المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

العلم، فقال: "مَنْ بَرَّتْ يَمِيْنُهُ، وَصَدَقَ لِسَانُهُ، وَاسْتَقَامَ قَلْبُهُ، وَعَفَّ - حسن التنبه لما ورد في التشبه - جـ ٤

[نجم الدين الغزي]

فهرس الكتاب

- ‌ تَنْبِيْهٌ:

- ‌ تَتِمَّةٌ:

- ‌ تَنْبِيْهٌ:

- ‌خاتمة

- ‌(5) بَابُ التَّشَبُّه بِالصِّدِّيْقِيْنَ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُم

- ‌ فائِدَةٌ:

- ‌فَصْلٌ

- ‌ فائِدَةٌ لَطِيْفَةٌ:

- ‌وأمرُ بلعام يحتمل وجهين:

- ‌فَصْلُ

- ‌ تَنْبِيْهٌ:

- ‌ تَتِمَّةٌ:

- ‌خَاتِمَة

- ‌فَصَلٌ

- ‌ تنبِيْهٌ:

- ‌ تتمة:

- ‌فَصْلٌ

- ‌ فائِدةٌ:

- ‌ تَنْبِيْهٌ:

- ‌فَصْلٌ

- ‌ تَتِمَّةٌ:

- ‌ تَذْنِيْبٌ:

- ‌ تَذْيِيْلٌ:

- ‌خَاتمَة

- ‌فَصْلٌ

- ‌ تنبِيْهٌ:

- ‌ تنبِيْهٌ:

- ‌(6) باب التشبه بالنبيين صلوات الله عليهم وسلامه عليهم أجمعين

- ‌1 - فمنها: العلم وطلبه، والرحلة في طلبه والاستزادة منه

- ‌2 - ومنها: تعليم العلم وإفادته، وإرشاد الناس إلى الخير

- ‌3 - ومنها: النطق بالحكمة

- ‌4 - ومنها: النصيحة

- ‌5 - ومنها -وهو من أخص أعمالهم وأغلب أحوالهم-: الدعاء إلى الله والإرشاد إليه

- ‌6 - ومنها: التوحيد، والإِسلام، والإيمان، والإحسان

- ‌7 - ومنها: شهود الأفعال من الله تعالى على وجه الحكمة

- ‌8 - ومنها: القيام بالحقوق وتأدية الأمانات

- ‌ تنبِيْهٌ:

- ‌9 - ومنها: القضاء بالحق

- ‌10 - ومن أعمال الأنبياء عليهم السلام: مصابرة العبادة

- ‌11 - ومنها: إقامة الصلاة، والمحافظة عليها وعدم التهاون بها

- ‌ تنبِيْهٌ:

- ‌ فائِدَةٌ:

- ‌ فائِدَةٌ أخرى:

- ‌12 - ومنها: الفزع عند الأمور المهمة إلى الصلاة، وطلب الرزق والحاجة بها

- ‌13 - ومنها: الطهارة للصلاة

- ‌14 - ومنها: وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة

- ‌15 - ومنها: صلاة الضحى

- ‌16 - ومنها: الصلاة عند زوال الشمس

- ‌17 - ومنها: تعظيم يوم الجمعة

- ‌18 - ومنها: قيام الليل

- ‌19 - ومنها: الصدقة، والخروج عما يشغل عن طاعة الله تعالى لوجه الله تعالى

- ‌20 - ومنها: تلاوة كتاب الله تعالى

- ‌21 - ومنها: الصيام

- ‌22 - ومنها: تعجيل الفطر وتأخير السحور

- ‌23 - ومنها: إيثار الجوع

- ‌24 - ومن أعمال الأنبياء عليهم السلام: فطر يوم الفطر ويوم الأضحى

- ‌25 - ومنها: التضحية وإهداء الهدي

- ‌26 - ومنها: الاعتكاف في البيت الحرام وغيره من المساجد

- ‌27 - ومنها: الحج إلى البيت الحرام، وتأدية مناسكه كما هو مقرر في الشريعة

- ‌ تَنْبِيْهٌ لَطِيْفٌ:

- ‌28 - ومن أخلاق الأنبياء عليهم السلام وأعمالهم: التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌29 - ومنها: بر الوالدين

- ‌30 - ومنها: العفو والاحتمال، ومقابلة السيئة بالحسنة

- ‌31 - ومنها: الحلم وحسن الخلق

- ‌32 - ومنها: العود على النفس باللائمة إذا جهل أحدٌ عليهم

- ‌33 - ومنها: السَّخاء

- ‌34 - ومنها: الضيافة وإكرام الضيف

- ‌ فائِدَةٌ:

- ‌ تَنْبِيْهٌ:

الفصل: العلم، فقال: "مَنْ بَرَّتْ يَمِيْنُهُ، وَصَدَقَ لِسَانُهُ، وَاسْتَقَامَ قَلْبُهُ، وَعَفَّ

العلم، فقال:"مَنْ بَرَّتْ يَمِيْنُهُ، وَصَدَقَ لِسَانُهُ، وَاسْتَقَامَ قَلْبُهُ، وَعَفَّ بَطْنُهُ وَفَرْجُهُ، فَذَلِكَ مِنَ الرَّاسِخِيْنَ فِيْ العِلْمِ"(1).

وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "فَذَلِكَ مِنَ الرَّاسِخِيْنَ فِيْ العِلْمِ" إشارة إلى أن لهم أخلاقاً أخرى، وقد وصفهم الله تعالى بقوله:{يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] الآية.

نعم، جمع الحديث المذكور مجامع أخلاق الراسخين في العلم يجمعها جميعًا الإيمان المشار إليه في الآية، وكل ذلك داخل في العمل بالعلم.

*‌

‌ تَنْبِيْهٌ:

من أولى ما ينبغي أن يهتم به العالم: طلب العافية من الله في علمه؛ إذ ورد: "يعافى الأميون يوم القيامة مما لا يعافى منه العلماء"(2).

ولذلك لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الكلمات حين يمسي وحين يصبح: "اللَّهُمَّ إِنِّيْ أَسْأَلُكَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ فِيْ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْألُكَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ فِي دِيْنِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ

(1) رواه الطبري في "التفسير"(3/ 185)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(2/ 559) لكنهما لم يذكرا واثلة رضي الله عنه، ورواه الطبراني في "المعجم الكبير"(7658) عن أبي الدرداء، وأنس، وأبي أمامة، وواثلة رضي الله عنهم.

(2)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(9/ 222) وقال: غريب، قال عبد الله - ابن الإمام أحمد -: قال أبي: هذا حديث منكر، وما حدثني به إلا مرة. ورواه الديلمي في "مسند الفردوس"(7868) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

ص: 22

عَوْرَاتِي وَآمِنْ رَوْعَاتِيْ، اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِيْنِيْ وَعَنْ شِمَالِيْ، وَمِنْ فَوْقي، وَأَعُوْذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي".

قال وكيع بن الجراح: يعني: الخسف.

رواه أبو داود، والنسائي، والحاكم وصححه، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما (1).

وروى الترمذي وحسنه، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدُّعَاءُ لا يُرَدُّ بَيْنَ الأَذَانِ والإِقامَةِ"، قالوا: فماذا نقول؟ قال: "سَلُوْا اللهَ العَافِيَةَ فِيْ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ"(2).

وروى هو والحاكم وصححه، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَا سُئِلَ اللهَ تَعَالى شَيْئاً أَحَبَّ إِليْهِ مِنَ العَافِيَةِ"(3).

وروى ابن ماجه بإسناد حسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ دَعْوَةٍ يَدْعُوْ بِهَا العَبْدُ أَفْضَلَ مِن: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ المُعَافَاةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ"(4).

(1) رواه أبو داود (5074) واللفظ له، والنسائي (5530) مختصرًا، والحاكم في "المستدرك"(1902). وكذا ابن ماجه (3871).

(2)

رواه الترمذي (3594) وحسنه.

(3)

رواه الترمذي (3548) وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي، وهو ضعيف في الحديث، ضعفه بعض أهل العلم من قبل حفظه. ورواه الحاكم في "المستدرك"(1833).

(4)

رواه ابن ماجه (3851).

ص: 23

وروى الإمام أحمد، والترمذي وحسنه، والنسائي بأسانيد بعضها صحيح، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أنه قام على المنبر، ثم بكى، فقال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الأول على المنبر، ثم بكى، فقال:"سَلُوْا اللهَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ؛ فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُعْطَ بَعْدَ اليَقِيْنِ خَيْرًا مِنَ العَافِيَةِ"(1).

