفاق الإعراب، واختلافه، وشرط ابن عصفور في المقتضى التصرف، فعلى هذا لا يجوز في فعلي التعجب، والكثير أن يكون المقتضى عاملين، وقد يكون ثلاثة نحو:
سئلت فلم تبخل ولم تعط سائلاً
…
...
…
...
…
...
وشبه الفعل هو اسم الفاعل واسم المفعول واسم الفعل والمقتضى أعم من أن يكون أجنبيًا أو سببيًا، فإن كان سببيًا فإما أن يكون مرفوعًا أو غير مرفوع إن كان غير مرفوع لم يمتنع التنازع نحو: زيد أكرم وأفضل أباه، وإن كان مرفوعًا نحو: زيد قام، وقعد أبوه، وزيد قائم وقاعد أبوه، فذهب بعض النحويين إلى أنه لا يكون في هذا التنازع، وبه قال ابن خروف، وابن مالك، ولم يذكره معظم النحويين، ولا شرطوه، وقال الأستاذ أبو علي: وليس منه
…
...
…
...
…
وعزة ممطول معنى غريمها
و (غريمها) مبتدأ، وكذا قال ابن السيد: الوجه عندي أن يكون (غريمها)
مبتدأ، و (ممطول) خبر مقدم، و (معنى) صفة له، وقد خرجه بعضهم على الإعمال، ومنهم الفارسي، فتحصل أن المسألة فيها خلاف، وقلنا: لم يمنع مانع إلى آخره، لأنه لا يكفي الاقتضاء حتى لا يكون يمنع من العمل مانع لفظي نحو قوله
كأنهن خوافي أجدل قرم
…
ولي ليسبقه كالأمعز الخرب
فهذا من إعمال الأول ولا يجوز أن يكون من إعمال الثاني، لأن (الخرب) حينئذ يكون مفسرًا للضمير الذي في (ولى)، ولام (كي) تمنعه أن يتخطاها إلى تفسيره، فإنه لا يتقدم ما بعدها عليها، فكذلك لا يفسر ما بعدها ما قبلها، لأن المفسر نائب مناب المفسر، فكأنما قد تقدم ما بعدها عليها، وهذا الاقتضاء من جهة المعنى أقوى ما يكون بحرف العطف، ولذلك يمتنع: ضربني ضربته زيد لأنه لا رابط، ويجوز الإعمال في قوله تعالى:«آتوني أفرغ عليه قطرا» إذ العامل الثاني جواب الأول، فهو مرتبط به، وإذا كان الاقتضاء على ما شرطناه عمل في المقتضى واحد من العاملين، لا كلاهما خلافًا للفراء، في زعمه أن في مثل: قام وقعد زيد العامل هو كلا الفعلين.
فلو كان العطف بـ (أو) أو غيرها، مما لا يجمع بين الشيئين لم يجز أن يشترك العاملان في العمل نحو: قام أو قعد زيد، وصار من باب الإعمال، وعلى الإعمال خرجوا قوله:
وهل يرجع التسليم أو يكشف العنا
…
ثلاث الأثافي والرسوم البلاقع
ولا خلاف بين البصريين والكوفيين في جواز إعمال السابق والمجاور، واختار الكوفيون إعمال السابق، واختار البصريون إعمال المجاور، ونقل سيبويه يدل على أن إعمال الثاني هو الكثير في كلام العرب، وأن إعمال الأول قليل قال ابن مالك، ومع قلته لا يكاد يوجد إلا في الشعر بخلاف إعمال الثاني، فإنه كثير الاستعمال في النثر والنظم، وقد تضمنه القرآن في مواضع كثيرة انتهى.
وإذا أعملت الثاني؛ فإما أن يكون الأول طالب مرفوع، أو منصوب أو مجرور، إن كان (طالب) منصوب، أو مجرور نحو: ضربت وضربني زيد، ومررت ومر بي زيد، فأجاز ذلك بعض النحويين، ولا يضمر في الأول، وهو مذهب أصحابنا والأكثرين ومن النحويين من يضمر فيقول: ضربته، وضربني زيد، ومررت به ومر بي زيد، ومنع من جواز إضماره الكوفيون، وخص أصحابنا إضماره بالشعر ما لم
يلبس بحذفه، أو يكون طالب النصب من باب [غير] ظن، فإن ألبس أبرز الضمير نحو: استعنت به، واستعان على زيد وملت إليه، ومال عني زيد، وإن كان من باب ظن، فثلاثة مذاهب: إضماره قبل الذكر نحو: ظننته وظننت زيدًا قائمًا، أو مؤخرًا نحو: ظننتني وظننت زيدًا قائمًا إياه.
