الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ
قد بينَّا لك أركان الصديقية التي تندرج تحتها جميع أخلاق الصديقين وأعمالهم، وبينا لك الأوصاف المشروطة فيهم حتى يتحققوا بهذا المقام.
وقد رويت أخبار وآثار تدل على بعض أحوالهم، فينبغي أن نشير إلى نبذة منها ترغيبا للمشبه بهم في تحصيلها.
فمنها: ما تقدم فيما رواه ابن حبان في "صحيحه" عن عمرو بن مرة الجهني رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله، وأنكَ رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأديت الزكاة، وصمت رمضان، وقمته، فممن أنا؟ قال:"مِنَ الصِّدِّيْقيْنَ وَالشُّهَدَاءِ"(1).
قلت: ومن تمام الشهادة بالتوحيد اجتناب المعاصي، والقيام بالواجبات مع الإخلاص في ذلك كله.
قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا
(1) تقدم تخريجه.
الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5].
وقد روى الإِمام أحمد هذا الحديث بنحوه، وقال فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَاتَ عَلَى هَذَا كَانَ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَالصِّدِّيْقِيْنَ، وَالشُّهَدَاءِ يَوْمَ القِيَامَةِ هَكَذَا -وَنَصَبَ إِصْبَعَيْهِ- مَا لَمْ يَعُقَّ وَالِدَيْهِ"(1).
وروى الإِمام أحمد، ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَنْبَغِي لِصِدِّيْقٍ أَنْ يَكُوْنَ لَعَّانًا"(2).
وروى ابن أبي الدنيا، والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه يلعن بعض رقيقه، فالتفت إليه، فقال:"يَا أَبَا بَكْرٍ! أَصِدِّيْقِيْنَ وَلَعَّانِيْنَ؟ كَلَاّ وَرَبّ الكَعْبَةِ، ألعَّانِيْنَ وَصِدِّيْقِيْنَ؟ كَلَاّ وَرَبِّ الكَعْبَةِ - مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلاثًا -".
فأعتق أبو بكر رضي الله عنه بعض رقيقه، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا أعود (3).
وروى أبو نعيم عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: قال داود عليه السلام: معاشر الأنبياء! تعالوا أعلمْكم خشية الله: أيما عبد منكم أحب أن يحيا ويرى الأعمال الصالحة فليحفظ عينيه أن ينظر إلى السوء،
(1) قال المنذري في "الترغيب والترهيب"(3/ 225): رواه أحمد، والطبراني بإسنادين، أحدهما صحيح.
(2)
رواه الإِمام أحمد في "المسند"(2/ 337) واللفظ له، ومسلم (2597).
(3)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(5154). ورواه البخاري في "الأدب المفرد"(319).
ولسانه أن ينطق بالإفك، عين الله إلى الصديقين وهو يسمع لهم (1).
وروى عبد الله ابن الإِمام أحمد عن مالك بن دينار قال: قال داود عليه السلام: إلهي! من يسكن قبتك ويحل قدسك؟ قال: يا داود! الذي يتكلم بالحق بغير غش في قلبه، ولا زيغ في لسانه، ويعمل الصالحات، ويحب الذين يخشون الله، ويرذل في عينيه المسيء، ولا يعطي رزقه بالرياء، ولا يأخذ في دينه الرِّشا، وإذا حلف لصاحبه لم يكذبه، فإذا فعل ذلك فهو صديق صديق، ولا يضرع إلى الله بغرور.
وروى أبو الحسن بن جهضم عن سهل بن عبد الله التُّستَري رحمه الله قال: من أحبَّ أن يرى خوف الله في قلبه، ويكاشف بآيات الصديقين، فلا يأكل إلا حلالًا، ولا يعمل إلا في سنة أو ضرورة (2).
وروى الدينوري في "المجالسة" عن ابن المبارك رحمه الله قال: قال لي وُهَيب بن الورد رحمه الله تعالى: إذا وقع العبد في ألهانِيَّة الرب، ومهيمنية الصديقين، ورهبانية الأبرار لم يجد أحدًا يأخذ بقلبه، ولا يلحقه عتبه (3).
قال ابن قتيبة: ألهانية الرب مأخوذ من الإله؛ كأن القلب تأله عند التفكير في عظمته تعالى، يقول: إذا وقع العبد في عظمة الله تعالى
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 359).
(2)
ذكره أبو طالب المكي في "قوت القلوب"(2/ 471).
(3)
رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 521).
وجلاله، وغير ذلك من صفات الربوبية، وبلغ هذه الرتبة، لم يعجبه أحد، ولم يحب إلا الله.
قال: ومهيمنية الصديقين؛ يعني: أمانتهم؛ قال تعالى: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]؛ يعني أمينا، ويقال: شاهدًا عليه، وهما متقاربان (1).
