الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلُ
ويقال للصديقين: سابقون لاستباقهم إلى الخير.
وقد أرشد الله تعالى إلى التشبه بالسابقين في قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 148].
روى ابن جرير عن ابن زيد رحمه الله تعالى في قوله: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]؛ قال: الأعمال الصالحة (1).
وقال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]، والتنافس المباراة في عمل الآخرة.
وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [فاطر: 32، 33] الآية.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السَّابِقُ وَالمُقْتَصِدُ يَدْخُلانِ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ،
(1) رواه الطبري في "التفسير"(2/ 30).
وَالظالِمُ لِنَفْسِهِ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيْرًا، ثُمَ يدخلُ الجَنَةَ". رواه الحاكم عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وقال: صحيح الإسناد (1).
وروى ابن أبي شيبة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه موقوفًا، وابن لال في "مكارم الأخلاق"، والبيهقي في "الشعب"، وفي "البعث" مرفوعًا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سَابِقُنَا سَابِقٌ، وَمُقْتَصِدُنَا نَاجٍ، وَظَالِمُنَا مَغْفُوْرٌ لَه"(2).
وقال محمَّد بن الحنفية رحمه الله تعالى: أعطيت هذه الأمة ثلاثة لم تعطها أمة كانت قبلها: منهم ظالم لنفسه مغفور له، ومنهم مقصد في الجنان، ومنهم سابق بالمقام الأعلى. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (3).
وإنما كان السابق بالمقام الأعلى؛ لأنه أخذ من السلوك إلى الله تعالى في دار الدنيا الحظ الأوفى، والعمل الأقوى، كما روى أبو نعيم عن البراء بن عازب رضي الله عنهما: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَ للهِ خَوَاصًّا يُسْكِنُهُمُ الرَّفِيع
(1) رواه الحاكم في "المستدرك"(3592) وقال: وقد اختلفت الروايات عن الأعمش في إسناد هذا الحديث -وذكر الروايات، ثم قال: - وإذا كثرت الروايات في الحديث ظهر أن للحديث أصلًا.
(2)
رواه البيهقي "البعث والنشور"(1/ 63) وقال: فيه إرسال بين ميمون بن سياه، وبين عمر رضي الله عنه، وروي من وجه آخر غير قوي عن عمر موقوفًا عليه.
وانظر: "الدر المنثور" للسيوطي (7/ 25).
(3)
رواه الطبري في "التفسير"(22/ 135)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(10/ 3182) واللفظ له.
مِنَ الْجِنَانِ، كَانُوْا أَعْقَلَ النَّاسِ"، قلنا: يا رسول الله! وكيف كانوا أعقل الناس؟ قال: "كَانَتْ هِمَّتُهُمُ الْمُسَابَقَةَ إِلى رَبِّهِمْ وَالْمُسَارَعَةَ إِلى مَا يُرْضِيْهِ، وَزَهِدُوْا فِي فُضُوْلِ الدُّنْيَا وَرِياشِهَا (1) وَنَعِيْمِهَا، وَهَانَتْ عَلَيْهِم فَصَبَرُوا قَلِيْلاً، وَاسْتَرَاحُوْا طَوِيْلاً" (2).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَأَلَ عَنِّي، أَوْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيَّ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى أَشْعَثَ شَاحِبٍ مُشَمِّرٍ، لَمْ يَضَعْ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ، وَلا قَصَبَةً عَلَى قَصَبَةٍ، رُفِعَ لَهُ عَلَمٌ فَشَمَّرَ إِليْهِ، اليَوْمَ الْمِضْمَارُ، وَغَدًا السَّبْقُ، وَالغَايَةُ الْجَنَّةُ أَوِ النَّارَ"(3).
قال في "القاموس": المضمار: الموضع تضمر فيه الخيل، وغاية السباق (4).
أشار إلى أنه مشترك بين معنيين:
- أحدهما: الموضع الذي تضمر فيه الخيل؛ أي: تعلف القوت بعد التسمين؛ لأن الفرس المضمر أقوى عند الحاجة على السبق.
وهذا المعنى هو الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث بقوله: "اليَوْمَ
(1) في "حلية الأولياء": "ورياستها" بدل "ورياشها".
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 17).
(3)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 9)، وكذا الطبراني في "المعجم الأوسط " (3241). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 258): فيه سليمان بن أبي كريمة، وهو ضعيف.
(4)
انظر: "القاموس المحيط" للفيروزآبادي (ص: 551)(مادة: ضمر).
الْمِضْمَارُ"؛ أي: موضع تضمير المطية وتهيئتها للسبق، وذلك بالأعمال الصالحة، والمسابقة إليها.
"وغداً السبق"؛ أي: يوم القيامة يظهر السبق، فالمسابقة في دار الدنيا بالأعمال إنما تظهر ثمرتها في دار القرار، ولذلك قال تعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [آل عمران: 133] لأنَّ المسارعة في الخيرات المشهودة في دار الدنيا إنما هي مسارعة إلى اتباع الخيرات، وثوابه في دار الآخرة.
ولقد أحسن صاحب "المنفرجة" في قوله: [من المتدارك]
وَرِضًا بِقَضاءِ اللهِ حِجًى
…
فعلى مركوزته فَعِج
وَإِذا انْفَتَحَتْ أَبْوابُ هُدًى
…
فَاعْمَلْ [لخزائنها] وَلِجِ
وَإِذا حاوَلْتَ نِهايَتَها (1)
…
فَاحْذَرْ إِذْ ذاكَ مِنْ العَرَجِ
لِتَكُوْنَ مِنَ السُّبَّاقِ إِذا
…
ما سِرْتَ إلى تلك (2) الْفَرَجِ
(1) في "طبقات الشافعية الكبرى": "نهابتها" بدل "نهايتها".
(2)
غير واضح في "م".
فَهُناكَ الْعَيْشُ وَبَهْجَتُه
…
فَلِمُنتَهِجٍ وَلِمُبتَهِجِ (1)
واعلم أن طريق السبق مفتوح لطالبيه إلى يوم القيامة، إلا أنه الآن مهجور لا يرى عليه إلا الأفراد، فسلوكه غير ممتنع -وإن كان عسراً خطراً- إلا إنَّه يسير على من يسره الله تعالى له، آمن لمن صحب فيه المؤمن المهيمن، فلكل طالب - وإن تأخر زمانه - نصيب مما طلب.
وقد روى الحكيم الترمذي في "نوادره"، وأبو نعيم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فَي كُلِّ قَرْنٍ -وفي رواية: لِكُلِّ قَرْنٍ- مِنْ أُمَّتِيْ سَابِقُوْن"(2).
وهذا السبق - وإن كان عاماً في السبق في أمور الدنيا، وغيرها - إلا أنه شامل للسبق في أمور الآخرة، بل هو أولى بالقصد، مع أن لهذا الحديث شواهد كثيرة صحيحة كحديث:"لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرَيْنَ عَلَى الْحَقِّ"(3).
(1) هذه الأبيات من "القصيدة المنفرجة" ولها اسم آخر: "الفرج بعد الشدة" لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الأندلسي القرشي. انظر: "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (8/ 57).
(2)
رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(1/ 369)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 8). قال الذهبي في "تذكرة الحفاظ" (2/ 567): حديث غريب جداً، وإسناده صالح.
(3)
رواه البخاري (6881)، ومسلم (1921) عق المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
فالتشبه بالسابقين طريق الأقوياء المبشرين، وكلما أظلم الوقت كلما ظهر لهم السبق في السبق، وعظم لهم الأجر والثواب لأن الأجر على قدر المشقة.
وحقيقة السبق أن تبادر إلى كل عمل صالح فتأخذ في أفضله وأكمله وأتمه، وإذا كان ذا وقت كنت أسبق الآخذين فيه إلى أول الوقت كما قيل:[من الوافر]
إِذا هَبَّتْ رِياحُكَ فَاغْتَنِمْها
…
فَعُقبى كلِّ (1) خافِقَةٍ سُكُوْن
وَإِنْ دَرَّتْ نِياقُكَ فَاحْتَلِبْها
…
فَما تدْرِيْ الْفَصِيْلُ لِمَنْ يَكُوْن
وروى الإمام أحمد في "الزهد"، وأبو نعيم عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدْرُوْنَ مَنِ السَّابِقُوْنَ إِلى ظِلِّ اللهِ عز وجل؟ الَّذِيْنَ إِذَا أُعْطُوْا الْحَقَّ قَبِلُوْه، وَإذَا سُئِلُوْهُ بَذَلُوْهُ" وَحَكَمُوا للنَّاسِ كَحُكْمِهِمْ لأَنْفُسِهِم" (2).
(1) في "م" و"ت": "فإن لكل"، والصواب ما أثبت.
(2)
رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 400)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 16). قال ابن كثير في "النهاية في الفتن والملاحم" (1/ 173): تفرَّد به أحمد وإسناده فيه ابن لهيعة، وقد تكلموا فيه، وشيخه ليس بالمشهور.
وأخرجه الحكيم، ولفظه: "طُوْبَى لِلسَّابِقِيْنَ إِلى ظِلِّ اللهِ تَعَالَى، الَّذِيْنَ
…
" إلى آخره (1).
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة، فمر على جبل يقال له: جُمدان، فقال:"سِيْرُوْا هَذا جُمْدانُ، سَبَقَ الْمُفَرِّدُوْنَ"، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: "الذَّاكِرُوْنَ اللهَ كَثِيْرًا [والذاكرات] (2) "(3).
ورواه الترمذي وصححه، ولفظه: قالوا: يا رسول الله! وما المفردون؟ قال: "الْمُسْتَهْتَرُوْنَ بِذِكْرِ اللهِ، يَضَعُ الذِّكْرُ عَنْهُم أثقَالَهُم فَيَأْتُوْنَ اللهَ يَوْمَ القِيَامَةِ خِفَافًا"(4).
وروى الطبراني نحوه عن أبي الدرداء رضي الله عنه (5).
قال المنذري: المفردون - بفتح الفاء، وكسر الراء - والمستهترون - بفتح التائين المثناتين فوق -: هم المولعون بالذكر، المداومون عليه، لا يبالون ما قيل فيهم، ولا ما فُعل بهم (6).
(1) رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(4/ 23).
(2)
زيادة من مسلم.
(3)
رواه مسلم (2676).
(4)
رواه الترمذي (3596) وحسنه.
(5)
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 75): رواه الطبراني عن شيخ عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم، وهو ضعيف.
(6)
انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (2/ 256).
وفي "القاموس": وقد أهتر - بالضم -، فهو مهتر: أولع بالقول في الشيء.
ثم قال: والمستهتر - بالفتح -: المولع به لا يبالي بما فعل به، وشتم له (1).
قلت: ويرجع معنى الاستهتار بالذكر إلى الإكثار منه، كما في الرواية الأخرى إكثاراً يؤدي إلى قول الناس فيه، وإنما يقول في الذاكرين الله من ليس من أهل الإنصاف، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أكثِرُوْا ذِكْرَ اللهِ حَتَّى يَقُوْل الْمُنَافِقُوْنَ: إِنَّكمْ مُرَاءُوْنَ". رواه الإمام أحمد في "الزهد"، والبيهقي في "الشعب" عن أبي الجوزاء رحمه الله تعالى مرسلاً (2).
وقال صلى الله عليه وسلم: "أَكْثِرُوْا ذِكْرَ اللهِ حَتَّى يَقُوْلُوا: مَجْنُوْن". رواه الإمام أحمد، وأبو يعلى، وابن حبان، والحاكم وصححاه، والبيهقي عن أبي سعيد رضي الله عنه (3).