وزعم ابن الطراوة: أن الإضمار في باب ظن لا يجوز، فمنع ما أدى إليه من مسائل ظن، إذ ليس للمضمر تفسير يعود عليه، فالضمير متصلاً أو منفصلاً عائد على قائم، وليس إياه، وتقدمه إلى مثله الكسائي، فمنع: ظننت وظننته زيدًا قائمًا والذي ينبغي أن يتبع في ذلك السماع.
فإن كانت العرب استعملت مثل هذا الإضمار اتبع، وإلا توقف في إجازة ذلك، وإن كان طالب مرفوع فمذاهب.
أحدها: أنه يضمر قبل الذكر، فيستكن في فعل الواحد، ويبرز في التثنية والجمع فتقول: ضربني وضربت زيدًا، وضربتني وضربت هندًا، وضرباني وضربت الزيدين وضربتاني وضربت الهندين، وضربوني، وضربت الزيدين، وضربنني وضربت الهندات، وهذا مذهب سيبويه والبصريين، وحكى أبو زيد، وسيبويه وغيرهما ضربوني وضربت قومك.
وذهب محمد بن الوليد إلى أنه ليس إضمارًا قبل الذكر والتقدير عنده في نحو: ضربوني، وضربت قومك: ضربت قومك وضربوني: فالضمير المتقدم لفظًا هو منوى به التأخير؛ فأما ما قاله سيبويه من نحو: ضربني وضربت قومك، فقال: جائز، وهو قبيح أن تجعل اللفظ كالواحد قال: كأنك قلت ضربني (من) ثم وضربت قومك، وترك ذلك أجود وأحسن، وهو رديء في القياس.
المذهب الثاني: مذهب الكسائي في مشهور ما نقل عنه، وهشام
وتابعهما من أصحابنا أبو زيد السهيلي، وأبو جعفر بن مضاء صاحب كتاب (المشرق في النحو) أن الفاعل محذوف لا يضمر، وقد نقل عن الكسائي أنه مضمر مستتر في الفعل، مفرد في الأحوال كلها، وأن ما نقله البصريون عن الكسائي أنه يحذف الفاعل لا يصح.
المذهب الثالث: أن مثل هذا التركيب باطل، لأنه يؤدي إلى الإضمار قبل الذكر، أو إلى الحذف للفاعل، وهو مذهب الفراء، ويجب على مذهبه إعمال الأول في هذه المسألة، وعن الفراء أيضًا أن مثل: ضربني وضربت زيدًا يقصره على السماع، ولا يجعله قياسًا، وعنه أيضًا أن إصلاح هذه المسألة أن يعمل الأول أو يضمر الفاعل بعد الجملة المعطوفة فنقول: ضربني وضربت زيدًا هو، وضربت الزيدين هما.
وذهب أبو ذر مصعب بن أبي بكر، فيما أدى إلى الإضمار أو الحذف، إلى اختيار إعمال الأول دون إعمال الثاني، وإذا أعملت الأول فإما أن يكون الثاني طالب مرفوع، أو منصوب، أو مجرور، إن كان (طالب) منصوب أو مجرور، فالمنقول عن البصريين والكوفيين جواز الحذف على اختلاف بينهم، قال في المقنع تقول: ضربني وضربتهم قومك هذا لا خلاف فيها، فإن قلت: ضربني وضربت قومك جاز عند الكوفيين على قول من قال: زيد ضربت، وهو عند البصريين جيد حسن على الحذف، وزيد ضربت قبيح جدًا.