وروى الدينوري -أيضًا- عن الأصمعي رحمه الله تعالى، عن بعض الحكماء قال: إن مما يعجل عقوبته، ولا تؤخر؛ الأمانة تُخان، والإحسان يُكفر، والرحم تقطع، والبغي على الناس، وأيما رجل أدَّى أمانة طيباً بها نفسه فهو أحد الصديقين، ومن الأمانة: أن المرأة ائتمنت على فرجها (2)؛ يعني: إنها إذا وكلت إلى نفسها فعفت، وصانت نفسها عن الفاحشة فهي صديقة، وكأنه مأخوذ من حال مريم عليها السلام؛ فإن الله تعالى أثنى عليها بالإحسان، ثم سماها صديقة.
ولقد توافقت عائشة رضي الله عنها في هذه الفضيلة، وبرَّأَها الله تعالى في كتابه كما برَّأَ مريم عليها السلام.
ومن هنا كان مسروق رحمه الله تعالى إذا حدث عن عائشة رضي الله عنها قال: حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة حبيب الله، المبرَّأَة في كتاب الله. كما رواه أبو نعيم (3)، وغيره.
(1) انظر: "المجالسة وجواهر العلم" للدينوري (ص: 521).
(2)
رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 455).
(3)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 44).
وفي "الصحيحين"، وغيرهما عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيْدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ"(1).
وإنَّما مَثَّلها بالثريد إشارة إلى أنها أغنت في نفع الأمة بالعلم ما لم يغنه غيرها من النساء، كما أن الثريد يغني ما لا يُغني غيره.
قال عطاء رحمه الله تعالى: كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأيًا في العامة. رواه الحاكم (2).
وقد علمتَ أن الصديقين هم العلماء الراسخون، وعائشة كانت من الراسخين في العلم.
قال عروة رحمه الله: ما رأيت أحدًا أعلم بالحلال والحرام، والعلم، والشعر، والطب من عائشة (3).
وسئل مسروق رحمه الله: كانت عائشة تحسن الفرائض؟ فقال: لقد رأيت الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونها عن الفرائض (4). رواهما الحاكم، وغيره.
وروى أبو نعيم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إِنَّ أَخْيَارَ
(1) رواه البخاري (3559)، ومسلم (2446).
(2)
رواه الحاكم في "المستدرك"(6748).
(3)
رواه الحاكم في "المستدرك"(6733).
(4)
رواه الحاكم في "المستدرك"(6736)، وكذا ابن المبارك في "الزهد"(1/ 382).
الصِّدِيْقِيْنَ مَنْ دَعَا إِلَى اللهِ، وَحَبَّبَ عِبَادهُ إِلَيْهِ، وَمِنْ شَرِّ الفُجَّارِ مَنْ كَثُرَتْ أَيْمَانه وَإِنْ كَانَ صَادِقًا، وإنْ كَانَ كَاذِبًا لَمْ يَدْخِلِ الجَنَّةَ" (1).
وعن سهل بن عبد الله التستري رحمه الله تعالى: من أخلاق الصديقين أن لا يحلفوا بالله، لا صادقين ولا كاذبين، ولا يغتابون، ولا يُغتاب عندهم، ولا يشبعون بطونهم، وإذا وعدوا لم يخلفوا، ولا يتكلمون إلا والاستثناء في كلامهم، ولا يمزحون أصلًا (2).
قلت: لم أرَ الخصلة الأولى -وهي ترك الحلف - إلا للإمام الشافعي رضي الله عنه؛ فإنه قال: ما حلفت بالله صادق ولا كاذباً (3)، وهذا يدل على أنه كان من رؤوس الصديقين، وهذا مما لا شك فيه.
أقول: قول سهل: أن لا يحلفوا بالله لا صادقين ولا كاذبين، يريد أن هذا أغلب أحوالهم؛ فإن اليمين كان قد ورد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا، وكان يحلف:"وَالَّذِيْ نَفْسِي بِيَده"، وسبق قريبًا قوله:"كلَاّ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ"، وحلف أبو بكر رضي الله عنه أن لا ينفق على مسطح، ثم كفَّرَ عن يمينه، وأعاد عليه نفقته (4).
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 143).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(10/ 201).
(3)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(9/ 128).
(4)
كما جاء عند البخاري (3910)، ومسلم (2770) من حديث عائشة رضي الله عنها.
وكذلك قوله: ولا يمزحون أصلًا؛ أي: في أغلب أحوالهم، أو مزحا موافقا لهوى النفس، فأما الممازحة لمطايبة القلوب، وإدخال السرور على قلوب الإخوان فيفعلون.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. "إِنيِّ لأَمْزَحُ، وَلا أقوْلُ إِلا حَقًّا"، رواه الطبراني في "الكبير" عن ابن عمر، والخطيب عن أنس رضي الله عنهم (1).
وفي الخبر: أول ما كتب الله تعالى لموسى عليه السلام: إني أنا الله لا إله إلا أنا، من رضي بحكمي، واستسلم لقضائي، وصبر على بلائي كُتب صديقا، وحشرته مع الصديقين يوم القيامة. ذكره أبو طالب المكي في "القوت"(2).
وروى الطبراني في "الكبير" عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَيَّمَا نَاشِئٍ نشأَ فِيْ العِلْمِ وَالعِبَادةِ حَتَّى يَكْبُرَ أَعْطَاهُ اللهُ تَعَالى يَوْمَ القِيَامَةِ ثَوَابَ اثْنَيْنِ وَسَبْعِيْنَ صِدِّيْقًا"(3).
