الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ
إنما سُميَ الصالحون والصديقون أخياراً وخياراً لفعلهم الخير، وإرادتهم إياه، وإيثارهم له على ما سواه.
والخير ضد الشر، وحقيقة الخير ما يحبه العبد ويختاره، ويرضاه ويحمده، أو يحب منه، ويحمد من فعله أو صفته.
والشر ما يكرهه العبد أو يكره منه.
فالخير والشر إما أن يعود أثرهما على المتصف بهما، أو يكون منه لغيره، فطالب الخير لنفسه وموصله إلى غيره من الأخيار لأنه من أهل الخير، وطالب الشر لنفسه أو مريده لغيره أو موصله إليه من الأشرار لأنه من أهل الشر، وأي عبد مات على إحدى المنزلتين فهو من أهلها، إلا أن الناس متفاوتون في الخير والشر على حسب ما قسم لهم وقدر لهم أو عليهم لقوله تعالى:{كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} [الإسراء: 20]، وقوله {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35].
وكل إنسان فهو لافي ما قدمه من خير أو شر - قل أو كثر؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8].
وكل عبد فلا يخلو من حركة أو سكون، وحركته إما في خير وإما في شر كما قيل:[من الرجز]
وإِنَّما النَّاسُ جَمِيْعاً عَمَلَة
…
فِيْ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ جَمِيْعاً فَعَلَة (1)
غير أنَّ الغالب عليهم الشر، والعامل بالخير قليل منهم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الْخَيْرُ كَثِيْرٌ، ومَنْ يَعْمَلْ بِهِ قَلِيْلٌ"(2).
وفي لفظ: "وَقَلِيْلٌ فَاعِلُهُ"(3). رواه باللفظ الأول الطبراني في "الأوسط"، وباللفظ الثاني الخطيب؛ كلاهما عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
وفي لفظ للعسكري: "وفَاعِلُهُ قَلِيْلٌ".
وفي لفظ: "ومَنْ يَعْمَلهُ قَلِيْلٌ"(4).
(1) ذكره الماوردي في "أدب الدين والدنيا"(ص: 232) من قول أبي العتاهية، لكن الشطر مختلف:
ما النَّاس إلا آلة مُعْتَمَلَهْ
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(5608). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 125): فيه الحسين بن عبد الأول، وهو ضعيف.
(3)
رواه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(8/ 176).
(4)
انظر: "المقاصد الحسنة" للسخاوي (ص: 337).
ولبعض المتقدمين: [من الخفيف]
افْعَلِ الْخَيْرَ ما اسْتَطَعْتَ وَإِنْ كا
…
نَ قَلِيْلاً فَلَسْتَ مُدْرِكَ كُلِّهْ
وَمَتَىْ تَفْعَلُ الْكَثِيْرَ مِنَ الْخيْـ
…
ـرِ إِذا كُنْتَ تارِكا لأَقَلِّهْ (1)
وقد أمر الله تعالى بفعل الخير وجعله مما يكون موصلاً للفلاح، فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77].
وروى الإمام أحمد في "الزهد"، وغيره عن زبيد رحمه الله قال: قال ابن مسعود رضي الله عنه: قولوا خيراً تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله (2).
وروي عن أبي الأحوص قال: قال عبد الله - يعني: ابن مسعود رضي الله عنه: تعوَّدوا الخير، فإنما الخير بالعادة (3).
روى ابن ماجه، والطبراني، وأبو نعيم، وغيرهم عن معاوية رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الْخَيْرُ عَادَةٌ، وَالشرُ لجاجةٌ، ومَنْ يُرِدِ اللهِ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّههُ
(1) انظر: "مكارم الأخلاق" للخرائطي (ص: 38). وهي لمحمد بن علي المصري.
(2)
ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(34540)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(9762).
(3)
رواه عبد الرزاق في "المصنف"(4742)، والطبراني في "المعجم الكبير"(9156).
فِي الدِّيْن" (1)؛ أي: يفهمه في الدين.
والتفهم أبلغ من الإفهام، وهو يشعر بتكرار الإفهام، وكأن معناه: يجعل الفقه عادته وديدنه.
روى بعض السلف: عودوا ألسنتكم خيراً.
وقال الشاعر: [من البسيط]
عَوِّدْ لِسانَكَ قَوْلَ الْخَيْرِ وَارْضَ بِهِ
…
إِنَّ اللِّسانَ لِما عَوَّدْتَ مُعْتادُ
مُوَكَّلٌ بِتَقاضِيْ ما سَنَنْتَ لَهُ
…
فِيْ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَانْظُرْ كَيْفَ تَرْتادُ (2)
روى ابن أبي الدنيا عن مالك بن أنس رضي الله عنه قال: مَرَّ بعيسى بن مريم عليهما السلام خنزير، فقال:"مر بسلام"، فقيل له:"يا روح الله! لهذا الخنزير تقول! " قال: "أكره أن أعود لساني الشر"(3).
وروى الطبراني في "الكبير" عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا العِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، ومَنْ يَتَحَرَّ
(1) رواه ابن ماجه (221)، والطبراني في "المعجم الكبير"(19/ 385)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 252).
(2)
انظر: "روضة العقلاء ونزهة الفضلاء" لابن حبان (ص: 51).
(3)
رواه ابن أبي الدنيا في "الصمت وآداب اللسان"(ص: 177).
الْخَيْرَ يُعْطَهُ، ومَنْ يَتَّقِ الشَرَّ يُوْقَهُ" (1).
والتحري - بالحاء المهملة -: تعمد الخير، وطلبه لكونه أحرى؛ أي: أحق بأن يطلب.
وروى ابن المبارك في "الزهد" عن أبي جعفر عبد الله بن مسور الهاشمي رحمه الله مرسلاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَرَدْتَ أَمْرًا فَتَدَبَّرْ عَاقِبَتَهُ؛ فَإِنْ كَانَ خَيْرًا فَأَمْضِهِ، وإِنْ كَانَ شَرًّا فَانتُهِ"(2).
وهذا نهي عن الشر مطلقاً - وإن قل -، وإرشاد إلى الخير، وإيذان بأنَّ العبد لا ينبغي أن يقدم على أمر لا يعلم أن عاقبته خير أو شر.
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الصمت"، والطبراني - بإسناد حسن - عن أسود بن أصرم رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! أوصني، قال:"تَمْلِكُ يَدَك؟ "، قلت: فماذا أملك إذا لم أملك يدي؟ قال: "تَمْلِكُ لِسَانَك؟ " قال: قلت: فماذا أملك إذا لم أملك لساني؟ قال: "لا تَبْسُطْ يَدَكَ إِلَّا إِلَى خَيْرٍ، ولا تَقُلْ بِلِسَانِكَ إِلا مَعْرُوْفًا"(3).
وفي حديثي أبي هريرة، وأبي شريح الخزاعي رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم
(1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(2663). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 128): فيه محمد بن الحسن بن أبي يزيد، وهو كذاب.
(2)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(ص: 14).
(3)
رواه ابن أبي الدنيا في "الصمت وآداب اللسان"(ص: 45)، والطبراني في "المعجم الكبير"(818). وحسن الهيثمي إسناده في "مجمع الزوائد"(10/ 300).
قال: "ومَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُت"(1).
وروى ابن أبي الدنيا عن سفيان الثوري رحمه الله قال: قالوا لعيسى ابن مريم عليهما السلام: "دلنا على عمل ندخل به الجنة"، قال:"لا تنطقوا أبدا"، قالوا:"لا نستطيع ذلك"، قال:"فلا تنطقوا إلا بخير"(2).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قال: يا لسان! قل خيراً تغنم، أو اسكت عن شر تسلم (3).
وعن خالد بن أبي عمران رحمه الله مرسلاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمسك لسانه طويلاً، ثم قال:"رَحِمَ اللهُ عَبْدًا قَالَ خَيْرًا فَغَنِمْ، أَوْ سَكَتَ عَنْ سُوْءٍ فَسَلِمْ"(4).
وأخرجه ابن المبارك في "الزهد" كذلك، وأبو الشيخ في "الثواب" عن أبي أمامة رضي الله عنه، ولفظه:"رَحِمَ اللهُ عَبْدًا قَالَ فَغَنِمَ، أَوْ سَكَتَ فَسَلِمَ" - بحذف المفعول -.
والبيهقي عن أنس، ولفظه:"رَحِمَ اللهُ امْرَأً تَكَلَّمَ فَغَنِمْ، أَوْ سَكَتَ فَسَلِمْ - ثلاث مرات -"(5).
(1) تقدم تخريجه.
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في "الصمت وآداب اللسان"(ص: 66).
(3)
رواه ابن أبي الدنيا في "الصمت وآداب اللسان"(ص: 65).
(4)
رواه ابن أبي الدنيا في "الصمت وآداب اللسان"(ص: 71).
(5)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(4938). وضعف العراقي إسناده في "تخريج أحاديث الإحياء"(2/ 769).
وفي كتاب الله: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114].
وروى البيهقي في "الشعب" عن مكحول: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ رضي الله عنه في حديث: "إِنَّكَ بِخَيْرٍ مَا كُنْتَ سَاكِتًا، فَإِذَا تَكَلَّمْتَ فَلَكَ أَوْ عَلَيْكَ"(1).
وروى الطبراني في "الصغير"، وأبو الشيخ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أوصني قال: "عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ فَإنَّها جِمَاعُ كُلِّ خَيْرٍ، وعَلَيْكَ بِالْجِهَادِ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ فَاِنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ الْمُسْلِمِيْنَ، وعَلَيْكَ بِذِكْرِ اللهِ وتلاوَةِ كِتَابِهِ فَإِنَّهُ نُوْرٌ لَكَ فِي الأَرْضِ، وذِكْرٌ لَكَ فِي السَّمَاءِ، واخزُنْ لِسَانَكَ إِلا مِنْ خَيْرٍ، فَإِنَّكَ بِذَلِكَ تَغْلِبُ الشَّيْطَانَ"(2).
وقوله: "عليك بِتَقْوى اللهِ فَإِنَّهَا جِمَاعُ كُلِّ خَيْرٍ" أي: كل عمل صالح كما فسر به قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]؛ قال ابن زيد: الأعمال الصالحات. رواه ابن جرير (3).
وروى ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وأبو نعيم، والبيهقي في "الشعب" عن عبد الله بن عكيم قال:
(1) رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(4962).
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الصغير"(949)، وكذا أبو يعلى في "المسند"(1000).
(3)
رواه الطبري في "التفسير"(2/ 30).
خطبنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: فإني أوصيكم بتقوى الله، وأن تثنوا عليه بما هو أهله، وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة؛ فإن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90](1).
يشبه أن يكون استدل أبو بكر رضي الله عنه بالآية على جميع ما أوصاهم به من التقوى والثناء، وخلط الرغبة بالرهبة من حيث إنَّ المسارعة إلى الخيرات هي التقوى، أو نتيجة التقوى التي هي جماع كل خير.