وروى الإمام أحمد، وغيره، وصححه ابن حبان، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يقول على المنبر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - ثم استعبر - يقول في مثل هذا اليوم من عام الأول: "إنَّ النَّاسَ لَمْ يُؤْتَوْا شَيِئاً بَعْدَ كَلِمَةِ الإِخْلاصِ مِثْلَ العَافِيَةِ؛ فَاسْأَلوْا اللهَ العَافِيَةَ"(2).

وأنشد الحافظ أبو الفضل بن حجر العسقلاني لنفسه عند إملاء هذا الحديث: [من السريع]

أَمْرانِ لَمْ يُؤْتَ امْرُؤٌ عاقِلٌ

مِثْلَهُما فِيْ دارِنا الْفانِيَةْ

مَنْ يَسَّرَ اللهُ تَعالَىْ لَهُ

شَهادَةَ الإِخْلاصِ وَالْعافِيَةْ

(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 3)، والترمذي (3558) وحسنه، والنسائي (10715 - 10724).

(2)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 4)، وابن حبان في "صحيحه"(950).

ص: 24

وأنشد شيخ الإسلام أبي رحمه الله تعالى عقب إملائه: [من السريع]

يا أَيُّها النَّاسُ سَلُوْا رَبَّكُمْ

عافِيَةً فَهْيَ لَكُمْ كافِيَةْ

فَما مُنِحْتُمْ بَعْدَ أَنْ تَشْهَدُوْا

شَهادَةَ الإِخْلاصِ كَالْعافِيَة

وقد ألم بذلك قبلهما الإمام الشافعي رضي الله عنه فيما أسنده أبو القاسم الأصبهاني (1) في "الترغيب" عن الربيع بن سليمان عنه، فقال:[من السريع]

لا تَأْسَ فِي الدُّنْيا عَلى فائِتِ

وَعِنْدَكَ الإِسْلامُ وَالعافِيَة

إِنْ فاتَ شَيْءٌ كُنْتَ تَسْعَى لَهُ

فَفِيهِما مِنْ فائِتٍ كافِيَة (2)

وأقول:

(1) من هنا سقط في النسخة الخطية للمؤلف والمرموز لها بـ "م" مقدار ست لوحات، والاستدراك من النسخة "ت".

(2)

وانظر: "روضة العقلاء" لابن حبان (ص: 278)، و"يتيمة الدهر" للثعالبي (4/ 91)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (51/ 415).

ص: 25

أَحَقُّ مُحْتاجٍ لِلْعافِيَة

فِي دارِهِ الدُّنْيا وَفِي الآتِيَة

ذُو العِلْمِ فِي أَحْوالِهِ كُلِّها

فَيا لَها مِنْ نِعْمَةٍ كافِيَة

إِنْ عُوفِيَ العالِمُ فِي دِينِهِ

فَنِعْمَةٌ وافِرَةٌ وافِيَة

فَالعِلْمُ وَالإِخْلاصُ وَالعافِيَة

تُسْكِنُهُ فِي الْجَنَّةِ العالِيَة

[ ................. ]

كانَتْ لَهُ مِنْ قَبْلِها واقِيَة

يا رَبِّ فِي الدُّنْيا وَفِي الباقِيَة

أَدِمْ عَلَيْنا العَفْوَ وَالعافِيَة

يا رَبِّ [

] تعفه مِنْهُما

[

] واهِية فِي [

]

إِنَّ الَّذِي مَنَحْتَهُ العافِيَة

فَهْوَ الَّذِي نِعْمَتُهُ شافِيَة

وفي تقديم [

]، فإنه مقام الوراثة عن النبوة والخلافة عن الله عز وجل؛ فإن [

] خلق رفيع كريم، ومقام نبوي [

].

ص: 26

قال الله تعالى: {وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282].

وقال: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن: 1 - 2].

وقال: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 4 - 5].

وقال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي". رواه الحكيم الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (1).

[

] على العالم أن يبث عليه لمن يحتاج إليه إذا تعين عليه البث؛ كأن [يرى] المعصية، أو رأى من يعمل بعد [

] من يقوى بهذا أن أمر غيره [

] بجاهل عن فروض الكفايات، و [

] فرض عين.

قال الله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146].

وروى أبو نعيم، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما آتَى اللهُ عالِماً عِلْماً إِلَاّ أَخَذَ عَلَيْهِ مِنَ الْمِيثاقِ ما أَخَذَ مِنَ النَّبِيِّينَ أَنْ يُبيِّنَهُ وَلا يَكْتُمَهُ"(2).

وروى الإمام أحمد، وأصحاب السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ، ألْجِمَ يَومَ القِيامَةِ بِلِجامٍ مِنْ نارٍ"(3).

(1) رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(1/ 385).

(2)

قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(1/ 17): رواه أبو نعيم في "فضل العالم العفيف".

(3)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 495)، وأبو داود (3658)، والترمذي (2649) وحسنه، وابن ماجه (266).

ص: 27

ويروى من حديث حَسن، وابن مسعود كما تقدم (1).

وروى ابن عدي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كتَمَ عِلْماً عَنْ أَهْلِهِ، أُلجِمَ يَومَ القِيامَةِ بِلِجامٍ مِنْ نارٍ"(2).

وروى ابن ماجه عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَتَمَ عِلْماً مِمَّا يَنْفَعُ اللهُ بِهِ [في أمر] النَّاس فِي الدَّارَينِ (3)، أَلْجمَهُ اللهُ يَومَ القِيامَةِ بِلِجامٍ مِنْ نارٍ"(4).

وروى الحاكم في "تاريخه" عن عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى قال: من بخل بالعلم ابتلي بثلاث: إما أن يموت فيذهب عليه، وإما أن ينسى حديثه، وإما أن يبتلى بالسلطان (5).

وفي معناه قلت:

مَنْ ضَنَّ بِالعِلْمِ ابْتُلِيَ بِثَلاثَةٍ

فِي هَذِهِ لدُّنْيا وَيَلْقَى إِثْمَهُ

إِمَّا يَمُوتُ فَلا يَكُونُ بِعِلْمِهِ

نَفْعٌ وإِمَّا أَنْ يُنَسَّى عِلْمَهُ

أَوْ يَتْبَعُ السُّلْطانَ حَتَّى إِنَّهُ

لَيُقِرُّهُ يَوما وَيرْضَى حُكْمَهُ

(1) تقدم تخريجه.

(2)

رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(3/ 455) وأعله بسوار بن مصعب، وقال: ضعيف.

(3)

في مصدر التخريج: "أمر الدين" بدل "في الدارين".

(4)

رواه ابن ماجه (265).

(5)

ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 165).

ص: 28

وينبغي للعالم كما لا يبخل بالعلم عن أهله أن يصونه عن غير أهله، ولا يكون ذلك كتماناً، وقد شبِّه من وضع العلم في غير أهله بتقليد أعناق الخنازير الجوهر، ففي حديث أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَطْرَحُوا الدُّرَّ فِي أَفْواهِ الْخَنازِيرِ".

وفي لفظةٍ: "أَفْواهِ الكِلابِ". رواه البخاري في "تاريخه" باللفظ الأول، والمُخَلِّص بالثاني (1).

أي: لا تلقوا الحكمة وتعطوها غير أهلها.

وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن سفيان رحمه الله تعالى قال: قال عيسى عليه السلام: إن للحكمة أهلاً؛ [فإن وضعتها في غير أهلها أضعتها، وإن منعتها من أهلها](2) ضيعتها، لكن كالطبيب يضع الدواء حيث ينبغي (3).

وروى أبو الحسن بن جهضم في "بهجة الأسرار" عن أبي محمد الجريري رحمه الله تعالى قال: رأيت في المنام كأن قائلًا يقول: إن لكل شيء عند الله حقًا، وإن أعظم الحق عند الله حق الحكمة؛ فمن جعل

(1) ورواه باللفظ الأول أبو القاسم البغوي في "جزئه"(ص: 37).

ورواه باللفظ الثاني ابن الأعرابي في "معجمه"(2/ 465)، وابن حبان في "المجروحين"(2/ 117)، وابن عدي في "الكامل" (7/ 223) وقال: رواه يحيى بن عقبة بن أبي العيزار، وعامة ما يرويه لا يتابع عليه.

(2)

ما بين معكوفتين من "الحلية".

(3)

ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 273).

ص: 29

الحكمة في غير أهلها طالبه الله بحقها، ومن طالبه الله بحقٍّ خُصِم (1).