قلت: لو اقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على عدد السبعين لقلنا: إن ذلك جارٍ على سنن التضعيف إلى سبعين ضعفا، أو قلنا: إنه جار على عادة العرب
(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(13443)، والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(3/ 378).
(2)
انظر: "قوت القلوب" لأبي طالب المكي (2/ 67).
(3)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(7590). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 124): فيه يوسف بن عطية، وهو متروك الحديث.
من ذكر السبعة، والسبعين، والسبع مئة للمبالغة والتكثير، ولكنه صلى الله عليه وسلم لما زاد اثنين على عقد السبعين علمنا أن لهذا التقييد بهذا العدد سراً.
وقد ظهر لي في ذلك وجهان:
الأول: أنَّ للناشئ في العلم والعبادة أجر صديق في مقابلة العلم، وأجر صديق في مقابلة العبادة، والسبعون مضاعفة في أجره زائدة على أجر كل عالم وعابد لأنه صابر، ورابَطَ في سائر عمره، وجَاهَدَ نفسه وهواه في كلٍّ.
وقد نطقت نصوص الشريعة بتفضيل طاعة الشاب، فما ظنك ممن دام على ذلك منذ نشأ إلى أن مات؟
وقد روى الحافظ أبو حفص بن شاهين في "الأفراد"، والديلمي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَضْلُ الشَّابِّ العَابِدِ الَّذِي تَعَبَّدَ فِيْ شَبَابِهِ عَلَى الشَّيْخِ الَّذِي تَعَبَّدَ بَعْدَ مَا كَبُرَتْ سِنُّهُ كَفَضْلِ الْمُرْسَلِيْنَ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ"(1).
الوجه الثاني: أن الناشئ في العلم والعبادة لا يتم له أمر حتى يخالف سائر الفرق المخالفة لما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم في اعتقاداتهم، وأعمالهم المبنية عليها، وهي اثنان وسبعون فرقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن أمته ستفترق ثلاثًا وسبعين فرقة؛ واحدة منها في الجنة، والباقون في النار، وسيأتي لفظ الحديث في محله إن شاء الله تعالى.
(1) رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(4355).
فالفرقة الناجية مخالفة للاثنين وسبعين فرقة الهالكة، ولها في مقابلة مخالفة كل فرقة منها أجر، وهم متفاوتون في أجورهم؛ فالناشئ في العلم والعبادة ناشئ على مخالفة هذه الفرق، فله في مقابلة مخالفته لكل فرقة أجر صديق.
وإنما ضوعف أجره لثباته ورسوخه على الحق منذ نشأته إلى آخر أمره بخلاف غيره ممن لم ينشأ على ذلك، فتأمله!
وروى الطبراني في "الأوسط" عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ جَاءَهُ أَجَلُهُ وَهُوَ يَطْلُبُ العِلْمَ لَقِيَ الله وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّيْنَ إِلَاّ درَجَةُ النُّبُوَّةِ"(1).
وأخرجه الخطيب، ولفظه:"مَنْ جَاءَهُ أَجَلُهُ وَهُوَ يَطْلُبُ العِلْمَ لِيُحْيِيَ بِهِ الإِسْلامَ لَمْ يَفْضُلْهُ النَّبِيُّونَ إِلَاّ بِدرَجَةٍ"(2).
وأخرجه ابن عساكر من حديث الحسن رحمه الله مرسلاً، وابن النجار عنه، عن أنس، ولفظه:"لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الأَنْبِيَاءِ إِلَاّ دَرَجَة فِيْ الْجَنَّةِ"(3).
وهذه مرتبة الصديقين؛ لأنها بين النبوة والشهادة.
(1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(9454). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 123): فيه محمَّد بن الجعد، وهو متروك.
(2)
رواه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(3/ 78).
(3)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(51/ 61).
وذكر أبو طالب في "القوت": أن رجلًا من بني إسرائيل تزوج امرأة من بلدة، ولم يجد بها من يحملها إليه، فأمر عبدًا له فحملها، فراودته نفسه، فجاهدها واستعصم، قال: فنبأه الله مكان (1) نبي في بني إسرائيل (2).
قلت: إنما نقله الله تعالى إلى مقام النبوة بعد أن تم له مقام الصديقية؛ إذ لا يلي النبوة إلا رتبة الصديقية، ومن ثم سمي يوسف عليه السلام صديقا على لسان قومه إذ قال قائلهم:{يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا} [يوسف: 46].
وإنما شهد له الناس بالصديقية لأنه استعصم عن معصية الله تعالى، وقد توفرت دواعيها بمراودة امرأة العزيز له، وعرضها نفسها عليه، فاستعصم، ثم أكرهته على المعصية بالسجن والعقوبة حيث تقول:{وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ} [يوسف: 32، 33] الآية، فاختار العقوبة على المعصية، فمن ثم اتخذه الله نبيًا.