وقال تعالى ممتناً على إبراهيم وآله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء: 73] أي: وحي نبوة؛ أي: أرسلناهم لفعل الخيرات والدعوة إليها.
ويحتمل أن يكون المراد وحي الإلهام؛ أي: ألهمناهم وألقينا في قلوبهم فعل الخيرات؛ إذ لا يكون فعل الخير إلا بتوفيق من الله تعالى وإلهام، ولذلك أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله فعل الخيرات.
وروى الترمذي وصححه، ومحمد بن نصر المروزي في كتاب "الصلاة"، والطبراني، والحاكم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: احتبس عنَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس،
(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(34431)، والحاكم في "المستدرك"(3447)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 35)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(10594).
فخرج سريعاً، فثوب بالصلاة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سلم دعا بصوته فقال:"عَلَى مَصَافِّكُمْ كَمَا أَنْتُمْ" ثُم انْفَتَلَ إلينَا، ثُم قالَ:"أَمَا إِنيِّ سَأُحَدِّثُكُمْ مَا حَبَسَنِي عَنْكُم الْغَدَاةَ: إِنِّي قُمْتُ اللَّيْلَةَ فَتَوَضَّأْتُ وَصَلَّيْتُ مَا قُدِّرَ لِي، ونَعِسْتُ فِي صِلاتِي حَتَّى اسْتَثْقَلْتُ، فَإِذَا أَنَا بِرَبِّي تبارك وتعالى فِي أَحْسَنِ صُوْرَة، فَقَالَ: يَا مُحَمَّد! قَلْتُ: لَبَّيْكَ رَبِّى، قَالَ: فِيْمَ يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ: لا أَدْرِي، قَالَهَا ثَلاثاً، قَالَ: فَرَأَيْتُهُ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ، فَوُجِدَ بَرْدُ أَناَمِلِهِ بَيْنَ ثَدْيَيَّ، فَتَجَلَّى لِي كُلُّ شَيْءٍ وعَرَفْتُهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَبِّي، قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ: فِي الدَّرَجَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ، فَقَالَ: مَا الدَّرَجَاتِ؟ فَقُلْتُ: إِطْعَامُ الطَّعَامِ، وإِفْشَاءُ السَّلامِ، وَالصَّلاةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، قَالَ: صَدَقْتَ، فَمَا الكَفَّارَاتُ؟ قُلْتُ: إِسْبَاغُ الوُضُوْءِ فِي السَّبُرَاتِ، وانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعَدَ الصَّلاةِ، ونَقْلُ الأَقْدَامِ إِلى الْجُمُعَاتِ، قَالَ: صدَقْتَ، سَلْ يَا مُحَمَّدْ، قُلْتُ: اللَّهُمَّ أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِيْنِ، وأَنْ تَغْفِرَ لِي وتَرْحَمَنِي، وإِذَا أَرَدْتَ بَيْنَ عِبَادِكَ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ وأَناَ غَيْرُ مَفْتُوْنٍ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْألُكَ حُبَّكَ وحُبَّ مَنْ أَحَبَّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إِلى حُبِّكَ".
قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "تَعَلَّمُوْهُنَّ وادْرُسُوْهُنَّ؛ فَإِنَّهُنَّ حَقٌّ"(1).
(1) رواه الترمذي (3235) وصححه، والطبراني في "المعجم الكبير"(20/ 141)، والحاكم في "المستدرك"(1913).
وروى عبد الرزاق، والترمذي وحسنه، ومحمد بن نصر، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَتَانِي اللَّيْلَةَ رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُوْرَةٍ - أَحْسِبُهُ قَالَ: فِي الْمَنَامِ - قَالَ: يَا مُحَمَّدْ هَلْ تَدْرِي فَيْمَ يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ: لا - أَيْ: لا أَدْرِي -، فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَهَا بَيْنَ ثَدْييَّ - أَوْ فِي نَحْرِيْ - فَعَلِمْتُ مَا فِي السَّمَاواتِ ومَا فِي الأَرْضِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدْ! هَلْ تَدْرِي فِيْمَ يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ: نعَمْ، فِي الْكَفَّارَاتِ، والْكَفَّارَاتُ الْمُكْثُ فِيْ الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ، والْمَشْيُ عَلَى الأَقْدَامِ إِلَى الْجُمُعَات، وإِبْلاغُ الوُضُوْءِ فِي الْمَكَارِهِ، ومَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَاشَ بِخَيْرٍ، ومَاتَ بِخَيْرٍ، وكَانَ مِنْ خَطِيْئَتِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ.
وقَلْ يَا مُحَمَّد إِذَا صَلَّيْتَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْألكَ الْخَيْرَاتِ، وتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وحُبَّ الْمَسَاكِيْنِ، وإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتَوْنٍ.
قَالَ: والدَّرَجَاتُ إِفْشَاءُ السَّلامِ، وإطْعَامُ الطَّعَامِ، والصَّلاةُ بِاللَّيْلِ والنَّاسُ نِيَامٌ" (1).
وقوله في هذه الرواية: "أَسْأَلُكَ الْخِيْرَاتِ" يحتمل أنه أراد التوفيق
(1) رواه عبد الرزاق في "التفسير"(3/ 169)، والترمذي (3233) وحسنه.
ورواه محمد بن نصر كما في "مختصر قيام الليل"(ص: 33) وقال: وفي الباب عن ثوبان، وابن عباس، ومعاذ بن جبل، وأبي أمامة رضي الله عنهم، وهذا حديث قد اضطربت الرواة في إسناده، وليس يثبت إسناده عند أهل المعرفة بالحديث. قلت: قد صحح هذا الحديث غير واحد من العلماء.
إلى فعل الخيرات؛ أي: الأعمال الموصلة إلى خيرات الآخرة، ويدل عليه رواية معاذ:"فِعْلَ الْخِيْرَاتِ".
ويحتمل أنه أراد: أسألك الخيرات من النعم في الدنيا والآخرة؛ فإن نعم الدنيا لا تتيسر إلا بفضل الله وبكرمه، فلا ينبغي لمن يسرت له أن يشهدها، بل يشهد ميسرها وتيسيره إياها، ومن ثم قال الله تعالى:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 58].
وفد فسر فضل الله بالقرآن، وبالعلم، وبالإسلام.
والأولى التعميم، حتى يدخل فيه الفرح بكل نعمة من حيث إنَّها من الله تعالى.
وقال الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]؛ أي: نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلالة. رواه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، واللالكائي في "السنة" عن ابن عباس رضي الله عنهما (1).
أي: اختباراً لقلوبكم قوة وضعفاً، وصبراً وجزعاً، ورضاً وسخطاً، وهل تشهدون النعم والخير من الله تعالى فتشكروه عليها، وهل تشهدون البلاء منه تمحيصاً فتصبروا عليه، أم تُبطركم النعم وتشغلكم عن المنعم
(1) رواه الطبري في "التفسير"(17/ 25)، واللالكائي في "اعتقاد أهل السنة"(3/ 567).
فتكفروها، أم يحملكم الجزع من البلاء على جحد ما سبق من النعم، وسخط قدره الله فيكم، فالخير الدنيوي لا يكون خيراً حقيقةً إلا إذا قاد صاحبه إلى خير الآخرة، وقد سمِّي المال خيراً في قوله تعالى:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180]، {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، {أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [ص: 32]، {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)} [العاديات: 8] إما باعتبار أنه خير عند أهله، وإما باعتبار ما يؤول إليه من الخير إذا أنفقه في وجوه الخير، وأما باعتبار أنه يلهي ويطغي فلا خير فيه، ولذلك قال الله تعالى:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} ، ثم قال:{وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131].
وقال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)} [الكهف: 46].
وقد اشتهر تفسير {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} بالأذكار المشهورة، وسيأتي قريباً.
والأحسن تعميمها في كل عمل صالح، [قال قتادة](1) كل شيء من طاعة الله فهو من الباقيات الصالحات.
وسئل قتادة عن الباقيات الصالحات فقال: كل ما أريد به وجه الله. رواهما ابن أبي حاتم (2).
(1) بياض في "م"، والمثبت من "ت".
(2)
انظر: "االدر المنثور" للسيوطي (5/ 399).
وأخرج هو وغيره معنى الأول عن ابن عباس كما سيأتي.
وقال الله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16، 17].
وقال الله عز وجل: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى: 4].
وأخرج الطبراني في "الأوسط"، والبيهقي في "دلائل النبوة" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عُرِضَ عَلَيَّ مَا هُوَ مَفْتُوْحٌ لأُمَّتِي بَعْدِي فَسَرَّنِي، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى:{وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى: 4](1).
كأنه أشار بالآية إلى أنه لا ينبغي السرور بشيء من الدنيا قل أو جلَّ، لأنها فانية، والآخرة خير منها لأنها باقية.
وقال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأنعام: 32].
خص في هذه الآية خيرية الآخرة بأهل التقوى.
(1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(572) واللفظ له، والبيهقي في "دلائل النبوة"(7/ 61).
عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 34، 35].
قال الحسن رحمه الله تعالى في قوله عز وجل: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الزخرف: 33]: لولا أن يكون الناس أجمعون كفاراً فيميلوا إلى الدنيا لجعل الله لهم الذي قال، وقد مالت الدنيا بأكثر أهلها وما فعل ذلك، فكيف لو فعل؟ رواه عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن جرير (1).
وقال الله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 52 - 56].
قال قتادة رحمه الله: مكر بالقوم في أموالهم وأولادهم، فلا تعتبروا الناس بأموالهم وأولادهم، ولكن اعتبروهم بالإيمان والعمل الصالح.
وقال يزيد بن ميسرة رحمه الله تعالى: أجد فيما أنزل الله على موسى عليه السلام: أيفرح عبدي المؤمن أن أبسط له الدنيا وهي أبعد له مني، أو يجزع عبدي المؤمن أن أقبض عنه الدنيا وهو أقرب له مني، ثم تلا:{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ} [المؤمنون: 55]، الآية. رواهما ابن أبي حاتم (2).
(1) رواه الطبري في "التفسير"(25/ 68). وانظر: "الدر المنثور" للسيوطي (7/ 376).
(2)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (6/ 104).
وقال تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص: 79]؛ يعني: قارون.
قال قتادة: {فِي زِينَتِهِ} : في حشمه، ذكر لنا أنهم خرجوا على أربعة آلاف دابة عليهم ثياب حمر، منها ألف بغلة بيضاء، وعلى دوابهم قطائف الأرجوان.
وقال زيد بن أسلم: خرج في سبعين ألفاً عليهم المعصفرات.
وكان ذلك أول يوم في الأرض رُئيت المعصفرات فيها.