وفي قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: "يَضَعُ الذِّكْرُ عَنْهُم أثقَالَهُمْ" دليل على أنَّ السابق لا يلزم فيه أن لا يسبق له ساعة جهل؛ فإن ذلك لا يؤثر
(1) انظر: "القاموس المحيط " للفيروز آبادي (ص: 637)(مادة: هتر).
(2)
رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 108)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(527).
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 71)، وأبو يعلى في "المسند"(1376)، وابن حبان في "صحيحه"(817)، والحاكم في "المستدرك"(1839)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(526).
في كونهم سابقين وصديقين، بل منهم من لم يسبق له به جهل؛ كأبي بكر، وعلي رضي الله عنه، ومنهم من يسبق له ثم يتخلقون بما سبق لهم من الإحسان والسبق إلى الخير؛ كعمر رضي الله عنه.
وروى أبو نعيم عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْبِقَ الدَّائِبَ الْمُجْتَهِدَ فَلْيَكُفَّ عَنِ الذنُوْبِ"(1).
وروى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، فَالسَّابِقُ السَّابِقُ إِلى الْجَنَّةِ"(2).
أي: والسابق إلى المودة والمصالحة هو السابق إلى الجنة، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أيوب رضي الله عنه:"لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُر أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدَّ هَذَا، وَيَصُدَّ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلامِ"(3).
رواه الإمام أحمد، والشيخان، وأبو داود، والترمذي.
وروى الطبراني في "الكبير" عن الأغر المزني رضي الله عنه: أنَّ أبا بكر
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(10/ 400)، وكذا ابن أبي الدنيا في "الورع" (ص: 41)، وأبو يعلى في "المسند" (4950). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 200): فيه يوسف بن ميمون، وثقه ابن حبان، وضعفه الجمهور، وبقية رجاله رجال الصحيح.
(2)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 253).
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 421)، والبخاري (5883)، ومسلم (2560)، وأبو داود (4911)، والترمذي (1932).
الصديق رضي الله عنه قال له: لا يَسْبِقَنَّكَ (1) بِالسَّلامِ أَحَدٌ (2).
وروى البخاري في "الأدب المفرد" عن عمر رضي الله عنه قال: كنت رديف أبي بكر رضي الله عنه فيمر على القوم فيقول: السلام عليكم، فيقولون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال أبو بكر رضي الله عنه: فضلنا الناس اليوم بزيادة كثيرة (3).
وروى تمام في "فوائده"، وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَبَقَ العَاطِسَ بِالْحَمْدِ وَقَاهُ اللهُ وَجَعَ الْخَاصِرَةِ، وَلَمْ يَرَ فِي فِيْهِ مَكْرُوهًا حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا"(4).
أشار صلى الله عليه وسلم إلى ما اختص به هذا السابق من الفضائل الظاهرة عليه في الدنيا، ولم يذكر ما له في الآخرة؛ لأن الحامد في الآخرة محمود بلا شك، وإنما كانت هذه الفضيلة لمن سبق العاطس لأنه يذكِّر العاطس بما عليه، ويرغبه في الحمد، فهو من المهتدين الهادين.
وروى أبو نعيم عن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ سَبَقَ إِلى الصَّلاةِ مَخَافَةَ أَنْ تَسْبِقَهُ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ تَرَكَهَا مَأْثَرَةً عَليِهَا
(1) في "المعجم الكبير": "لا يسبقك".
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(880). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/ 33): رجاله رجال الصحيح.
(3)
رواه البخاري في "الأدب المفرد"(987).
(4)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(35/ 386).
لَمْ يُدْرِكْهَا بِعَمَلٍ إِلى الْحَوْلِ" (1).
وروى هو، والديلمي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السَّابِقُوْنَ السَّابِقُوْنَ أُوَلئِكَ الْمُقَرَّبُوْنَ، أَوَّلُ مْنَ يُهَجِّرُ إِلى الْمَسْجِدِ وَآخِرُ مَنْ يَخْرُجُ مِنْه"(2).
وروى أبو نعيم في كتاب "حرمة المساجد" عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَحَبُّ البِقَاعِ إِلى اللهِ الْمَسَاجِدُ، وَأَحَبُّ أَهْلِهَا إِلى اللهِ أَوَّلُهُم دُخُوْلاً وَآخِرُهُم خُرُوْجًا، وَأَبْغَضُ البِقَاعِ إِلى اللهِ الأَسْوَاقُ، وَأَبْغَضُ أَهْلِهَا إِلى اللهِ أَوَّلُهُم دُخُوْلاً وَآخِرُهُم خُرُوْجًا"(3).
والتبكير إلى الجمعة داخل في ذلك، والأحاديث في فضل السبق فيه معروفة (4).
وروى عبد بن حميد، وابن المنذر، وأبو نعيم عن عثمان بن أبي سودة مولى عبادة بن الصامت قال: بلغنا في هذه الآية: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10 - 11] أنهم السابقون إلى المساجد، والخروج في سبيل الله تعالى (5).
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 98).
(2)
رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(3574).
(3)
ورواه أبو الشيخ في "العظمة"(2/ 675) مع اختلاف يسير.
(4)
انظر: "اللمعة في خصائص الجمعة" للسيوطي (ص: 47) وما بعدها.
(5)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 109). ولفظه: "أولهم رواحاً إلى=
وروى الشيخان، وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: قد ذهب أهل الدُّثور بالدرجات العلى، والنعيم المقيم، قال:"وَمَا ذَاكَ؟ " قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أفلا أُعَلِمُكُمْ شَيْئاً تُدْرِكُوْنَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُوْنَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلا يَكُوْنُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُم؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال:"تُسَبِّحُوْنَ، وَتُكَبِّرُوْنَ، وَتَحْمَدُوْنَ فِي دُبُرِ كُل صَلاةٍ ثَلاثًا وَثَلاثِيْنَ مَرَّةً"(1).
قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتيْهِ مَنْ يَشَاء"(2).
وروى أبو نعيم عن كعب رحمه الله تعالى قال: إذا اشتكى إلى الله عباده الفقراء الحاجة قيل لهم: أبشروا ولا تحزنوا؛ فإنكم سادة الأغنياء، والسابقون إلى الجنة يوم القيامة (3).
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن أبي أيوب عبد الله بن سليمان
= المسجد، وأولهم خروجاً في سبيل الله".
(1)
رواه البخاري (807)، ومسلم (595).
(2)
رواه مسلم (595).
(3)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 365).
قال: دخل أبو هريرة رضي الله عنه المسجد فإذا فيه غلام، فقال: يا غلام! اذهب إلى عمل أهلك، قال: إنما جئت إلى الصلاة، قال: فأنت السابق وأنا الْمُصَلِّي (1).
أي: الآتي بعد السابق، وهو في الأصل الفرس الذي يأتي ثاني السابق كأنه يحاذي صلاه.
وروى أبو نعيم عن يزيد الرقاشي قال: إن المتجوعين لله تعالى في الرعيل الأول يوم القيامة (2).
وروى البيهقي عن ابن عمر رضي الله عنه: أنه سئل عن صيام الدهر فقال: كنا نعد أولئك [فينا](3) من السابقين (4).
وهذا مما يدل على أن صيام الدهر لمن لم يخف منه ضرراً، ولم يفوت به حقاً مستحب. نص عليه الدارمي، والغزالي.
وقال الشافعي، وبقية الأصحاب، وجمهور العلماء: لا يكره إذا أفطر أيام النهي.
وذهب أبو يوسف، وغيره إلى كراهته (5).
(1) رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 178).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 51).
(3)
زيادة من "السنن الكبرى".
(4)
رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 301).
(5)
انظر المسألة في "المجموع" للنووي (6/ 415).
وروى البيهقي (1)، وغيره عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ هَكَذَا، وَعَقَدَ تِسْعِيْن"(2).
وفي "صحيح البخاري" عن أنس رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة رضي الله عنه لا يصوم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من أجل الغزو، فلما قُبض النبي صلى الله عليه وسلم لم أره مفطراً إلا يوم الفطر، أو الأضحى (3).
وممن سرد الصوم عمر، وابنه عبد الله، وأبو أمامة، وامرأته، وعائشة رضي الله عنه. رواه البيهقي عنهم (4).
وزاد النووي في "شرح المهذب": سعيد بن المسيب، وأبا عمرو ابن حِماس - بكسر المهملة -، وسعيد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف التابعي؛ سرده أربعين سنة، والأسود بن يزيد صاحب ابن مسعود (5).
(1) قال النووي في "المجموع"(6/ 416): واحتج به البيهقي على أنه لا كراهة في صوم الدهر، وافتتح الباب به، فهو عنده المعتمد في المسألة، وأشار غيره إلى الاستدلال به على كراهته، والصحيح ما ذهب إليه البيهقي، ومعنى ضيقت عليه؛ أي: عنه، فلم يدخلها، أو ضيقت عليه، أي: لا يكون له فيها موضع.
(2)
رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 300)، وكذا الإمام أحمد في "المسند" (4/ 414) إلا أنه قال:"هكذا، وقبض كفيه".
(3)
رواه البخاري (2673).
(4)
انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (4/ 301).
(5)
انظر: "المجموع، للنووي (6/ 418).
وروى أبو الحسن بن جهضم عن أبي عثمان قال: السابق بالود مبتدئ، والمكافئ له مقتدي؛ فأنى يدرك المقتدي المبتدئ؟ وللمبتدئ أجره وأجر من اتبعه (1).
ومن هنا قيل: إن الابتداء بالسلام - وإن كان سنة - أفضل من الرد وإن كان واجباً (2)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلامِ"(3).
ونظير ذلك أن الإحسان إلى المسيء سابق بالنسبة إلى من يقابل الإحسان بالإحسان.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ الوَاصِلُ بِالمُكَافِئِ، وَلَكِنَّ الوَاصِلَ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا". رواه الإمام أحمد، والبخاري، وأبو داود، والترمذي عن ابن عمرو رضي الله عنه (4).
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تَكُوْنُوْا إِمَّعَةً؛ تَقُوْلُوْنَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ أَسَاؤُوْا أَسَأْنَا (5)، وَلَكِنْ وَطِّنُوْا أَنْفُسَكُم: إِنْ أَحْسَنُوا أَنْ تُحْسِنُوْا، وَإِنْ أَسَاؤُوا أَنْ لا تَظْلِمُوْا". رواه الترمذي من حديث حذيفة رضي الله عنه (6).
(1) ورواه السلمي في "آداب الصحبة"(ص: 116).
(2)
انظر: "المبسوط" للسرخسي (30/ 274)، و"المجموع" للنووي (4/ 504).
(3)
رواه البخاري (5727)، ومسلم (2560) عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
في الترمذي: "وإن ظلموا ظلمنا" بدل "وإن أساؤوا أسأنا".
(6)
رواه الترمذي (2007) وحسنه.
وقوله: "وَإِنْ أَسَاؤوا أَنْ لا تَظْلِمُوا" وهو شامل للعفو والانتصار، إلا أن العفو صاحبه سابق؛ لأنه محسن مانٌّ بالعفو.
قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وهو من أفضل السابقين -: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَلا أَدُلُّكَ عَلَى خَيْرِ أَخْلاقِ الأوَّلِيْنَ وَالآخِرِيْنَ؟ " قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال:"تُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُو عَنْ مَنْ ظَلَمَكَ، وَتَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ". رواه البيهقي في "الشعب"(1).
وروى ابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لَنْ يَنَالَ عَبْدٌ صَرِيْحَ الإيِمَانِ حَتَّى يَصِلَ مَنْ قَطَعَهُ، وَيَعْفُوَ عَنْ مَنْ ظَلَمَهُ، وَيغْفِرَ لِمَنْ شَتَمَهُ، وَيحْسِنَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ"(2).