وقد علمت أن هذه الخصلة -أعني: الاستعصام عن الزنا مع توفر دواعيه - أحد الخصال التي يكون أصحابها في ظل عرش الله تعالى، وأكثرها من أخلاق الصديقين خصوصا السبعة المذكورة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومنهم الإِمام العادل (3).
(1) في "قوت القلوب": "فكان" بدل "مكان".
(2)
انظر: "قوت القلوب" لأبي طالب المكي (2/ 235).
(3)
رواه البخاري (629)، ومسلم (1031).
وروى أبو الشيخ بن حيان، والديلمي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السُّلْطَانُ العَادِلُ المُتَوَاضعُ ظِلُّ اللهِ وَرُمْحُهُ في الأَرْضِ؛ يُرْفَعُ لِلوَالِي العَادِلِ المُتَوَاضعِ في كُل يَوْمٍ عَمَلَ سِتِّيْنَ صِدِّيْقًا"(1).
وروى ابن أبي الدنيا، والبيهقي عن الحسن -مرسلاً- قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على أصحابه، فقال:"هَلْ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيْدُ أَنْ يُذْهِبَ اللهُ عَنْهُ العَمَى وَيَجْعَلَهُ بَصِيْراً؟ " قالوا: بلى، قال:"أَلا إنَّهُ مَنْ رَغِبَ في الدُّنْيَا، وَأَطَالَ فِيْهَا أَمَلَهُ أَعْمَى اللهُ قَلْبَهُ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ، وَمَنْ زَهِدَ في الدُّنْيَا، وَقَصَّرَ أَمَلَهُ أَعْطَاهُ اللهُ غِنًى بِغَيْرِ تَعَلُّمٍ، وَهُدًى بِغَيْرِ هِدَايَةٍ، أَلا إنهُ سَيَكُوْنُ بَعْدَكُمْ قَوْمٌ لا يَسْتَقِيْمُ لَهُمُ الْمُلْكُ إِلا بِالقَتْلِ وَالتَّجَبُّرِ، وَلا الغِنَى إِلا بِالفَجرِ وَالبُخْلِ، وَلا الْمَحَبة إِلا بِاسْتِجْرَامٍ فِيْ الدُّنْيَا وَاتِّبَاعِ الهَوَى، أَلا مَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ الزَّمَانَ مِنْكُمْ فَصَبَرَ عَلى الفَقْرِ وَهُوَ يَقدرُ عَلَى الغِنَى، وَصَبَرَ عَلَى البَغْضَاءِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الْمَحَبَّةِ، وَصَبَرَ عَلَى الذُّلِّ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى العِزِّ -لا يُرِيْدُ بِذَلِكَ إِلا وَجْهَ اللهِ تَعَالَى أَعْطَاهُ اللهُ ثَوَابَ خَمْسِيْنَ صِدِّيْقًا"(2).
وروى أبو عمرو الداني في كتاب "الفتن" عن جعفر الصادق، عن
(1) رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(3554) عن أنس رضي الله عنه.
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في "الزهد"(1/ 106)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (10582). قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" (2/ 877): فيه إبراهيم بن الأشعث، تكلم فيه أبو حاتم.
أبيه رضي الله عنهما مرسلاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَلا إِنه سَيَكُوْنُ أَقْوَامٌ لا يَسْتَقِيْمُ لَهُمُ الْمُلْكُ إِلا بِالقَتْلِ وَالتَّجَبُّرِ، وَلا يَسْتَقِيْمُ لَهُم الغِنَى إِلا بِالبُخْلِ وَالفُجُوْرِ، وَلا تَسْتَقِيْمُ لَهُمُ الْمَحَبَّةُ في النَّاسِ إِلا بِاتِّبَاعِ الْهَوَى والاسْتِخْرَاجِ في الدّيْنِ، أَلا فَمَنْ أَدْرَكَ مِنْكُم ذَلِكَ الزَّمَانَ فَصَبَرَ عَلَى الشِّدةِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الرَّخَاءِ، وَصَبرَ عَلَى الذُّلِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى العِزِّ، وَصَبَرَ عَلَى الفَقْرِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الغِنَى، وَصَبَرَ عَلَى البُغْضَةِ في النَّاسِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الْمَحَبَّةِ -لا يُرِيْدُ بِذَلِكَ إلا وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الآخِرَةَ - آتَاهُ اللهُ عز وجل ثَوَابَ سَبْعِيْنَ صِدّيْقًا"(1).
وروى أبو بكر بن مردويه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ فَرَّ بِدِيْنهِ مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ مَخَافَةَ الفتْنَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَدِيْنهِ كُتِبَ عِنْدَ اللهِ صِدّيْقًا، فَإِذَا مَاتَ قَبَضَهُ اللهُ شَهِيْدًا"، ثُمَّ تَلا هَذه الآية:{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الحديد: 19]، ثُمَّ قَالَ:"هَذه فِيْهِمْ"، ثُمَّ قَالَ:"وَالفَرَّارُوْنَ (2) بِدِيْنهِمْ مِنْ أَرْضٍ إِلى أَرْضٍ يَوْمَ القِيَامَةِ مَعَ عِيْسَى بنِ مَرْيَمَ عليهما السلام في دَرَجَتِهِ في الْجَنَّةِ"(3).