وقال ابن جريج: خرج على بغلة شهباء عليها الأرجوان ومعه ثلاث مئة جارية على بغال شُهُب عليهنَّ ثياب حمر.
وقال السدي: خرج في جَوارٍ بيض على سروج من ذهب، عليهن ثياب حمر وحلي ذهب. رواها ابن أبي حاتم (1).
قال تعالى: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص: 79].
وكانوا أناساً من أهل التوحيد، كما رواه ابن أبي حاتم عن قتادة (2)، إلا أنهم كانوا يريدون الدنيا.
وفيه دليل على أن إرادة الدنيا لا تنقص التوحيد، إلا أنها تناقض المقال في الآخرة.
(1) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم"(9/ 3014).
(2)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(9/ 3015).
قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص: 80]؛ أي: عن إرادة الدنيا، وطلب نعيمها، وأنتم مؤمنون، وأعمالكم صالحة، فلا ينبغي لكم أن ترغبوا عن ثواب الله الذي آمنتم به وعملتم رغبةً فيه.
ثم قال تعالى بعد أن ذكر الخسف بقارون: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} [القصص: 82]؛ أي: قضاءً وقدراً، لا لكرامة توجب البسط فيبسط، ولا لهوان يوجب القدر فيقدر، فلا ينبغي للعبد أن يتحرَّ خلف ما اختاره الله تعالى له كما قال تعالى:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص: 68].
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].
فقد يختار العبد البسط في الرزق ويكون فيه سوءه، ولذلك قالوا:{لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص: 82]، أي: لنعم الله تعالى، أو المكذبون لرسله.
قال الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ} ؛ أي: المحمودة وهي عاقبة الخير {لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]، وهي الانتهاء إلى الجنة.
ثم قال تعالى عقب ذلك: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} [النمل: 89]؛
أي: أحسن منها، أو خير حاصل له منها - أي: بسببها -، فالخير إنما يحصل لعمال الخير بأعمال الخير.
وقد سبق في الحديث أنَّ جماع الخير في التقوى.
وقال تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197].
روى الطبراني في "الكبير" عن جرير رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ تتَزَوَّدْ فِي الدُّنْيَا - يَعْنِي: مِنَ العَمَلِ الصَّالح والتقْوَى - يَنْفَعْهُ فِي الآخِرَةِ"(1).
روى الإمام أحمد، والبغوي في "معجمه"، والبيهقي في "سننه" عن رجل من أهل البادية قال: أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يعلمني مما علمه الله، فكان فيما حفظت عنه أن قال:"إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئاً اتِّقاءَ اللهِ إِلَاّ أَعْطاكَ خَيْراً مِنْهُ"(2). قال السخاوي: رجاله رجال الصحيح (3).
روى أبو نعيم عن الشعبي قال: ما ترك أحد شيئاً لله في الدنيا، إلا عوضه الله في الآخرة ما هو خير منه (4).
(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(2271). قال أبو حاتم: حديث باطل، كما في "علل الحديث" لابن أبي حاتم (2/ 135).
(2)
رواه الإمام أحمد في (المسند)(5/ 78)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(5/ 335).
(3)
انظر: "المقاصد الحسنة" للسخاوي (ص: 577).
(4)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 312).
وروى هو وابن عساكر عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَا تَرَكَ عَبْدٌ شَيْئاً للهِ لا يَتْرُكُهُ إِلا لَهُ، إِلا عَوَّضَهُ اللهُ مِنْهُ مَا هَوَ خَيْرٌ لَهُ فِي دِيْيهِ وَدُنْيَاهُ"(1).
روى أبو الشيخ في كتاب "الثواب" عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ الزَّادِ التَّقْوَى، وَخَيْرُ مَا ألقِيَ فِي القَلْبِ اليَقِيْنُ".
وروى أبو نعيم عن عبد الله بن بُسر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خَيْرُ العَمَلِ أَنْ تُفَارِقَ الدُّنْيَا وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللهِ"(2).
وروى الترمذي وحسَّنه، عن ابن عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"خيْرُ الدّعَاءِ [دعاء] يَوْم عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيّوْنَ مِنْ قَبْلِي: لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيْكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ"(3).
وروى ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ} [الكهف: 46]، قال: هي ذكر الله: لا إله
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 196)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(10/ 374).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 112).
(3)
رواه الترمذي (3585) وقال: حديث غريب من هذا الوجه، وحماد بن أبي حميد هو محمد بن أبي حميد، وهو أبو إبراهيم الأنصاري المديني، وليس بالقوي عند أهل الحديث.
إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، وتبارك الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأستغفر الله، وصلى الله على رسول الله، والصلاة، والصيام، والحج، والصدقة، والعتق، والجهاد، والصلة، وجميع أعمال الحسنات، وهن الباقيات الصالحات التي تبقى لأهلها في الجنة (1).
وروى الإمام أحمد، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والحاكم وصححاه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اسْتكْثِرُوْا مِنَ البَاقِيَاتِ الصَّالِحَات"، قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: "التكْبِيْرُ، وَالتَّهْلِيْلُ، وَالتَّسْبِيْحُ، وَالتَّحْمِيْدُ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ"(2).
وروى ابن النجار في "تاريخه"، والديلمي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ الكَلامِ أَرْبَعٌ لا يَضُرُّكَ بأَيَّهِنَّ بَدَأْتَ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ، وَلا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَاللهُ أكبَرُ؛ لا يَضُرُّكَ بِأَيهِنَّ بَدَأْتَ"(3).
وروى الإمام أحمد، وابن حبان في "صحيحه"، والبيهقي في "شعبه" عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خَيْرُ الذّكْرِ
(1) ورواه الطبري في "التفسير"(15/ 256).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 75)، وأبو يعلى في "المسند"(1384)، والطبري في "التفسير"(15/ 255)، وابن حبان في "صحيحه"(840)، والحاكم في "المستدرك"(1889).
(3)
ورواه النسائي في "السنن الكبرى"(10677)، وابن حبان في "صحيحه"(1812).
الْخَفِيُّ، وَخَيْرُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي" (1).
وروى الحاكم في "تاريخ نيسابور" عن علي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"خَيْرُ الدُّعَاءِ الاستِغْفَارُ، وَخَيْرُ العِبَادةِ لا إِلَهَ إِلا اللهُ"(2).
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن ميمون بن سياه رحمه الله قال: إذا أراد الله بعبد خيراً حبَّب إليه ذكره (3).
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن الحسن قال: تفكر ساعة خير من قيام الليل (4).
وروى ابن سعد في "طبقاته" عن أبي الدرداء، وأبو الشيخ في "العظمة" عن ابن عباس قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ"(5).
بل في "العظمة" عن أبي هريرة مرفوعاً: "فِكْرَةُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 172)، وابن حبان في "صحيحه"(809)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(10369).
(2)
ورواه الديلمي في "مسند الفردوس"(2897).
(3)
ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 107).
(4)
رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 272).
(5)
رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(7/ 392) عن أبي الدرداء رضي الله عنه موقوفاً عليه.
ورواه أبو الشيخ في "العظمة"(1/ 298) عن ابن عباس رضي الله عنه موقوفاً عليه أيضاً.
سِتيْنَ سَنَةً" (1).
وروى الحاكم في "المستدرك"، والرافعي في "تاريخ قزوين" عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خَيْرُ الأَعْمَالِ وَأَقْرَبُهَا إِلى اللهِ الصَّلاةُ فِي أوَّلِ وَقْتِهَا"(2).
وروى الطبراني في "الكبير" عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأبو يعلى، والحاكم عن بريدة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَلا أُعَلمُكَ كَلِمَاتٍ: مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُعَلمُهُنَّ إِيَّاهُ، ثُمَّ لا يُنْسِيْهِ أَبَدًا؛ قُل: اللَّهُمَّ إنِّى ضَعِيْفٌ فَقَوِّ فِي رِضَاكَ ضَعْفِي، وَخُذْ إِلَى الْخَيْرِ بِنَاصِيتَي، وَاجْعَلِ الإِسْلامَ مُنتْهَى رضَائِي، اللَّهُمَّ إِنِّي ضَعَيْفٌ فَقَوِّني، وَإِنِّي ذَلِيْلٌ فَأَعِزَّنِي، وَإِنِّى فَقَيْرٌ فَارْزُقْنِي"(3).
وروى البيهقي في "الشعب" عن بعض الصحابة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العِلْمُ أَفْضَلُ مِنَ العَمَلِ، وَخَيْرُ الأَعْمَالِ أَوْسَاطُهَا، وَدِيْنُ اللهِ بَيْنَ القَاسِيْ وَالغَالِي، وَالْحَسَنَةُ بَيْنَ السَّيِئتَيْنِ، لا تَنَالُهَا إِلا بِاللهِ، وَشَرُّ السَّيْرِ الْحَقْحَقَةُ"(4).
وروى أبو الشيخ عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1) رواه أبو الشيخ في "العظمة"(1/ 300).
(2)
رواه الحاكم في "المستدرك"(678)، والرافعي في "التدوين في أخبار قزوين"(2/ 152).
(3)
كذا عزاه الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 179) إلى الطبراني عن ابن عمرو رضي الله عنهما، ثم قال: وفيه أبو داود الأعمى، وهو متروك.
ورواه الحاكم في "المستدرك"(1931) عن بريدة رضي الله عنه.
(4)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(3887).
"العِلْمُ خَيْرٌ مِنَ العَمَلِ، وَمَلاكُ الدِّيْنِ الوَرَعُ، وَالعَالِمُ مَنْ يَعْمَلُ".
ورواه ابن عبد البر في "العلم" من حديث أبي هريرة دون قوله: "وَالعَالِمُ مَنْ يَعْمَل"(1).
وروى الطبراني في "الكبير" عن ابن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَليْلُ العِلْمِ خَيْر مِنْ كَثِيْرِ العِبَادَةِ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ فِقْهًا إِذَا عَبَدَ اللهَ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلاً إِذَا أُعْجِبَ بِرَأْيِهِ، وإِنَّمَا النَّاسُ رَجُلانِ مُؤْمِنٌ وَجَاهِلٌ، فَلا تُؤْذِي الْمُؤْمِنَ، وَلا تُجَاوِرِ الْجَاهِلَ"(2).
روى الإمام أحمد، والشيخان عن معاوية، والإمام أحمد، والدارمي، والترمذي وصححه عن ابن عباس، وابن ماجه عن أبي هريرة، والطبراني في "الأوسط" عنه وعن عمر رضي الله عنه قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقَهْهُ فِي الدِّيْنِ"(3).
(1) رواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"(1/ 23).
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(8698). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 120): رواه الطبراني في "الأوسط" و"الكبير" وفيه إسحاق بن أسيد، قال أبو حاتم: لا يشتغل به.
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 92)، والبخاري (71)، ومسلم (1037) عن معاوية رضي الله عنه.
ورواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 306)، والدارمي في "السنن"(225)، والترمذي (2645) وصححه عن ابن عباس رضي الله عنه.
ورواه ابن ماجه (220)، والطبراني في "المعجم الأوسط"(5424) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ورواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(3288) عن عمر رضي الله عنه.
زاد الإمام أحمد في حديث أبي هريرة: "وإِنَّما أَنا قاسِمٌ وَيُعْطِيْ اللهُ"(1).
وهذه الزيادة بمعناها في حديث معاوية في رواية لمسلم، وغيره.
وروى الطبراني في "الكبير" حديثه، ولفظه:"مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّيْنِ وُيلْهِمْهُ رُشْدَهُ"(2).
وبهذا اللفظ رواه أبو نعيم عن ابن مسعود رضي الله عنه (3).
وروى البزار حديثه، ولفظه:"إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبدٍ خَيْرًا فَقَّهَهُ فِي الدِّيْنِ، وَألهَمَهُ رُشْدَهُ"(4).
وروى البيهقي في "الشعب" عن محمد بن كعب رحمه الله مرسلاً، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله رضي الله عنه: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبدٍ خَيْرًا فَقَّهَهُ فِي الدِّيْنِ، وَزَهَّدهُ فِي الدُّنْيَا، وَبَصَّرَهُ عُيُوْبَهُ"(5).
وروى ابن عبد البر عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ دِيْنكُمْ
أَيْسَرَهُ، وَخَيْرُ العِبَادَةِ الفِقْهُ" (6).
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 234).
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(19/ 340).
(3)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 107).
(4)
رواه البزار في "المسند"(1700).
(5)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(10535) عن محمد بن كعب مرسلاً.
(6)
رواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"(1/ 21).
وصدْرُه أخرجه الإمام أحمد، والبخاري في "تاريخه" عن مِحْجَنٍ ابن الأدرَع، والطبراني في "الكبير" عنه، وعن عمران بن حصين، وفي "الأوسط" عن أنس رضي الله عنه (1).
وحديث أنس رواه الضياء المقدسي في "المختارة"(2)، فهو حديث حسن.
وروى أبو الشيخ عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ دِينكُمُ الوَرَعُ"(3).
وورى الإمامان؛ مالك، وأحمد، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم وصححاه، عن أسامة بن شَريك رضي الله عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خَيْرُ مَا أُعْطِيَ النَّاسُ خُلُق حَسَنٌ"(4).
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 32)، والبخاري في "الأدب المفرد"(341)، والطبراني في "المعجم الكبير"(20/ 296) عن محجن بن الأدرع رضي الله عنه.
ورواه الطبراني في "المعجم الكبير"(18/ 230) عن عمران بن حصين رضي الله عنه، وفي "المعجم الصغير"(1066) عن أنس رضي الله عنه.
(2)
رواه الضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة"(2565).
(3)
ورواه البزار في "المسند"(2969)، والطبراني في "المعجم الأوسط"(3960) كلاهما عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.
(4)
رواه الطيالسي في "المسند"(1233)، والإمام أحمد في "المسند"(4/ 278)، وابن ماجه (3436)، وابن حبان في "صحيحه"(6061)، والحاكم في "المستدرك"(416).
وفي رواية لابن حبان: قالوا: يا رسول الله فما خير ما أُعطي الإنسان؟ قال: "خُلُقٌ حَسَنٌ"(1).
وروى ابن أبي شيبة عن رجل من جُهينة: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "خَيْرُ مَا أُعْطِيَ الرَّجُلُ الْمُؤْمِنُ خُلُقٌ حَسَنٌ، وَشَرُّ مَا أُعْطِيَ الرَّجُلُ قَلْبُ سُوْءٍ فِي صُوْرَةٍ حَسَنَةٍ"(2).
وروى الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه عن جرير ابن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُحْرَمِ الرفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ كُلَّهُ"(3).
وروى الطبراني في "الكبير" بزيادة، ولفظه:"الرِّفْقُ بِهِ الزِّيَادَةُ وَالبَرَكَةُ، وَمَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ"(4).
وروى الإمام أحمد، والبخاري في "التاريخ"، والبيهقي في "الشعب" عن عائشة، والبزار عن جابر رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَرَادَ اللهُ
(1) رواه ابن حبان في "صحيحه"(6061).
(2)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(34364).
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 362)، ومسلم (2529)، وأبو داود (4809)، وابن ماجه (3687).
(4)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(2458). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/ 18): فيه عمر بن ثابت، وهو متروك.
بِأَهْلِ بِيْتٍ خَيْرًا أَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الرِّفْقَ" (1).
وعن عائشة رضي الله عنها أخرجه البيهقي في "الشعب" بزيادة، ولفظه:"إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبِيْدٍ خَيْرًا رَزَقَهُمْ الرِّفْقَ فِي مَعَاشِهِم، وإذَا أَرَادَ بِهِمْ شَرًّا رَزَقَهُم الْخَرْقَ فِي مَعَاشِهِم"(2).
وروى الدارقطني في "الأفراد" عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا فَقَّهَهُمْ فِي الدِّيْنِ، وَوَقَّرَ صَغِيْرُهُم كَبِيْرَهُم، وَرَزَقَهُمُ الرِّفْقَ فِي مَعَيْشَتِهِم، وَالقَصْدَ فِي نَفَقَاتِهِم، وَبَصَّرَهُمْ عُيُوْبَهُم، فَيتُوْبُوا مِنْهَا، وإِذَا أَرَادَ بِهِمْ غَيْرَ ذَلِكَ تَرَكَهُمْ هَمَلاً"(3).
وروى السِّجزي في "الإبانة" عن حيان (4) بن أبي جبلة، والديلمي عن ابن عمر رضي الله عنه قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ خَيْرًا أَكثَرَ
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(6/ 71)، والبخاري في "التاريخ الكبير"(1/ 416)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(6560) عن عائشة رضي الله عنها.
وعزاه الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/ 19) إلى البزار من حديث جابر رضي الله عنه.
(2)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(6561).
(3)
ورواه الديلمي في "مسند الفردوس"(956)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(18/ 78).
(4)
الصواب: "حبان" بدل "حيان". قال ابن حجر في "الإصابة في تمييز الصحابة"(2/ 220): ذكره عبدان في الصحابة، فوهم، وإنما هو تابعي معروف، وصحف اسمه، وإنما هو بكسر المهملة، بعدها موحدة.
فُقَهَاءَهُمْ، وَأقلَّ جُهَّالَهُمْ، فَإذَا تَكَلَّمَ الفَقِيْهُ وَجَدَ أَعْوَاناً، وإذَا تَكَلَّمَ الْجَاهِلُ قُهِرَ، وإِذَا أَرَادَ اللهُ بَقَوْمٍ شَرًّا أكْثَرَ جُهَّالَهُم، وَأقلَّ فُقَهَاءَهُمْ، فَإِذَا تَكَلَّمَ الْجَاهِلُ وَجَدَ أَعْوَاناً، وَإِذَا تَكَلَّمَ الفَقِيْهُ قُهِرَ" (1).
وروى الإمام أحمد، والبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ (2) منْهُ"(3)؛ أي يستلبه ولداً، أو مالاً، أو منفعة ابتلاء ليصبر، فإذا صبر كان خيراً.
وروى الإمام أحمد، ومسلم عن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْس ذَلِكَ لأَحَدٍ إِلا لِلمُؤْمِنِ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ"(4).
وفي كتاب الله تعالى: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [النساء: 25].
وقال تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184].
وروى البيهقي في "السنن" عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم
(1) ورواه المعافى بن زكريا في "الجليس الصالح"(ص: 406)، والخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه"(1/ 165) عن حبان بن أبي جبلة.
ورواه الديلمي في "مسند الفردوس"(952) عن ابن عمر رضي الله عنه.
(2)
قال النووي في "رياض الصالحين"(ص: 18): ضبطوا "يُصَب" بفتح الصاد وكسرها.
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 237)، والبخاري (5321).
(4)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 332)، ومسلم (2999).
قال: "خَيْرُ خِصَالِ الصَّائِمِ السِّوَاكُ"(1)؛ أي: حيث يكون مطلوباً.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] إلى قوله: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: 9 - 11].
قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280].
يحتمل أنه إخبار عن خيرية مطلق الصدقة، فإنها من أعمال الخير وخيرها؛ قال تعالى:{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} [البقرة: 272].
ويحتمل - وهو الأقرب - أن يكون المعنى: وأن تصدقوا على المعسر ببراءته مما لكم عليه أو من بعضه خير لكم.
وعليه: فخير: أفعل تفضيل؛ أي: خير لكم من الإنظار، ولا يلزم عليه أن لا يكون الإنظار خيراً.
وقد روى مسلم، والترمذي عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَلم يُوْجَدْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَيْءٌ إِلا أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَكَانَ مُوْسِرًا، وَكَانَ يَأْمُرُ غِلْمَانَهُ أَنْ تتَجَاوَزُوْا عَنِ الْمُعْسِرِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ، تَجَاوَزُوْا عَنْهُ"(2).
وأما حديث "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال:
(1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" - (4/ 272). وكذا ابن ماجه (1677).
(2)
رواه مسلم (1561)، والترمذي (1307).
"إِنَّ رَجُلاً لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطْ، وَكَانَ يُدَايِنُ النَّاسَ، وَكَانَ يَقُوْل لِفَتَاهُ: إِذَا أتيْتَ مُعْسِرًا فتَجَاوَزْ عَنْهُ لَعَلَّ اللهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا، فَلَقِيَ اللهَ، فتَجَاوَزَ عَنْهُ"(1).
فالمراد: أنه لم يعمل خيراً قط في اعتقاد نفسه، أو في اعتقاد الناس فيه، وإلا فإن التجاوز عن المعسر شامل لإنظاره والإعراض عن مطالبته إلى وقت ميسرته، وشامل لترك الحق له، وهو معنى الصدقة عليه التي هي خير بنص القرآن.
قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 271]؛ أي: من الإبداء - وإن كان في الإبداء خير - إلا أن الإخفاء أفضل - أي: في صدقة التطوع - وأما في الفرض فالإظهار خير من الإخفاء ليقتدي به غيره، وليعلم الناس أنه يؤدي الزكاة فلا يُطعن عليه بمنعها، فيأثم الطاعن.
روى ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قال في الآية: جعل صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفاً، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفاً - قال: - وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها (2).
وروى الإمام أحمد، والبزار، والطبراني في "الأوسط"، والبيهقي في "الشعب" عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَلا أَدُلُّكَ عَلَى
(1) رواه البخاري (3239)، ومسلم (1562).
(2)
رواه الطبري في "التفسير"(3/ 92).