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحل بذروته - أي: حتى يسبق إلى أعلى خصاله - قال: ولا يحل بذروته حتى يكون الفقر أحب إليه من الغنى، والتواضع أحب إليه من الشرف، وحتى يكون حامده وذامُّه عنده سواء.
قال عون بن عبد الله: ففسرها أصحاب عبد الله؛ قالوا: حتى يكون الفقر في الحلال أحب إليه من الغنى في الحرام، وحتى يكون التواضع في طاعة الله أحب إليه من الشرف في معصية الله، وحتى يكون حامده
(1) رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(7956).
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق"(ص: 23).
وذامه في الحق سواء. رواه الإمام أحمد في "الزهد"، وغيره (1).
وروى النسائي عن أبي ذر رضي الله عنه، وهو، وابن حبان، وابن خزيمة، والحاكم وصححوه، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يَسْبِقُ (2) دِرْهَمٌ مِئَةَ ألفِ دِرْهَم"، فقال رجل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: "رَجُلٌ لَهُ مَالٌ كَثِيْرٌ أَخَذَ مِنْ عُرْضِ مالِهِ ألفَ دِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا، وَرَجُلٌ لَيْسَ لَهُ إِلا دِرْهَمَانِ فَأَخَذَ أَحَدَهُمَا فتصَدَّقَ بِهِ"(3).
وقوله: "من عرض" - بضم المهملة - أي: من جانبه.
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن الحسن رحمه الله تعالى قال: حضر باب عمر رضي الله عنه سهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، وأبو سفيان ابن حرب، ونفر من قريش من تلك الرؤوس، وصهيب، وبلال، وتلك الموالي الذين شهدوا بدراً رضي الله عنهم، فخرج آذنُ عمر رضي الله عنه فأذن لهم، وترك هؤلاء، فقال أبو سفيان: لم أر كاليوم قط يأذن لهؤلاء العبيد ويتركنا على بابه لا يلتفت إلينا، قال: فقال سهيل بن عمرو رضي الله عنه وكان رجلاً عاقلاً -: أيها القوم! إني والله لقد أرى الذي في وجوهكم إن كنتم
(1) رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 158)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 132).
(2)
في مصادر التخريج: "سبق" بدل "يسبق".
(3)
ورواه النسائي (2527)، وابن حبان في "صحيحه"(3347)، وابن خزيمة في "صحيحه"(2443)، والحاكم في "المستدرك"(1519) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
غِضَابا فاغضبوا على أنفسكم، دُعي القوم ودعيتم، فأسرَعوا وأبطأتم، فكيف لكم إذا دعوا يوم القيامة وتُركتم، أما والله لما سبقوكم إليه من الفضل مما لا ترون أشد عليكم فوتاً من بابكم هذا الذي تنافسون عليه، قال: ونفض ثوبه وانطلق.
قال الحسن: وصدق - والله - سهيل؛ لا يجعل الله عبداً أسرعَ إليه كعبدٍ أبطأ عنه (1).
وفي رواية: فكيف بكم إذا دعوا إلى أبواب الجنة وتركتم؟ والله لا أدع موقفاً وقفت مع المشركين إلا وقفت مع المسلمين مثله، ولا نفقة أنفقتها مع المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنفقت على المسلمين مثلها (2).
ويناسب ما في هذا الأثر من سبق الموالي ذوي الأنساب بأعمالهم سبق الأرقاء الأحرار حتى قد يسبق العبد سيده؛ كما روى الطبراني في "الكبير"، و"الأوسط" عن ابن عباس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"عَبْدٌ أَطَاعَ اللهَ تَعَالى، وَأَطَاعَ مَوالِيَهُ أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ قَبْلَ مَوَالِيَهُ بِسَبْعِيْنَ خَرِيْفًا، فَيقُولُ السَّيدُ: رَبِّ! هَذَا كَانَ عَبْدِي فِي الدُّنْيَا، قَالَ: جَازَيْتُهُ بِعَمَلِهِ، وَجَازَيتُكَ بِعَمَلِكَ"(3).
(1) رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 113).
(2)
انظر: "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 214).
(3)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(12804)، و"المعجم الصغير"(1179) =
وفي "الأوسط" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ عَبْدًا دَخَلَ الْجَنَّةَ فَرَأَى عَبْدَهُ فَوْقَ دَرَجَتِهِ، فَقَال: يَا رَبِّ! هَذَا عَبْدِي فَوْقَ دَرَجَتِي؟ قَالَ: نعَمْ، جَزَيْتُهُ بِعَمَلِهِ، وَجَزَيِتُكَ بِعَمَلِك"(1).
وفيه عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ سَابِقٍ (2) إِلى الْجَنَّةِ مَمْلُوْكٌ أَطَاعَ اللهَ وَأَطَاعَ مَوَالِيَه"(3).
وروى الإمام أحمد، وأبو يعلى بإسناد حسن، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بَخِيْلٌ، وَلا خَبٌّ، وَلا خَائِنٌ، وَلا سَيُّء الْمَلَكَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ الْمَمْلُوْكُوْنَ إِذَا أَحْسَنُوْا فِيْمَا بَيْنَهُم وَبَيْنَ اللهِ عز وجل، وَفِيْمَا بَيْنَهُم وَبَيْنَ مَوَالِيهم"(4).
والخب - بالفتح -: الْخَدَّاع الْمَكَّار الخبيث.
= وقال: تفرد به يحيى بن عبد الله بن عبد ربه الصفار، عن أبيه. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/ 240): لم أجد من ذكر يحيى، وأبوه ذكره الخطيب، ولم يجرحه ولم يوثقه، وبقية رجاله حديثهم حسن.
(1)
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(7356). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(4/ 240): فيه بشير بن ميمون، وهو متروك.
(2)
في "م" و"ت" وكذا "مجمع الزوائد": "سابق"، وفي "المعجم الأوسط":"سائق".
(3)
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(7357). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(4/ 240): فيه بشير بن ميمون، وهو متروك.
(4)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 4) واللفظ له، وأبو يعلى في "المسند"(93).
ومن السابقين من جاء الأثر فيه بأنه أول من يقرع باب الجنة، أو أول من يدخلها، ولا معارضة بين الأخبار في ذلك؛ فأول من يقرع باب الجنة النبي صلى الله عليه وسلم فيبادر معه كافل اليتيم، ومن في رتبته.
وقوله في هذا الحديث: "أَوَّلُ مَنْ يَقْرعُ بابَ الْجَنَّةِ الْمَمْلُوْكُوْنَ"؛ أي: بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ومن معه، أو النبي صلى الله عليه وسلم أول من يقرع باب الجنة ليفتح للداخلين، ثم يكون كافل اليتيم، والعبد المملوك، وأهل الجهاد، والصدقات، وتلاوة القرآن المخلصون أول الداخلين والفقراء من كل صنف أسبق إلى الجنة من الأغنياء جمعاً بين الأحاديث، فافهم!
وروى أبو عبد الرحمن السلمي في "طبقاته" عن أبي علي الجوزجاني رحمه الله تعالى قال: السابقون هم المقربون بالعطيات، والمرتفعون في المقامات، وهم الصلة (1) بالله من بين البرية، عرفوا الله [حق معرفته](2)، وعبدوه بإخلاص العبادة، وأَووا إليه بالشوق والمحبة، وهم الذين قال الله عز وجل:{وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} [صَ: 47](3).
وروى أبو نعيم عن كعب رحمه الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 10] قال: هم أهل القرآن (4).
(1) في "طبقات الصوفية": "العلماء" بدل "الصلة".
(2)
زيادة من "طبقات الصوفية".
(3)
رواه السلمي في "طبقات الصوفية"(ص: 197).
(4)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 377).
وروى عبد بن حميد عن صالح أبي الخليل قال: قال كعب رحمه الله تعالى: يلومني أحبار بني إسرائيل أني دخلت في أمة فرَّقهم الله تعالى، ثم جمعهم، ثم أدخلهم الجنة جميعاً، ثم [تلا] هذه الآية:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [فاطر: 32 - 33]؛ قال: فأدخلهم الله الجنة جميعاً (1).
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن الحسن رحمه الله تعالى قال: السابق من رجحت حسناته على سيئاته، والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته، والظالم الذي ترجح سيئاته على حسناته (2).
وروى ابن مردويه، والديلمي عن حذيفة رضي الله عنه قال: يبعث الناس على ثلاثة أصناف، وذلك في قول الله تعالى:{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر: 32]؛ قال: سابق بالخيرات يدخل الجنة بلا حساب، والمقتصد يحاسب حساباً يسيراً، والظالم لنفسه يدخل الجنة برحمة الله (3)؛ يعني: بعد الحساب بدليل الأثر عن أبي مسلم الخولاني قال: قرأت في كتاب الله أنَّ هذه الأمة تصنف يوم القيامة على ثلاثة أصناف: فصنف يدخلون الجنة بغير حساب، وصنف
(1) ورواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(50/ 164).
(2)
وانظر: "حقائق التفسير" للسلمي (2/ 161).
(3)
رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(8774).
يحاسبهم الله حساباً يسيراً، وصنف يوقفون فيؤخذ منهم ما شاء الله، ثم يدركهم عفو الله وتجاوزه. رواه عبد بن حميد (1).
ولأرباب الإشارات والحقائق في هؤلاء الثلاثةِ أقوالٌ:
قال الحارث بن أسد المحاسبي رحمه الله تعالى: الظالم ينظر من نفسه إلى نفسه في دنياه وآخرته، فيقول في دنياه وآخرته: نفسي نفسي، والمقتصد نظر من نفسه إلى عقباه وهو في دنياه ناظر إلى عقباه (2)، والسابق ينظر من الله إلى الله فلم يرَ غير الله في دنياه وعقباه (3).
وقال محمد بن علي الترمذي رحمه الله تعالى: لكل واحد من هؤلاء الثلاثة نوع من سؤال، وأخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فسؤال الظالم: أسألك الإيمان بك، والكفاف من الرزق.
وسؤال المقتصد: أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، [وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل](4).
وسؤال السابق: أسألك النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك (5).
قلت: وجميعهم على الباب واقفون، وإلى الله مفتقرون، وبلسان
(1) ورواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(67/ 216).
(2)
في "حقائق التفسير": "وهو في الآخرة ناظر إلى مولاه".
(3)
انظر: "حقائق التفسير" للسلمي (2/ 161).
(4)
زيادة من "حقائق التفسير".
(5)
انظر: "حقائق التفسير" للسلمي (2/ 167).
حالهم قائلون: [من مخلَّع البسيط]
إِلَيْكَ جِئْنا وَأَنْتَ جِئْتَ بِنا
…
وَلَيْسَ رَبٌّ سِواكَ يَحْمِيْنا (1)
بابُكَ رَحْبٌ فِناؤُهُ كَرَمٌ
…
تُؤْوِيْ إِلَىْ بابِكَ الْمَساكِيْنا
والبيتان لأبي سعد عبد الملك بن محمد النيسابوري المعروف بالخركوشي، وهو ممن يرتجى بذكره الرحمة.
حكي أنه خرج مرة مع الناس للاستسقاء، فأنشد البيتين فسقوا برحمة الله تعالى (2).
وقال محمد بن علي الترمذي أيضاً: الظالم لنفسه إلى عفو الله، والمقتصد إلى رضى الله، والسابق بالخيرات إلى رضوان الله، ورضوان من الله أكبر (3).
وقال أبو يزيد البسطامي رحمه الله تعالى: الظالم مضروب بسوط الأمل، مقتول بسيف الحرص، مضطجع على باب الرجاء.