وفي الإفصاح: مذهب أبي علي إضمار معمول الثاني، ومذهب السيرافي جواز حذفه جوازًا مطردًا، وإن كان طالب مرفوع نحو: ضربت وضربني زيدًا أضمرت، ويبرز الضمير في التثنية والجمع فتقول: ضربت، وضرباني الزيدين، وضربت وضربوني الزيدين، وضربت وضربنني الهندات، فيطابق الضمير في إعمال الأول، وفي إعمال الثاني في مذهب سيبويه إذا كان (طالب) مرفوع؛ فإن أدت مطابقته إلى مخالفة خبر، ومخبر عنه، فالإظهار مثاله: ظناني منطلقًا، وظننت
الزيدين منطلقين، وظننت، وظناني قائمًا، الزيدين قائمين، ولا يجيز المبرد إلا هذا، وهو إظهار كل معمول لطالبه، وتخرج المسألة أن تكون من باب التنازع، وأجاز الكوفيون هذا الوجه، وأجازوا وجهين آخرين.
أحدهما: حذف الضمير فتقول: ظناني وظننت الزيدين قائمين، وظننت، وظناني الزيدين قائمين إياه، حذف قائمًا لدلالة (قائمين) عليه.
والوجه الآخر: أن تضمره مؤخرًا مطابقًا للمخبر عنه، نحو: ظننت وظناني الزيدين قائمين إياه، وظناني وظننت الزيدين قائمين إياه، وأجاز بعض أصحاب أبي العباس إضماره متقدمًا فتقول: ظننت وظنني إياه أخويك منطلقين، وإن طابق في باب ظن قلت: ظننت وظننته زيدًا قائمًا، أو ظننت وظنني إياه زيدًا قائمًا، ولا يجوز حذف الضمير عند البصريين، ويجوز عند الكوفيين.
وفي البسيط: إذا أعمل الأول ترجح إعمال الثاني في جميع معمولاته، ولك حينئذ أن تقدم منها ما شئت منفصلاً، كما تقدم منها ما لم يتنازعوا فيه تقول: ضرب زيد، وزيدًا ضرب خالدًا على معنى: ضرب زيد خالدًا، وضرب خالد زيدًا، وقد يجوز الاشتغال فيه فترفع وتقول: ضرب زيد، وزيد ضربه خالد وكذلك تقول: ضربت وإياه ضرب عمرو خالدًا، والأحسن أن يبقى المفعول الذي لم يتنازع في موضعه.
وإن كان العامل الثاني قدمته للأول، ولا تؤخره فتقول: ظناني شاخصًا، وظننت الزيدين شاخصين، ولك أن تؤخر لكنه قبيح، وإن أعملت الأول جاز تقديمه وتأخيره كقولك: ظنني وظننتهما شاخصين الزيدان شاخصًا، وفي الثاني: يقبح الفصل فلا يؤخر معموله فلا يقول: ظنني وظننتهما الزيدان شاخصًا شاخصين وفي الجمع كذلك نحو: ظنني وظننتهم شاخصين الزيدون شاخصًا انتهى.
وفي كون التنازع فيه أكثر من واحد خلاف، ذهب الجرمي إلى أنه لا يكون فيما يتعدى إلى ثلاثة، ولم يسمع عن العرب ذلك لا في نثر، ولا في نظم، وأجاز ذلك الجمهور والمازني، وجماعة وعن الجرمي أيضًا أن التنازع لا يكون فيما يطلب اثنين والصحيح جواز ذلك، ففي كتاب سيبويه حكاية عن العرب:«متى رأيت أو قلت زيدًا منطلقًا» على إعمال رأيت وحذف مطلوب قلت، وزيد منطلق على طلب قلت، وقال المبرد: لو أعمل الأول لقال أو قلت: هو هو زيدًا منطلقًا.
وإذا تنازع ثلاثة، وهو أكثر ما سمع في هذا الباب، وزعم ابن خروف، وتبعه ابن مالك أنه يكون العمل للثالث، ويلغى الأول والثاني، وادعى ابن خروف أنه استقرى ذلك في الكلام فوجده مثل ما قال، واستقراؤه استقراء ناقص، وقد جاء إعمال الأول، والإضمار في الثاني، والثالث كقول أبي الأسود الدؤلي:
كساك ولم تستكسه فاشكرن له
…
أخ لك يعطيك الجزيل وناصر
أعمل (كساك)، ورفع به (أخ)، وأضمر في الثاني في قوله: ولم تستكسه.
