الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
تَتِمَّةٌ:
قد ألحق الله تعالى اللاحقين بالسابقين بحسن الاتباع في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100].
روى أبو الشيخ عن عصمة: أنه سأل سفيان عن: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} قال: من يجيء بعدهم، قال: قلت: إلى يوم القيامة؟ قال: أرجو (1).
فهذه الآية تدل دلالة صريحة لا شبهة فيها أنَّ من تشبه بالسابقين من المهاجرين والأنصار ألحقه الله بهم.
نعم، عليه أن يعرف حقهم، ويحفظ سبقهم، ويحبهم، ويستغفر لهم، ولا يبغضهم، ولا يسبهم؛ ألا ترى كيف يقول سبحانه وتعالى:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا}
(1) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (4/ 272).
{إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 8 - 10].
قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: الناس على ثلاث منازل، قد مضت منزلتان، وبقيت منزلة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت، ثم قرأ:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} الآية.
ثم قال: هؤلاء المهاجرين، وهذه منزلة وقد مضت.
ثم قرأ: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الآية.
ثم قال: هؤلاء الأنصار وهذه منزلة وقد مضت.
فقد مضت هاتان المنزلتان، وبقيت هذه المنزلة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذا المنزلة. رواه الحاكم وصححه، وغيره (1).
وفي قوله: {وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا} ؛ أي: من السابقين واللاحقين.
قال ابن عمر رضي الله عنهما: لا والله لا يكون منهم من يتناولهم وكان في قلبه الغل عليهم. رواه ابن مردويه.
وسيأتي أنَّ الأبدال ما نالوا الذي نالوه إلا بسلامة الصدور، وهذه الخصلة تسبق بصاحبها أهل الصيام والقيام، والنفقات والصدقات.
(1) رواه الحاكم في "المستدرك"(3800).
وقد روى النسائي، والحكيم الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِن أَهْلِ الْجَنَّةِ"، فاطلع رجل من الأنصار تَنطُف لحيته ماء من وضوء، معلق نعليه في يده الشمال، فلما كان من الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ"، فاطلع ذلك الرجل على مثل مرتبته الأولى، فلما كان من الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فاطلع ذلك الرجل، فلما قام الرجل اتبعه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فقال: إني لاحيت أبي، فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثاً؛ فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تحل يميني، فقلت: قال: نعم.
قال أنس: فكان عبد الله بن عمرو يحدث أنه بات معه ليلة، فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه كان إذا انقلب على فراشه ذكر الله، وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، فيسبغ الوضوء، غير أني لا أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الليالي الثلاث، وكدت أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله! إنَّه لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هجرة، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرات في ثلاثة مجالس:"يَطْلُعُ عَلَيْكُم الآنَ رَجُلٌ مِن أَهْلِ الْجَنَّةِ"، فاطلعت أنت تلك المرات الثلاث، فأردت أن آوي إليك، فأنظر ما عملك، قال: ما هو إلا ما قد رأيت، فانصرفت عنه، فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت،
غير أني لا أجد في نفسي غلًّا لأحد من المسلمين، ولا أحسده على خير أعطاه الله إياه، فقال له عبد الله بن عمرو: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق (1).
وروى آدم بن أبي أياس في كتاب "العلم" عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما قرب الله موسى عليه السلام نجياً، أبصر في ظل العرش رجلاً، فغبطه بمكانه، فسأل عنه، فلم يخبر باسمه، وأخبر بعمله، فقال له: هذا رجل كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، بَرٌّ بالوالدين، ولا يمشي بالنميمة (2).
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن عمرو بن ميمون رحمه الله تعالى قال: رأى موسى عليه السلام رجلاً عند العرش، فغبطه بمكانه، فسال عنه، فقالوا: نخبرك بعمله؛ لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، ولا يمشي بالنميمة، ولا يعق والديه، قال: أي رب! ومن يعق والديه؟ قال: يستسب لهما حتى يسبا (3).