قلت: في هذا الحديث تلويح بأن الآية نزلت في المهاجرين لأنهم فروا بالهجرة بدينهم، فمن كان على قدم المهاجرين فهو صديق.
(1) رواه أبو عمرو الداني في "السنن الواردة في الفتن"(3/ 672).
(2)
في "الدر المنثور": "والفارون" بدل "والفرارون".
(3)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (8/ 60).
وكذلك الأنصار لأن النصرة لا تكاد تقصر عن الهجرة، وسيأتي باب في التشبه بالصحابة رضي الله عنهم.
وروى الديلمي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَمعَ صَوْتَ ناَقُوْسٍ أَوْ دَخَلَ بَيْعَةً، أو بَيْتَ نارٍ، أَوْ بَيْتَ صَنَمٍ، أَوْ رَأَى جَمْعًا مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ، فَقَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللهُ، كُتِبَ لَهُ بِعَدَدَ مَنْ لَمْ يَقُلْهَا، وَ (1) كُتِبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا"(2).
قلت: المعنى في ذلك أنه ذكر الله تعالى بتوحيده في الغافلين عنه، فنال هذا الثواب العظيم، فلا يبعد أن يكون كذلك من مر بمجالس الفسَّاق كبيوت القهوات - خصوصا في وقت سماع الآلات، وإجالة الأبصار في وجوه الأحداث، والغفلة بهذه الملاهي عن التوحيد الإلهي - فإن كان منهم منافقون يعدون ذلك توحيداً، ملحدون يزعمون ذلك طاعة، فقد عظم ثواب المنكر لذلك، إلا أنه بتوحيد الله، وتنزيهه، وتكبيره، وتحميده من غير أن يكثِر سوادهم، ولا يزيد عدادهم.
وروى إسحاق الختلي في "الديباج" عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ (3) رَفَعَ قِرْطَاسَا مِنْ الأَرْضِ فِيْهِ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ
(1) في "المعجم الكبير": "أو" بدل "و".
(2)
ورواه الطبراني في "المعجم الكبير"(12691). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 141): فيه عمر بن الصبح، وهو متروك.
(3)
في "م": "فمن".
الرَّحِيْمِ كُتِبَ عِنْدَ اللهِ مِنَ الصِّدِيْقِيْنَ، وَخَفَّفَ عَنْ وَالِدَيْهِ العَذَابَ وإنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ". رواه الخطيب بنحوه، وقال: "إجلالًا أن يدرس (1) " (2).
قلت: لقد فاز بهذه الفضيلة بشر بن الحارث الحافي، وكان رضي الله عنه من سادات الأبرار، وأخيار الصديقين، كما ذكر الأستاذ أبو القاسم القشيري.
ورواه بإسناده أبو الفرج بن الجوزي في "صفة الصفوة" عن أيوب العطار قال: قال لي بشر بن الحارث: أحدثك عن بدء أمري: بينما أنا أمشي رأيت قرطاسًا عَلى وجه الأرض فيه اسم الله تعالى، فنزلت إلى النهر، فغسلته، وكنت لا أملك من الدنيا إلا درهمًا فيه خمسة دوانيق، فاشتريت بأربعة دوانيق مسكاً، وبدانق ماء ورد، وجعلت أتتبع اسم الله تعالى وأطيبه، ثم رجعت إلى منزلي فنمت، وأتاني آت في منامي فقال: يا بشر! لأطيبن اسمك كما طيبت اسمي، وكما طهرته لأطهرنَّ قلبك (3).
وروى الأستاذ أبو القاسم القشيري عن بشر بن الحارث الحافي رحمه الله قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: يا بشر! تدري لمَ رفعك الله من بين أقرانك؟ قلت: لا يا رسول الله، قال: باتباعك سنتي، وحرمتك للصالحين، ونصيحتك لإخوانك، ومحبتك لأصحابك وأهل
(1) في "تالي تلخيص المتشابه": "يداس".
(2)
رواه الخطيب البغدادي في "تالي تلخيص المتشابه"(2/ 458). قال الذهبي في "ميزان الاعتدال"(5/ 227): هذا غير صحيح.
(3)
رواه ابن الجوزي في "صفة الصفوة"(2/ 325).
بيتي هو الذي بلغك منازل الأبرار (1).
قلت: بهذا بلغ منازل الأبرار، وبتعظيم الله تعالى وإجلال اسمه واحترامه بلغ منازل الصديقين.
وروى الأستاذ أبو القاسم القشيري -أيضًا- عن بلال الخواص رحمه الله تعالى قال: كنت في تيه بني إسرائيل فإذا رجل يماشيني، فتعجبت، ثم أُلهمت أنه الخضر عليه السلام فقلت له: بحق الحق من أنت؟ فقال: أخوك الخضر، فقلت له: أريد أن أسألك، فقال: سل، فقلت: ما تقول في الشافعي رحمه الله؟ قال: هو من الأوتاد، فقلت: ما تقول في أحمد بن حنبل رحمه الله؟ فقال: رجل صديق، قلت: فما تقول في بشر الحافي؟ فقال: لم يخلف بعده مثله، فقلت: بأي وسيلة رأيتك؟ قال: ببرك بأمك (2).