وفي الثالث: في له، وحكى بعض أصحابنا انعقاد الإجماع على جواز إعمال الأول والثاني والثالث، قبل أن يختلف ابن خروف وابن مالك، قيل: لكن يحفظ سماعًا في إعمال الثاني، وإلغاء الأول والثالث، لكن نص على الإجماع في جوازه.
وقال بعض أصحابنا: إن البصريين يختارون إعمال الآخر، وإن الكوفيين يختارون إعمال الأول، وسكتوا عن إعمال الأوسط، وهذا النقل معارض بالإجماع على أنه يجوز: وتقول: ضربني وضربت ومربي زيد؛ فإن أعملت (مربى) أضمرت فاعلاً في ضربني، وأبرزت ضمير المفعول في ضربت فقلت: وضربته، وإن أعملت ضربني أضمرت الفاعل في (ومربى)، والمفعول في (ضربت) فقلت: وضربته.
وإن أعملت الثاني، لكونه أسبق من الثالث نصبت زيدًا، وأضمرت في ضربني وفي (مربى) على مذهب سيبويه، وحذفت على مذهب الكسائي، وامتنعت المسألة على مذهب الفراء، إلا أن تؤخر الضمير على ما نقل بعضهم عنه في إصلاح المسألة بتأخير الضمير عن المفسر، فعلى هذا القياس تقول: ضربني وضربت، ومربى زيدًا هو هو، فيكون (هو) الأول فاعلاً (بضربني)، والثاني فاعلاً بت (مربى)، والتأنيث، والتثنية والجمع يجرى هذا المجرى، وإذا جوزنا التنازع في باب أعلم قلت: في إعمال الأول: أعلمني وأعلمته إياه إياه زيدًا عمرًا قائمًا.
وفي إعمال الثاني: أعلمني وأعلمت زيدًا عمرًا قائمًا إياه إياه، هذا على قول من لم يجز الاقتصار على المفعول الأول، ومن أجاز تقول في إعمال الأول: أعلمني، وأعلمته زيدًا عمرًا قائمًا، وفي إعمال الثاني: أعلمني وأعلمت زيدًا عمرًا قائمًا وكذلك إن قدمت أعلمت على أعلمني، يجوز فيه التفريع على المذهبين فتقول: في إعمال الأول على رأي من لا يقتصر: أعلمت وأعلمني إياه إياه زيدًا عمرًا قائمًا، وفي إعمال الثاني أعلمت وأعلمني زيد عمرًا قائمًا إياه إياه إياه وفي إعمال الأول على رأي من يقتصر أعلمت وأعلمني زيدًا عمرًا قائمًا وفي إعمال الثاني: أعلمت وأعلمني زيدًا عمرًا قائمًا إياه، وقال أبو زكريا يحيى بن معط: (إن
أعملت الأول قلت: أعلمت وأنبأتهما إياهما منطلقين الزيدين العمرين منطلقين ليس لك إلا ذلك، لاستغراق الضمير حالتي الاتصال والانفصال، فلم يبق للثالث إلا إعادته، ثم قال بعد ألا ترى أنك لو قلت في باب المخالفة: أعلمت، وأعلمني زيد عمرًا شاخصًا، وقعت المنازعة في ثلاثة، وتبين ذلك أن تعمل الأول فتقول: أعلمت وأعلمته زيدًا بكرًا شاخصًا، فلم تقع المنازعة في معمول واحد، بل في ثلاثة انتهى.
وإذا كان العامل من الفعل لا يتصرف، ولم يجز فيه الإعمال فلا يكون في (حبذا) ولا في نعم، وبئس لو قلت: نعم في الحضر، وبئس في السفر الرجل زيد لم يجز. واختلفوا في فعل التعجب، فأجاز ذلك المبرد وقال في كتاب المدخل له: وتقول: ما أحسن وأجمل زيدًا إذا نصبه (بأجمل)؛ فإن نصبته بأحسن قلت: ما أحسن وأجمله زيدًا، وإلى مذهب المبرد ذهب صاحب (المحلى) في النحو، وهو أبو غانم المظفر بن أحمد.