وروى ابن السبكي في "طبقاته" عن أبي عمرو العثماني قال: لما دخل الشافعي إلى مصر كلَّمه أصحاب مالك، فأنشأ يقول:

أَأَنْثُرُ دُرًّا بَيْنَ راعِيَةِ الغَنَم

وَأَنْثُرُ مَنْظُوما لِراعِيَةِ النِّعَم

لَئِنْ كُنْتُ قَدْ ضُيِّعْتُ فِي شَرِّ بَلْدَةٍ

فَلَسْتُ مُضَيِّعاً بَيْنَهُمْ غُرَرَ الكَلِم

فَإِنْ فَرَّجَ اللهُ الكَرِيْمُ بِلُطْفِهِ

وَأَدْرَكْتُ أَهْلاً لِلْعُلُومِ وَالْحِكَم

بَثَثْتُ مُفِيداً وَاسْتَفَدْتُ وِدادَهُمْ

وإِلَاّ فَمَخْزُونٌ لَدَيَّ وَمُكْتَتَم

وَمَنْ مَنَحَ الْجُهَّالَ عِلْماً أَضاعَهُ

وَمَنْ مَنَعَ الْمُسْتَوْجِبِينَ فَقَدْ ظَلَم (2)

قلت: وقول الشافعي رضي الله تعالى عنه: ومن منح الجهال يريد

(1) ورواه السلمي في "طبقات الصوفية"(ص: 204)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(10/ 348).

(2)

انظر: "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (1/ 294).

ص: 30

[

] الذين لا يرغبون فيه، ولا [

] به؛ وإلا فإن تعظيم العلم لا يكون لمن جهله.

وروى ابن السبكي أيضًا عن الإمام الزاهد الفقيه العابد سيدي نصر بن إبراهيم المقدسي رحمه الله تعالى قال: أنشدني بعض أصحابنا؛ وقيل: إنها للشافعي رضي الله تعالى عنه:

الْعِلْمُ مِنْ شَرْطِهِ مَنْ (1) خَدَمَه

أَنْ يَجْعَلَ النَّاسَ كُلَّهُمْ خَدَمَة

وَواجِبٌ صَوْنُهُ عَلَيْهِ كَما

يَصُونُ فِي النَّاسِ عِرْضَهُ وَدَمَه

فَمَنْ حَوى العِلْمَ ثُمَّ أَوْدَعَه

بِجَهْلِهِ غَيْرَ أَهْلِهِ ظَلَمَه

وَكانَ كَالْمُبْتَنِي البِناءَ إِذا

تَمَّ لَهُ ما أَرادَ هَدَمَه (2)

ومهما قصد بتعليم العلم تعيَّن عليه من غير تعرض لغرض دنيوي بحيث لا يُؤثر بتعليمه غنيًا عن فقير، و [

]، ولا من نيته في طلبه المناصب والجاه، أو نحو ذلك [

] نيته [

] وحشره.

(1) في مصدر التخريج: "لمن" بدل "من".

(2)

انظر: "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (1/ 300).

ص: 31

وقد روى ابن أبي شيبة، وغيره عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: لو أن أهل العلم صانوا علمهم، ووضعوه عند أهله، لسادوا أهل زمانهم، ولكن بذلوه لأهل الدنيا لينالوا من دنياهم، فهانوا على أهلها.

سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا واحِداً كَفاهُ اللهُ هَمَّ آخِرَتِهِ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ لَمْ يُبالِ اللهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِها وَقَعَ"(1).

وقد لَمَّح بحديث ابن مسعود هذا القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني أحد أئمة الشافعية، وأصحاب الوجوه منهم في أبياته المشهورة، وقد رويناها في "طبقات ابن السبكي":[من الطويل]

يَقُولُونَ لِي فِيكَ انْقِباضٌ وَإِنَّما

رَأَوْا رَجُلاً عَنْ مَوقِفِ الذُّلِّ أَحْجَما

أَرى النَّاسَ مَنْ داناهُمْ هانَ عِنْدَهُمْ

وَمَنْ أكرَمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ أُكْرِما

وَما كُلُّ بَرْقٍ لاحَ لِي يَسْتَفِزُّنِي

وَلا كُلُّ مَنْ لاقَيْتُ أَرْضاهُ مُنْعِما

وَإِنِّي إِذا ما فاتَنِي الأَمْرُ لَمْ أَبِتْ

أُقَلِّبُ كَفِّي إِثْرَهُ مُتَنَدِّما

(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(34313)، وكذا ابن ماجه (257). قال أبو حاتم: هذا حديث منكر، ونهشل بن سعيد متروك الحديث. انظر:"علل الحديث" لابن أبي حاتم (2/ 122).

ص: 32

وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ العِلْمِ إِنْ كانَ كُلَّما

بَدا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ لِي سُلَّما

إِذا قِيلَ هَذا مَنْهَل قُلْتُ قَدْ أَرى

وَلَكِنَّ نَفْسَ الْحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّما

وَلَمْ أَبْتَذِلْ فِي خِدْمَتِهِ العِلْمَ مُهْجَتِي

لأَخْدِمَ مَنْ لاقَيْتُ لَكِنْ لأُخْدَما

أَأَشْقَى بِهِ غَرْساً وَأَجْنِيهِ ذِلَّةً

إِذاً فَاتِّباعُ الْجَهْلِ قَدْ كانَ أَحْزَما

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ العِلْمِ صانُوهُ صانَهمْ

وَلَوْ عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لَعَظَّما

وَلَكِنْ أَهانُوهُ فَهانُوا وَدَنَّسُوا

مُحَيَّاهُ بِالأَطْماعِ حَتَّى تَجَهَّما (1)

وليحذر كل الحذر من حمل العلم إلى [الأمراء] والتردد به إلى الأغنياء؛ فإن ذلك من إضاعة العلم وإهانته، وليس هذا من شأن العلماء، ومن [

] محبة هؤلاء فقد عرض لنفسه لفوات محبة الله تعالى ولحصول مقته وطرده وإبعاده.

وقد روى أبو نعيم عن السَّري بن يحيى قال: كتب وهب بن منبه

(1) انظر: "طبقات الشافعية الكبرى" لابن السبكي (3/ 460).

ص: 33

إلى مكحول رحمه الله: إنك قد أصبت بما ظهر من علم الإسلام عند الناس محبة وشرفاً؛ فاطلب بما بطن من علم الإسلام عند الله تعالى محبة وزلفى، واعلم أن إحدى المحبتين سوف تمنعك الأخرى (1).

وروى ابن ماجه ورجاله ثقات، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ أُناسًا مِنْ أُمَّتِي سَيَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ، يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ، يَقُولُونَ: نأْتِي الأُمَراءَ فَنُصِيبُ مِنْ دُنْيَاهُمْ، وَنَعْتَزِلُهُمْ بِدِيننا، ولا يَكُونُ ذلك كما لا يُجْتَنَى من القَتَادِ إِلَاّ الشَّوْكُ؛ كَذَلِكَ لا يُجْتَنَى من قُرْبِهِمْ إِلَاّ" - قال محمد بن الصَّبَّاحِ: كَأَنَّهُ يَعْنِي الْخَطَايَا - (2).

وروى ابن لال، والرافعي في "تاريخ قزوين" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَبْغَضَ الْخَلْقِ إِلَى اللهِ العالِمُ يَزُورُ العُمَّالَ"(3).

وروى ابن عدي من حديثه مرفوعًا: "إِنَّ فِي جَهَنَّمَ وادِياً تَسْتَعِيذُ مِنْهُ جَهَنَّمُ كُلَّ يَومٍ سَبْعِينَ مَرَّة، أَعَدَّهُ اللهُ لِلقُرَّاءِ الْمُرائِينَ بِأَعْمالِهِمْ، وَإِنَّ أَبْغَضَ الْخَلْقِ إِلَى اللهِ عالِمٌ [يزور] السُّلْطانِ"(4).

(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 54).

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

رواه الرافعي في "تاريخ قزوين"(3/ 451)، وكذا الديلمي في "مسند الفردوس"(822).

(4)

رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(2/ 35).

ص: 34

وروى الحاكم في "تاريخه"، والديلمي عن معاذ رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما مِنْ عالِمٍ أتَي صاحِبَ سُلْطانٍ طَوْعاً إِلَاّ كانَ شَرِيكَهُ فِي كُلِّ لَوْنٍ يُعَذَّبُ بِهِ فِي جَهَنَّمَ"(1).

وروى الحسن بن سفيان في "مسنده"، والرافعي في "تاريخ قزوين" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العُلَماءُ أُمَناءُ الرُّسُلِ عَلى عِبادِ اللهِ ما لَمْ يُخالِطُوا السُّلْطانَ، فَإِنْ خالَطُوا السُّلْطانَ فَقَدْ خانُوا الرُّسُلَ؛ فَاحْذَرُوهُمْ"(2).

