الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دَيْنك، وذهب دِيْنك (1).
ومن لطائف عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما أخرجه الدينوري - أيضاً - أنه قال: من اتَّجر في شيء ثلاث مرات فلم يصب فيه، فليتحرر منه إلى غيره (2).
قال: وقال لرجلٍ: إذا اشتريت بعيراً فاشتره عظيم الخلق، فإن أخطأك خيره لم يخطئك سوقُه (3).
وهو معنى قول الناس: اشتر لنفسك وللسوق (4).
*
تَذْيِيْلٌ:
قد يطلق على أحد الشرين أنَّهُ خير من الآخر؛ بمعنى أنه أهون منه وأخف ضرراً، فإذا كان لابد من ارتكاب أحدهما فارتكاب الأخف خير - أي: أولى - من ارتكاب الآخر.
وبالجملة: فإطلاق الخير على الأخف مجاز ظاهر، وقد وقع من ذلك كثير في كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
فمن ذلك حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "ما تَقُوْلُوْنَ فِي الزِّنَا؟ " قالوا: حرام، حرَّمه الله ورسوله، فهو
(1) رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 228).
(2)
رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 506)، وكذا رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(23213).
(3)
رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 556).
(4)
انظر: "مجمع الأمثال" للعسكري (1/ 80).
حرام إلى يوم القيامة، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَزْنِي بِحَلِيْلةِ جَارِهِ". رواه البخاري في "تاريخه"، والإمام أحمد - ورواته ثقات -، والطبراني في "الكبير"، و"الأوسط"(1).
وفي رواية: "أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِه"(2).
وهي مفسِّرة لمعنى الخيرية في الرواية؛ إذ لا خيرية في الزنا أصلاً.
وكذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لأنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُم عَلَى جَمْرَةٍ، فَتَحْرِقَ ثِيَابَهُ، فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ". رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه (3).
فإنَّ الجلوس على الجمر لا خير فيه عقلاً ولا شرعاً من حيث إنه يعرض لإتلاف ماله وجسده، وقد يؤدي إلى قتل نفسه، إلا أنه أراد أن يُعظم أمر انتهاك حرمة القبر إشارة إلى أن حرمة المسلم ميتاً كحرمته حيًّا، فلا تنتهك حرمته.
(1) رواه البخاري في "التاريخ الكبير"(8/ 54)، والإمام أحمد في "المسند"(6/ 8)، والطبراني في "المعجم الكبير"(20/ 256)، و "المعجم الأوسط"(6333).
(2)
هذا اللفظ هو لفظ مصادر التخريج السابقة، واللفظ الأول هو للطبراني في "المعجم الكبير".
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 311)، ومسلم (971)، وأبو داود (3228)، والنسائي (2044)، وابن ماجه (1566).
وكذلك حديث عبد الله بن مغفَّل رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"لأنْ يُطْعَنَ فِي رَأْسِ أَحَدِكُم بِمِخْيَطٍ مِنْ حَدِيْدٍ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَةً لا تَحِلُّ لَهُ". رواه الطبراني في "الكبير"(1).
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"لأَنْ يَجْعَلَ أَحَدُكُم فِي فِيْهِ تُرَابًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ فِي فِيْهِ مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ". رواه البيهقي في "الشعب"(2).
وحديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " [قال داود النبي عليه السلام: ] إِدْخَالُكَ يَدَكَ فِي فَمِ التِّنِّيْن إِلَى أَنْ تَبْلُغَ الْمِرْفَقَ فَيَقْضِمَهَا، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَسْأَلَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ، ثُمَّ كانَ". رواه أبو نعيم (3).
وحديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ الرَّجُلِ قَيْحًا حتى يَرِيَهُ، خَيْرٌ له من أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا". رواه الإمام أحمد، والستة إلا النسائي (4)(5).
(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(20/ 211) لكن عن معقل بن يسار رضي الله عنه.
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(4/ 326): رجاله رجال الصحيح.
(2)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(5763)، وكذا ابن أبي الدنيا في "الورع" (ص: 84).
(3)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 81).
(4)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 288)، والبخاري (5803)، ومسلم (2257)، وأبو داود (5009)، والترمذي (2851)، وابن ماجه (3759).
(5)
جاء على هامش "م": "وهو عند البخاري عن ابن عمر، وعند مسلم عن أبي سعيد، وعند الإمام أحمد من حديثهما بلفظ: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً" ولم يقل: "حتى يريه".