وذهب بعض النحويين إلى أنه لا يجوز التنازع في فعل التعجب، وقال ابن مالك: والصحيح عندي جوازه، لكن بشرط إعمال الثاني قال وكذلك: أحسن وأعقل بزيد قال: ويجوز على أصل مذهب الفراء: «أحسن وأعقل بزيد» على أن تكون الباء متعلقة (بأحسن) و (أعقل) معًا انتهى.
وقالت العرب: ما قام وقعد إلا زيد، ويقاس على هذا التركيب، فزعم بعضهم أنه ليس من باب الإعمال، وأنه من باب الحذف، وأنه على تأويل ما قام أحد، ولا قعد إلا زيد، وفاعل (قعد) ضمير أحد المقدر، ولذلك لا يثنى، ولا يجمع، ولا يؤنث، وإن كان ما بعد إلا مثنى، أو مجموعًا، أو مؤنثًا قيل وإلا زيد، بدل من (أحد) المحذوف أو من الضمير، وزعم بعض النحويين أنه من باب الإعمال، وقال
بعض أصحابنا: ما قام وقعد إلا أنت، لا يكون من الباب على مذهب سيبويه، لأن الفاعل هنا لا يصح إضماره، ولا يجيز حذف الفاعل، ويكون من الباب على مذهبي الكسائي والفراء، ففي مذهب الكسائي على الحذف للفاعل، وعلى مذهب الفراء لارتفاعه بالفعلين معًا.
والمتنازعان لا بد أن يكون الأول يجوز الفصل بينه وبين معموله بالعامل الثاني، فإن لم يجز الفصل أصلاً لم يجز التنازع كالمضافين فلا تقول: رأيت غلامًا، وضاربًا زيدًا تريد: غلام زيد، وضاربًا، والمعمول في التنازع فاعل ومفعول خاص أو عام الفاعل لا يتنازعه فعلا متكلم، ولا مخاطب، ولا مختلط منهما، وفعلا الغائب يتنازعان، وما اتصل بهما من المفعولات لا يقع فيهما التنازع، ولا يتنازع فعلا متكلم ومخاطب الفاعل إلا في صورة الغائب عند الفصل نحو: ما قام ولا قعد إلا أنا وأنت، ولا ضمير المفعول إلا بالفصل نحو: ما أكرم، ولا أعز إلا إياي، وما نكرم ولا نعز إلا إياك، ولا يكون هذا للاختلاط بينهما، وبين الغائب لاختلاط الفاعل.
وأما المفعول به الصريح فينازعه ثلاثة أصناف، والمختلط منها وما تنازع منها الفاعل، جاز ذلك فيه وفي المفعول معًا، نحو: ضرب وأكرم زيد عمرًا، فإن كان أحدهما متعديًا، والآخر لازمًا جاز أن يفصل بينهما نحو: قام وأكرم عمرا زيد، فيجوز رفع (زيد) بالأول وبالثاني؛ فلو قلت: قام وأكرم زيد عمرًا، فقيل يتعين الثاني وقيل: لا يتعين، وفي معنى ذلك إذا بنيا للمفعول، أو أحدهما والمجرور يتنازعه الثلاثة، والمختلط، فإن كان لأحدهما فظاهر نحو: ضربت ومررت بزيد، وإن كان لكل واختلفا في الحرف نحو: انفصلت ومررت بزيد، أو اتفقا واتفقا في المعنى نحو قولك: صلى الله وبارك على محمد، أو اختلفا فيه نحو: قمت وذهبت بزيد تريد: قمت بسبب زيد، فلا يجوز إلا إن فهم من قوة الكلام كقولك: أطعمتك، ووهبتك لله، وما يتعدى إلى مفعول واحد يتعدى إلى اثنين، ومع الفاعل
نحو ضرب، وأعطى ثوبًا عبد الله عمرًا، ولو قدمت الفاعل لتعين الثاني، وباب ظننت مع باب أعطيت، إذا كان معفولاهما شخصين نحو: أعطيت وظننت سالمًا صبيحًا، قيل يتنازعان، وقيل يبعد إذ أحدهما خبر، والآخر غير خبر كما لا يكون أحد المتنازعين خبرًا والآخر دعاء نحو: غفر الله، ووهبتك لزيد، ويبعد التنازع بين ضرب وكان لعدم المناسبة نحو: ضرب زيد وكان عمرو أخاك.