وروى العسكري عن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الفُقَهاءُ أُمَناءُ الرُّسُلِ ما لَمْ يَدْخُلوا الدُّنْيا وَيتَّبِعوا السُّلْطانَ؛ فَإِذا فَعَلُوا ذَلِكَ فَاحْذَرُوهُمْ"(3).

وجمع جلال الدين السيوطي في ذلك مؤلفاً سماه "ما رواه الأساطين في ترك المجيء إلى السلاطين".

وقد نظمته في أرجوزة [

] عنها.

(1) رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(6131). قال السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 587): لا يصح.

(2)

رواه الرافعي في "تاريخ قزوين"(2/ 445)، وكذا أبو نعيم في "فضيلة العادلين" (ص: 185).

(3)

قال السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 480): رواه العسكري، وهو ضعيف السند.

ص: 35

ويتعين على العالم أن [يتقي الله] في عليه، ولا يرائي به ولا يعجب، ولا يريد من الناس من أن يقبلوا عليه ما لا يقبلون على غيره [

] في عليه، ولا يتشقشق بعلمه ويتنفق في كلامه ليَسْبي به قلوب الناس.

فقد روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَعَلَّمَ صَرْفَ الْكَلامِ لِيَسْبِيَ بِهِ قُلُوبَ الرِّجالِ أَوِ النَّاسِ، لَمْ يَقْبَلِ اللهُ مِنْهُ يَومَ القِيامَةِ صَرْفاً وَلا عَدْلاً"(1).

وروى عبد الرزاق عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كيف بكم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير، ويَهْرَم فيها الكبير، فتتخذ سنة؛ فإن غَيَّرْت يومًا قيل: هذا منكر.

قيل: ومتى ذلك؟

قال: إذا قَلَّتْ أمناؤكم وكثرت أمراؤكم، وقلَّت فقهاؤكم وكثرت قراؤكم، وتُفُقِّهَ لغير الدين، وتُعُلِّمَ العلمُ لغير العمل، والْتُمِسَتِ الدنيا بعمل الآخرة (2).

وروى البزار بسند جيد، والطبراني في "الأوسط" عن عمر بن

(1) رواه أبو داود (5006). قال المنذري في "الترغيب والترهيب"(1/ 67): يشبه أن يكون فيه انقطاع، فإن الضحاك بن شرحبيل ذكره البخاري وابن أبي حاتم، ولم يذكروا له رواية عن الصحابة، والله أعلم.

(2)

رواه عبد الرزاق في "المصنف"(20742)، وكذا ابن أبي شيبة في "المصنف"(37156).

ص: 36

الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَظْهَرُ الإِسْلامُ حَتَّى يَخْتَلِفَ التُّجَّارُ فِي البَحْرِ، وَحَتَّى تَخُوضَ الْخَيْلُ فِي سَبِيلِ اللهِ، ثُمَ يَظْهَرُ قَوْمٌ يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ يَقُولُونَ: مَنْ أَقْرَأُ مِنَّا؟ مَنْ أَعْلَمُ مِنَّا؟ مَنْ أَفْقَهُ مِنَّا؟ ".

ثم قال للصحابة: "فَهَلْ فِي أُوْلَئِكَ مِنْ خَيْرٍ؟ ".

قالوا: الله ورسوله أعلم.

قال: "أُوْلَئِكَ مِنْكُمْ مِنْ هَذهِ الأُمَّةِ، وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ"(1).

ورواه هو وأبو نعيم من حديث العباس رضي الله تعالى عنه (2).

وبالجملة: [لا يتم التأدب] إلا بالتأدب بجميع آدابهم، وإنما آدابهم هي دأب الصالحين، والأخيار من العلماء خيارُهم، ومن تقرب من أهل العلم إلى سَفساف الأمور والأخلاق فليس من أهل العلم حقيقة، وليس ممن يؤمر بالتشبه بهم، بل ممن ينهى عن التشبه بهم في ذلك، وهو من علماء السوء.

وإنما التشبه بخيار العلماء وبهم الاقتداء، وفيهم الآيات نزلت،

(1) رواه البزار في "المسند"(283)، والطبراني في "المعجم الأوسط"(6242).

قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 186): رجال البزار موثقون.

(2)

ورواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 152)، وأبو يعلى في "المسند"(6696).

قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 186): رواه أبو يعلى البزار والطبراني، وفيه موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف.

ص: 37

والأخبار أثرت.

فأما الآيات فمثل قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].

{وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].

{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].

{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18].

{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].

وأما ما ورد في فضل العلم والتعليم من الأخبار والآثار، فشيء كثير.

منه: ما رواه الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَثَلُ ما بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضاً، وكَانَ منها بُقعةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ منه أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللهُ بِها النَّاسَ، فَشَرُبوا منها وَسَقَوْا ورَعَوا، وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْها أُخْرَى إِنَّما هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً ولا تنبِتُ كَلأً؛ فَذَلِكَ مَثَلُ من فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ ما بَعَثَنِي اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا ولم يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ"(1).

(1) رواه البخاري (79)، ومسلم (2282).

ص: 38

المثال الأول مثال الفقهاء والمستنبطين لأسرار العلم من الآيات والأحاديث؛ كالمفسرين والمتكلمين من أهل السنة.

والمثال الثاني مثال أوعية العلم في القرآن والحديث، والمقرئين والمجودين؛ وكلهم على خير.

وروى الطبراني في "الأوسط"، والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما عُبِدَ اللهُ تَعالَى بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنَ الفِقْهِ فِي الدِّينِ، وَلَفَقِيةٌ واحِدٌ أَشَدُّ عَلى الشَّيْطانِ مِنْ ألفِ عابِدٍ، وَلِكُلٍّ شَيْءٍ عِمادٌ؛ وَعِمادُ هَذا الدِّينِ الفِقْهُ"(1).

وروى ابن النجار عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما عُبِدَ اللهُ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ فِقْهٍ فِي الدِّينِ وَنَصِيحَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ"(2).

وروى الطبراني في "معاجمه"[عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما]، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أَفْضَلُ العِبادَةِ الفِقْهُ، وَأفضَلُ الدِّينِ الوَرعُ"(3).

(1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(6166)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(2/ 266).

(2)

كذا عزاه ابن حجر في "لسان الميزان"(6/ 23) لابن النجار، وقال: خبر منكر مركب على إسناد صحيح.

(3)

رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(9264)، و"المعجم الصغير" (1114). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 120): فيه محمد بن أبي ليلى ضعفوه لسوء حفظه.

ص: 39

وروى الديلمي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَفْضَلُ العِبادَةِ طَلَبُ العِلْمِ"(1).

ويجمع بين الحديثين أن العلم أفضل الأعمال، والفقه أفضله.

وفي "الصحيحين" عن معاوية رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ".

وأخرجه أبو يعلى، وزاد فيه:"وَمَنْ لَمْ يَفْقَهْ لَمْ يُبالِ بِهِ"(2).

وروى ابن ماجه بإسناد حسن، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ عِلْماً ثُمَّ يُعَلِّمَهُ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ"(3).

وروى الحكيم الترمذي، وابن عبد البر بسند ضعيف، عن أنس رضي الله تعالى عنه: أنه قيل صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟

فقال: لا العِلْمُ بِاللهِ عز وجل".

فقيل: أي العلم تريد؟

(1) رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(1424).

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

رواه ابن ماجه (243). وحسن المنذري إسناده في "الترغيب والترهيب"(1/ 54). وخالفه البوصيري في "مصباح الزجاجة"(1/ 35) وقال: هذا إسناد ضعيف؛ لضعف إسحاق بن إبراهيم، والحسن لم يسمع من أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 40

فقال: "العِلْمُ بِاللهِ".

فقيل: نسأل عن العمل وتجيب عن العلم؟

فقال: "قَلِيلُ العَمَلِ يَنْفَعُ مَعَ العِلْمِ، وَإِنَّ كَثِيرَ العَمَلِ لا يَنْفَعُ مَعَ الْجَهَلِ"(1).

وروى البيهقي في "الشعب" عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: أفضل الناس المؤمن العالم؛ إن احتيج إليه نفع، وإن استغنى عنه أغنى نفسه (2).

وروى الترمذي وصححه، عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فَضْلُ العالِمِ عَلى العابِدِ كَفَضْلِي عَلى أَدْنىَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحابِي، إِنَّ اللهَ عز وجل وَمَلائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّماواتِ وَالأَرْضِ؛ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِها، حَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ"(3).

وروى أبو يعلى عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"فَضْلُ العالِمِ عَلى العابِدِ سَبْعُونَ دَرَجَة؛ ما بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَما بَيْنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ"(4).