قلت: الأوتاد قوم صالحون جعلهم الله تعالى بدلًا عن الأنبياء - كما سيأتي - فهم من خيار الصديقين.
وإنما صرح بالصديقية في أحمد دون الشافعي وبشر؛ وإن أحمد رضي الله عنه ثبت في فتنة القول بخلق القرآن، وقام فيها مقاماً لم يقمه غيره حتى نظره غير واحد من سادات عصره بأبي بكر الصديق رضي الله عنه في قيامه في قتال أهل الردة مقاماً لم يقمه غيره.
(1) تقدم تخريجه.
(2)
رواه القشيري في "رسالته"(ص: 31).
وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن مالك بن دينار رحمه الله قال: دخل بنو إسرائيل مسجداً لهم يوم عيد، فقام فتى شاب على باب المسجد من خارج فجعل يبكي، ويرفع صوته بالدعاء، ويزري على نفسه، ويقول: ليس مثلي يدخل معكم، أنا صاحب كذا، أنا صاحب كذا، فأصبح مكتوباً على لسان نبي من أنبيائهم: إن فلانا من الصديقين - لذلك الفتى (1).
وروى إسحاق الختلي في "الديباج" عن كعب الأحبار رحمه الله تعالى قال: انطلق رجلان من بني إسرائيل إلى مسجد من مساجدهم، فدخل أحدهما المسجد، وجلس الآخر خارجًا، فجعل يقول: ليس مثلي يدخل بيت الله وقد عصيت الله، ليس مثلي يدخل بيت الله وقد عصيت الله، فكُتب صديقًا (2).
قال: وأصاب رجل من بني إسرائيل ذنبا فحزن عليه، وجعل يجيء ويذهب، ويقول: بم أرضي ربي؟ بم أرضي ربي؟ فكُتِب صديقاً (3).
وروى أبو نعيم عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: أجد في بعض الكتب: سبحوا الله أيها الصديقون بأصوات حزينة (4).
وعنه -أيضًا- أنه قال: لا يبلغ الرجل منزلة الصديقين حتى يترك
(1) رواه الإِمام أحمد في "الزهد"(ص: 100).
(2)
ورواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 164).
(3)
ورواه البيهقي في "شعب الإيمان"(7161).
(4)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 358).
زوجته كأنَّها أرملة، ويأوي إلى مزابل الكلاب (1).
قلت: أراد بذلك تجرد القلب عن العلائق وذلة النفس؛ فإن ذلك روحُ ما ذكره.
وكذلك ما رواه الختلي عن رشدين بن سعد رحمه الله تعالى قال: قرأت في بعض الكتب: لا ينبغي لصديق أن يكون صاحب حانوت (2).
وهذا لا ينافيه ما رواه الترمذي وحسَّنه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التَّاجِرُ الصَّدُوْقُ الأَمِيْنُ مَعَ النَّبِيينَ [والصديقين] (3) والشُّهَدَاءِ"(4)؛ لأنَّ المراد بقوله: "صاحب حانوت" أن لا يكون قلبه متعلقا به راكنا إليه؛ بدليل قوله تعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كانوا أتجر الناس وأبيعهم، ولكن لم تكن تلهيهم تجارتهم ولا بيعهم عن ذكر الله تعالى. رواه الحاكم وصححه، والبيهقي (5).
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 359).
(2)
ورواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(55/ 226).
(3)
زيادة من الترمذي.
(4)
رواه الترمذي (1209) وحسنه.
(5)
رواه الحاكم في "المستدرك"(3506)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(2922).
وقد يقال: لا يلزم من كونهم مع النبيين والصديقين أن يكونوا منهم.
وفي "تاريخ ابن عساكر" بإسناده عن أبي عبيد الله محمَّد بن المبارك الصوري البصري رحمه الله قال: ثنا الفضل بن سعيد الأزرق، قال: أتيت راهباً في جبل الأسود فناديته، فأشرف عليَّ، فقلت له: يا واهب! بأي شيء تستخرج الأحزان؟ قال: بطول الانفراد، وبذكر الذنوب، وأخبرك أني ما رأيت شيئًا أجلب له داعي الحزن من أوكارها من الوحدة.
قال؛ فقلت له: وما ترى في المكتسب؟ قال: ذاك زاد المتقين، قلت: إنما أعني الطلب، قال: وأنا -أيضًا- أعني الطلب، قلت: الرجل يلزم سوقًا من الأسواق يكتسب الشيء يعود به على نفسه؟ قال: من أمر الدنيا، أم من أمر الآخرة؟ قلت: من أمر الدنيا، قال: ذاك شر قد كفيه الصديقون، وهل ينبغي للمتقي أن يتشاغل عن الله بشيء؟
قال محمَّد بن المبارك: قال لي الفضل بن سعيد: فلقيت رشدين ابن سعد، فحدثته حديث الراهب، قال: صدق، قرأت في كتب الحكمة: لا ينبغي لصديق أن يكون صاحب حانوت (1).