وقد علمت بذلك وأمثاله أن هذه الأخلاق الكريمة يسبق المتخلقون بها أهل الاجتهاد في العبادات، وإنما يكون تفاوتهم فيها على قدر
(1) رواه النسائي في "السنن الكبرى"(10699)، والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(2/ 167)، وكذا الإمام أحمد في "المسند"(3/ 166). وصحح العراقي إسناد الإمام أحمد في "تخريج أحاديث الإحياء"(2/ 862).
(2)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (3/ 540).
(3)
رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 67).
تفاوتهم في المعرفة.
وبهذا كان يسبق المهاجرين والأنصار.
وقد علمت ما وصفهم الله به من مكارم الأخلاق، ولذلك قد تجد في أخبار من بعدهم من كان أكثر صلاة وصياماً، واجتهاداً منهم، ولا يبلغ شَأْوَهم.
وهذا أبو بكر رضي الله عنه أسبقهم إلى الإيمان، فكان يسابقهم إلى كل خلق كريم، وعمل صالح، وكان أكثر عمله في طهارة أخلاقه، وتقديس سره، وما فضلهم ولا سبقهم بكثرة صلاة، ولا صيام، ولكن بسرٍّ وَقَرَ في صدره، وحب شغف قلبه.
وكذلك علي رضي الله عنه سبق إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ وقد اختلف أيهما كان أسبق.
وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 10]؛ قال: يوشع بن نون سبق إلى موسى، ومؤمن آل يس سبق إلى عيسى، وعلي بن أبي طالب سبق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
وأخرجه نحوه مرفوعاً.
وقد شارك أبا بكر وعلياً في هذا السبق خديجة - بل هي أسبقهم -، وزيد بن حارثة، وبلال.
وقد أحسن من قال: أول من سبق إلى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم من الرجال أبو بكر، ومن الصبيان علي، ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد،
(1) رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(10/ 3330).
ومن العبيد بلال رضي الله عنهم (1).
ثم إن ثم سابقين من وجه آخر بالنسبة إلى أصناف العباد؛ كما روى عبد بن حميد عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السَّابِقُوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَرْبَعَةٌ؛ فَأَنَا سَابِقُ العَرَبِ، وَسَلْمَانُ سَابِقُ فَارِسَ، وبِلالٌ سَابِقُ الْحَبَشَةِ، وَصُهَيْبٌ سَابِقُ الرَّومِ"(2).
ورواه الحاكم وصححه عن أنس متصلاً، ولفظه:"أَنَا سَابِقُ العَرَبِ، وَصُهَيْبٌ سَابِقُ الرَّومِ، وَسَلْمَانُ سَابِقُ الفُرْسِ، وَبِلالٌ سَابِقُ الْحَبَشَةِ"(3).
ورواه البزار، والطبراني في "الكبير"، والحاكم عن أنس، والطبراني عن أم هانئ، وابن عدي عن أبي أمامة رضي الله عنهم قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السُّبَّاقُ أَرْبَعَةٌ؛ أَنَا سَابِقُ العَرَبِ
…
فَذَكَرَهُ" (4).
وهذا السبق شامل للسبق إلى الإيمان والخير، وللسبق في الفضيلة أيضاً.
(1) انظر: "تفسير القرطبي"(8/ 237).
(2)
ورواه عبد الرزاق في "المصنف"(20432)، وعبد الله ابن الإمام أحمد في "فضائل الصحابة"(2/ 909).
(3)
رواه الحاكم في "المستدرك"(5715).
(4)
رواه البزار في "المسند"(6901)، والطبراني في "المعجم الكبير"(7288)، والحاكم في "المستدرك "(5243) عن أنس رضي الله عنه.
ورواه الطبراني في "المعجم الكبير"(24/ 435) عن أم هانئ رضي الله عنها.
ورواه ابن عدي في "الكامل"(2/ 75) عن أبي أمامة رضي الله عنه.
وأفضل السابقين بعد الأنبياء عليهم السلام: أبو بكر رضي الله عنه، وهو سابق العرب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم، ثم هذه العشرة، وهم أفضل ممن سواهم حتى من سلمان، وصهيب، وبلال رضي الله عنهم.
ومن الأدلة على سبق أبي بكر رضي الله عنه، وفضله مع الإجماع: ما رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنهم كانوا يخيرون في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان (1).
وروى خيثمة بسند صحيح عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: أول من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق (2).