(1) رواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"(1/ 45). وضعف العراقي إسناده في "تخريج أحاديث الإحياء"(1/ 15).

(2)

رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(1720).

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

ورواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(3/ 60) وقال: قال البخاري: عنده مناكير. ثم قال - أي ابن عدي -: وللخليل أحاديث غرائب، ولم أر في حديثه حديثاً منكراً قد جاوز الحد، وليس هو متروك الحديث.

ص: 41

وروى الشيخان، وغيرهما عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعليٍّ رضي الله تعالى عنه: "لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً واحِداً خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمرِ النَّعَمِ"(1).

وروى الإمام أحمد من حديث معاذ رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين بعثه إلى اليمن: "يا مُعَاذُ! لأَنْ يَهْدِيَ الله على يَدَيْكَ رَجُلًا من أَهْلِ الشّرْكِ خَيْرٌ لك من أن يَكُونَ لك حُمْرُ النَّعَمِ"(2).

وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مَثَلَ العُلَماءِ فِي الأَرْضِ كَمَثَلِ النُّجُومِ يُهْتَدى بِها فِي ظُلُماتِ البَرِّ وَالبَحْرِ؛ فَإِذا انْطَمَسَتِ النُّجُومُ أَوْشَكَ أَنْ تَضِلَّ الْهُداةُ"(3).

وروى ابن عدي عن علي رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"العُلَماءُ مَصابِيحُ الأَرْضِ، وَخُلَفاءُ الأَنْبِياءِ، وَوَرثَتِي وَوَرَثَةُ الأَنْبِياءِ عليهم السلام"(4).

وروى ابن النجار في "تاريخه" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العُلَماءُ قادَةٌ، وَالْمُتَّقُونَ سادَةٌ، وَمُجالَسَتُهُمْ زِيادَةٌ".

(1) تقدم تخريجه.

(2)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 238).

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

ورواه الرافعي في "التدوين في أخبار قزوين"(2/ 129).

ص: 42

قلت: ومقتضاه أن العالم لما كان متقياً فهو من قادة السادة وسادة القادة.

وروى ابن النجار أيضاً عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العُلَماءُ وَرثَةُ الأَنْبِياءِ، يُحِبُّهُمْ أَهْلُ السَّماءِ، وَتَسْتَغْفِرُ لَهُمُ الْحِيتانُ فِي البَحْرِ إِذا ماتُوا إِلَى يَوْمِ القِيامَةِ".

وسبق في هذا الباب حديث أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه.

وروى الطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنه مر بسوق المدينة، فوقف فقال: يا أهل السوق! ما أعجزكم!

قالوا: وما ذاك؟

قال: ذاك ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم وأنتم هاهنا؟ ألا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه؟

قالوا: وأين هذا؟

قال: في المسجد.

فخرجوا سراعاً، ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا، فقال لهم: ما لكم؟

فقالوا: يا أبا هريرة! قد أتينا المسجد، فدخلنا فيه فلم نر فيه شيئاً يقسم!

فقال لهم أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: وما رأيتم في المسجد أحداً؟

ص: 43

قالوا: بلى؛ رأينا قوماً يصلون، وقوما يقرؤون القرآن، وقوماً يتذاكرون الحلال والحرام.

فقال لهم أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: فذاك ميراث محمد صلى الله عليه وسلم (1).

وروى ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم على أصحابه، فرأى مجلسين؛ أحدهما يدعو الله، والثاني يعلمون الناس، فقال:"أَمَّا هَؤُلاءِ يَسْألونَ الله؛ إِنْ شاءَ أَعْطاهُمْ وَإِنْ شاءَ مَنَعَهُمْ، وَأَمَّا هَؤُلاءِ فَيُعَلّمُونَ النَّاسَ؛ وإِنَّما بُعِثْتُ مُعَلِّماً"، وجلس معهم (2).

وروى ابن المبارك في "الزهد والرقائق" عن زيد بن أسلم - رحمهما الله تعالى - مرسلاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَلِمَةٌ مِنَ الْحِكْمَةِ يَسْمَعُها الْمُؤْمِنُ، فَيَعْمَلُ بِها وَيُعَلِّمُها خَيْرٌ لَهُ مِنْ عِبادَةِ سَنَةٍ"(3).

وروى الطبراني بسند ضعيف، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نِعْمَ العَطِيَّةُ كَلِمَةُ حَقٍّ تَسْمَعُها، ثُمَّ تَحْمِلُها إلَى أَخٍ لَكَ مُسْلِمٍ فتعَلِّمُها إِيَّاهُ"(4).

(1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(1429).

(2)

رواه ابن ماجه (229)، وكذا الدارمي في "السنن"(349).

(3)

رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 487).

(4)

رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(12421). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 166): فيه عمرو بن الحصين العقيلي، وهو متروك.

ص: 44

وروى البزار بسند رجاله ثقات، عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العُلَماءُ خُلَفاءُ الأَنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ"(1).

وروى الخطيب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"حَمَلَةُ العِلْمِ فِي الدُّنْيا خُلَفاءُ الأَنْبِياءِ، وَفِي الآخِرَةِ مِنَ الشُّهَداءِ"(2).

وروى الطبراني في "الأوسط" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ ارْحَمْ خُلَفائِي".

قلنا: يا رسول الله! ومن خلفاؤك؟

قال: "الَّذِينَ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِي يَرْوُونَ أَحادِيثِي وُيعَلِّمُونَها النَّاسَ"(3).

وروى ابن عبد البر عن الحسن -قيل: هو ابن علي رضي الله تعالى عنهما، وقيل: هو البصري رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رَحْمَةُ اللهِ عَلى خُلَفائِي".

قالوا: ومن خلفاؤك يا رسول الله؟

(1) رواه البزار في "المسند"(4145) وقال: إسناده صالح.

(2)

رواه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(4/ 376) وقال: منكر جداً، وليس بثابت.

(3)

رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(5846). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 126): فيه أحمد بن عيسى بن عيسى الهاشمي، قال الدارقطني: كذاب.

ص: 45

قال: "الَّذِينَ يُحْيُونَ سُنَّتِي وُيعَلِّمُونهَا النَّاسَ"(1).

وروى أبو نعيم في كتاب "فضل العالم العفيف" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَقْرَبُ النَّاسِ مِنْ دَرَجَةِ النُّبُوَّةِ أَهْلُ العِلْمِ وَالْجِهادِ؛ فَأَمَّا أَهْلُ العِلْمِ فَدَلُّوا النَّاسَ عَلى ما جاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَأَمَّا أَهْلُ الْجِهادِ فَجاهَدُوا بِأَسْيافِهِمْ عَلى ما جاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ"(2).

قلت: ومن هنا تساوت العلماء والمقتولون في جهاد في رتبة الشهادة لأن كلًّا منهما مات على ما هو عليه من [ .... ] على ما مات [ .... ] وهو شهيد [ .... ] لوجود الله تعالى معه؛ فإنه مصدق له عن قلب محب له في؛ فافهم!

وروى أبو نعيم في "الحلية" عن حسان بن عطية رحمه الله تعالى قال: ما ازداد عبد علما إلا ازداد الناس منه قرباً من رحمة الله (3).

ومن الأولى معنى [

] بسبب [

] اللسان [

] والخشية تبعثه على طاعة الله تعالى وتقواه، ومن تمام أمره أن يأمر غيره بالطاعة

(1) رواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"(1/ 46)، وكذا رواه الهروي في "ذم الكلام وأهله"(4/ 228) مصرحاً عن الحسن بن علي رضي الله عنه.

(2)

قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(1/ 12): رواه أبو نعيم في "فضل العالم العفيف" من حديث ابن عباس رضي الله عنه، بإسناد ضعيف.

(3)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 74).

ص: 46

والتقوى بسبب الرحمة.

قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189].

وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156].

وكل علم لا يدعو صاحبه إلى التقوى والأمر بها، فليس بعلم نافع.

وقد روى ابن حبان في "روضة العقلاء" عن الحسن البصري رحمه الله تعالى قال: من ازداد علماً ثم ازداد على الدنيا حرصاً، لم يزده من الله إلا بعداً (1).

وروى الطبراني في "الكبير" ورواته ثقات، عن ثعلبة بن الحكم رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللهُ عز وجل للْعُلَماءِ يَومَ القِيامَةِ إِذا قَعَدَ عَلى كُرْسِيِّهِ لِفَصْلِ عِبادِهِ: إِنيِّ لَمْ أَجْعَلْ عِلْمِيَ وَحِلْمِيَ فِيكُمْ إِلَاّ وَأَنا أُرِيدُ أَنْ أَغْفِرَ لَكُمْ على ما كانَ فِيكُمْ وَلا أُبالِي"(2).