كَنْزٍ مِنْ كُنُوْزِ الْجَنَّةِ؟ " قلت: بلى يا رسول الله، قال: "لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ؛ فَإِنها كَنْز مِنْ كُنُوْزِ الْجَنَّةِ"، قلت: فالصلاة يا رسول الله؟ قال: "خَيْرٌ مَوْضُوْعٌ؛ فَمَنْ شَاءَ أقلَّ، وَمَنْ شَاءَ أكثَرَ"، قلت: فالصوم يا رسول الله؟ قال: "فَرْضٌ مَجْزِيٌّ"، قلت: فالصدقة يا رسول الله؟ قال: "أَضْعَافٌ مُضَاعَفَةٌ وَعِنْدَ اللهِ مَزِيْد"، قلت: فأيها أفضل؟ قال: "جُهْدٌ مِنْ مُقِلٍّ، وَسِرٌّ إِلَىْ فَقِيْر" (1).
قال الله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128].
وقال عز وجل: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114].
وإذا كان الأمر بذلك خير فأولى أن يكون فعله من الخير، فصنائع المعروف كلها خير.
روى ابن أبي الدنيا في "الصمت" عن يحيى بن أبي كثير رحمه الله قال: خصلتان إذا رأيتهما في رجل فاعلم أنَّ وراءهما خيرٌ منهما؛ إذا كان حابساً للسانه، يُحافظ على صلواته (2).
وروى [عن] عبد الرحمن بن شُريح رحمه الله قال: لو أن عبداً
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 265)، والطبراني في "المعجم الأوسط"(4721)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(3576). وعزاه الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 165) إلى البزار.
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في "الصمت وآداب اللسان"(ص: 264).
اختار لنفسه ما اختار شيئاً أفضل من الصمت (1).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في خطبته: ليس فيما دون الصدق من الحديث خير، من كذب يفجر، ومن يفجر يهلك (2).
من الصدق ما استئناه الشرع؛ فإن الكذب فيه ما لم يمكن التعريض، والتورية خير، ففي الصحيح:"لَيْسَ بِالكَذَّابِ الَّذِيْ يُصْبحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَقُوْلُ خَيْرًا أَوْ يَنْمِي خَيْرًا"(3).
وروى ابن أبي الدنيا - أيضاً - عن ميمون بن مهران رحمه الله قال - وعنده رجل من قراء أهل الشام -: إن الكذب في بعض المواطن خير، فقال الشامي: لا، الصدق في كل موطن خير، فقال: أرأيت لو رأيت رجلاً يسعى وآخر يتبعه بالسيف، فدخل داراً، فانتهى إليك، فقال: رأيت رجلاً؟ ما كنت قائلاً؟ ، قال: كنتُ أقول: لا، فهو ذاك (4).
بل قالوا: إنَّ الكذب في مثل ذلك واجب، ولو استحلفه حلف.
(1) رواه ابن أبي الدنيا في "الصمت وآداب اللسان"(ص: 298).
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في "الصمت وآداب اللسان"(ص: 242).
(3)
رواه البخاري (2546)، ومسلم (2605) عن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها.
(4)
رواه ابن أبي الدنيا في "الصمت وآداب اللسان"(ص: 246).
وكذلك يستثنى من الصدق ما لا خير فيه؛ كالقذف، والغيبة، والنميمة.
روى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن غَنْم (1)، والطبراني في "الكبير" عن عبادة رضي الله عنهما: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خِيَارُ أُمَّتِي الَّذِيْنَ إِذا رُؤُوْا ذُكِرَ اللهُ، وَشِرَارُ أُمَّتِي الْمَشَّاؤُوْنَ بِالنَّمِيْمَةِ، الْمُفَرِّقُوْنَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ، البَاغُوْن للبُرَآءَ الْعَنَتَ (2) "(3).
وروى الأصبهاني في "ترغيبه" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! عَدْلُ سَاعَةِ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّيْنَ سَنَة، قِيَامِ لَيْلِهَا وَصِيَامِ نهارِهَا، وَيا أَبَا هُرَيْرَةَ! جَوْرُ سَاعَةِ فِي حُكْمٍ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ عِنْدَ اللُّهِ مِنْ مَعَاصِي سِتّيْنَ سَنَةً"(4).
ومن شواهده: ما أخرجه الطبراني في "الكبير" بإسناد حسن، و"الأوسط" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَوْمٌ مِنْ إمَامٍ
(1) عده بعضهم في الصحابة، ويعضهم قال: كان مسلماً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يره.
(2)
كذا في "م" وفي "المسند"، وفي "مجمع الزوائد":"للبرآء العيب" بدل "البراء العنت".
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 227) عن عبد الرحمن بن غنم رضي الله عنه.
وعزاه الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/ 93) عن عبادة رضي الله عنه. وقال: فيه يزيد ابن ربيعة، وهو متروك.
(4)
ورواه أبو نعيم في "فضيلة العادلين"(ص: 117).
عَادِلٍ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّيْنَ سَنَةً، وَحَدٌّ يُقَامُ فِي الأَرْضِ بِحَقِّهِ أَزْكَى فِيْهَا مِنْ مَطَرِ أَرْبَعِيْنَ صَبَاحًا" (1).
وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ} ، أي: طاعة الله، والرسول، وأولي الأمر، ورد الأمر لهم {خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].
روى ابن أبي شيبة، والحكيم الترمذي في "نوادره"، والمفسرون، والحاكم وصححه، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه في قوله:{وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} قال: هم أولو الفقه وأولو الخير (2).
روى ابن أبي شيبة، وابن جرير عن أبي العالية رحمه الله قال: هم أهل العلم، ألا ترى أنه يقول:{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83](3).
وفيه دليل على أن العالم إذا اختلف عليه أمر من أحكام الله تعالى
(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(11932)، وفي "المعجم الأوسط"(4765).
(2)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(32533)، والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(1/ 260)، والطبري في "التفسير"(5/ 148)، والحاكم في "المستدرك"(422).
(3)
رواه الطبري في "التفسير"(5/ 149).
لم يستطع أن يبلغ الحق فيه بفهمه ينبغي أن يردَّه إلى عالمه، وأنَّ ذلك خيرٌ له من ارتكاب التأويل والتكلف.
قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66]؛ أي: تصديقاً، كما رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم عن السدي (1).
وفيه إشارة أنَّ من ألقيت إليه الموعظة فعمل بها كان على خير، وأنه إذا عمل بها كان أشد إيماناً بها وتصديقاً لها.
وقال الله تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة: 263].
والقول المعروف لإفادة العلم والإرشاد إلى الخير والنصيحة، فالدلالة على الخير وقولك للسائل: يفتح الله عليك.
قال الضحاك في قوله تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} قال: ردُّ جميل، يقول: يرحمك الله، يرزقك الله، ولا ينتهره، ولا يغلظ له القول. رواه ابن المنذر (2).
وروى ابن أبي حاتم عن عمرو بن دينار رحمه الله مرسلاً قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَا مِنْ صَدَقَةٍ أَحَبُّ إِلى اللهِ مِنْ قَوْلٍ؛ أَلمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ
(1) رواه الطبري في "التفسير"(5/ 161)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(3/ 996).
(2)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (2/ 43).
تَعَالَى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} (1).
روى الحاكم وصححه، عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى:{قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6] قال: علموا [أنفسكم و] أهليكم الخير (2).
روى ابن ماجه عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"العَالِمُ وَالْمُتَعَلِّمُ شَرِيْكَانِ فِي الْخَيْرِ (3)، وَلا خَيْرَ فِي سَائِرِ النَّاسِ"(4)؛ أي: بعدهما.
وروى الترمذي وصححه، عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ حَتَى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الْحُوْتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعلِّمِيْ النَّاسِ الْخَيْرَ"(5).
وروى البزار عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مُعَلِّمُ
(1) رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(2/ 516).
(2)
رواه الحاكم في "المستدرك"(3826).
(3)
في "سنن ابن ماجه": "الأجر" بدل "الخير".
(4)
رواه ابن ماجه (228)، وكذا الطبراني في "المعجم الكبير" (7875). قال ابن طاهر المقدسي في "ذخيرة الحفاظ" (3/ 1597): - فيه - عثمان بن أبي العاتكة، وهو ضعيف.
وفيه أيضاً علي بن يزيد الألهاني، قال الذهبي في "المغني في الضعفاء" (2/ 457): ضعفوه وتركه الدارقطني.
(5)
رواه الترمذي (2685) وقال: غريب.
الْخَيْر يَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءِ حَتَّى الْحِيْتَانُ فِي البَحْرِ" (1).
شامل لتعليم القرآن، والعلم، وتعليم الحرف، والصنائع التي يكف بها العبد وجهه، ويكفي عياله، وقد تقدم حديث:"خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْانَ وَعَلَّمَهُ"، وحديث:"فَضْلُ العِلْمِ خَيْرٌ مِنْ فَضْلِ العِبَادَة"، وغيرهما.
وفي كتاب الله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269].
والحكمة القرآن أو علومه، أو الفقه، أو الإصابة في القول، أو غير ذلك، أقوال (2).
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقرئ الرجل الآية، ثم يقول: تعلمها؛ فإنها خيرٌ لك مما بين السماء والأرض، حتى يقول ذلك في القرآن كله.
رواه ابن أبي شيبة، والطبراني (3).
وروى البزار عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ البَيْتَ الَّذِي يُقْرَأُ فِيْهِ القُرْآنُ يَكْثُرُ خَيْرُهُ، وإنَّ البَيْتَ الَّذِي لا يُقْرَأُ فِيهِ القُرْآنُ يَقِلُّ خَيْرُهُ"(4).
(1) قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 124): رواه البزار، وفيه محمد بن عبد الملك، وهو كذاب.
(2)
انظر: "تفسير الطبري"(3/ 90)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(2/ 531).
(3)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(8662)، وكذا رواه عبد الرزاق في "المصنف"(5992).
(4)
رواه البزار في "المسند"(6672). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(4/ 405): فيه عمر بن نبهان، وهو ضعيف.
وروى الطبراني عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: قال رسول الله في صلى الله عليه وسلم "يَسِيْرُ الفِقْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيْرِ العِبَادةِ، وَخَيْرُ أَعْمَالِكُمْ أَيْسَرُهَا"(1).
وروى مسلم، وأبو داود، والترمذي عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه: أنَّ رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستحمله، فقال: إنه قد أبدع بي فاحملني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ائْتِ فُلاناً" فأتاه فحمله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ"(2).
وروى ابن حبان نحوه عن ابن مسعود (3).
ورواه البزار مختصراً، ولفظه:"الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ"(4).
ورواه الطبراني بهذا اللفظ عن سهل بن سعد (5).
ورواه ابن أبي الدنيا، والبزار من حديث أنس، وزاد فيه:"واللهُ يُحِبُّ إِغَاثَةَ اللَّهْفَانِ"(6).
(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(286). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 121): فيه خارجة بن مصعب، وهو ضعيف جداً.