وروى ابن أبي شيبة، وابن عساكر عن سالم بن أبي الجعد قال: قلت لمحمد بن الحنفية: هل كان أبو بكر رضي الله عنه أول القوم إسلاماً؟ قال: لا، قلت: فيم علا أبو بكر وسبقَ حتى لا يذكر أحد غير أبي بكر؟ قال: لأنه كان أفضلهم إسلاما حين أسلم حتى لحق بربه (3).
وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحسين التميميُّ: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الإِسْلامِ
(1) رواه البخاري (3455).
(2)
رواه خيثمة في "حديثه"(ص: 130)، وكذا رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(5002).
(3)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(36595)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(30/ 46).
إِلَاّ كَانَتْ لَهُ عَنْهُ كَبْوَةٌ وَتَرَدُّدٌ، وَنَظَرٌ، إِلَاّ أَبَا بَكْرٍ مَا عتم عَنْهُ حِيْنَ ذَكَرْتُهُ لَهُ، وَمَا تَرَدَّدَ فِيْهِ" (1).
وروى أبو نعيم، وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا كَلَّمْتُ فِي إلإِسْلامِ أَحَداً إِلا أَبَى عَلَيَّ وَرَاجَعَنِي فِي الكَلامِ إِلا ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ؛ فَإنيِّ لَم أُكَلِّمْهُ فِي شَيْءٍ إِلا قَبِلَهُ وَاسْتَقَامَ عَلَيْهِ"(2).
وروى أبو بكر بن أبي عاصم في "فضائل الصحابة" عن الحسن رحمه الله تعالى قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين! كيف سبق المهاجرون والأنصار إلى بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأنت أسبق منه سابقة، وأدرى منه منقبة؟ فقال علي رضي الله عنه: ويلك! إنَّ أبا بكر سبقني إلى أربعة لم أوتهن، ولم أعتض منهن بشيء: سبقني إلى إفشاء الإسلام، وقدم الهجرة، ومصاحبته في الغار، وأقام الصلاة وأنا يومئذ بالشعب يُظهِرُ إسلامَه، وأخفيه، وتستحقر في قريش وتستوفيه، والله لو أنَّ أبا بكر زال عن مزيته ما بلغ الدين - يعني: الجانبين -، ولكان الناس كرعة ككرعة طالوت، ويلك! إنَّ الله ذم الناس ومدح أبا بكر، فقال:{إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة: 40]، الآية
(1) رواه ابن إسحاق في "السيرة"(2/ 120).
(2)
رواه أبو نعيم في "تاريخ أصبهان"(2/ 297)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(30/ 44).
كلها؛ فرحمة الله على أبي بكر، وأبلغ الله روحه مني السلام (1).
وروى ابن الجوزي في كتاب "الإشراف على مناقب الأشراف" عن علي رضي الله عنه قال: سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى أبو بكر، وثلَّث عمر رضي الله عنهما (2).
وعن عامر - يعني: الشعبي - قال: قال رجل لبلال رضي الله عنه: من سبق؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قال: من صلى؟ قال: أبو بكر رضي الله عنه، قال الرجل: وإنما أعني في الخيل؟ قال بلال: وأنا إنما أعني في الخير (3).
وروى اللالكائي، وابن عساكر، وغيرهما عن الشعبي: أنَّ حسان ابن ثابت رضي الله عنه قال في النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر رضي الله عنهما:[من المنسرح]
ثَلاثَةٌ بَرَزُوْا بِسَبْقِهِمُ (4)
…
نَضَّرَهُمْ رَبُّهُمْ إِذا نُشِرُوْا
فَلَيْسَ مِنْ مُؤْمِنٍ لَهُ بَصَرٌ
…
يُنْكِرُ تَفْضِيْلَهُمْ إِذا ذُكِرُوْا
(1) ورواه الطبري في "الرياض النضرة في مناقب العشرة"(1/ 423).
(2)
ورواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 112)، والطبراني في "المعجم الأوسط"(1639).
(3)
ورواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 172).
(4)
في "اعتقاد أهل السنة": "إذا نشروا"، وفي:"تاريخ دمشق""بسيفهم" بدل "بسبقهم".