وروى أبو العباس المُرهبي في "العلم" -بسند ضعيف- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذا كانَ يَومُ القِيامَةِ يَقُولُ اللهُ عز وجل لِلْعابِدِينَ وَالْمُجاهِدِينَ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ العُلَماءُ:

(1) رواه ابن حبان في "روضة العقلاء"(ص: 35).

(2)

رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(1381). قال ابن كثير في "التفسير"(3/ 142): إسناده جيد.

ص: 47

بِفَضْلِ عِلْمِنا عَبَدُوا وَجاهَدُوا، فَيَقُولُ اللهُ عز وجل لَهُمْ: أَنْتُمْ عِنْدِي كَبَعْضِ مَلائِكَتِي؛ اشْفَعُوا، فَيَشْفَعُونَ ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ" (1).

وروى ابن عدي، والبيهقي في "الشعب" وضعفه، عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُبْعَثُ العالِمُ وَالعابِدُ، فَيُقالُ لِلْعابِدِ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، وَيقالُ لِلْعالِمِ: اثْبُتْ حَتَّىْ تشفَعَ لِلنَّاسِ بِما أَحْسَنْتَ أَدبَهُمْ"(2).

قلت: أخبرني من أثق به من الثقات المأمونين: أن شيخ الإسلام والدي رحمه الله تعالى سئل عن العلماء: هل يشفعون يوم القيامة؟

فقال: نعم.

قال له بعض الحاضرين: إذن تشفع لنا يا مولانا الشيخ يوم القيامة.

فقال: والله [إن] أعطيت شفاعة يوم القيامة لأشفعن في إخواننا وأصحابنا (3).

(1) قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(1/ 18): رواه أبو العباس المرهبي في "العلم" من حديث ابن عباس رضي الله عنه، بسند ضعيف.

(2)

رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(6/ 438)، وبإسناد آخر (2/ 413)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(1717).

(3)

كان الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - إذا قيل لهم أقل من هذا الكلام خافوا وتواضعوا لله تعالى، روى الإمام أحمد في "المسند"(1/ 46) عن ابن عباس رضي الله عنه في حديث طويل، أنه قال لعمر رضي الله عنه حين طعن: أبشر بالجنة! فقال عمر رضي الله عنه: أما تبشيرك إياي بالجنة، فوالله لو أن لي الدنيا بما فيها لافتديت به من هول ما أمامي قبل أن أعلم الخبر.

ص: 48

قال: فرآه بعض الأخيار في المنام بعد موته، قال: فقلت له: يا سيدي! كيف حالكم؟

قال: بخير، وقد أعطاني ربي الشفاعة في أصحابي وإخواني، وأنا واقف على باب الجنة [

].

وشفاعة العلماء ثابتة:

وروى ابن ماجه بإسناد حسن، عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يَشْفَعُ يَومَ القِيامَةِ ثَلاثَةٌ: الأَنْبِياءُ، ثُمَّ العُلَماءُ، ثُمَّ الشُّهَداءُ"(1).

وهذا الحديث يدل على أن الشهداء [

] العلماء أفضل وأعظم درجة من الشهداء المقتولين في سبيل الله، ومن ثم فإن [

] إذ العلماء هم الصديقون في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69].

قلت: ويحتمل أن يكون {وَالشُّهَدَاءِ} : لفظاً مشتركاً يستعمل في معنيين؛ فأريد به الشهداء المقتولون، والشهداء العلماء الراسخون [

] الصديقين وهم العارفون بالله تعالى.

وعلى كلا الوجهين فالعلماء أفضل من الشهداء لحديث ابن ماجه [

].

(1) رواه ابن ماجه (4313)، وكذا ابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(5/ 262) وضعفه بعنبسة بن عبد الرحمن.

ص: 49

ورواه ابن عبد البر عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه والمرهبي في "فضل العلم" عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه، والشيرازي في "الألقاب"، وغيره عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُوْزَنُ يَومَ القِيامَةِ مِدادُ العُلَماءِ وَدِماءُ الشُّهَداءِ، فَيَرْجِحُ مِدادُ العُلَماءِ عَلى دِماءِ الشُّهَداءِ"(1).

وذكر ابن الحاج في "المدخل"[الحديث ثم قال]: وهذا بَيِّن لأن دم الشهداء إنما هو في ساعة من نهار أو ساعات، ثم انفصل الأمر فيه لإحدى الحسنيين، ومداد العلماء هو وظيفة العمر ليلاً ونهاراً، ثم إنه محتاج فيه لمباشرة غيره لابد من ذلك، إما أن يعلم أو يتعلم، وكلاهما يحتاج فيه إلى مجاهدة [عظيمة](2) لأجل خلطة الناس ومباشرتهم، وذلك أمر عسير لأنه يحتاج أن كل من اجتمع به ينفصل وهو طيب النفس منشرح الصدر؛ بذلك مضت السنة وانقرض السلف عليه (3).

(1) رواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"(1/ 35) عن أبي الدرداء رضي الله عنه.

وضعف العراقي إسناده في "تخريج أحاديث الإحياء"(1/ 12).

ورواه السهمي في "تاريخ جرجان"(ص: 222) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.

ورواه أبو نعيم في "تاريخ أصبهان"(2/ 179) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

وانظر: "الدر المنثور" للسيوطي (3/ 423).

(2)

ما بين معكوفتين من "المدخل".

(3)

انظر: "المدخل" لابن الحاج (1/ 68).

ص: 50

قلت: وفي الحديث وجه آخر، وهو أن دم الشهداء يكون [

] سبب الحياة؛ أشار بها في قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].

وفي قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)} [البقرة: 154].

وهذه حياة قاصرة على نفس الشهيد غير متعدية إلى غيره، وأما سيلان مداد العلماء على صفحات الطروس فإنه يكون سبب حياة [

] العالم الكاتب بالعلم تعلماً وتعليماً، وحياة غيره كملت، وقد مضى في القرآن تسمية العلم والإيمان حياة في مواضع شتى [

] قد يكون مداد العلماء سبباً بحياة [

] إما [

] أو شفاعته أو نحو ذلك.

وقد قال الله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)} [المائدة: 32].

قال سليمان بن علي للحسن -يعني: البصري رحمه الله تعالى-:

يا أبا سعيد! أهي لنا كما كانت لبني إسرائيل؟

قال: والذي لا إله غيره ما كانت دماء بني إسرائيل أكرمَ على الله من دماءنا. رواه ابن جرير، وغيره (1).

(1) رواه الطبري في "التفسير"(6/ 204).

ص: 51

وقد سئل شيخ الإسلام الوالد رحمه الله تعالى [

] فأجاب الشيخ أن [

] وباشر أهل زمانه، ثم تنبه له بعض أعدائه، فاستفتى بعض علماء أهل العصر في مسألته، فأفتاه بالوقوع، ثم رتبوا على ذلك أنه في مدة المعاشرة كان زانياً [

] تدرأ عنه الحد، فراجعوا الشيخ الوالد رضي الله تعالى عنه فيه فقال [

] عن هذه المسألة، وليس في عادتي إذا كتب مرة عن مسألة [

] كتب عليها [

] مرة أخرى، فقيل له: إن الرقعة قد فقدت، فلم يكتب حتى اجتمع الناس على صاحب السؤال المذكور، وأرادوا رجمه [

] كتب الشيخ على رقعة ثانية [

] ثالث مرة [

] فجيء بالرقعة إلى حكام البلدة وعلمائها، وكانوا اجتمعوا لذلك، وهموا بإبعاد [

] الرجل قد عرضت [

].

إِذا قالَتْ حَذامِ فَصدِّقوها

فَإِنَّ القَولَ ما قالَتْ حَذامِ

[

].

ورواه المزي في "تهذيب الكمال" عن ابن المبارك قال رحمه الله تعالى: الحبر في الثياب خلوق العلماء (1).

وروى الترمذي عن أبي هارون العبدي قال: كنا نأتي أبا سعيد -يعني: الخدري رضي الله تعالى عنه - فيقول: مرحباً بوصيَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ النَّاسَ لَكُمْ تَبَعٌ، وَإِنَّ رِجَالاً يَأتُونكُمْ مِنْ أَقْطَارِ

(1) رواه المزي في "تهذيب الكمال"(16/ 23).

ص: 52

الأرضِ تتَفَقَّهُونَ في الدِّينِ؛ فَإِذا أتوْكُمْ فَاسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْراً" (1).