والمقتصد مضروب بسوط الحسرة، مقتول بسيف الندامة، مضطجع
(1) في "تاريخ دمشق": "يغنينا" بدل "يحمينا".
(2)
انظر: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (37/ 94).
(3)
انظر: "حقائق التفسير" للسلمي (2/ 169).
على باب الكرم.
والسابق مضروب بسوط المحبة، مقتول بسيف الشوق، مضطجع على باب الهيبة (1).
وقال أبو القاسم الجنيد رحمه الله تعالى: الظالم مضروب بسوط الغفلة، مقتول بسيف الأمل، مطروح على باب الرحمة والمشيئة.
والمقتصد مضروب بسوط الندامة، مقتول بسيف الحسرة، مطروح على باب الفقر.
والسابق مضروب بسوط المحبة، مقتول بسيف الشوق، مطروح على باب المشاهدة والبشرى واللقاء (2).
قلت: ومعنى هذا الكلام: إن الظالم لنفسه هو الذي ظلم نفسه بالاسترسال في الغفلة عما يراد منه من أدب كل وقت من أوقاته، وحقوق كل حين من أحايينه في ذلك الوقت، وذلك الحين، ثم كلما تحركت روحه بواعظ الإيمان المستوي على عرش قلب كل عبد مؤمن للنهوض إلى التوبة والإقلاع عن المعصية لم تطاوعه نفسه؛ لأنها قد انقطعت بمُدْية التسويف، وقتلت بسيف الأمل، فهو تحت المشيئة؛ لأن سيئاته قد رجحت على حسناته فلم يستحق فوزاً، ولم يستوجب ثواباً، لكن الله تعالى لم يقطعه عن رحمته بالكلية، ولم يخرجه من دائرة الاصطفائية،
(1) انظر: "حقائق التفسير" للسلمي (2/ 162).
(2)
انظر: "حقائق التفسير" للسلمي (2/ 163).
بل طرحه على باب رحمته، وأناط آماله بدخول جنته لأنَّ له عند الله عهداً وذمة، وقد قال الله تعالى:{إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 87]؛ أي: قال: لا إله إلا الله.
وما أحسن ما قال عبد الرحيم البرعي - من رجال اليمن - رحمه الله تعالى: [من الرمل]
عَلَّها تَرْعَىْ ذِماماً سالِفاً
…
وَبِظَنِّيْ أَنَّها تَرْعَىْ الذِّماما
ولذلك قدم الله تعالى الظالم لنفسه في الآية.
قال ابن عطاء الآدمي رحمه الله تعالى: قدم الظالم لئلا ييئس من فضله؛ قال: والسابق مقدم، لكن أظهر لطفه بتقديم الظالم ليعرفوا كرمه ويرجعوا إليه (1).
وقال جعفر الصادق رضي الله عنه: بدأ بالظالمين إخباراً أنَّه لا يتقرب إليه إلا بصرف كرمه، وأنَّ الظلم لا يؤثر في الاصطفائية، ثم ثنَّى بالمقتصدين لأنهم بين الخوف والرجاء، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكره، وكلهم في الجنة ببركة كلمة الإخلاص (2).
وقال أبو الحسن الفارسي (3) رحمه الله تعالى: إنَّ الله اصطفى جملة
(1) انظر: "حقائق التفسير" للسلمي (2/ 163).
(2)
انظر: "حقائق التفسير" للسلمي (2/ 161).
(3)
في "أ": "القادسي".
الموحدين من جملة الكافرين، وكانوا عباداً مخصوصين، فسوَّى بينهم لئلا يعتمد السابق على سبقه، ولا ييأس الظالم من ظلمه (1).
واعلم أن الظالم لنفسه في هذه الآية أخص من الظالم لنفسه في قوله تعالى: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: 113].
قال قتادة: أي: مؤمن وكافر. كما رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (2).
فظلم النفس على قسمين: ظلم عظيم؛ وهو الشرك، فهذا يُخرج صاحبه من الاصطفاء.
وظلم دون ظلم؛ وهو بالمعصية ما عدا الشرك، وهذا لا يخرج العبد عن الرحمة، ألا ترى إلى قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]؟
وروى أبو داود الطيالسي، والبزار عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الظُّلْمُ ثَلاثَةٌ: فَظُلْم لا يَغْفِرُهُ اللهُ، وَظُلْمٌ يَغْفِرُهُ، وَظُلْم لا يَتْرُكُهُ؛ فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لا يَغْفِرُهُ فَالشِّرْكُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
وَأَمَّا الظُّلْمْ الَّذِي يَغْفِرُهُ اللهُ، فَظُلْمُ العِبَادِ أَنْفُسَهُم فِيْمَا بَيْنَهُم وَبَيْنَ رَبِّهِم.
(1) انظر: "حقائق التفسير" للسلمي (2/ 161).
(2)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(10/ 3224).
وَأَمَّا الظّلْمُ الَّذِي لا يَتْرُكُهُ اللهُ، فَظُلْمُ العِبَادِ بَعْضَهُم بَعْضًا حَتَّى يَدِيْنَ لِبَعْضِهِم مِنْ بَعْضٍ" (1).
وروى الإمام أحمد، والحاكم وصححه، عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدَّوَاوِيْنُ [عند الله عز وجل](2) ثَلاثة: فَدِيْوَانٌ لا يَغْفِرُ اللهُ مِنْهُ شَيئاً، وَدِيْوَانٌ لا يَعْبَأُ اللهُ بهِ شَيْئاً، وَدِيْوَانٌ لا يَتْرُكُ اللهُ مِنْهُ شَيْئاً؛ فَأَمَّا الدِّيْوَانُ الَّذِي لا يَغْفِرُ اللهُ مِنْهُ شَيْئاً، فَالإِشْرَاكُ بِاللهِ، [قال الله عز وجل {يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة: 72] (3)] (4).
وَأَمَّا الدِّيْوَانُ الَّذِي لا يَعْبأُ اللهُ بِهِ شَيْئاً، فَظُلْمُ العَبْدِ نَفْسَهُ فِيْمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ مِنْ صَوْمِ يَوْمٍ تَرَكَهُ، أَوْ صَلاةٍ تَرَكَهَا؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَغْفِرُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ، وَيَتَجَاوَزُ.
وَأمَّا الدِّيْوَانُ الَّذِي لا يَتْرُكُ اللهُ مِنْهُ شَيْئًا، فَمَظَالِمُ العِبَادِ بَيْنَهُم؛ القِصَاصُ لا محَالَةَ" (5).
(1) رواه الطيالسي في "المسند"(2109)، والبزار في "المسند" (6493) واللفظ له. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 348): رواه البزار عن شيخه أحمد بن مالك القشيري، ولم أعرفه، وبقية رجاله قد وثقوا على ضعفهم.
(2)
زيادة من "مسند الإمام أحمد".
(3)
في "المستدرك" للحاكم (8717): ذكر آية أخرى، وهي:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
(4)
زيادة من "مسند الإمام أحمد".
(5)
رواه الأمام أحمد في "المسند"(6/ 240)، والحاكم في "المستدرك" =
أي: إلأَ أن يصالح الله تعالى صاحب الحق؛ للحديث الصحيح في ذلك.
وقد عقدت حديث عائشة رضي الله عنها في أبيات ستأتي إن شاء الله تعالى في الخاتمة.
وقول الجنيد رحمه الله تعالى: والمقتصد مضروب بسوط الندامة
…
إلى آخره (1)، إنما كان المقتصد كذلك لأن نفسه لوامة تلومه على زلته، وتؤنبه في التقصير، كما قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: إن المؤمن - والله - ما تراه إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلامي؟ ما أردت بأكلي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ وإنَّ الفاجر يمضي قُدماً لا يحاسب نفسه ولا يعاتبها. رواه عبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في "محاسبة النفس"(2).
فإذا فات المقتصد ما اقتصر عنه من أعمال البر ندم عليه وتحسر حيث فاته ذلك، ولم يزدد منه، فهو مضروب بسوط الندم، مقتول بسيف الحسرة لأنَّ الأوقات إذا فاتت ماتت حصتها من الخير، وإذا كان العبد قد فاته التسوق في أيامه، والبذر في إبانه، لم يبقَ له حين رواج الأسواق،
= (8717). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 348): فيه صدقة بن موسى، وقد ضعفه الجمهور، وقال مسلم بن إبراهيم: حدثنا صدقة بن موسى، وكان صدوقاً، وبقية رجاله ثقات.
(1)
تقدم قريباً.
(2)
ورواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 281)، وانظر: ، الدر المنثور" للسيوطي (8/ 343).
ونَفَاق السلع، وحصاد الزروع إلا الانطراح على أبواب الجود والكرم، والافتقار إلى مفيد البذل والنعم.
وقد روى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد" عن عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنه أنه قال: ثلاث صاحبهن جواد؛ مقتصد في فرائض الله يقيمها، ويتقي السوء، ويقل الغفلة.
وثلاث؛ لا تحقرن خيراً أن تتبعه، وشراً أن تتقيَه، ولا يكبرن عليك ذنب أن تستغفر الله منه.
وإيَّاك واللعب؛ فإنك لن تصيب به دنيا، ولا تدرك به آخرة، ولن ترضى المليك، إنما خلقت النار لسخطه، وإني أحذرك سخط الله (1).
واعلم أن المقتصد قد يكون سابقاً مُقدماً على المجتهد، وذلك بأمور:
1 -
منها: أنَّ المجتهد إذا كان اعتقاده سقيماً فالمقتصد خير منه، بل البدعة قد تحبط الاجتهاد بمرة.
وقد روى الإمام أحمد في "الزهد" عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: اقتصادٌ في سنةٍ خيرٌ من اجتهاد في بدعة، وأن تتبع خير من أن تبتدع (2).
وروى الشيخ نصر المقدسي في كتاب "الحجة" عن أنس، وأبو القاسم الرافعي عن أبي هريرة، والديلمي عن ابن مسعود رضي الله عنه قالوا: قال
(1) رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 98).
(2)
ورواه محمد بن نصر المروزي في "السنة"(ص: 32).
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عَمَلٌ قَلِيْلٌ فِيْ سُنَّةٍ خَيْرٌ مِن اجْتَهَادٍ فِي بِدْعَة".
هذا لفظ أنس، ولفظ غيره:"خَيْرٌ مِنْ عَمَلٍ كَثِيْرٍ فِي بِدْعَةٍ"(1).
2 -
ومنها: أن الاقتصاد إذا داوم عليه العبد خير من الاجتهاد، والانقطاع عنه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها:"أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ". رواه الشيخان (2).
وفي رواية عند البخاري: كَانَ أَحَبُّ الدِّيْنِ إِلَى النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا دَامَ (3) عَلَيْهِ صَاحِبَهُ (4).
وفي لفظ عن عائشة، وأم سلمة رضي الله عنه: كَانَ أَحَبُّ العَمَلِ إِلَيْهِ مَا دُوْوِمَ عَلَيْهِ وإِنْ قَلَّ (5).
3 -
ومنها: أن يكون العبد في الاقتصاد أحفظ لآدابه في الاجتهاد كان يؤديه وهو خالص القلب، صادق القصد كأن يصلي ركعتين مُتدبراً للقراءة، مبطئاً في الأفعال؛ فإنها أفضل من عشر ركعات بدون ذلك، أو
(1) رواه المقدسي في "الحجة على تارك المحجة"(132) عن أنس رضي الله عنه، والرافعي في "التدوين أخبار قزوين"(1/ 257) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وكذا رواه عبد الرزاق في "المصنف"(20568) عن الحسن رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (6100)، ومسلم (783) واللفظ له.