عاشُوْا بِلا فُرْقَةٍ ثَلاثَتُهُمْ (1)
…
وَاجْتَمَعُوْا فِيْ الْمَماتِ إِذْ قُبِرُوْا (2)
وروى ابن أبي خيثمة، وعبد الله ابن الأمام أحمد في "زوائد الزهد" عن عمر رضي الله عنه قال: إنَّ أبا بكر رضي الله عنه كان سابقاً مبرزاً (3).
وروى ابن عساكر عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حَدَّثَنِي عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ مَا سَابَقَ أَبَا بَكْرٍ إِلَى خَيْرٍ قَطُّ إِلَاّ سَبَقَهُ بِهِ (4).
وروى الطبراني في "الأوسط" عن علي رضي الله عنه قال: والذي نفسي بيده ما استبقنا إلى خير قط إلا سبقنا إليه أبو بكر رضي الله عنه (5).
وروى أبو داود، والترمذي وصححه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، ووافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً.
(1) في "تاريخ دمشق": "حياتهم" بدل "ثلاثتهم".
(2)
رواه اللالكائي في "اعتقاد أهل السنة"(7/ 1328)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(30/ 397).
(3)
رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 111).
(4)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(30/ 65)، وكذا الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(5/ 76).
(5)
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(7168).
قال: فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ؟ "، قلت: مثله.
وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده، فقال:"يَا أَبَا بَكْرٍ! مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ؟ "، فقال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت:"لا أسبقه إلى شيء أبداً"(1).
وروى أبو الحسن علي بن الحسين الخلعي في "فوائده" عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى الصبح، فلما صلى صلاته قال:"أَيُّكُمْ أَصْبَحَ اليَوْمَ صَائِمًا؟ " فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أما أنا يا رسول الله بتُّ لا أحدث نفسي بالصوم، وأصبحت مفطراً، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أنا يا رسول الله بتُّ الليلة وأنا أحدث نفسي بالصوم، فأصبحت صائما، قال:"فَأَيُّكُمْ عَادَ اليَوْمَ مَرِيْضًا؟ " فقال عمر: يا رسول الله! إنما صلينا الساعة ولم نبرح، فكيف نعود المريض؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله؛ أخبروني أن أخي عبد الرحمن بن عوف وجع فجعلت طريقي عليه، فسألت به، ثم أتيت المسجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فَأَيُّكُمْ تَصَدَّقَ اليَوْمَ صَدَقَةً؟ " فقال عمر: يا رسول الله! ما برحنا معك منذ صلينا، أو قال: ما برحنا منذ صلينا، فكيف نتصدق؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: أنا يا رسول الله؛ لما جئت من عند عبد الرحمن دخلت المسجد فإذا سائل يسأل، وابن لعبد الرحمن بن أبي بكر معه كسرة خبز، فاجتذبتها،
(1) رواه أبو داود (1678)، والترمذي (3675) وقال: حسن صحيح.
فناولتها إياه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر:"فَأَبْشِرْ بِالْجَنَّةِ"، مرتين.
فلما سمع عمر بذكر الجنة تنفس فقال: "هاه"، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال كلمة رضي بها عمر رضي الله عنه:"رَحِمَ اللهُ عُمَرَ! يَقُوْلُ: ما سابَقْتُ أَبا بَكْرٍ إِلَىْ خَيْرٍ إِلَاّ سَبَقَنِيْ إِلَيْهِ"(1).
وروى الإمام أحمد، وأبو حفص بن شاهين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "سَلْ تُعْطَ"، ولم أسمعه، فأدلج أبو بكر رضي الله عنه، فسرني بما قال إليه صلى الله عليه وسلم، ثم أتاني عمر رضي الله عنه، فأخبرني بما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: قد سبقك إليها أبو بكر، قال عمر رضي الله عنه: أبو بكر؟ ما استبقنا لخير إلا سبقني إليه، إنه كان سبَّاقاً للخيرات، فقال عبد الله: ما صليت فريضةً ولا تطوعاً إلا دعوت الله في دبر صلواتي: اللهم إني أسألك إيماناً لا يرتد، ونعيماً لا ينفد، ومرافقة نبيك محمد في أعلى جنة الخلد.