(2)
رواه مسلم (1893)، وأبو داود (5129)، والترمذي (2671) واللفظ له.
(3)
رواه ابن حبان في "صحيحه"(289) و (1668) عن أبي مسعود رضي الله عنه.
(4)
كذا عزاه الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 166) إلى البزار.
(5)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(5945).
(6)
رواه ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج"(ص: 39)، وكذا رواه الترمذي (2670) عن أنس رضي الله عنه، لكن دون الزيادة. وعز اه الهيثمي في "مجمع الزوائد" =
وهو بهذا اللفظ وهذه الزيادة عند الإمام أحمد، وأبي يعلى في "مسنديهما" عن بريدة (1).
وأورده الضياء المقدسي في "المختارة"(2).
وروى ابن ماجه وغيره عن سهل بن سعد رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ هَذَا الْخَيْرَ خَزَائِنُ، [و] لِتِلْكَ الْخَزَائِنِ مَفَاتِيحُ، فَطُوْبَى لِعَبْدٍ جَعَلَهُ اللهُ مِفْتَاحًا لِلْخَيْرِ مِغْلاقًا لِلشَّرِّ، وَويلٌ لِعَبْدٍ جَعَلَهُ اللهُ مِفْتَاحًا للشَّرِّ مِغْلاقاً لِلْخَيْرِ"(3).
وروى الإمام أحمد، والحاكم وصححه، عن حذيفة رضي الله عنه قال: سأل رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمسك القوم، ثم إن رجلاً أعطاه فأعطى القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ سَنَّ خَيْرًا فَاسْتُنَّ بِهِ كَانَ لَهُ أَجْرُهُ وَمِثْلُ أُجُوْرِ مَنْ تَبِعَهُ غَيْرَ مُنْتَقِصٍ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً، وَمَنْ سَنَّ شَرًّا فَاسْتُنَّ بِهِ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهُ وَمِثْلُ أَوْزَارِ مَنِ اتَّبَعَهُ غَيْرَ مُنتقِصٍ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئاً"(4).
= (3/ 137) إلى البزار، وقال: فيه زباد النميري، وثقه ابن حبان، وقال: يخطيء، وابن عدي، وضعفه جماعة، وبقية رجاله ثقات.
(1)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 357) عن بريدة رضي الله عنه. لكن دون الزيادة.
ورواه أبي يعلى في "المسند"(4296) لكن عن أنس رضي الله عنه.
(2)
رواه الضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة"(2193) عن أنس رضي الله عنه.
(3)
رواه ابن ماجه (238)، وكذا أبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 329).
(4)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 387)، والحاكم في "المستدرك"(3906).
وأخرج الإمام أحمد، وابن ماجه نحوه من حديث أبي هريرة (1).
وهو عند الإمامين؛ مالك، وأحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه بمعناه من حديث جرير (2).
وفي الباب عن واثلة، وأبي جحيفة، وغيرهما (3).
وروى الخرائطي في "مكارم الأخلاق" عن كعب قال: يؤتى بالرئيس في الخير يوم القيامة فيقال له: أجب ربك، فينطلق إلى ربه لا يحتجب عنه، فيؤمر به إلى الجنة، فيرى منزلته ومنزلة أصحابه الذين كانوا يجامعونه على الخير ويُعينونه عليه، فيقال له: هذه منزلة فلان، وهذه منزلة فلان، فيرى ما أعدَّ الله لهم في الجنة من الكرامة، وَيرى منزله أفضل من منازلهم، ويُكسى حُلَّة من ثياب الجنة، ويُوضع على رأسه تاج، ويغلفه من ريح الجنة، وشرق وجهه حتى يكون مثل القمر، فيخرج فلا يراه أهل ملأ إلا قالوا: اللهم اجعله منهم حتى يأتي أصحابه الذين كانوا يجامعونه على الخير ويُعينونه، فيقول: أبشر يا فلان؛ فإن الله أعد لك في الجنة كذا وكذا، وأبشر يا فلان؛ فإن الله أعدَّ لك في الجنة كذا وكذا، فلا يزال يبشرهم بما أعدَّ الله لهم في الجنة من الكرامة حتى
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 520)، وابن ماجه (204).
(2)
رواه الطيالسي في "المسند"(670)، والامام أحمد في "المسند"(4/ 358)، ومسلم (1017)، والترمذي (2675)، والنسائي (2554)، وابن ماجه (203).
(3)
انظر: "مجمع الزوائد" للهيثمي (1/ 167 - 168).
يعلو وجوههم من البياض مثل ما على وجهه، فيعرفهم الناس [ببياض] وجوههم (1).
وقال الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [الإسراء: 34، 35]، أي: ذلك المذكور من الإحسان إلى اليتيم، وكف الأذى عنه، والطمع عن ماله، والوفاء بالعهد، وفي الكيل والوزن خير وأحسن تأويلاً؛ أي: عاقبة.
ويحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى أعم من ذلك من التوحيد، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والبراءة من الوأد، والزنا، والقتل بغير حق، والإحسان إلى اليتيم، وما بعده؛ فإنها كلها من الخير.
وروى ابن المبارك، والبخاري في "تاريخه"، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"خَيْرُ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِيْنَ بَيْتٌ فِيْهِ يَتيْمٌ يُحْسَنُ إِلَيْهِ، وَشَرُّ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِيْنَ بَيتٌ فِيْهِ يَتِيْمٌ يُسَاءُ إِلَيْهِ، أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيْمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا"، وأشار بالسبابة والوسطى (2).
وروى أبو نعيم عن عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خَيْرُ بُيُوْتيهُمْ بَيْتٌ
(1) ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(35334).
(2)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 230)، والبخاري في "الأدب المفرد"(137)، وابن ماجه (3679).
فِيْهِ يَتِيْمٌ مُكَرَّمٌ" (1).
وروى ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْخَيْرُ أَسْرعُ إِلى البَيْتِ الَّذِي يُؤْكَلُ فِيْهِ مِنْ الشَّفْرَةِ إِلَى سَنَامِ البَعِيْرِ"(2).
وروى البيهقي في "الشعب" عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ستُّ خِصَالِ مِنَ الْخَيْرِ؛ جِهَادُ أَعْدَاءِ اللهِ بِالسَّيْفِ، وَالصَّوْمُ فِي يَوْمِ الصَّيْفِ، وَحُسْنُ الصَّبْرِ عِنْدَ الْمُصِيْبَةِ، وَتَرْكُ الْمِرَاءِ وَأَنْتَ مُحِقُّ، وَتَبْكِيْرُ الصَّلاةِ فِي يَوْمِ الغَيْمِ، وَحُسْنُ الوُضُوْءِ فِي أَيَّامِ الشِّتَاءِ"(3).
وقول: من الخير؛ أي: من الأفضل في الخير؛ إذ شاركها في الخير ما هو دونها؛ كصوم الشتاء، وحسن الوضوء في الصيف، والتبكير إلى الصلاة في يوم الصحو، إلا أن هذه أفضل.
وروى ابن السني، والحاكم وصححه على شرط مسلم، عن جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ الرَّجُلَ إِذا أَوَىْ إِلَىْ فِراشِهِ ابْتَدَرَهُ مَلَكٌ وَشَيْطانٌ، فَيقُوْلُ الْمَلَكُ: اخْتِمْ بِخَيْرٍ، وَيَقُوْلُ الشَّيْطانُ: اخْتِمْ بِشَرٍّ، فَاِنْ
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 337). قال أبو حاتم: منكر. انظر: "علل الحديث" لابن أبي حاتم (2/ 176).
(2)
رواه ابن ماجه (3357). وهو ضعيف.
(3)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(2755). وقال: بكر بن كثير ضعيف في الرواية.
ذَكَرَ اللهَ باتَ الْمَلَكُ يَكْلَؤُهُ" (1)؛ أي: يحفظه ويحرسه.
وروى الترمذي، والبيهقي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ حَافِظَيْنِ يَرْفَعَانِ إِلَى اللهِ عز وجل مَا حَفِظَا مِنْ لَيْلٍ أَوْ نهَارٍ فَيَجِدُ اللهُ فِي أَوَّلِ الصَّحِيْفَةِ وَفِي آخِرِهَا خَيْراً إِلا قَالَ لِلْمَلائِكَةِ عليهم السلام: أُشْهِدُكُمْ أَنَيّ قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي مَا بَيْنَ طَرَفِي الصَّحِيفَةِ"(2).
وروى الطبراني في "الكبير" - قال المنذري: وإسناده حسن - عن عبد الله بن بُسر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اسْتَفْتَحَ أَوَّلَ نهَاره بِخَيْرٍ وَخَتَمَهُ بِخَيْرٍ قَالَ اللهُ عز وجل لِمَلائِكَتِهِ: لا تَكْتبوْا عَلَيْهِ مَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنَ الذُّنُوْبِ"(3).
وروى الخرائطي في "مكارمه" عن محمد بن واسع رحمه الله تعالى قال: من قال حين يُصبح ثلاث مرات: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} إلى قوله: {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم: 17 - 19] لم يفته خير كان قبله من
(1) رواه ابن السني في "عمل اليوم والليلة"(ص: 673)، والحاكم في "المستدرك"(2011). وكذا رواه البخاري في "الأدب المفرد"(1214)، والنسائي في "السنن الكبرى"(10690)، وأبو يعلى في "المسند"(1791).
(2)
رواه الترمذي (981)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(7053).
(3)
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 112): رواه الطبراني، وفيه الجراح بن يحيى المؤذن، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
الليل، ولم يدركه يومئذٍ شر، ومَنْ قال حين يُمسي: لم يفته خير كان قبله، ولم يدركه ليلته شر.
قال: وكان إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام يقولها ثلاث مرات إذا أصبح، وثلاث مرات إذا أمسى (1).
ما ذكره آخراً ثبت في الحديث المرفوع عن معاذ بن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَلا أُخْبِرُكُمْ لِمَ سَمَّى اللهُ إِبْرَاهِيْمَ خَلِيْلَهُ الَّذِيْ وَفَّى؟ لأَنَّهُ كَانَ كُلَّمَا أَصْبَحَ وَأَمْسَى قَالَ: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 17، 18] "(2).
وقد تقدم أن المؤمنين المطيعين خيار الناس، وبينَّا أن وجه خيريتهم أنهم اتبعوا إبراهيم عليه السلام في الوفاء، وهم إنما يوفون الله تعالى ما وعدوه من أنفسهم أن يُطيعوه، فكل طاعة وفاء بخير، وهذا الذكر من أحسن أنواع الخير، وأحسن ما يكون صباحاً ومساءً، وهو قرآن وذكر، ولا شك أن القرآن خير جميع الكلام.
وروى البيهقي في "الشعب" عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن
(1) ورواه الثعلبي في "التفسير"(7/ 299)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(6/ 213).