(3)
عند البخاري: "الذي يَدُومُ" بدل "ما دام".
(4)
رواه البخاري (6097).
(5)
رواه مسلم (782) عن عائشة رضي الله عنها، ورواه النسائي (1655) عن أم سلمة رضي الله عنها.
يقرأ آية بتدبر وفهم؛ فإنه أفضل من قراءة عشر آيات بدون ذلك.
ففي الحديث: "رَكْعَتَانِ مِنْ عَالِمٍ بِاللهِ خَيْرٌ مِنْ ألفِ رَكْعَةٍ مِنْ مُتَجَاهِلٍ بِاللهِ". رواه الشيرازي في "الألقاب" عن علي رضي الله عنه.
وفيه: "رَكْعَتَانِ مِنْ رَجُل وَرِعٍ أَفْضَلُ مِنْ ألفِ رَكْعَةٍ مِنْ مُخَلِّطٍ". رواه الديلمي عن أنس رضي الله عنه (1).
وروى ابن أبي الدنيا عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة والقلبُ ساهي (2).
وروى الدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا خَيْرَ فِي قِرَاءَةٍ إِلا بِتدَبُّر، وَلا عِبَادَة إِلا بِفِقْهٍ، وَمَجْلِسُ فِقْهٍ خَيْر مِنْ عِبَادَةِ سِتِّيْنَ سَنَة"(3).
4 -
ومنها: أن تكون العبادة المقتصدة واقعة في مشاهد المسلمين كالصلاة في الجماعة.
وفي الحديث الصحيح: "صَلاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاةَ الفَذِّ بِسَبع وَعِشْرِيْنَ درَجَةً". رواه الإمامان مالك، وأحمد، والشيخان، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه (4).
(1) رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(3234).
(2)
ورواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 97).
(3)
ورواه الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه"(1/ 97).
(4)
رواه الإمام مالك في "الموطأ"(1/ 129)، والإمام أحمد في "المسند"=
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن الأزرق بن قيس الحارثي قال: كنا عند عسعس بن سلامة وفينا ابن حاصر الأسيدي - وكان رجلاً خطيبا متكلماً -، فقال: وددت أن لنا بالجبان قصراً فيه من الطعام والشراب ما يكفينا حتى يدفن آخرنا رجلاً، فقال عسعس بن سلامة: أما بلغك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في سفر، ففقد رجلاً من أصحابه، فقال:"اطْلُبُوْهُ فِيْ الْغِيْرانِ"، فوجدوه في غار قائما يصلي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ "قال: كبرت سني وحضر أجلي فأحببت أن أخلوَ لعبادة ربي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أَلا إِنَّ مَوْطِنَ سَاعَة مِنْ مَوَاطِنِ الْمُسْلِمِيْنَ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ الرَّجُلِ سِتِّيْنَ سَنَة خَالِيًا"(1).
5 -
ومنها: أنَّ صدقة المقتصد من حلال تسبق صدقة المكثر من شبهة، أو صدقة المقل تسبق صدقة المكثر؛ لأن الأول يجود بما عزَّ،
= (2/ 65)، والبخاري (619)، ومسلم (650)، والترمذي (215)، والنسائي (837)، وابن ماجه (789) كلهم عن ابن عمر رضي الله عنه.
أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه: فرواه الإمام مالك في "الموطأ"(1/ 129)، والإمام أحمد في "المسند"(2/ 264)، والبخاري (621)، ومسلم (649)، والنسائي (838). وكلهم قال:"بخمسة وعشرين جزءًا".
(1)
لم أقف عليه، لكن روى بمعناه الدارمي في "السنن"(2396)، والدارقطني في "المعجم الكبير"(18/ 168)، والحاكم في "المستدرك" (2383) عن عمران بن حصين رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مقام الرَّجل في الصَّف في سبيل الله أفضلُ من عبادة الرَّجل ستين سنة".
والثاني بما هان؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "سَبَقَ دِرْهَمٌ مِئَةَ ألفِ دِرْهَم" الحديث (1).
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن وهب بن كيسان قال: مرَّ رجل من العمال يتصدق على المساكين قال: فأتى أبا هريرة (2) رضي الله عنه، فقال: يا أبا هريرة! مررت بفلان وهو يتصدق على المساكين، فقال أبو هريرة رضي الله عنه: لكن درهم أصيبه بكد يعرق فيه جبيني أحب إلي من صدقة هؤلاء مئة ألف ومئة ألف (3).
وكلام أبي هريرة رضي الله عنه يحتمل وجهين:
الأول: أن درهم يتصدق به العبد اكتسبه بعمل يده وكَدِّه أفضل من مئة ألف درهم يتصدق بها جميعها من العمالة ونحوها بغير كد، أو بغير ورع.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه في "الصحيحين": "مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ - وَلا يَقْبَلُ اللهُ إِلا الطَّيِّبَ - فَإِنَّ اللهَ عز وجل يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِيْنهِ، ثُمَّ يُربِّيْهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حَتَّى يَكُوْنَ مِثْلَ الجَبَلِ"(4).
والوجه الثاني: أن اكتساب العبد لدرهم واحد بعرق جبينه وكد
(1) تقدم تخريجه.
(2)
في "الورع": "أبو همام" بدل "أبو هريرة".
(3)
رواه الإمام أحمد في "الورع"(ص: 20).
(4)
رواه البخاري (1344)، ومسلم (1014).
يمينه خير له من مئة ألف درهم تحصل له بمنة أحد على سبيل الهبة، أو الصدقة؛ لأن احتمال المنة يشق على قلوب الأخيار.
ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، ولا يقبل الصدقة لأن الهدية يكافأ عليها فتندفع المنة عنه بالمكافأة؛ بخلاف الصدقة.
وفي حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه في "الصحيحين": "لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلاً فَيَأْتِيَ الْجَبَلَ، فَيَجِيْءَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِه، فَيَبِيْعَهَا، فَيَكُفَّ اللهُ بِهِا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسأَلَ النَّاسَ؛ أَعْطَوْهُ، أَوْ مَنَعُوْهُ"(1).
وروى مسلم، والترمذي نحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وزاد:"ذَلِكَ بِأَنَّ الْيَدَ العُلْيَا خَيرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى"(2).
وقد تسبق الصدقة المقتصدة الصدقة الكثيرة بمعنى آخر؛ كالصدقة في حال حياة العبد وهو صحيح شحيح [يأمل](3) الحياة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأَنْ يَتَصَدَّقَ الْمَرْءُ فِي حَيَاتِهِ بِدِرْهَمِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يتَصَدَّقَ بِمِئَةِ درْهَمٍ عِنْدَ مَوْته". رواه أبو داود، وابن حبان في "صحيحه" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (4).
وكذلك الصدقة على الأقارب، والجيران، والأصدقاء تسبق الصدقة
(1) رواه البخاري (1402).
(2)
رواه مسلم (1042)، والترمذي (680).
(3)
غير واضح في "م".
(4)
رواه أبو داود (2866)، وابن حبان في "صحيحه"(3334).
على غيرهم لأن الصدقة على القريب صدقة وصلة، وعلى الجار والأخ صدقة وأداء لحق الجوار والأخوة، وأدلة ذلك مشهورة.
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الإخوان" عن يزيد بن عبد الله بن الشخير رحمه الله تعالى مرسلاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأَنْ أُعْطِيَ أَخًا فِي اللهِ دِرْهَمًا أَحَبُّ إِليَّ مِنْ أَنْ أتصَدَّقَ بِعَشَرَةٍ، وَلأَنْ أُعْطِيَ أَخًا فِي اللهِ عَشَرَة أَحَبُّ إِليَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ رَقَبَةً"(1).
ولذلك الاقتصاد فيما هو حال العبد يسبق الاجتهاد فيما ليس من حاله، فالصدقة من المَلِيء أولى به من سرد الصوم مثلاً، بل لو سرد الصوم وهو يمنع الزكاة، أو أكثر من الركوع والسجود ونحوهما تطوعاً وهو كذلك، يخشى عليه أن تُرد عليه أعماله، وتنعكس به آماله.
وكذلك لو اشتغل بأنواع العبادة وقلبه غافل عن ذكر الله تعالى؛ صاحب الذكر واليقظة أسبق منه.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: لأن أذكر الله من لدن صلاة الصبح إلى أن تطلع الشمس أحب إلي من أن أعطي فارسين الخيل في سبيل الله عز وجل.
رواه الإمام أحمد في "الزهد"(2).
وروى عبد الرزاق، والطبراني في "الكبير" عن سهل بن سعد
(1) رواه ابن أبي الدنيا في "الإخوان"(ص: 227).
(2)
ورواه الطبراني في "المعجم الكبير"(8508). ولفظه: "لأن أذكر الله يومًا إلى الليل، أحبُّ إلى من أن أحمل على الجياد يومًا إلى الليل".
الساعدي رضي الله عنه، والطبراني - أيضاً - عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأَنْ أُصَلِّيَ الصُّبْحَ ثُمَّ أَجْلِسَ فِي مَجْلِسٍ، فَأَذْكُرَ الله عز وجل حَتَى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، أَحَبُّ إِليَّ مِنْ شدٍّ عَلَى جِيَادِ الْخَيْلِ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ مِنْ حِيْنِ أُصَلِّي إِلَى أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ"(1).
وفي حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللهَ تَعَالَى مِنْ صَلاةِ الغَدَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، أَحَبُّ إِليَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ أَرْبَعَة مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيْلَ، وَلأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُوْنَ اللهَ مِنْ صَلاةِ العَصْرِ إِلى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، أَحَبُّ إلَيِّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ رَقَبَة مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيْلَ (2) ". رواه أبو داود، وغيره (3).
فالسبق تارة يكون بالاجتهاد، وتارة بالكثرة في العمل، وتارة يكون بدون ذلك لحكمة نفهمها، أو لا نفهمها.
وسَبْقُ الذِّكرِ - وإن كان أخف من غيره، أو أقل من غيره - حكمته
(1) رواه عبد الرزاق في "المصنف"(2027)، والطبراني في "المعجم الكبير"(5737) كلاهما عن العباس بن سهل بن سعد، عن أبيه، ورواه الطبراني في "المعجم الكبير"(5683) عن إياس بن سهل الأنصاري رضي الله عنه، وهو غير الأول، قال ابن حجر في "الإصابة في تمييز الصحابة" (3/ 208): سهل الأنصاري والد إياس غير منسوب، ذكره البخاري في الصحابة.
(2)
في "السنن" لأبي داود: "رقبة" بدل "رقبة من ولد إسماعيل" في المرة الثانية فقط.
(3)
رواه أبو داود (3667).
ظاهرة؛ لأنَّ من أحَّط شيئا أكثر من ذكره، فغلبة الذكر على لسان العبد دليل غلبته على قلبه، وغلبته على قلبه دليل محبته المذكور.
ومن هنا قال الجنيد رحمه الله: من ألهم الذكر أوتي منشور الولاية (1).
ومن هنا قال الله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45].
ولأنَّ ذكر العبد لله تعالى، ثوابه ذكر الله للعبد، فإذا ذكره بالتعظيم والهيبة، ذكره الله تعالى بالرفعة، "وإقامة الحرمة له بين عباده، وإلقاء المودة له في قلوبهم.
قال الله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124].
وقال: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22].
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن حسان بن عطية رحمه الله تعالى قال: ما عادى عبد ربه بشيء أشد عليه من أن يكره ذكره، وذكر من يذكره (2).
بل الحكمة البالغة: أن الله تعالى لم يكلف العباد طاعته إلا لذكره، قال تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14].