قلت: وإن حمل هذا على ظاهره، فإن من شرط الصديق التجرد عن الأسباب الظاهرة، فهذا كان في شريعة أولئك وملتهم، وأما في شريعة النبي صلى الله عليه وسلم وملته فإنَّ الأسباب لا تناقض رتبة من رتب المؤمنين أصلًا.
نعم، يلزم أن لا يكون القلب متعلقًا في طلب الرزق وحصوله إلا
(1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(55/ 226).
بالله تعالى، وقد كان السَّرِيُّ سَقَطياً، والجُنيد قواريرياً، وأبو حفص النيسابوري حداداً، وآخرون من سادات العارفين كانوا متَّجرِين ومحترفين، وقد كانوا صديقين، وعبد الرحمن بن عوف وأمثاله من الصحابة كانوا مكتسبين وهم من كُمَّلِ الصديقين، فافهم!
وروى الختلي عن مالك بن دينار رضي الله عنه قال: قرأت في التوراة: أيها الصديقون! تنعموا في الدنيا بذكري؛ فإنه لكم في الدنيا نعيم، وفي الآخرة أجر (1).
وروى الإِمام أحمد، والحاكم وصححه، عن معاذ بن أنس رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ قَرَأَ ألفَ آيَةٍ في سَبِيْلِ اللهِ كُتِبَ يَوْمَ القِيَامَةِ مَعَ النَبِيّينَ وَالصِّدّيْقِيْنَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِيْنَ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيْقًا إِنْ شَاءَ الله"(2).
وقوله: "إن شاء الله" للتبرك، لا للشك.
وروى ابن أبي الدنيا، والختلي عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى: أنَّه كان يقول: إن الصديقين إذا قرئ عليهم القرآن طربت قلوبهم إلى الآخرة، ثم يقول: خذوا، فيقرأ، ثم يقول: اسمعوا ما يقول الصادق من فوق عرشه (3).
(1) ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 358).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
ورواه الإِمام أحمد في "الزهد"(ص: 321)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 385).
وروى أبو الحسن بن جهضم عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: من أقام نفسه مواقف ذل في طلب الحلال، حشره الله تعالى مع الصديقين، ورفعه إلى الشهداء يوم القيامة (1).
وعن السَّرِي رحمه الله تعالى قال: ثلاثة من أحوال الصديقين:
- أن يكونوا بما في يد الله أوثق منهم بما في أيديهم.
- ومطالبون نفوسهم بما للناس عليهم.
- وإذا عُرِض أمران لله فيهما رضي، حملوا نفوسهم على أصعبهما وأشدهما، وإن كان فيه تلف نفوسهم.
قال أبو طالب المكي رحمه الله: وكان عبد الواحد بن زيد رحمه الله تعالى يحلف بالله عز وجل: ما تحول الصديقون صديقين إلا بالجوع [والسهر](2)(3).
وروى ابن جَهْضَم عن السري رحمه الله -أيضًا- قال: استوصيت لبِشْرٍ بوصية، فقال: أخاف أوصيك بوصية يكون وَبَالها عليك، ثم عليَّ، فقلت: عليَّ ذاك، فقال: انظر بأي بدن توافي القيامة، وانظر من يحاسبك وبين يدي من تقف، واعلم أنَّك مسؤول لا محالة، فاستعد للسؤال جواباً، وللجواب صواباً، والزم بيتك، وحاسب نفسك، فإذا قدمت
(1) ذكره أبو طالب المكي في "قوت القلوب"(2/ 473).
(2)
زيادة من "قوت القلوب".
(3)
انظر: "قوت القلوب" لأبي طالب المكي (1/ 170).
القيامة تقول: يا رب! مازلت ملازما لبيتي، محاسبا لنفسي، فيقول الله تعالى: صدقت.
ثم قال: هيهات! وأنى يقول صدقت إلا للصديقين (1).
روى أبو نعيم عن سهل بن عبد الله رضي الله عنه قال: أعمال البر يعملها البَر والفاجر، ولا يجتنب المعاصي إلا الصديق (2).
وعن الأعمش قال: قال لي مطرف بن عبد الله: وجدت الغفلة التي ألقاها الله تعالى في قلوب الصديقين من خلقه رحمة رحمهم بها، ولو ألقى في قلوبهم الخوف على قدر معرفتهم به ما هَنأ لهم (3) عيش (4).
وليس في هذا نفي الخوف عنهم، وقد سبق أنَّ من شرطهم ملازمة الحياء والخوف، بل من تمام أخلاقهم أن خوفهم يزيد كما رقوا في مقامهم، ولا يُعتبروا بما هم عليه من الاستقامة، وإن قامت لهم الشواهد بالصدق والنجاح.
نعم، لهم ثبات وشجاعة على الخوف لقوة معرفتهم، ومن ثم كان يغلب الخوف على أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وبقية العشرة
(1) انظر: "الزهد الفائح في ذكر من تنزه عن الذنوب والقبائح" لابن الجزري (ص: 30) مختصراً.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
في "حلية الأولياء": "هنأهم" بدل "هنأ لهم".