(2)
رواه الطبري في "التفسير"(1/ 528)، والطبراني في "المعجم الكبير"(20/ 192).
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنِ اشْتَاقَ إِلَى الْجَنَّةِ سَارَعَ إِلَى الْخَيْرَاتِ، وَمَنْ أَشْفَقَ مِنَ النَّارِ لَهَا عَن الشَّهَوَاتِ، وَمَنْ تَرَقَّبَ الْمُوْتَ هَانَتْ عَلَيْهِ اللَّذَاتِ، وَمَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا هَانَتْ عَلَيْهِ الْمُصِيْبَاتِ"(1).
روى البخاري، وغيره عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث: "إِنّي وَاللهِ إِنْ شَاءَ اللهُ لا أَحْلِفُ عَلَى يَمِيْنٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِيْني وَأتيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْر، أَوْ أتيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْر وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِيْني"(2).
روى الشيخان، وأبو داود، والترمذي، والنسائي عن عبد الرحمن ابن سَمُرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ! لا تَسْأَلِ الإِمَارَةَ؛ فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيْتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وإنْ أُوِتيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينكَ، وَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ"(3).
وهذا الحديث والذي قبله دليل على اختيار خير الخيرين إذا تعارضا.
وقال أبو حبيب الصفدي في "تائتيه": [من البسيط]
(1) رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(10618).
(2)
رواه البخاري (6340)، ومسلم (1649).
(3)
رواه البخاري (6248)، ومسلم (1652)، وأبو داود (2929)، والترمذي (1529)، والنسائي (5384). لكن رواه أبو داود والنسائي إلى قوله:"أعنت عليها".
وَاتْرُكِ الْخَيْرَ عَلَيْهِ الشَرُّ يَرْبُوْ وَجِدْ
…
خَيْراً سِواهُ فَكَمْ لِلْخَيْرِ وَسْماتُ
والخير الذي يتولد منه الشر ويربو عليه - أي: يزيد به - ليس إلا الخير الدنيوي المحض، أو الخير الأُخروي الذي لم تصح فيه النية، وهو دنيوي، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يَأتِي الْخَيْرُ إِلا بِالْخَيْرِ"(1).
ففي "الصحيح" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أكثَرَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللهُ لَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الأَرْضِ"، قيل: ما بركات الأرض؟ قال: "زَهْرَةُ الدُّنْيَا"، فقال له رجل: هل يأتي الخير بالشر؟ فصمت النبي صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أنه ينزل عليه، ثم جعل يمسح عن جبينه قال:"أَيْنَ السَّائِلُ؟ " قال: أنا، قال أبو سعيد: لقد حمدنا حين طلع ذلك، قال:"لا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلَاّ بِالْخَيْرِ؛ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَإنَّ كُلَّ مَا أَنبَتَ الرَّبِيع يَقْتُلُ حَبَطًا، أَوْ يُلِمُّ، إِلا آكِلَةَ الْخَضِرَةِ تأكُلُ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتُهَا اسْتَقْبَلَتِ الشَمْسَ فَاجْتَرَّتْ، وَتَلَطَّتْ وَبَالَتْ، ثمَّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ، وإنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ؛ مَنْ أَخَذهُ بِحَقِّهِ وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ، فَنِعْمَ الْمَعُونَة هُوَ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ كَانَ كَالَّذِي يَأكُلُ وَلا يَشْبَعُ"(2).
وقوله: "لا يأتي الخير إلا بالخير" هو في "الصحيح" مرة.
وفي رواية الدارقطني أنه كرره ثلاث مرات، وهو جواب قول
(1) رواه البخاري (6063)، ومسلم (1052) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (6063).
القائل: "هل يأتي الخير بالشر؟ "(1).
وفي رواية: "إِنَّهُ لا يَأْتِيْ الْخَيْرُ بِالشَّرِّ"(2).
ووقع في رواية سعيد بن منصور عن سعيد المقبري مرسلاً: "أَوَ خَيْر هُوَ؟ " ثلاث مرات (3)، وهو استفهام إنكاري؛ أي: إن المال أو ما هو أعم منه من زهرة الدنيا ليس خيراً حقيقياً - وإن سُمِّيَ خيراً - كما في قوله تعالى حكايةً عن سليمان عليه السلام: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} [ص: 32]، وقوله تعالى:{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8].
وإنما يكون خيراً حقيقياً فيما يعرض له من الإنفاق في الحق، كما أنه شر حقيقي فيما يعرض له من البخل به عمن يستحقه، والإمساك عن الحق، أو من الإسراف في إنفاقه فيما لم يشرع.
ثم قال: "إِنَّ هَذا الْمالَ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ".
وفي رواية الدارقطني "وَلَكِنَّ هَذا الْمالَ"؛ أي: وغيره من زينة الدنيا، كما قال تعالى:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46] حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ" إشارة إلى أن سورة الدنيا حسنة مؤنقة للنفوس، لاهية كالبقلة الخضراء الحلوة، لكنها قد يحصل منها الضرر، فالعاقل لا يغتر بحسنها وزخرفها خشْيةً من ضررها وسمِّها، كما أوضح ذلك بقوله: "وإِنَّ
(1) وهو أيضاً مكرر ثلاث مرات في رواية مسلم (1052).
(2)
رواه البخاري (1396)، ومسلم (1052).
(3)
ورواه البخاري (2687).
كُلَّ ما يُنْبِتُ الرَّبِيع"، ونسبة الإنبات إلى الربيع مجازي، والمنبت حقيقةً هو الله تعالى اختبار أو ابتلاء.
"يَقْتُلُ حَبَطا، أَوْ يُلِمُّ".
والحبط - بفتح الحاء المهملة، والباء الموحدة، وبالطاء المهملة -: انتفاخ البطن من كثرة الأكل.
مَثَّلَ المنغمس في زهرة الدنيا بالدابة التي أصابت مرعى طيباً فلا زالت تأكل حتى امتلأ بطنها وانتفخ، فماتت، أو قاربَتْ أن تموت، ومع حصول الضرر والمحن من الدنيا لأهلها، كذلك يحصل لأهلها، جيل بعد جيل مزيد الرغبة فيها، وشدة المحبة لها لغلبة الهوى على العقل.
وقد قيل: [من الرجز]
وَآفَةُ الْعَقْلِ الْهَوَىْ فَمَنْ عَلا
…
عَلَىْ هَواهُ عَقْلُهُ نالَ الْعُلا (1)(2)
وهذا قليلٌ في الناس، والأكثرون تغلب أهويتهم على عقولهم، فيميلون مع الدنيا فتميل معهم وبهم، ثم تميل عليهم.
ومن ثم قال بعض الحكماء: عجبت ممن يرى الدنيا، ويرى صَنِيْعها بأهلها، ثم يغتر بها.
(1) في "العقد الفريد": "فقد نجا" بدل "نال العلا".
(2)
انظر: "العقد الفريد" لابن عبد ربه (2/ 105).
ولقد أخبر الله تعالى عن شدة تعلق الإنسان بالدنيا وزهرتها بحيث تحول بينه وبين طاعة ربه، وذكره وشكره بقوله:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 6 - 8]؛ الكنود: الكفور.
روى ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وعطاء، ورواه عنهم عبد الرحمن وغيره (1)، ورُوِيَ مرفوعاً من حديث أبي أمامة رضي الله عنه (2).
روى سعيد بن منصور، وابن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن الحسن رحمه الله تعالى في قوله:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات: 6] قال: لكفور يعدد المصيبات وينسى النعم (3).
وقوله: {وَإِنَّهُ} يعني: الإنسان {عَلَى ذَلِكَ} أي من نفسه {لَشَهِيدٌ} [العاديات: 7]، قال محمد بن كعب: أي شاهد على نفسه. رواه ابن أبي حاتم (4).
قلت: وشهادته على نفسه ككنوده، أما عند النظر والتحقيق يرى نفسه مقصراً في الشكر ناسياً للنعم، وأمَّا عند المصائب والشدائد يعلم أنه
(1) انظر: "تفسير الطبري"(30/ 278).
(2)
رواه الطبراني في "التفسير"(30/ 278)، والطبراني في "المعجم الكبير"(7958).
(3)
رواه الطبري في "التفسير"(30/ 278)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(10061).
(4)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(10/ 3458).
كان في نعمه لا يشكرها ولا يرعاها، فيعترف بالكُفران، ويُعاتب نفسه على ترك الشكران، ثم يرجع إلى الضراعة ويلوذ بالشفاعة، فإذا رُحِمَ وكُشِفَ عنه البلاء، ثم خول في النعماء عاد إلى الكنادة، وتعرض للنكاية، واغترَّ بالخير، وطلبه لنفسه، وضنَّ به عن أبناء جنسه، ومن ثمَّ قال تعالى:{لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت: 49].
ثم قال تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصلت: 51].
وهذا حال من غلب عليه الشر - وهم الأكثرون - بخلاف أهل الخير - وهم أقل قليل - فإنهم في المصائب والنوائب أقرب إلى الله تعالى في المقاصد والمطالب حتى تحصل لهم منه الفوائد والمطالب، وفي الرخاء والنعماء على وَجَلٍ وإشفَاق من أن يكون ذلك مكراً بهم أو نقصاً مما يرجونه من ثواب الله تعالى، لم يغترُّوا بزخرف الدنيا العاجل، ولا بخيرها المتواتر المتواصل، بل علموا أنها وإن اتصلت إلى انفصال، وطالت إلى زوال، وأنَّ الدار الآخرة هي الحيوان، وإليها مرجع كل إنسان، فإن كان قد زرع في الدنيا خيراً حصد خيراً وكرامة، وإن كان قد زرع شراً حصد شراً وندامة كما قال تعالى:{وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ} [المزمل: 20].
وقال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30]؛ أي: فكانت رأفته سبباً في هذا
التحذير، لم يدعكم غفلاً بلا بشير ولا نذير.
قال الحسن رحمه الله تعالى في قوله: {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30] قال: يسر أحدهم أن لا يلقى عمله ذلك أبدًا يكون ذلك مناه، وأما في الدنيا فقد كانت خطيئته يستلذها. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (1).
وسبب مودته أن لا يرى عمله أنه كشف له عن حقيقة قبحه، وأنَّهُ كان شراً محضاً وإن كان يراه خيراً، كما أن سبب استلذاذه لمعصيته موافقتها لهواه فزينها له الهوى، وزخرفتها له الدنيا حتى عمي عن ضررها، وُحُمِيَ بسُكْر شهوته من شررها، فتمادى في طغيانه، وانغمس في خذلانه، وكلما قربت الآخرة من الخلق كما بعدت منها أحوالهم، وطالت في الدنيا آمالهم حين طال عليهم العهد حتى كادوا أن ينكروا، بل نسُوا بالكلية الوعيد والوعد، فقست قلوبهم، وتشابهت أسرارهم، فتوافقت أعمالهم، وتشاكلت أشكالهم، فقل الخير فيهم، وكثر الشر منهم لكلمة سبقت من الله تعالى: أن السَّاعة لا تقوم إلا على شرار الناس (2).