ورواه الخطيب، ولفظه:"سَيَأْتِيكُمْ شَبابٌ مِنْ أَقْطارِ الأَرْضِ يَطْلَبُونَ الْحَدِيثَ؛ فَإِذا جاؤُوكُمْ فَاسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْراً".

وفي رواية له: "سَيَأْتِي مِنْ بَعْدِي قَوْم يَسْألونكُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي؛ فَإِذا جاؤُوكُمْ فَالْطُفُوا بِهِمْ وَحَدِّثُوهُمْ"(2).

وفي رواية أخرى أنه كان -يعني: أبا سعيد رضي الله تعالى عنه- إذا رأى شباباً قال: مرحباً بوصية رسول الله.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوصانا أن نوسع لكم في المجلس وأن نفهمكم الحديث، فإنكم خلوفنا وأهل الحديث بعدنا (3).

[

].

وروى أبو نعيم عن محمد بن عمران قال رجل للشعبي: إن فلاناً عالم.

قال: ما رأيتُ عليه بهاء العلم.

قيل: وما بهاؤه؟

قال: السكينة؛ إذا علم لا يعنف، وإذا علم لا يأنف (4).

(1) رواه الترمذي (2650)، وكذا ابن ماجه (249).

(2)

رواه الخطيب البغدادي في "شرف أصحاب الحديث"(ص: 21).

(3)

رواه الخطيب البغدادي في "شرف أصحاب الحديث"(ص: 22).

(4)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 323).

ص: 53

وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: "عَلِّمُوا وَلا تُعَنِّفُوا؛ فَإِنَّ الْمُعَلّمُ خَيْرٌ مِنَ الْمُعَنِّفِ". رواه البيهقي (1).

وفي حديثه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَعَلَّمُوا العِلْمَ، وَتَعَلَّمُوا لِلْعِلْمِ السَّكِينَةَ وَالوَقارَ، وَتَواضَعُوا لِمَنْ تَعَلَّمُونَ مِنْهُ". رواه الطبراني في "الأوسط"(2).

ونحوه من قول عمر رضي الله عنه، وفيه: تواضعوا لمن تُعَلِّمون العلم، ولا تكونوا [من] جبابرة العلماء، فلا يقوم علمكم بجهلكم.

وروى أبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه - قال:"تَواضَعُوا لِمَنْ تَعَلَّمُونَ مِنْهُ، وَتَواضَعُوا لِمَنْ تُعَلّمُونَ، وَلا تَكُونُوا جَبابِرَةَ العُلَماءِ فَيَغْلِبَ جَهْلُكُمْ عِلْمَكُمْ"(3).

وقد يكون جبروت العالم من حيث تحسينُ ضلالاته واعتقاداته [

] فيها وإنها [

] رتبة في العلم، ثم يسعى إلى أحد يره وهذا من كما [

] في العلم يكون [

] الله تعالى.

(1) رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(1749) وقال: فيه حميد بن أبي سويد، وهو منكر الحديث.

(2)

رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(6184). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 130): فيه عباد بن كثير، وهو متروك الحديث.

(3)

رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(6846). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 130): فيه ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف.

ص: 54

ولقد قال سبحانه: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيم} [يوسف: 76].

وروى الطبراني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ قالَ: أَنا عالِم فَهُوَ جاهِلٌ".

[

].

من عدم الرغبة فيه من أكثرهم [

]، ولأن في العلم تحجير على النفوس منعها عن كثير من شهواتها، ومن رغب منهم في العلم إنما يرغب فيه لطلب الدنيا، فيلزم من ذلك صرف ما حصله منه في تحصيلها، فيتقرب به إلى أغراض أهل الدنيا فيصرف علمه في تحصيل خير [

] في أمورهم واستنباط الرخص لهم، فينقلب العلم عليه وبالاً، و [

] التشبه ببعض، ويكون منه شيء [

] مقام يستريح منه [

] الأسرع من أن كان فيه؛ فإنه طلب التشبه بالعلم ليخلص من ضرر الدنيا ويحصل على سعادة الآخرة [

] بالعلم - أي: الدنيا - وبعد عن الآخرة من هذه [

] حينئذ أبعد من بعد غيره عنها.

قال معاذ رضي الله تعالى عنه: تعرضت وتصديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت، فقلت: يا رسول الله! أي الناس شر؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ غَفْراً! سَلْ عَنِ الْخَيْرِ وَلا تَسْأَلْ عَنِ الشَّرِّ؛ شِرارُ النَّاسِ شِرارُ العُلَماءِ فِي النَّاسِ". رواه البزار (1).

(1) رواه البزار في "المسند"(2649). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 185): فيه الخليل بن مرة، قال البخاري: منكر الحديث، ورد ابن عدي قول البخاري، وقال أبو زرعة: شيخ صالح.

ص: 55

[

] في هذه الأزمنة عن طلب العلم، وأشار به إلى العلماء أن أكثر الناس [

] رغبة [

] في عشرة العلماء وفي مجالستهم لأنهم يأمرون بخلاف ما هم عليه وينهون عما هم فيه [

] من تجاوز عن ذلك بهذا السبب إلى الزهد في العلماء وبغضهم وعداوتهم، وهذا يقطع الأكثرين عن العلماء لأن من يطلب العلم لوجه الله تعالى قد كان في زمان رواج الخير وفُشُوِّ الدين قليلاً، وأما الآن فهو أعز من [

] وكثير ممن يختص في الأشياء والاشتغال بالعلم قد يقطعه عنه محنة [

] تصيبه من بعض وقته.

ثم إن الموت [

] أن الزمان خلف البقايا من العلماء من أهل كل زمان، وفي كل [

] منهم يقل المخلصون والصابرون منهم، وحينئذ يعظم أجر المتشبه بالصالحين، من العلم بمقتضى [

] الوقت وفساد الزمان، فالمتشبه بالعلماء على أمر الشرع ومنهج الحق لا يعلم كنه ما لهم عند الله [

] وإنما [

] وبهم، وعظمة [

].

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكُمْ فِي زَمانٍ مَنْ تَرَكَ عُشْرَ ما أُمِرَ بِهِ هَلَكَ، ثُمَّ يَأْتِي زَمانٌ مَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ بِعُشْرِ ما أُمِرَ بِهِ نَجا". رواه الترمذي، وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (1).

وكيف لا يعظم أجر العالم العامل المخلص الآن.

وقد قلت [

] وفقدت إخوانه وعدمت أشكاله [

] بروح

(1) رواه الترمذي (2267) وقال: غريب.

ص: 56

أمره عندهم ولا يحسن حاله لديهم ولا يرغبون في بضاعته فيهم غريب، وطوبى للغرباء!

وقد روى أبو بكر بن السني، وأبو نعيم عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِكُلِّ شَيْءٍ إِقْبالٌ [وَإِدْبارٌ]؛ وَإِنَّ مِنْ إِقْبالِ هَذا الدِّينِ أَنْ تَفَقَّهَ القَبِيلَةُ كُلُّها بِأَسْرِها حَتَّى لا يُوْجَدَ فِيها إِلَاّ الرَّجُلُ الْمُجافِي أَوِ الرَّجُلانِ، وَاِنَّ مِنْ إِدْبارِ هَذا الدِّينِ أَنْ تَجْفُوَ القَبِيلَةُ كُلُّها بِأَسْرِها حَتَّى لا يُوْجَدَ فِيها إِلَاّ الرَّجُلُ الفَقِيهُ أَوِ الرَّجُلانِ، فَهُما مَقْهُورانِ ذَلِيلانِ لا يَجِدانِ على ذَلِكَ أَعْواناً وَلا أَنْصاراً"(1).

وروى الحاكم، ومن طريقه ابن الجوزي عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: ارحموا عزيز قوم ذَلَّ، وغنياً افتقر، وعالماً بين جُهَّال (2).

ورواه العسكري، وابن حبان في "الضعفاء" من حديث أنس مرفوعاً بنحوه (3).

(1) وكذا رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(7807). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(7/ 262): رواه الطبراني، وفيه علي بن يزيد، وهو متروك.

(2)

رواه ابن الجوزي في "الموضوعات"(1/ 172) وقد رواه مرفوعاً، وقال: موضوع إنما يعرف من كلام الفضيل، وساقه.

(3)

رواه ابن حبان في "المجروحين"(2/ 118) وأعله بعيسى بن طهمان، وقال: ينفرد بالمناكير عن أنس ويأتي عنه بما لا يشبه حديثه كأنه كان يدلس.