وقوله: "حتى يريه"؛ أي: يفسده، يقال: ورى القيح جوفه: أفسده؛ كذا في "القاموس" بفتح أوله (1).
وهذا يحتمل أن يكون من قبيل ما تقدم.
والمعنى: أنَّ فساد الجوف بالمرض المحسوس في الدنيا أهون من أن يمتلئ شعراً فيُعاقب عليه في الآخرة.
ويحتمل أن يكون المعنى: لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً ودماً - أي: يتناوله - خيرٌ - أي: أهون وأخف إثماً - من أن يمتلئ شِعْراً.
والمراد به الشعر المذموم بدليل قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الشعراء: 227]؛ فإنه مستثنى من قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنَ البَيَانِ سِحْراً، وَإِنَّ مِنَ الشعْرِ حُكْماً". رواه الإمام أحمد، وأبو داود من حديث ابن عباس (2).
وهو عند ابن أبي شيبة من حديث ابن مسعود رضي الله عنه نحوه (3).
والجملة الأخيرة عنده من حديث بريدة رضي الله عنه (4).
(1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 1729).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 303)، وأبو داود (5011).
(3)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(26011).
(4)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(26008).
وروى ابن عدي عن جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ الرَّجُلِ قَيْحًا أوْ دَمًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا مِمَا هَجَيْتَ بِهِ"(1).
وروى الخرائطي في "مساوئ الأخلاق" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأَنْ يَأْكُلَ أَحَدُكُم مِنْ جِيْفَةٍ حَتَّى يَشْبَعَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيْهِ الْمُسْلِم"(2).
وروى هو وابن أبي شيبة، والإمام أحمد في "الزهد"، والبخاري في "الأدب" عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أنه مرَّ على بغل ميت وهو في نفر من أصحابه، فقال: والله لأن يأكل أحدكم من هذا حتى يملأ بطنه خير له من أن يأكل من لم رجل مسلم (3).
وتمثيل الغيبة بأكل لحم الميت وقع في قوله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [الحجرات: 12].
ولقد عجبت من كثير من العلماء يقولون: إنَّ أكل لحم الميتة لغير المضطر كبيرة، ثم يتوقف في أن الغيبة كبيرة أو يقول: هي صغيرة، وقد ساوى الله تعالى في كتابه بينهما، ولا يفهم من الآية كون أكل الميتة أخف
(1) رواه ابن عدي في "الكامل"(7/ 29). وقال - بعد أن ذكر عدة أحاديث عن النضر -: وهذه الأحاديث بأسانيدها غير محفوظة.
(2)
رواه الخرائطي في "مساوئ الأخلاق"(1/ 197).
(3)
رواه الخرائطي في "مساوئ الأخلاق"(1/ 207)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(25537)، والبخاري في "الأدب المفرد"(736).
من الغيبة، وإنما هو منصوص عليه في الحديث والأثر.
ووجهه أن لم ميتة يُباح للمضطر بخلاف الغيبة؛ فإنَّ أكل لحم الميتة ذنب بين العبد وبين الله تعالى، فهو من ظلم النفس الذي يُرجى أن يغفر، والغيبة بين العبد وبين أخيه فهو من المظلمة التي لا تترك.
ومن وجه من جعلها صغيرة لكثرة دورانها على الألسنة وتنازع ألسنة الناس إليها.
يرد عليه أنَّ الناس قد تنازعت ألسنتهم إلى التقاذف والفتن، ولا قائل بأنَّ ذلك صغيرة، ولا بأنَّ ذلك يصير بالتهافت فيه صغيرة (1).
وروى عبد الرزاق، والطبراني في "الكبير" عن نوفل بن معاوية، عن أبيه رضي الله عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لأَنْ يُوتَرَ أَحَدُكُم أهلَهُ وَمَالَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَفُوتَهُ وَقْتُ صَلاةِ العَصْرِ"(2)؛ أي: ولم يُصَلِّها.
ويقال: وتره ماله - بالمثناة -: إن نقصه إياه.
والمعنى: إنَّ نقصان مال المرء وأهله خير له من فوات الصلاة؛ لأنَّ في نقصان المال والأهل ثواب الصبر، واحتمال مشقة البلاء، ثم قد يجمع شمله بهم في الآخرة بخلاف فوات الصلاة؛ فإنَّ فيه فوات ثوابها ولا عوض منه.
(1) قد أحسن المصنف رحمه الله في إيراده هذا التنبيه القيم.