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ شَيْءٍ يَنْقُصُ إِلا الشَّرُّ؛ فَإِنَّهُ يُزَادُ فِيْهِ".
(1) رواه الطبري في "التفسير"(3/ 231)، وابن أبي حاتم في، "التفسير"(2/ 631).
(2)
يشير إلى الحديث الذي رواه مسلم (2949) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يرفعه: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق".
رواه الإمام أحمد، والطبراني في "الكبير" بإسناد جيد، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه (1).
[وقد](2) اتفق لي قديماً مع بعض الوجوه الأكابر، وكنت قد رأيت منه ما شاكل أمثاله وأقرانه، وناسب وقته وزمانه أنه قال لي: يا مولانا! ما أكثر الشر في هذا الزمان! فقلت له: لا تعجب من الشر في هذا الزمان فإنه زمانه، ولكن إذا رأيت أحداً يعمل الخير فتعجب منه، فإنَّ هذا هو العجب، فقال لي: صدقت والله.
وقد روي قريباً من هذا المعنى ما رواه أبو نعيم عن المعافى قال: سمعت سفيان يقول: من العجز أن يظنَّ بأهل الشر الخير (3).
قلت: وهذا يحتمل معنيين:
أحدهما: ينايسب مَا قدمناه أن زمان الشر لا يطلب من أهله الخير، فإنه لا يكون منهم إلا على وجه تسخيرهم من قبل الله تعالى لمن يشاء من أوليائه لحكمةٍ باهرة خفية أو ظاهرة.
والثاني: أن من كان من عادته الظلم والفسق لا ينبغي أن يُحسن
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(6/ 441)، والطبراني في "مسند الشاميين" (1474). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 220): فيه أبو بكر بن أبي مريم، وهو ضعيف، ورجل لم يسم.
(2)
بياض في "م"، والمثبت من "ت".
(3)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 52).
الظن به ويرجو الخير منه، فإنه إلى الشر أقرب منه إلى الخيرة فإن التمر والعناب لا يجتنيان من العلقم والصاب (1)، وإن اعتبرت أكثر أهل هذا الزمان وجدت الشر غالباً عليهم، والسبب ذلك موت الأخيار، وانقطاع الخلف منهم.
روى ابن أبي شيبة عن الحسن رحمه الله تعالى قال: من أشراط الساعة، أو من اقتراب الساعة أن يأتي الموت خياركم، فيلقطهم كما يلقط أحدكم أطايب التمر من الطبق (2).
وحاصل هذا التشبيه: أن الملتقط من الطبق يلتقط خير ما فيه وأجوده، ثم خير ما بقي، ثم خير ما بقي حتى يبقى شره وأرذله، وكذلك الموت يلتقط خير الناس، ثم خير من بقي منهم وإن كان يأخذ غيرهم، فإنه ولو أخذ من الأشرار ألوفاً وممن لا غناء لهم ألوفاً لا يكاد الناس يحسُّون بهم، ولا يفتقدونهم بخلاف الأخيار إذا مات واحدٌ منهم كأنه لم يمت غيره حتى يرى الناس أنه التقط خير الموجودين، ثم خير من بعدهم، حتى قيل:[من المتقارب]
والْمَوْتُ نُقادُ عَلَىْ كَفِّهِ
…
جَواهِرَ يَخْتارُ مِنْها الْجِيادَ
وقد ألمَّ النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى وبينه بمثالٍ عظيم منطبق وصفه على وصفه، فمثل اختيار الموت خيار الناس بالمغربل، يختار خيار الحَب،
(1) الصاب: شجر، وقيل: عصارة شجر مرّ.
(2)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(35305).
ثم خياره حتى لا يبقى إلا حفالته ورذله، فقال صلى الله عليه وسلم:"يَذْهبُ الصَّالِحُوْنَ الأَوَّلُ فَالأوَّلُ، وَيَبْقَى حُفَالةٌ كَحُفَالَةِ الشَّعِيْرِ أَو التَّمْرِ لا يُبَالِيْهِمُ اللهُ تَعَالَى بَالَةً". رواه الإمام أحمد، والبخاري عن مِرْداسٍ الأسلمي رضي الله عنه، والطبراني في "الكبير" عن المستورد بن شداد رضي الله عنه (1).
وأخرج الرامهرمزي في "أمثاله" حديث مرداس، ولفظه:"يَذْهَبُ الصَّالِحُوْنَ أَسْلافاً الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ حَتَى لا يَبْقَى إِلا حُثَالةٌ كَحُثَالَةِ التَّمْرِ وَالشَّعِيْرِ لا يُبَالِي اللهُ بِهِم"(2).
المراد بالأسلاف - جمع سلف -: الفَرَط الذي يتقدم القوم لتهيئة مائهم، وذلك أن الصالح والخير إذا مات تاسف الناس عليه وتألموا لفقده، وإنما يقدمه الله تعالى ليكون سلفاً وفرطاً لأهله، أو لأصحابه، أو للمسلمين بعده.
وقوله: "الأول فالأول"؛ أي: مرتبين يتقدم الخيِّر ثم الخيِّر، والأصلح ثم الأصلح.
وقوله: "حتى لا يبقى" غاية لهذه العادة الجارية والسنة الماضية؛
أي: إنَّ هذه سنة الله تعالى في اصطفاء الأخيار إلى دار القرار حتى لا يبقى
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 193)، والبخاري (6070) واللفظ له عن مرداس الأسلمي رضي الله عنه، والطبراني في "المعجم الكبير"(20/ 302) عن المستورد بن شداد رضي الله عنه.
(2)
رواه الرامهرمزي في "أمثال الحديث"(ص: 126)، وكذا رواه الدارمي في "السنن"(2719).
بعدهم من الناس إلا حثالة.
وفي "الصحيح": حفالة - كلاهما بالحاء المهملة، وإحداهما بالمثلثة، والأخرى بالفاء -: ما لا خير فيه، أو الردي مما بقي من تمر أو شعير، أو الزؤان (1) ونحوه يكون في الطعام.
وقوله: "لا يُباليهم الله بالة": فَعْلَة من المبالاة، وهي الاكتراث بالشيء؛ أي: لا يعتني بشأنهم، ولا يكترث بأمرهم، بقوا أو ماتوا.
فهذا من طرق تمحض الناس للشر حتى تقوم عليهم الساعة.
ومن طرقه: أنَّ العبد يسمع بالخير وأهله، ومقامهم وثوابهم، فيرغب في طريقهم، ويتحرى الخير وأعمال الخير، فبينا هو في سيره إذ عرض له شاغل هوى فألهاه، وهذا حال كثير من الناس بل أكثرهم، ولذلك خاطبهم الله تعالى بقوله:{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} ، أو مانع منعه عمَّا هو فيه من مرض، أو بلاء، أو حاجة [ .... ](2) ويجزع ويسخط فيهلك، والله تعالى من عادته امتحان عباده بذلك حتى يظهر خالصهم من زيفهم.
روى الترمذي، وغيره عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا أَحَبَّ قَوْماً ابْتَلاهُم، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ"(3).
أو تأوُّلٌ يتَأَوَّلُ به ما لا يحل بما بقربه، ويحِلُّه ويرخص فيه كالمعتزل
(1) الزُّؤَانُ: حَب يكون في الطعام، ورديء الطعام أيضاً.
(2)
غير واضح في "م" و"ت" بمقدار كلمة.
(3)
رواه الترمذي (2396) وحسنه، وابن ماجه (4031).
عن شر الناس فيتأول أو يؤول له الدخول على الملوك، أو مخالطة التجار أو معاشرة الفجار، فإذا هو قد مُكِر به، فينقلب خيره شراً، أو يرجع يداه منه صِفراً، ولما كان أعظم وجوه التأويل في معاشرة الأشرار قصد نصحهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر رخصَ الشارع صلى الله عليه وسلم في ترك ذلك - كان كان في الأصل فرضاً - وذلك من باب ترك ما هو أدون الخيرين لتحصيل أعظمهما وخيرهما كما سبقت الإشارة إليه.
روى الإمام أحمد، وابن ماجه، والبيهقي في "الشعب" عن أنس رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله! متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: "إِذَا ظَهَرَ فِيْكُم مَا ظَهَرَ فِي بَنِي إِسْرَائِيْلَ قَبْلَكُم"، قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: "إِذَا كَانَ الادِّهانُ فِي خِيَارِكْم، وَالفَاحِشَةُ فِي كِبَارِكُم (1)، وَتَحوَّلَ الْمُلْكُ فِي صِغَارِكُم وَالفِقْهُ - وفي رواية: والعِلْمَ - فِي رِذالِكُمْ"(2).
وفي معنى حديث أنس رضي الله عنه حديث أبي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيِّ رحمه الله قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني رضي الله عنه فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية؟ قال: أية آية؛ قلت: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ
(1) في "شعب الإيمان": "شراركم" بدل "كباركم".
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 187)، وابن ماجه (4015)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(7555).
ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدنْيَا مُؤْثَرَةً، وإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيِ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدعْ عَنْكَ العَوَامَّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ؛ أيَّامَ الصَّبْرِ، الصَابِرُ فِيْهِنَّ مِثْلُ القَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ". رواه ابن ماجه، والترمذي، والحاكم وصححاه، وآخرون (1)، وهو حديث ثابت صحيح، من عمل به وفِّق إلى الخير والعمل به.
وروى نعيم بن حماد في "الفتن"، وأبو أحمد العسكري في "المواعظ"، وغيرهما عن حذيفة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تَزَالُ يَدُ اللهِ عَلَى هَذهِ الأُمَّةِ وَفِي كَنَفِهِ مَا لَمْ يَمِلْ قُرَّاؤُهُم إِلَى أُمَرَائِهِم، وَمَا لَمْ يُوَقِّرْ خِيَارُهُم شِرَارَهُمْ، وَمَا لَمْ يُعَظِّمْ أَبْرَارُهُم فُجَّارَهُم، فَإِذَا فَعَلُوْا ذَلِكَ رَفَعَها عَنْهُم، وَقَذَفَ فِي قُلُوْبِهُمُ الرُّعْبَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الفَاقَةَ، وَسَلَّطَ عَلَيِهِم جَبَابِرَتَهُم فَسَامُوْهُم سَوْءَ العَذَابِ".
قال: وقال حذيفة: لا يأتهم أمر يضحكون منه إلَّا رَدِفَهم أمر يشغلهم عن ذلك (2).
(1) رواه ابن ماجه (4014)، والترمذي (3058) وحسنه، والحاكم في "المستدرك"(7912)، وكذا رواه أبو داود (4341).
(2)
وذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"(1/ 88).