ص: 57

وروى الطبراني بسند ضعيف، عن حزام بن حكيم، عن عمه، وقيل: عن أبيه رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّكمْ قَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي زَمانٍ كَثِير فُقَهاؤُهُ قَلِيل خُطَباؤُهُ، قَلِيل سُؤَّالُهُ كَثِير مُعْطُوهُ، العَمَلُ فِيهِ خَيْرٌ مِنَ العِلْمِ، وَسَيَأْتِي على النَّاسِ زَمانٌ قَلِيلٌ فُقَهاؤُهُ كَثِيرٌ خُطَباؤُهُ، قَلِيلٌ مُعْطوهُ كَثِيرٌ سُؤَّالُهُ، العِلْمُ فِيهِ خَيْرٌ مِنَ العَمَلِ"(1).

وروى الحاكم في "المستدرك"، والطبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَيَأْتِي على أُمَّتِي زَمانٌ تَكْثُرُ فِيهِ القُرَّاءُ وَيَقِلُّ الفُقَهاءُ، وَيُقْبَضُ العِلْمُ وَيكْثُرُ الْهَرْجُ"(2).

وروى البخاري، وابن ماجه عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ العِلْمُ وَتَكْثُرَ الزَّلازِلُ"، الحديث (3).

وروى الإمام أحمد، والشيخان، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه

(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(3111). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 127): وفيه عثمان بن عبد الرحمن الطريفي، وهو ثقة إلا أنه قيل فيه: يروي عن الضعفاء، وهذا من روايته عن صدقة بن خالد، وهو من رجال الصحيح.

(2)

رواه الحاكم في "المستدرك"(8412)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (3277). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 187): رواه الطبراني وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف.

(3)

رواه البخاري (989) واللفظ له، وابن ماجه (4052).

ص: 58

عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ أَشْراطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ العِلْمُ وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ"، الحديث (1).

ورووه أيضاً عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزاعاً يَنْتَزِعُهُ مِنَ الصُّدُورِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَماءِ، حَتَّى إِذا لَمْ يُبْقِ عالِماً اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوساً جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا"(2).

فموت العلماء مصيبة وأي مصيبة.

وروى البزار عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وابن لال عن ابن عمر، وجابر رضي الله تعالى عنهم؛ قالوا رضي الله تعالى عنهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مَوْتُ العالِمِ ثُلْمَةٌ فِي الإِسْلامِ لا تُسَدُّ ما اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ"(3).

[

] أعظم منها أن يكون في الخشية [

] فاسق لا يدعو

(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 98)، والبخاري (81)، ومسلم (2671)، والترمذي (2205)، والنسائي في "السنن الكبرى"(5906)، وابن ماجه (4045).

(2)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 190)، والبخاري (100)، ومسلم (2673)، والترمذي (2652)، وابن ماجه (52) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

(3)

قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 201): رواه البزار، وفيه محمد بن عبد الملك عن الزهري، قال البزار. يروي أحاديث لا يتابع عليها، وهذا منها.

ص: 59

إلى خير ولا يكون إلا مع هذه، وفي الحقيقة [

] ابتلي الناس في زمان يغلبه الجهل عليهم وشدة الجرأة فيهم، وفسق العلماء منهم فليس بعد بينتهم بينة، ولا بعد رزيتهم رزية.

وقد روى الحاكم في "تاريخه" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، والديلمي عن معاذ رضي الله تعالى عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَيَأْتِي على النَّاسِ زَمانٌ لا يَبْقَى مِنَ القُرْآنِ إِلَاّ رَسْمُهُ، وَلا مِنَ الإِسْلامِ إِلَاّ اسْمُهُ، يَتَسَمَّوْنَ بِهِ وَهُمْ أَبْعَدُ النَّاسِ مِنْهُ، مَساجِدُهُمْ عامِرَةٌ وَهِيَ [خَرابٌ مِنَ الْهُدى]، فُقَهاءُ ذَلِكَ الزَّمانِ شَرُّ فُقَهاء تَحْتَ ظِلِّ السَّماءِ، مِنْهُمْ خَرَجَتِ الفِتْنَةُ وَإلَيْهِمْ تَعُودُ"(1).

وخرجه ابن [عدي في "الكامل"]، والدارمي في "السنن" من حديث علي رضي الله تعالى عنه موقوفاً عليه بنحوه، وقال: علماؤهم (2).

وأخرجه البيهقي في "الشعب" مرفوعاً (3).

وروى الديلمي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شَرُّ النَّاسِ فاسِقٌ قَرَأَ كِتابَ اللهِ، وَتَفَقَّهَ فِي دِينِ اللهِ، [ثُمَّ] بَذَلَ نَفْسَهُ لِفاجِرٍ؛ إِذا نَشَطَ تَفَكَّهَ بِقِراءَتِهِ وَمُحادَثَتِهِ، فَيَطْبَعُ اللهُ على قَلْبِ

(1) رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(3448) عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.

(2)

رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(4/ 227) موقوفاً.

(3)

رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(1908)، وكذا ابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(4/ 227) وأعله بعبد الله بن دُكين، ونقل عن ابن معين قوله: عبد الله بن دُكين ليس بشيء.

ص: 60

القائِلِ وَالْمُسْتَمعِ".

وروى الحاكم -قال العراقي: وهو ضعيف- عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عُبَّادٌ جَهَلَةٌ وَعُلَماءُ فَسَقَةٌ"(1).

وروى ابن ماجه وغيره بإسناد حسن، عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟

قال: "إِذا ظَهَرَتِ الْمُداهَنَةُ فِي خِيارِكُمْ، وَالفاحِشَةُ فِي شِرارِكُمْ، وَتَحَوَّلَ الْمُلْكُ فِي صِغارِكُمْ، وَالفِقْهُ فِي أَرْذالِكُمْ"(2).

والأرذال: الأخساء؛ كما في "القاموس"(3).

وروى أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَأْتِي على النَّاسِ زَمانٌ يَتَعَلَّمُونَ فِيهِ القُرْآنَ فَيَجْمَعُونَ حُرُوفَهُ وَيُضَيِّعُونَ حُدُودَهُ؛ ويلٌ لَهُمْ مِمَّا جَمَعُوا، وَويلٌ لَهُمْ مِمَّا ضَيَّعُوا! إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِهَذا القُرْآنِ مَنْ جَمَعَهُ وَلَمْ يُرَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ"(4).

(1) قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(1/ 37): رواه الحاكم من حديث أنس رضي الله عنه، وهو ضعيف.

(2)

رواه ابن ماجه (4015)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(7555).

(3)

انظر: "القاموس المحيط" للفيروزآبادي (ص: 1299)(مادة: رذل).

(4)

ورواه الديلمي في "مسند الفردوس"(8686).

ص: 61

وروى الحاكم، والخطيب في "تاريخهما" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يَأْتِي على النَّاسِ زَمانٌ يَحْسُدُ الفُقَهاءُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً، وَيَغارُ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ كَتَغايُرِ التُّيوسِ بَعْضِها على بَعْضٍ"(1).

واعلم أنه إن كان هذا الزمان الموصوف كيفما كان أهله لا يخلو من [

].

وقد صح بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تَزالُ طائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظاهِرِينَ على الْحَقِّ"، الحديث (2).

[

].

لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ لا يُدْرِكْنِي زَمانٌ، وَلا تُدْرِكُونَ زَماناً لا يُتَّبَعُ فِيهِ العَلِيمُ، وَلا يُسْتَحْيَى فِيهِ مِنَ الْحَلِيمِ، قُلُوبُهُمْ قُلوبُ الأَعاجِمِ، وَأَلْسِنتُهُمْ أَلْسِنةُ العَرَبِ". رواه الإمام أحمد من حديث سهل ابن سعد رضي الله تعالى عنه (3).

وروى أبو عمرو الداني عن الحكم بن عتيبة قال: كان يقال: ليأتين

(1) رواه الخطيب البغدادي في "تاريح بغداد"(10/ 302). قال السيوطي في "اللآلئ المصنوعة"(1/ 200): إسحاق بن إبراهيم متهم بالوضع.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 340). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 183): وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف.

ص: 62

على الناس زمان لا يقر فيه عين حليم (1)(2).

وروى أبو نعيم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَأْتِي على النَّاسِ زَمانٌ يَكُونُ الْمَوْتُ أَحَبَّ إِلَى أَحَدِهِمْ مِنَ الذَّهَبَةِ الْحَمْراءِ"(3).

***

(1) في مصدر التخريج: "حكيم" بدل "حليم".

(2)

رواه أبو عمرو الداني في "السنن الواردة في الفتن"(3/ 546).

(3)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 384)، وكذا نعيم بن حماد في "الفتن"(1/ 74).

ص: 63