وروى أبو داود، والحاكم وصححه، عن عائشة رضي الله عنها
(1) رواه القشيري في "رسالته"(ص: 256) لكن من قول أبي علي الدقاق.
(2)
ورواه البيهقي في "شعب الإيمان"(727).
قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ لإقَامَةِ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى"(1).
وقول الجنيد رحمه الله في كلامه المتقدم: والسابق مضروب بسوط المحبة، مقتول بسيف الشوق، مطروح على باب المشاهدة والبشرى واللقاء.
وقال أبو يزيد البسطامي رحمه الله: مضطجع على باب الهيبة (2).
إنما كان مضروباً بسوط المحبة؛ لأنه قد أفرغ مجهوده في طاعة حبيبه، وبذل الوسع في خدمة سيده حتى غلب الحب على كله، واستولى سلطان الهوى على عقله، فصار يدعى إلى مقتضى المحبة بما هو أشد من السوط، وأبلغ من السيف.
وقد استشهد بعض العارفين على هذا المعنى بقوله تعالى حكاية عن بلقيس: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} [النمل: 34]؛ أي: أفسدوها على غيرهم، فلم تصلح إلَاّ لهم.
كذلك المحبة تستولي على القلب فيفسد فيه ما سوى طاعة المحبوب، ولا يصلح إلا لمحبوبه (3).
وسلطان المحبة يغلب سلطان الملوك، كما أجرى الله تعالى هذه
(1) رواه أبو داود (1888)، والحاكم في "المستدرك"(1685).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
انظر: "حقائق التفسير" للسلمي (2/ 89).
الحكمة على لسان الرشيد في قوله: [من الكامل]
مَلَكَ الثَّلاثُ الْغانِياتُ جَنانِي
…
وَنَزَلْنَ (1) مِنْ قَلْبِيْ بِكُلِّ مَكانِ
ما لِيْ تُطاوِعُنِيْ الْبَرِيَّةُ كُلُّها
…
وَأُطِيْعُهُنَّ وَهُنَّ فِيْ عِصْيانِ
ما ذاكَ إِلَاّ أَنَّ سُلْطانَ الْهَوَىْ
…
وَبِهِ سَطَيْنَ أَعَزُّ مِنْ سُلْطانِي (2)
فإذا كان هذا سلطان محبةِ مخلوق، فكيف إذا غلب سلطان حب الخالق على القلب المقرون بالتوفيق، المملوء بالتحقيق؟ فإنه يدعوه إلى التبريز في خدمته، والسبق إلى طاعته، فالمحبة تدعوه إلى أن لو ازداد من أعمال الخير المرضية لحبيبه، والموجبة لتقريبه لأنه يرى النعم مترادفة من حبيبه إليه، والمنن متعاكفة من قبله عليه، وقد جُبِلت القلوب على حب من أحسن إليها، وأقبل بملاطفته عليها، فدعاه تَرادُفُ النعمة إلى الازدياد من الخدمة، فهو مضروب بسوط المحبة من هذه الحيثية.
ثم إن الحبيب ناداه برسل الإفضال، ورسائل النوال إلى القرب والاتصال، فود أن لو سارع إلى اللقاء طيراناً، فحبسته إرادة الحبيب لبلوغ
(1) في "تاريخ بغداد": "وحللن" بدل "ونزلن".
(2)
انظر: "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي (14/ 12).
إبان التقريب، حيث قضى أن لكل أجل كتاباً وإباناً، فهو مقتول بسيف الشوق من هذا القبيل، مطروح على باب المشاهدة والبشرى واللقاء من هذا السبيل، وحسبه الله تعالى ونعم الوكيل.
ثم هو في شوقه حاضر بين يدي من إليه ناظرة لأنَّ الله تعالى يقول في بعض كتبه: "بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي"(1)؛ فهو مضطجع على باب الهيبة من هذه الجهة كما قال أبو يزيد: وحقيقة الهيبة المخافة، والتقية مع الإجلال والإعظام.
وقد علمت بذلك أنَّ مبنى أمر السابقين على محبة رب العالمين، فبقدر المحبة يكون السبق إلى الطاعة.
قال الأستاذ أبو القاسم القشيري رحمه الله في "رسالته": قال جعفر - يعني: الخلدي -: قال الجنيد: دفع السَّريُّ إليَّ رقعة، وقال: هذه لك خير من سبع مئة فضة، أو حديث بعلو، فإذا فيها:[من الطويل]
وَلَمَّا ادَّعَيْتُ الْحُبَّ قالَتْ كَذَبْتَنِيْ
…
فَما لِيْ أَرَىْ الأَعْضاءَ مِنْكَ كَواسِيَا
فَما الْحُبُّ حَتَّىْ يَلْصَقَ الْقَلْبُ بِالْحَشا
…
وَتَذْبُلَ حَتَّىْ لا تُجِيْبَ الْمُنادِيَا
(1) رواه ابن أبي الدنيا في "حسن الظن بالله"(ص: 97) عن عبد الله بن محمد، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 60) عن وهب بن منبه، قالا: أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه، فذكراه.
وَتَنْحُلَ حَتَّىْ لا يُبْقِيْ لَكَ الْهَوَىْ
…
سِوَىْ مُقْلَةٍ تَبْكِيْ بِها وَتُناجِيَا (1)
وفي "الصحيحين" عن أنس صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيْهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاوَةَ الإِيْمَانِ: أَنْ يَكُوْنَ اللهُ وَرَسُوْلُهُ أَحَبَّ إِليِهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُوْدَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَبْعَدَه"(2) اللهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ بِالنَّار" (3).
ومهما حصل القلب على الحب كان الباعث له على أعمال الخير حبه، فالعمل المحثوث عليه بالحب هو عمل السابقين، ولذلك قال يحيى ابن معاذ الرازي رحمه الله تعالى: مثقال خردلة من الحب أحبُّ إلي من عبادة سبعين سنة بلا حب (4).
وعلى هذا المنوال كان عمل الصحابة والصدر الأول.
ثم كان أكثر الناس في طاعاتهم إنما هم جارون على عادة اعتادوها، أو على ما كان وفق هواهم.
ومن هنا قال عبيد الله بن عمير رحمه الله تعالى: ما المجتهد فيكم إلا
(1) انظر: "الرسالة القشيرية"(ص: 353).
(2)
في مصادر التخريج: "أنقذه" بدل "أبعده".
(3)
رواه البخاري (21)، ومسلم (43).
(4)
انظر: "الرسالة القشيرية"(ص: 355).
كاللاعب فيمن مضى. رواه الإمام أحمد في "الزهد" عن مجاهد، عنه (1).
ورواه في موضع آخر منه عن مجاهد؛ قال: ذهب العلماء فما بقي إلا المتعلمون، وما المجتهد اليوم إلا كاللاعب فيمن كان قبلكم (2).
وإنَّما كان ذلك لغلبة الهوى على الناس، ومحبة الدنيا جيلاً بعد جيل، ولأنَّ محبة السابقين كانت أمكن، ومعرفتهم كانت أظهر وأبين لمشاهدة الأولين منهم من كان يوحى إليه صلى الله عليه وسلم، ومخالطة التالين لهم هؤلاء الذي شاهدوا أحواله صلى الله عليه وسلم، وعملوا على الاقتداء به، ثم تقهقر الناس.
ومن هنا فسرت عائشة رضي الله عنها السابق ممن مضى على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى الثعلبي وغيره عن عقبة بن صهبان قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فسألتها عن قول الله عز وجل: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر: 132] فقالت: يا بني! كلهم في الجنة؛ أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم فمثلي ومثلكم، فجعلت نفسَها معنا (3).
(1) رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 378).
(2)
ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(35448).
(3)
رواه الثعلبي في "التفسير"(8/ 109)، وكذا أبو داود الطيالسي في "المسند"(1489).
وهذا من عائشة رضي الله عنها على طريقة أمثالها من السابقين والصديقين، وعادتهم من ترك تعظيم النفوس، ورؤيتها دون سائر المسلمين.
وهو نظير ما في "صحيح البخاري" عن محمد بن علي بن أبي طالب قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر، وخشيت أن يقول: ثم عثمان، قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين (1).
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن سهل بن أسلم قال: كان بكر بن عبد الله رحمه الله تعالى إذا رأى شيخاً قال: هذا خير مني؛ عَبَدَ الله قبلي، وإذا رأى شاباً قال: هذا خير مني؛ ارتكبت من الذنوب أكثر مما ارتكب (2).
وقد كثرت أقوال أرباب المعاني والحقائق في معنى الظالم، والمقتصد، والسابق.
والقول الجامع المطابق - إن شاء الله - للواقع: أن الظالم نفسه هو المقصر عن بعض الحقوق، المخل ببعض الآداب، الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، واعترف بذنبه كما قال الله تعالى:{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102]،
(1) تقدم تخريجه.
(2)
ورواه ابن أبي الدنيا في "محاسبة النفس"(ص: 84).
وهذا حال عامة الأمة إلا الصالحين منهم.
فهذا القسم لا ينبغي التشبه بهم أصلاً إلا في أصل الإيمان، والعمل الصالح، والوقوف على باب الرحمة بالذل، والخضوع، والتوبة إلى الله تعالى، والرجوع.
والمقتصد هو الذي خرج من عهدة الواجب، واقتصر في الرغائب، وكلما فرطت منه فرطة، أو زل زلة، فر إلى الله فرار التائب العارف بأنَّ الله تعالى مطلع عليه، ولأفعاله مراقب، المقتدي بقوله صلى الله عليه وسلم:"سَدِّدُوْا وَقَارِبُوْا"(1)، فهو مسدد مقارب.
وهذا أول مقامات الصالحين، وأدنى مراتب الأبرار.
فهذا القسم ينبغي التشبه بهم لمن لم تنهض به مطية التوفيق إلى التشبه بالصديقين، وقعد به سابق القضاء عن اللحاق بحلبة السابقين؛ فإن لم يصبها وابل فَطَل، وقد استوفينا الكلام على ذلك.
والسابق هو الصديق المتحقق بقوله تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]؛ أي: من القيام بحق عبوديته التي وعدوه بها من أنفسهم في [ضمن](2) قولهم بلى، جواباً لقوله لهم:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]؛ أي: أنت ربنا ونحن عبادك، فلا بد من تحققهم بصفة العبودية بالتحرر من رق الأغيار، والخروج عن رِبْقَة الآثار، فلذلك
(1) رواه البخاري (6099)، ومسلم (2818) عن عائشة رضي الله عنها.
(2)
غير واضح في "م"، ولعل الصواب ما أثبت.
لا تراهم إلا يسارعون في الخيرات، ويسابقون إلى الطاعات تحقيقاً لما تحققوا به من صدق العبودية، والقيام بحق الربوبية.
ولقد قال سعيد بن جبير رحمه الله في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10 - 11]: هم السابقون إلى التوبة وأعمال البر (1).
وقال الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133].
وقال: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61].
وهذا القسم ينبغي لكل ذي نعمة أن يتشبه بهم؛ فإنَّ لهؤلاء يوم القيامة دولة عظيمة، وملكاً كبيراً، وظلاً ظليلاً، وروضاً نضيراً.
ولا يتحقق العبد بالتشبه بهم إلا إذا سارع إلى كل خير، وكانت مسارعته [ناتجة](2) عن صدق في العبودية، ومحافظة لحق الربوبية، واستقام على ذلك؛ لقوله تعالى:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [هود: 112].
وقوله صلى الله عليه وسلم: "قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ، ثمَّ اسْتَقِم"(3).
قال ذو النون رحمه الله تعالى: العبودية أن تكون عبده في كل حال،
(1) انظر: "تفسير الثعلبي"(9/ 202).