أنا أرجو أن أكون دعوت [بهنَّ](2) البارحة (3).
وروى الإمام أحمد عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سمع قراءة ابن مسعود رضي الله عنه ليلاً: "مَنْ سَرَّهُ أَنُ يَقْرَأَ القُرْآنَ رَطْبًا، فَلْيَقْرَأْهُ
(1) ورواه المحب الطبري في "الرياض النضرة في مناقب العشرة"(1/ 423).
(2)
غير واضح في "م"، والمثبت من "ت".
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 386) بلفظ قريب، ورواه بلفظ الأصل: المحب الطبري في "الرياض النضرة في مناقب العشرة"(1/ 355)، ورواه الترمذي (593) مختصراً.
كَمَا يَقْرَؤُهُ ابنُ أُمِّ عَبْدٍ"، فلما أصبحت غدوت إليه لأبشره، فقال: سبقك أبو بكر (1).
وروى أبو نعيم عن علقمة قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إني جئتك من عند رجل يُمْلِ المصاحف عن ظهر قلب، ففزع عمر رضي الله عنه، وغضب، وقال: ويحك! انظر ما تقول، قال: ما جئتك إلا بالحق، قال: من هو؟ ، قال: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: ما أعلم أحداً أحق بذلك منه، وسأحدثك عن عبد الله: إنَّا سهرنا ليلة في بيت عند أبي بكر رضي الله عنه، وفي بعض ما يكون من حاجة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم خرجنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي بيني وبين أبي بكر، فلما انتهينا إلى المسجد إذا رجل يقرأ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يستمع إليه، فقلت: يا رسول الله! أعتمت، فغمزني بيده؛ اسْكُتْ، قال: فقرأ، وركع، وسجد، وجلس يدعو ويستغفر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"سَلْ تُعْطَهْ"، ثم قال:"مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ القُرْآنَ رَطْبًا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْ قِرَاءَةَ ابنِ أُمِّ عَبْدٍ"، فعلمت أنا وصاحبي أنَّه عبد الله، فلما أصبحت غدوت إليه لأبشره، فقال: سبقك بها أبو بكر، وما سابقتُه إلى خير قط إلا سبقني إليه (2).
وروى ابن الجوزي في "الإشراف" عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التيمي قال: كان أبو بكر رضي الله عنه رجلاً مؤلفاً محبباً سهلاً، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 38)، وقد ذكره المؤلف مختصراً.
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 124).
قريش بما كان من خير أو شر، وكان رجلاً تاجراً ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر؛ لعلمه، وتجارته، وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام كل من وثق به من قومه ممن يغشاه، ويجلس إليه، فأسلم على يديه - فيما بلغني - عثمان بن عفان، والزبير ابن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استجابوا لله، وأسلموا، وصلوا، فكان هؤلاء أول من أسلم وآمن بالله ورسوله بعد أبي بكر، وهم سُبَّاق هذه الأمة (1).
وقوله: "فكان هؤلاء
…
" إلى آخره احترازٌ عمن سبق مع أبي بكر رضي الله عنهم؛ وهم: خديجة، وعلي، وزيد بن حارثة، وبلال، وكذلك من أسلم مع هؤلاء، إلا أنَّ هؤلاء أسلموا على يد أبي بكر رضي الله عنهم كابن مسعود، وأبي ذر، وعمار، وأبويه، وخباب وصهيب رضي الله عنهم.
فكل هؤلاء سابقون، والتشبه بهم مطلوب؛ فمن أراد الاقتداء بهم ينبغي أن يبحث عن ما كانوا عليه من الأعمال والأخلاق والآداب، فيتلبس بها، ويتحلى بحلاها، ولا سيما الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم، وبالخصوص الشيخان رضي الله عنهما.
روى الترمذي، وابن ماجه عن حذيفة رضي الله عنه قال: كنَّا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إِنَّي لا أَدْرِيْ مَا بَقَائِيَ فِيْكُمْ؛ فَاقْتدُوا بِالَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي،
(1) رواه ابن إسحاق في "السيرة"(2/ 121).
وأشار إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما" (1).