(4)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 210).
المشهود لهم بالجنة، كما يعرف ذلك من سِيَرهم، وهؤلاء رؤوس الصديقين.
وروى الطبراني، وأبو نعيم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَوْحَى اللهُ إِلى نبَي مِنَ الأَنْبِيَاءِ عَلْيِهِمُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: قُلْ لِعِبَادِي الصِّدِّيقِيْنَ: لا تَغْتَرُّوْا بِي؛ فَإِذَا أُقِيْمَ عَلَيْهِمْ قِسْطِيَ أَوْ عَدْلِي أُعَذِّبُهُمْ غَيْرَ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَقُلْ لِعِبَادِيَ المُذْنِبِيْنَ: لا تَيْأَسُوْا مِنْ رَحْمَتِي؟ فَإِنَّهُ لا يَكْبُرُ عَلَيَّ ذَنْبٌ أَغْفِرُ لَهُمْ"(1).
وروى ابن جهضم عن بشر بن الحارث الحافي رحمه الله تعالى قال: رجال الآخرة ثلاثة: عابد، وزاهد، وصديق؛ فالعابد يعبد الله مع العلائق، والزاهد يعبده على حذف العلائق، والصديق يعبده على الرضا والموافقة (2).
وروى أبو نعيم في ترجمة عبد الرحمن بن مهدي عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى قال: ما صدق الله عبدٌ أحب الشهرة (3).
وفي معناه قول بعض السادة: آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرئاسة (4).
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 48).
(2)
انظر: "الفوائد" لابن القيم (ص: 115).
(3)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 31).
(4)
انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (3/ 275).
واعلم أنَّ أخلاق الصديقين وأعمالهم لا تختص بما ذُكِر، بل يندرج فيها جميع أخلاق الصالحين والشهداء؛ لأن الصديقين خواص هؤلاء، فالصديق من جاء بأعمال الأبرار، وجمع مكارم أخلاقهم، ثم زاد عليهم بأخلاق أخرى.
وقد روى ابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق"، وابن عساكر عن سليمان بن يسار رحمه الله تعالى مرسلاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خِصَالُ الْخَيْرِ ثلاثة (1) وَستُّوْنَ خصْلَةً، إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدهِ خَيْرًا جَعَلَ فِيْهِ خَصْلَةً مِنْهَا بِهَا يدخلُ الْجَنَّةَ"، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! أَفِيَّ شيء منها؟ قال: "نَعَمْ، جَمِيْعُهَا"(2).
وفي رواية أخرى: فقال أبو بكر: يا رسول الله! فِيَّ منها شيء؟ قال: "كُلُّهَا فِيْكَ، فَهَنِيْئًا لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ"(3).
واعلم أنَّ من تمام أخلاق الصديقين وكمال أحوالهم أنهم لا يرضون بالإقامة على حالتهم التي هم عليها حتى يرتقوا عنها في كل نَفَس من أنفاسهم، وهذا مستمد من قوله صلى الله عليه وسلم:"إِذَا أتَى عَلَيَّ يَوْمٌ لا أَزْدادُ فِيْهِ عِلْمًا يُقَرِّبُنِي إِلى اللهِ فَلا بُوْرِكَ لِي في طُلُوْعِ شَمْسِ ذَلِكَ اليَوْمِ".
(1) في مصادر التخريج: "ثلاث مئة".
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق"(ص: 25)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(30/ 103).
(3)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(30/ 104).
وفي رواية: "كُلُّ يَوْمٍ لا أَزْدَادُ فِيْهِ عِلْمًا يُقَرِّبُنِي إِلى اللهِ". رواه الطبراني في "الأوسط"، وأبو نعيم عن عائشة رضي الله عنها (1).
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الحذر"، وأبو نعيم، والخطيب عن حجاج بن محمَّد قال: كتب إلى أبو خالد الأحمر رحمه الله فكان في كتابه: واعلم أن الصديقين كانوا يستحبون من الله أن لا يكونوا اليوم على منزلة أمس (2).
قلت: والعارفون حملوا اليوم في الحديث على الوقت الذي أنت فيه، فالأمس هو الوقت الذي قبل وقتك، بل هم في كل نَفَس يحبون أن يكونوا أحسن منهم في النفس الذي قبله.
وكان أخي العلامة العارف بالله تعالى شهاب الدين أحمد رحمه الله تعالى يقول: لا أرضى أن ألقى الله إلا على أحسن مما أنا عليه، وكان من أخيار الناس، ورؤوس العارفين، وكُمَّل العلماء العاملين.
وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أنه قال لابنه: عليك بإسباغ الوضوء، وإذا صليت صلاة فصلِّ صلاة رجل مودع، وعليك بالإياس؛ فإنه غنى، وإياك والطمع؛ فإنه فقر حاضر،
(1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(6636)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (8/ 188). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 136): فيه الحكم بن عبد الله، قال أبو حاتم: كذاب.
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "قصر الأمل"(ص: 126)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(10/ 142)، والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(1/ 296).