(2)
غير واضح في "م"، ولعل الصواب ما أثبت.
(3)
رواه مسلم (38) عن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه.
كما أنه ربك في كل حال (1).
وذلك يكون بدوام الخوف، وملازمة الإخلاص، واستحقار النفس عن أن يكون أهلاً للقبول، كما قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 57 - 61].
روى الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم في "المستدرك"، والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله! {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60]؛ أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو مع ذلك يخاف الله؟ قال:"لا، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُوْمُ وَيَتَصَدَّقُ وُيصَليْ، وَهُوَ مَعَ ذَلكَ يَخافُ أَنْ لا يُقْبَلَ مِنْهُ"(2).
وروى ابن المبارك في "الزهد"، وغيره عن الحسن رحمه الله تعالى في الآية قال: كانوا يعملون ما يعملون من أعمال البر، ويخافون أن لا ينجيهم ذلك من عذاب الله تعالى (3).
قلت: ويدل عليه قوله تعالى في آخر الكلام: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61].
(1) انظر: " الرسالة القشيرية"(ص: 233).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 6).
وفيه تلميح إلى أن الخوف هو الذي دعاهم إلى المسابقة، والمسارعة في الخيرات الأخروية لا الدنيوية؛ لأنهم يعلمون أن الخيرات الدنيوية شاغلة عن الخيرات الأخروية، ألا ترى أنها شغلت سليمان بن داود عليه السلام حتى فاتته صلاة العصر، فعقر الخيل التي كانت تعرض عليه وهي من أفضل خيرات الدنيا لما شغلته عن ذكر ربه، فأثنى الله تعالى عليه بعقرها، والإعراض عنها بقوله:{نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 31]؛ يعني: الشمس، وإضمارُها من غير ذكر لها لدلالة العشي عليها.
{رُدُّوهَا عَلَيَّ} ؛ يعني: الخيل الصافنات الجياد.
{فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص: 33]؛ أي: فطفق، وأخذ يمسحها مسحاً بضرب سوقها وأعناقها بالسيف، كما رواه الطبراني في "الأوسط"، والإسماعيلي في "معجمه"، وابن مردويه بإسناد حسن، عن أبي بن كعب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قال:"قَطَعَ سُوْقَهَا وَأَعْنَاقَهَا بِالسَّيْفِ"(1).
وقد قال أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى: ما شغلك عن الله
(1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(6997)، والإسماعيلي في "معجمه" (3/ 753). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 99): رواه الطبراني وفيه سعيد بن بشير، وثقه شعبة وغيره، وضعفه ابن معين وغيره، وبقية رجاله ثقات.
تعالى من أهل أو ولد فهو عليك مشؤوم (1).
وكذلك المال، وإنما سكت عنه أبو سليمان؛ لأنَّ الأهل والولد أعز من المال، فإذا كان ما شغل العبد منها عن الله تعالى مشؤوماً، فما شغله عنه من المال أكثر شؤماً، فليحذر المشمِّر في طاعة الله تعالى أن يشغله شيء دون الله عن الله تعالى، ولا يستعظم نفسه عن ذلك، فقد شغلت من هو أقوى منه كآدم، وداود، وسليمان عليهم السلام، إلا أنهم أعرضوا في الحال عما شغلهم مرةً، وفرُّوا إلى الله تعالى، فلم يعاودوا شيئاً من ذلك، بل لازموا الحذر، وخافوا أن شغلوا بشيء من لذات الدنيا، فأعرضوا عنها توبة رجاءً لموعود الله تعالى، وخوفاً من عذابه، وطلباً لمرضاته، فينبغي للعبد أن يسلك سبيلهم، ويحذر كحذرهم.
وقد روى البيهقي، وابن عساكر، وغيرهما عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اشْتَاقَ إِلَى الْجَنَّةِ سَابَقَ إِلَى الْخَيْرَاتِ - يعني: الأخروية -، وَمَنْ أَشْفَقَ مِنَ النَّارِ لَهَا عَنِ الشَهَوَاتِ - يعني: الدنيوية -، وَمَنْ تَرَقَّبَ الْمَوْتَ صَبَرَ عَنِ اللَّذَّاتِ، وَمَنْ زَهِدَ فِيْ الدُّنْيَا هَانَتْ عَلَيْهِ الْمُصِيْبَاتِ"(2).
وروى الترمذي وحسنه، والبيهقي في "الشعب" عن أبي هريرة رضي الله عنه،
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(9/ 264).
(2)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(10618)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(13/ 31).
وأبو نعيم عن أُبي بن كعب رضي الله عنه، والحاكم وصححه عنهما؛ قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ خَافَ أَدْلَجْ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ غَالِيَةٌ، أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ الْجَنَّة"(1).
وقوله: أدلج - على وزن أكرم -: من الدلج - بفتحتين -، والدلجة - بالضم، والفتح -؛ وهما السير أول الليل، والإدلاج - بالتشديد -: السير من آخره، وهكذا في "القاموس"(2).
والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل"؛ أي: قبل غيره، فينجو مما يخاف منه غيره بسبب التأخر تشبيهاً بمن يسير أول الليل فيسبق غيره ممن نام ولم يدلج، أو يسبق ما كان يحذر في طريقه.
وقد قيل: عند الصباح يحمد القوم السرى (3).
فالإدلاج في الحديث استعارة للتقدم في الأعمال الصالحة، والاستكثار منها، فبذلك يكون السبق في الدار الآخرة.
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]؛ فمن عمل ذرتين
(1) رواه الترمذي (2450) وحسنه، والبيهقي في "شعب الإيمان"(881)، والحاكم في "المستدرك"(7851) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 377)، والحاكم في "المستدرك"(7852) عن أبي بن كعب رضي الله عنه.
(2)
انظر: "القاموس المحيط"(ص: 242)(مادة: دلج).
(3)
انظر: "جمهرة الأمثال" لأبي هلال العسكري (2/ 42) وقال: وهو مثل يضرب لما ينال بالمشقة ويوصل إليه بالتعب.
من خير يرَ ما لا يراه من عمل ذرة، {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأحقاف: 19].
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "التهجد" عن معاوية بن صالح عن عبد الملك - يرفع الحديث -، وفي كتاب "صفة الجنة" عن الحسن بن علي، [عن علي]رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ فِيْ الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ أَعْلاهَا حُلَلٌ، وَمِنْ أَسْفَلِهَا خَيْلٌ مِنْ ذَهَبٍ مُسْرَجَةٌ، لُجُمُهُ مِنْ درٍّ وَيَاقُوْتٍ، لا تُرَوِّثُ، وَلا تَبُوْلُ، لَهَا أَجْنِحَةٌ، خَطْوُهَا مَدُّ بَصَرِهَا، فَيَرْكَبُهَا أَهْلُ الْجَنَّةِ".
وقال عبد الملك (1): "فيركبها أولياءُ اللهِ، فتطيرُ بهم من الجنة حيث شاؤوا، فيناديهم الذين أسفلُ منهم فيقولون: يا أهلَ الجنةِ! أنصفُونا، يا ربِّ! بمَ نالَ عبادُك منك هذه الكرامةَ؟ فيقول لهم الربُّ عز وجل: كانوا يقومون بالليل وكنتم تنامون، وكانوا يصُومون وكنتم تأكلون، وكانوا يُنفقون وكنتم تَبخلون، وكانوا يقاتلون وكنتم تَجبُنون"(2).
وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أَلا أَدَلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ "قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "إِسبَاغُ الْوُضُوْءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى
(1) في مصادر التخريج الكلام كله من قول النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أثر لقوله:"وقال عبد الملك".
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في "التهجد وقيام الليل"(ص: 383)، وفي "صفة الجنة" (ص: 255).
الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ؟ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ" (1).
وروى البزَّار، والطبراني عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَرْفَعُ اللهُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ " قالوا: نعم، قال:"تَحْلُمُ عَلَى مَنْ جَهِلَ عَلَيْكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وتُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وتَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ"(2).
وروى ابن المبارك في "الزهد" عن أبي المتوكل الناجي مرسلاً قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الدَّرَجَةَ فِيْ الْجَنَّةِ فَوْقَ الدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَرْفَعُ بَصَرَهُ فَيَلْمَعُ لَهُ بَرْقٌ يَكَادُ يَخْطَفُ بَصَرَهُ، فَيَفْزَعُ لِذَلِك، فَيَقُوْلُ: مَا هَذَا؟ فَيُقَالُ: هَذَا نُوْرُ أَخِيْكَ فُلان، فَيقُوْلُ: أَخِي فُلان؟ كَنَّا نَعْمَلُ فِي الدُّنْيَا جَمِيْعًا، وَقَدْ فُضِّلَ عَلَيَّ هَكَذَا؟ فَيُقَالُ لَهُ: إنَّهُ كَانَ أَفْضَلَ مِنْكَ عَمَلاً، ثُمَّ يُجْعَلُ فِي قَلْبِهِ الرِّضَا حَتَّى يَرْضَى"(3).
واعلم أنَّ السبق والفضل في الجنة تارةً يكون بكثرة العمل كما يسبق الصائم المفطر، والقائم النائم، والمجاهد القاعد، والكريم البخيل.
وتارة يكون بحسن العمل، وحسن تأديته، والأدب فيه.
وتارةً يكون بعمل الأركان.
(1) رواه مسلم (251).
(2)
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/ 189): رواه البزار، وفيه يوسف بن خالد السمتي، وهو كذاب، ورواه الطبراني - إلا أن الطبراني قال في أوله:"بما يشرف الله تعالى به البنيان" - وفيه أبو أمية بن يعلى، وهو ضعيف.
(3)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 33).
وتارةً بعمل القلب والجنان.
ولا شك أنَّ من كانت معاملته قلبية أفضل وأسبق ممن معاملته عملية قالبية، كذلك من كان [تقياً](1) معرضاً عن العصيان وأكل الحرام أسبق وأفضل ممن كان مخلطاً.
ومن ثمَّ قال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: انظر درهمك من أين هو وصَلِّ في الصف الأخير. رواه أبو نعيم (2).
وروى ابن أبي الدنيا عن محمد بن يوسف الفِريابي قال: قلت لسفيان: أرى الناس يقولون: سفيان الثوري وأنت تنام بالليل! فقال لي: اسكت! ملاك هذا الأمر التقوى (3).
فإنْ جَمَعَ بين الأعمال الظاهرة من أعمال البر والتقوى من أعمال القلب كان أمره أتم، وسبقه أقوى، وفضله أكثر.
ولا يفهم من مقالة سفيان أنه مدح الإعراض عن ظواهر الأعمال.
ولقد أنصف عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى ورضي عنه في قوله: ليس تقوى الله بصيام النهار، ولا بقيام الليل، والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله، وأداء ما افترض الله، فمن رزق بعد ذلك خيراً فهو خير إلى خير. رواه ابن أبي الدنيا (4).
(1) غير واضح في "م"، والمثبت من "ت".
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 68).
(3)
ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 9).
(4)
ورواه البيهقي في "الزهد الكبير"(1/ 351).