(2)
رواه عبد الرزاق في "المصنف"(2220)، والطبراني في "المعجم الكبير"(19/ 429).
وروى الإمام أحمد، والشيخان عن الزبير بن العوام رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ الْجَبَلَ فَيَجِيءَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيْعَهَا، فَيَكُفَّ اللهُ بَهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوْهُ"(1).
والمعنى: إن ارتكاب مشقة الاحتطاب والاكتساب أخف من ارتكاب ذل السؤال.
أو المعنى: إن الاكتساب بالاحتطاب ونحوه خير من الاكتساب بالسؤال؛ لأنَّ السؤال خطر العاقبة من حيث إنه قد تكون المسألة مأثمة، بل الاكتساب بالنية الصالحة خير وإن كان مع الغنى، أما السؤال مع الغنى فإنه حرام.
وروى الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لأَنْ يَلْبَسَ أَحَدُكُم ثَوْبًا مِنْ رِقَاعٍ شَتَّى خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ بِأَمَانتِهِ مَا لَيْسَ عِنْدَه"(2).
وروى البيهقي في "الشعب"، ولفظه:"لأَنْ يَلْبَسَ الرَّجُلُ مِنْ أَلوَانٍ شَتَّى - أَيْ: مُخْتَلِفَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ - خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْتَدِيْنَ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ قَضَاؤُهُ"(3).
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 167)، والبخاري (1402)، ولم أقف على الحديث عند مسلم، ولا على من عزاه إليه.
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 243).
(3)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(5547).
ومعناه: إن احتمال مشقة النفس وانقباضها من الثوب الخَلِقِ المرقع ترقيع ضرورة واحتياج أخفُّ وأحمدُ عاقبة من احتمال المنن وارتكاب الديون؛ فإنَّ الأيام تنقضي بالخلق، وينقضي انقباض النفس له بانقضائها، بخلاف الدين، فإنَّ صاحبه سيطلبه، وقد لا يتيسر له وفاؤه، أو يتأخر عن وقت حُلُولهِ، فيطلبه صاحبه فيخجل المدين لطلبه، وربما شدد عليه فيحصل له مشقة وذل.
وقد جاء في الحكمة: إن الدَّين همٌّ بالليل مذلَّةٌ بالنهار (1).
وقد يموت ولا يوفيه فيتعلق بذمته، فلو اكتفى بالخَلِقِ لكان خيراً مما فعل بنفسه في العافية.
وروى الإمام أحمد، وابن ماجه، والدارمي، وغيرهم عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لأَنْ يَقُوْمَ أَحَدُكُم أَرْبَعِيْنَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَي الْمُصَلِّي"(2).
ووجه الخيرية أنَّ قيامه لا إثم فيه، ولا تخشى عاقبته، بخلاف المرور بين يدي المصلي فإنه يأثم بن وروى الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
(1) رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(3100) عن عائشة رضي الله عنها.
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 116)، وابن ماجه (944). وكذا رواه أبو داود (701)، والترمذي (336) لكن قالا: عن بسر بن سعيد قال: أرسلني زيد بن خالد إلى أبي جهيم يسأله ماذا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المار بين يدي المصلي، فقال أبو جهيم، الحديث.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حدٌّ يُعْمَلُ بِهِ فِي الأَرْضِ خَيْرٌ لأَهْلِ الأَرْضِ مِنْ أَنْ يُمْطَرْوا أَرْبَعِيْنَ صَبَاحًا"(1).
وأخرجه ابن حبان في "صحيحه"، ولفظه:"حَدٌّ يُقَامُ فِي الأَرْضِ خَيْرٌ مِنْ مَطَرِ أَرْبَعِيْنَ صَبَاحًا"(2).
ووجه خيرية الحد: أنه يردع عن مواقعة الحدود، فتحفظ النفوس والأموال والأعراض، فأما المطر أربعين صباحاً فإنه قد يستغنى عنه بمطرٍ غيره، أو نفعه في عام وإذا لم يكن فقد لا يؤثر عدمه ضرراً، وقد يكون ضرره ارتفاع سعر، أو قلة النبت في موضع دون موضع فيستغنى عمَّا فات منه بالاجتلاب من موضع الخصب، أو بزيادة في السعر.
وفي الحديث ترغيب في إقامة الحدود، وأنها من خير أنواع الخير وأنفعها في الدنيا والآخرة.
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 362)، والنسائي (4904)، وابن ماجه (2538).
(2)
رواه ابن حبان في "صحيحه"(4398).