مسائل من هذا الباب:
أعطيت وأعطاني أخوك درهمين: مفعولا أعطيت يجوز الاقتصار على كل واحد منهما، فهل يجوز أن يكون الأول معملاً بالنسبة إلى درهمين، فتنصب الدرهمين به، وملغى بالنسبة إلى الفاعل الذي هو أخوك، ويكون الثاني معملاً بالنسبة إلى الفاعل، وملغى بالنسبة إلى الدرهمين، فتكون قد حذفت مفعول الأول الأول ومفعول الثاني. اختلف في ذلك، فذهب الكوفيون إلى جواز ذلك، وذهب البصريون إلى أنه خطأ. كلمت وكلمني أخوك كلمتين، هي من مباداة ما قبلها فـ (عند) البصريين لا يجوز أن ينتصب كلمتين إلا بالفعل الثاني، ويجوز عند الكوفيين النصب بالفعل الأول إذا كانت في آخر الكلام، وهو خطأ عند البصريين فإن قلت: كلمته أو كلمني كلمتين أخوك، فجئت بكلمتين متوسطة، فلا اختلاف بني النحويين في أن تنصب (كلتمين) بالثاني لا غير.
(متى رأيت وقلت زيدًا منطلقًا) النصب بالأول، وتحذف من الثاني ولا تضمر فيه، وإن أعملت الثاني وهو (قلت) رفعت الجزأين على الحكاية، وحذفت مفعولي رأيت هذا مذهب سيبويه، وزعم المبرد أنك تقولك على إعمال الأول متى رأيت أو قلت: هو هو زيدًا قائمًا، وضربت وضربني زيد أعملت الثاني فحذفت من الأول، والأصل: ضربت زيدًا وضربني زيد، ولا يجوز الأصل
إلا على قلة نحو قوله:
يمنعها شيخ يجذبه الشيب
…
لا يحذر الريب إذا خيف الريب
وكلام العرب على الإعمال، وأجاز بعض النحويين تأخير المفعولين بعد المرفوع وذلك على إعمال الفعلين في الاسمين الظاهرين فتقول: ضربت وضربني قومك قومك، تريد: ضربت قومك، وضربني قومك، والشائع في لسان العرب حذف مفعول الأول، ولا يؤتى به ظاهرًا، فضربت، وضربوني قومك، أجاز سيبويه رفع (قومك) على أنه فاعل، والواو علامة جمع، وعلى أن يكون بدلاً من المضمر، واستقبح هذا الوجه الفارسي.
وأجاز سيبويه أيضًا: ضربوني وضربتهم قومك، بنصب (قومك) على البدل من ضمير (ضربتهم)، فيكون البدل قد فسر ضميرين: أحدهما: مرفوع، وهو الواو في (ضربوني)، والآخر منصوب، وهو الهاء في (ضربتهم) وهذا غريب جدًا أن يفسر واحد ضميرين متقدمين عليه في الذكر، ولا يوجد هذا في الضمائر التي يفسرها ما بعدها، وينبغي التوقف في إجازة مثل هذا حتى يسمع من العرب. تكلم سيبويه على الوجوه الجائزة في المسألتين اللتين يدور عليهما الباب وهما ضربت وضربني وضربني وضربت، فأما الأولى، فأجاز فيهما خمسة أوجه، فعلى إعمال الثاني: الرفع من ثلاثة أوجه على الفاعل بـ (ضربني)، وهو الظاهر، وعلى البدل من الضمير المستكن في (ضربني) والجمع والتثنية على هذين الوجهين، والثالث على أن الواو والألف والنون علامة، والاسم بعدها هو الفاعل، وعلى إعمال الأول وجهان:
أحدهما: مطابقة الضمير في ضربني المنصوب بعده.
والثاني: أن لا يطابق في الجمع، وأما المسألة الثانية فعلى إعمال الثاني وجهان.
أحدهما: أن يضمر في ضربني ما يطابق المفسر، وينصب ما بعد ضربت.
الثاني: أن تسلط (ضربت) على ضمير مطابق للمفسر مع نصب المفسر مع مطابقة الضمير في ضربني، وعلى إعمال الأول الرفع من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تضمر في (ضربت) مطابقًا للمفسر، ويرفع ما بعد ذلك الضمير بـ (ضربني).