وقلت في معنى ذلك: [من الرمل]
لَيْسَ تَقْوَىْ اللهِ صَوْماً لا وَلا
…
أَنْ يَقُوْمَ اللَّيْلَ عَبْدٌ خَلَّطا
إِنَّها تَرْكُ الْمَعاصِيْ ثُمَّ أَنْ
…
جاءَ بِالْفَرْضِ وَما أَنْ فَرَّطا
فَإِذا ما زادَ خَيْراً بَعْدَ ذا
…
فَهْوُ خَيْرٌ، وَمِنَ اللهِ الْعَطا
رُبَّ عَبْدٍ عامِلٍ لَمْ يَأْلُ فِيْ
…
عَمَلٍ لَكِنَّهُ قَدْ أُحْبِطَا
وَفَتًى تَحْسَبُهُ مِنْ دُوْنِهِ
…
وَلَقَدْ نالَ مَقاماً أَوْسَطا
فَاحْذَرِ الإِفْراطَ وَالتَّفْرِيْطَ فِيْ
…
كُلِّ أَمْرٍ مِنْكَ وَاذْهَبْ مُقْسِطا
تَسْبِقِ الْغالِيَ فِيْ أَعْمالِهِ
…
وَتَنَلْ بِالْعَدْلِ ما لَنْ تَسْخَطا
وقد لَمَّحنا في هذا المقالة إلى الجواب عن سؤال، وهو أن يقال: لقد مدحت السبق في الأعمال، وحقيقة الاجتهاد، واتقاء الله حق تقاته، وقد قال الله تعالى:{طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1 - 2].
وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]؟
والجواب عن ذلك: أنَّ المراد بالسبق: الاجتهاد بقدر الوسع، والطاعة في غير تكلف ولا تشدد، بل ما كان مع النشاط، وسكون القلب، وطمأنينة النفس، ألا ترى أنَّ الله تعالى يقول:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]؟
ولا يكون ما ذكرناه إلا إذا سلك طريقاً وسطاً بين الإفراط والتفريط؛ فإن خيار الأمور أوسطها، والحسنة بين السيئتين.
وفي الحديث: "أَنَا وَأتْقِيَاءُ أُمَّتِي بَرَاءُ مِنَ التَّكَلُّفِ"(1).
وفي "صحيح مسلم" عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُوْنَ"؛ قالها ثلاثاً (2).
قال النووي رحمه الله: المتنطعون: المتعمقون المشددون في غير موضع التشديد (3).
وروى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها
(1) رواه الثعلبي في "التفسير"(8/ 218)، والديلمي في "مسند الفردوس" (228) بلفظ:"إلاّ أني بريء من التكلف وصالحو أمتي". قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(1/ 482): رواه الدارقطني في "الأفراد" وإسناده ضعيف.
(2)
رواه مسلم (2670).
(3)
انظر: "رياض الصالحين" للنووي (ص: 40).
وعندها امرأة؛ قال: "مَنْ هَذِهِ؟ " قالت: هذه فلانة تذكر من صلاتها، قال:"مَهْ! عَلَيْكُمْ بِما تُطِيْقُوْنَ، فَوَاللهِ لَنْ يَمَلَّ اللهُ حَتَّىْ تَمَلُّوْا" وكان أحب الدين إليه ما داوم صاحبه عليه (1).
ومعنى: "لا يمل الله حتى تملوا"؛ أي: لا يقطع ثوابه عنكم، وجزاء أعمالكم حتى تملوا فتتركوا العمل، فينبغي لكم أن تأخذوا ما تطيقون الدوام عليه ليدوم ثوابه لكم، وفضله عليكم.
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِنَّ الدِّيْنَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّيْنَ أَحَدٌ إِلا غَلَبَهُ، فَسَددُوْا، وَقَارِبُوْا، وَأَبْشِرُوْا، وَاسْتَعِيْنُوا بِالغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ، وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ"(2).
وفي رواية: "سَدِّدُوْا وَقَارِبُوْا، وَاغْدُوْا وَرُوحُوا، وَشَيْءٌ مِنْ الدُّلْجَةِ؛ القَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا"(3).
والمراد بالقصد: الاقتصاد مع المداومة.
والغدوة: سير أول النهار.
والروحة: سير آخره.
والدلجة: سير أول الليل.
وهذا تمثيل واستعارة؛ ومعناه: استعينوا على طاعة الله بالأعمال
(1) رواه البخاري (43)، ومسلم (785).
(2)
رواه البخاري (39).
(3)
رواه البخاري (6098).
في وقت نشاطكم، وفرك قلوبهم بحيث تستلذون العبادة ولا تسأمون، وتبلغون مقصودكم، كما أن المسافر الحاذق يسير في هذه الأوقات، ويستريح هو ودابته في غيرها، فيصل إلى مقصده من غير مشقة ولا تكلف.
وروى عبد الله بن المبارك في "الزهد" عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: "إِنَّ هَذا الدِّيْنَ مَتِيْنٌ فَأَوْغِلُوْا فِيْهِ بِرِفْقٍ، وَلا تُبَغِّضُوْا إِلَىْ أَنْفُسِكُمْ عِبادَةَ اللهِ؛ فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لا أَرْضاً قَطَعَ وَلا ظَهراً أَبْقَىْ"(1).
وأخرجه البزار، والحاكم في "علوم الحديث"، والبيهقي، وأبو نعيم، والقضاعي، والعسكري في "الأمثال"، والخطابي في "العزلة" عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه مرفوعا بنحوه بلفظ الإفراد (2).
وصدْرُه عند الإمام أحمد من حديث أنس رضي الله عنه (3).
وهو من البت: وهو القطع؛ يريد: أن هذا الدين مع كونه سهلاً سمحاً متينٌ شديد؛ فالمتعبد به - وإن اجتهد - ينبغي أن يرفق بنفسه؛ فإنَّ الذي يبالغ فيه بغير رفق، ويتكلف من العبادة فوق طاقته يوشك أن يمل حتى ينقطع عن العبادة الواجبة، فيكون كالذي يعسِفُ الرِّكابَ، ويحملها
(1) رواه ابن المبارك في "الزهد"(469).
(2)
رواه الحاكم في "معرفة علوم الحديث"(ص: 95)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 18)، والقضاعي في "مسند الشهاب"(2/ 184)، والعسكري في "جمهرة الأمثال"(1/ 545)، والخطابي في "العزلة" (ص: 97).
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 198).
على السَّير الحثيث ما لا تطيقه رجاءَ الإسراع، فينقطع ظهره، فلا هو قطع الأرض الذي أراد، ولا هو أبقى ظهره سالماً ينتفع به بعد ذلك.
وهذا وجه ذم الإفراط والتفريط والتقصير عن الاجتهاد المأمور به في مثل قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102]، وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]، وقوله تعالى:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238].
وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 1 - 2].
وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7].
قال ابن عمر رضي الله عنهما: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]، فقلت: ما معنى ذلك يا رسول الله؟ قال: "أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَقْلاً، وَأَوْرَعُ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ، وَأَسْرَعُكُمْ فِي طَاعَةِ اللهِ".
رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم في "تاريخه"(1).
فإذا قصر العبد عن ما يستطيعه من العمل كان حرِياً بالذم؛ لأنه ترك ما خلقه سيده سبحانه وتعالى من أجله، وهو العبادة؛ ألا ترى أن الله تعالى يقول:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]؟
(1) رواه الطبري في "التفسير"(12/ 5)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(6/ 2006).
وروى الطبراني في "مسند الشاميين"، والحاكم في "تاريخه"، والبيهقي في "شعبه" عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللهُ عز وجل: إِنِّي وَالْجِنَّ وَالإنْسَ فِيْ نَبَأٍ عَظِيْمٍ: أَخْلُقُ ويُعْبَدُ غَيْرِيْ، وَأَرْزُقُ ويشْكَرُ غَيْرِيْ"(1).
وهذا وجه ذم التفريط في العبادة، فإذا كان الذم واقعاً على طرفي التفريط والإفراط، فالمحمود المقبول ما كان وسطاً بينهما.
وروى ابن جرير عن يزيد بن مرة الجعفي قال: العلم خير من العمل، والحسنة بين السيئتين، وخير الأمور أوساطها (2).
والجملة الأخيرة رواها ابن جرير، والبيهقي عن مطرف، ورواها ابن السمعاني في "ذيل تاريخ بغداد" بسند مجهول من حديث علي رضي الله عنه مرفوعاً (3).
وفي "الفردوس" للديلمي عن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث: "وَخَيْرُ الأَعْمَالِ أَوْساطُها"(4).
وروى أبو يعلى بسند رجاله ثقات عن وهب بن منبه رحمه الله
(1) رواه الطبراني في "مسند الشاميين"(974)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(4563).
(2)
رواه الطبري في "التفسير"(19/ 38).
(3)
رواه الطبري في "التفسير"(19/ 38)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(3888).
(4)
رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(3036).
تعالى قال: إن لكل شيء طرفين ووسطاً؛ فإذا أمسك بأحد الطرفين مال الآخر، وإذ أمسك بالوسط اعتدل الطرفان؛ فعليكم بالأوساط من الأشياء (1).
وروى العسكري عن الأوزاعي رحمه الله تعالى قال: ما من أَمْرٍ أَمَرَ الله تعالى به إلا عارض الشيطان فيه بخصلتين لا يبالي أيها أصاب؛ الغلو، والتقصير (2).
وروى أبو نعيم عن إسحاق بن سويد قال: تعبَّدَ عبد الله بن مُطرِّف، فقال له أبوه: أي عبد الله! العلم أفضل من العمل، والسيئة بين الحسنتين، وشر السير (3) الحقحقة.
قال أبو نعيم: كذا قال: السيئة بين الحسنتين، وقد قيل: الحسنة بين السيئتين؛ يعني: ترك الغلو والتقصير (4).
والحقحقة: أرفع السير، وأتعبه للظهر، أو اللجاج في السير، أو أن يلح في السير حتى تعطب راحلته، أو تنقطع.
والمعروف من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه، وأفاضل السلف من التابعين ممن بعدهم الاعتدال في الطاعة، وهذا عين طريق السابقين؛
(1) رواه أبو يعلى في "المسند"(6115).
(2)
كذا عزاه السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 332) إلى العسكري.
(3)
في "حلية الأولياء": "الشيئين" بدل "السير".
(4)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 209).
فمن أخذ في طريقهم واستقام عليها فهو من الصديقين، كما قال حذيفة رضي الله عنه: يا معشر القراء! استقيموا، ولئن استقمتم لقد سبقتم سبقاً بعيداً، ولئن أخذتم يمينا وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً. رواه أبو القاسم الأصبهاني (1).
ولقد أثنى الله تعالى على أهل الاستقامة بما بيَّن من مما جبل عليه الإنسان من الضجر والملل، فمن كان له دوام على الطاعة وقد جبل على الملل فله فضل عظيم، فقال الله تعالى:{إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 19 - 23] الآيات.
قال عكرمة في تفسير هلوع: الضجر. رواه ابن المنذر (2).
وفي "القاموس": إنه الضَّجور الذي لا يصبر على المصائب (3).
وروى ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن الهلوع، فقال: هو كما قال الله تعالى: إذا مسه الشر كان جزوعا، وإذا مسه الخير كان منوعاً (4).
(1) ورواه البخاري (6853).
(2)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (8/ 284).
(3)
انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 1002)(مادة: هلع).
(4)
رواه الطبري في "التفسير"(29/ 78)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(10/ 3374).
وروى ابن المنذر عن الحسن رحمه الله تعالى: أنه سئل عن قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج: 19]؛ قال: اقرأ ما بعدها، فقرأ:{إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 20 - 21]، قال: هو هكذا (1).
وروى عبد بن حميد عن إبراهيم التيمي في قوله تعالى: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 22 - 23]؟ قال: الصلاة المكتوبة (2).
استثنى من هذه صفاتهم من المطبوعين من جنس البشر على الهلع، والجزع، والطمع ثناءً عليهم بما خرجوا به من طباعهم إلى طاعة بارئهم، وعبادة منشئهم بحيث استغرقوا في طاعته، وبدلت سيئاتهم حسنات،
(1) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (8/ 283).
(2)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (8/ 284).