وأخرجه الإمام أحمد، وابن حبان، ولفظهما: "إِنِّى لا أَدْرِيْ بَقَائِيَ فِيْكُم إِلا قَلِيْلاً؛ فَاقْتَدُوْا
…
" (2).
وفي رواية للترمذي - وقال: هذا حديث حسن -، فقال:"إِنِّى لا أَدْرِيْ مَا قَدْرُ بَقَائِيَ فِيْكُم؛ فَاقْتَدُوا بِالَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي - وأشار إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارَ رضي الله عنه، وَمَا حَدَّثَكُم ابْنُ مَسْعُوْدِ رضي الله عنه فَصَدِّقُوْهُ"(3).
وأخرجه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقْتَدُوا بِاللذَيْنِ مِنْ بَعْدِي - أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ -، وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارَ، وَتَمَسَّكُوْا بِعَهْدِ ابْنِ مَسْعُودٍ"(4).
وأخرجه أبو يعلى من حديث، وقال فيه:"وَمَا حَدَّثَكُم ابْنُ مَسْعُوْدٍ فَاقْبَلُوْهُ".
قلت: وفي قوله: "اقتدوا باللذين من بعدي"، ثم قال:"واهتدوا بهدي عمار" إشارة إلى مزية لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وهي أنَّ أعمالهما
(1) رواه الترمذي (3663)، وابن ماجه (97).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 385)، وابن حبان في "صحيحه"(6902).
(3)
رواه الترمذي (3799) وحسنه.
(4)
رواه الترمذي (3805) وحسنه.
وأقوالهما جميعها على السداد؛ كل ما منهما، أو فيهما صالح للاقتداء به، صواب مقبول؛ فافهم!
وقد روى الحديث الطبراني في "الكبير" عن أبي الدرداء رضي الله عنه، ولفظه:"اقْتَدُوا بِاللذَيْنِ مِنْ بَعْدِي - أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ -؛ فَإِنَّهُمَا حَبْلُ اللهِ الْمَمْدُوْدُ، مَنْ تَمَسَّكَ بِهِمَا فَقَد تَمَسَّكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى الَّتِي لا انْفِصَالَ لَهَا"(1).
أي: فإنَّ الاقتداء بهما، أو: فإنَّ هديهما حبل الله الممدود بينه وبين عباده، الموصل إليه، ومن تمسك بهديهما فقد استوثق.
وروى الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم وصححاه، عن العِرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظةً وَجِلَت منها القلوب، وذَرَفَت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع؛ فأوصنا، قال:"أُوْصِيْكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُم عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، وَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُم فَسَيَرى اخْتِلافًا كَثِيْراً؛ فَعَلَيْكُم بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِيْنَ الْمَهْدِيِّيْنَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُم وَمُحْدَثَاتِ الأُمُوْرِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَة"(2).
(1) رواه الطبراني في "مسند الشاميين"(913). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(9/ 53): فيه من لم أعرفهم.
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 126)، وأبو داود (4607)، وابن ماجه (42)، وابن حبان في "صحيحه"(5)، والحاكم في "المستدرك"(329).
وروى الترمذي وصححه، ولفظه: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال رجل: إنَّ هذه موعظة مودع؛ فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ فقال: "أُوصِيْكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُم يَرَى اخْتِلافًا كَثِيْرًا، وَإِيَّاكُم وَمُحْدَثَاتِ الأُمُوْرِ؛ فَإنَّهَا ضَلالَةٌ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُم فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِيْنَ الْمَهْدِيِّيْنَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِد"(1).
وهذه الرواية تدل على مزيد التأكيد باتباع سنة الخلفاء الراشدين، والتشبه بهم في زمان الاختلاف الكثير، والاختلاط الهائل، والإحداث في الدين؛ فإنَّ الاتباع حينئذ عزيز، والانقياد للسنة حينئذ دليل على رشد العبد وثباته في الدين، ورسوخه في اليقين، ولذلك يعظم أجره حتى يكون له أجر خمسين من الأولين، كما تقدم.
ومن كان كذلك كيف لا يكون من أقوى الصديقين، وأسبق السابقين؟
***
(1) رواه الترمذي (2676).