الثاني: أن تحذف ذلك الضمير المنصوب من الوجه الذي قبله.
الثالث: أن تضمر في (ضربني) مطابقًا للمفسر، والظاهر المرفوع المفسر بدل من ذلك الضمير، أو فاعل والألف والواو، والنون، علامات التثنية والجمع قال امرؤ القيس:
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة
…
كفاني ولم أطلق قليل من المال
ذهب الكوفيون، وجمهور البصريين إلى أنه ليس من الإعمال لاختلاف المقتضى لأن (لم أطلب) لا يقضتي القليل، بل مفعوله محذوف، وهو معطوف على جواب لو فلو اقتضى القليل لفسد المعنى.
وذهب بعض البصريين إلى أنه من باب الإعمال، وأنه معطوف على جواب (لو) والتقدير: لو سعيت لأدنى معيشة لم أطلب قليلاً من المال، لأن (قليلاً من المال) يمكنني دون طلب، ولأكد لحصول القليل عندي، فلا أحتاج إلى تطلبه، وذهب الأستاذ أبو ذر مصعب بن أبي بكر الخشني، والأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن ملكون، والأستاذ أبو علي الشلوبين إلى أنه من الإعمال قالوا: لا يكون (ولم أطلب) معطوفًا على جواب (لو)، وهو (كفاني) بل يكون على استئناف الجملة، أي: وأنا لم أطلب قليلاً من المال، وتكون معطوفة على الجملة المنعقدة من (لو) وجوابها قال النابغة:
ردت عليه أقاصيه ولبده
…
ضرب الوليدة بالمسحاة في التأد
ويروى (بضم راء ردت) ولا إشكال، وبفتح الراء، فخرجه شيخونا على الإعمال، فالعامل الأول هو (ردت)، والعامل الثاني هو المصدر المضاف إلى الفاعل، وهو الوليدة أعمل الثاني، وأضمر في الأول، وتقديره قبل هذا التركيب: ردت الوليدة عليه أقاصيه ولبده ضربها: أي ضرب الوليدة إياه، والتنازع في مثل هذا التركيب غريب.
ويجوز التنازع في الظرف فتقول في إعمال الثاني: سرت وذهبت اليوم، وفي إعمال الأول: سرت وذهبت فيه اليوم، وفي المصدر إن أعملت الثاني قلت: إن تضرب زيدًا أضربك ضربًا شديدًا، وإن أعملت الأول قلت: إن تضرب زيدًا أضربك ضربًا شديدًا، ولا تنازع في الحال لأنها لا تضمر.
وزعم ابن معط أنه يجوز التنازع فيها، ولكن تقول في مثل: إن تزرني ألقك راكبًا على إعمال الأول: إن تزرني أزرك في هذه الحال، راكبًا على معنى إن تزرني راكبًا ألقك في هذه الحال، ولا يجوز الكناية عنها. والأجود إعادة لفظ الحال كالأول انتهى.
وأجاز بعض النحاة التنازع في (لعل) و (عسى) تقول: لعل وعسى يريد أن يخرج على إعمال الثاني، ولو أعمل الأول لقال: لعل وعسى زيدًا خارج، وأجاز السيرافي تنازع المصدرين في قوله:
أرواح مودع أم بكور
…
أنت فانظر لأي ذاك تصير
ومنع بعض النحاة التنازع في المضمر، وأجازه أكثرهم، وفي النهاية:
لا تنازع في المفعول له، ولا الحال، ولا التمييز، ولا في الحرفين وتقول في المفعول معه:(قمت وسرت وعمرًا) إن أعملت فيه (سرت)، وإن أعملت قمت قلت: قمت وسرت وإياه وعمرًا، ويصح تنازع اسمي الفعل نحو: نزال، ومناع زيدًا إذا أعملت الثاني، فإن أعملت الأول قلت: نزال ومناعه زيدًا، ولا يصح تنازع المصدرين، فإذا قلت: سرني إكرامك وزيارتك زيدًا وجب نصب زيدًا بالثاني، ولا يجوز بالأول للفصل بين المصدر ومعموله انتهى. فإن كان المصدر في معنى الأمر، أو في معنى الخبر فينبغي أن يجوز الإعمال بأيهما أردت.