الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ
من الأخيار الصديقين الأبدال، ولا يكونون أبدالاً حتى يكونوا صديقين لأنهم بُدلاء عن الأنبياء عليهم السلام، فدلَّ ذلك أنَّ مرتبتهم بعد مرتبة الأنبياء، وهي مرتبه الصديقين كما عرفت، وليس كل صديق بدلًا، ولكنه قابل للبدلية.
واختلفوا في سبب تسميتهم أبدالًا (1):
فقيل: لأنهم بدلاء عن الأنبياء كما علمت.
وقيل: لأنهم يتبدلون في صور ومظاهر، ويتصرفون في أبدال متعددة (2).
(1) وهناك أقوال أخرى في سبب تسميتهم أبدالًا: منها ما رجحه ابن القيم في "طريق الهجرتين"(ص: 376) أنهم الذين بدلوا أعمالهم السيئة بالأعمال الحسنة، فبدل الله سيئاتهم التي عملوها إلى حسنات.
وذكر الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(1/ 264) قولًا آخر، وهو أنه كلما مات منهم رجل بدل مكانه آخر.
(2)
انظر: "الحبائك في أخبار الملائكة" للسيوطي (ص: 262).
وهذا غير منكر لأنه ممكن، وقد اتفق نظيره في الملائكة فإنهم يتمثلون، فكذلك كُمَّل الصديقين، ولا يتوقف في الإيمان بذلك إلا الذي يتوقف في كرامات الأولياء.
وقيل: سموا أبدالاً؛ لأن أخلاقهم تبدلت اعتبارًا بقوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48].
فأحوال الأبدال معتبرة بهذه الآية فأرضُ نفوسهم مُنْدَكَّةٌ مبدلة من الأَمَّارِّيةِ إلى اللَّوَّامِيَّة إلى الطَّمَأنِينة، وكذلك سماء قلوبهم مُبدلة من القلبية إلى الروحية إلى السرية، فنفوسهم مطمئنة لأوامر الله تعالى، زاكية تحت أحكامه، وأسرارهم مشغوفة بمحبة الله تعالى، مشغولة بخدمته ليس فيها بقية لما سواه.
وكان أبو العباس المرسي رحمه الله ينشد: [من الكامل]
لَوْ شاهَدَتْ عَيْناكَ يَوْمَ تَزَلْزَلَت
…
أَرْضُ النُّفُوْسِ وَدُكَّتِ الأَجْبالُ
لَرَأَيْتَ شَمْسَ الْحَقِّ يَسْطَعُ ضَوْؤُها
…
حِيْنَ التَزَلْزُلِ وَالرِّجالُ رِجالُ
وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري في جزء له جمع فيه من كلام أستاذه أبي علي الدقاق رحمه الله، وسمعته يقول: إن أردتَ أن تكون من جملة الأبدال فعليك بتبديل الأحوال، وتبديل الأحوال أن تبدل
ما كان من أحوالك من أحوال الأبرار بحال أشرف منه وأكمل من أحوال الأخيار، أما تبديل الأحوال القبيحة بالأحوال الحسنة، فإنه مشروط في أصل التوبة وأعمال البر.
ومما يؤيد القول الأول من هذه الأقوال الثلاثة: ما رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: إنَّ الأنبياء عليهم السلام كانوا أوتاد الأرض، فلما انقطعت النبوة أبدل الله مكانهم قوماً من أمة محمَّد صلى الله عليه وسلم قال لهم الأبدال، لم يَفْضُلوا الناس بكثرة صومٍ ولا صلاةٍ ولا تسبيح، ولكن بحسن الخلق وبصدق الورع، وحسن النية وسلامة قلوبهم لجميع المسلمين (1).
قلت: في كلام أبي الدرداء رضي الله عنه إيماء إلى القول الثالث -أيضًا- فإن حسن الخلق بدل عن سوء الخلق، وصدق الورع بدل عن ارتكاب الشُّبَهِ، والتخليط وحسن النية بدل عن العمل بلا قصد أو بالقصد السوء، وسلامة القلوب عن الحقد وإضمار السوء، فإن الاتصاف بهذه الأخلاق تدل عن الانفكاك عن أضدادها.
ويجوز أن تكون تسميتهم أبدالاً للوجهين بل للثلاثة المَحْكِيَّة في الأقوال الثلاثة.
وفي كلام أبي الدرداء -أيضًا- أن الأوتاد هم الأبدال.
واشتهر في عرف الصوفية أن الأوتاد من الأبرار وهم ثلاث مئة،
(1) رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(1/ 262).
وأن الأبدال من المقربين وهم أربعون، وقيل في عدتهم غير ذلك، والله الموفق.
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الأولياء" عن أبي الزناد رحمه الله تعالى قال: لما ذهبت النبوة، وكانوا -يعني: الأنبياء عليهم السلام أوتادَ الأرض، أَخْلَف الله مكانهم أربعين رجلًا من أمة محمَّد صلى الله عليه وسلم يُقال لهم الأبدال، لا يموت الرجل منهم حتى يُنشئ الله مكانه آخر يَخْلُفه، وهم أوتاد الأرض، قلوب ثلاثين منهم على مثل يقين إبراهيم عليه السلام، لم يفضلوا الناس بكثرة الصلاة ولا بكثرة الصيام، ولا بحسن التخشع ولا بحسن "الحلية" ولكن بصدق الورع وحسن النية، وسلامة القلوب والنصيحة لجميع المسلمين ابتغاء مرضاة الله تعالى بصبرٍ وخير ولبٍّ حليم، وتواضع في غير مذلَّة
…
إلى آخر كلامه، وسيأتي (1).
وقد جاء التصريح بأنَّ الأبدال من الصديقين فيما رواه ابن عساكر عن الحسن البصري قال: لن تخلوا الأرض من سبعين صديقًا وهم الأبدال، لا يهلك منهم رجل إلا أخلف الله مكانه مثله؛ أربعون بالشام وثلاثون في سائر الأرضين (2).
وروى الخلال في "كرامات الأولياء"، وابن عساكر عن خالد بن معدان رحمه الله قال: قالت الأرض: كيف تدعني وليس عليَّ نبي؟
(1) رواه ابن أبي الدنيا في "الأولياء"(ص: 26).
(2)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(1/ 298).
قال: سوف أفرغ عليكِ أربعين صديقًا بالشام (1).
وهي أنا قد بينا أنَّ الأبدال سموا بذلك لأنهم بُدلاء عن الأنبياء وخلف منهم، ولذلك كان مسكنهم الشام لأنها بلاد الأنبياء عليهم السلام إلا محمدًا صلى الله عليه وسلم فإنه حجازي مكي، وهو قطب الأنبياء عليهم السلام، ولذلك كان مركز قلب القطب بمكة المشرفة وإن كان ساكناً في غيرها.
وقد قيل: إنه لا يصلي الصلوات الخمس إلا بها.
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الأولياء" عن عبد الله بن صفوان قال: قال رجلٌ يوم صفين: اللهم العن أهل الشام، فقال علي رضي الله عنه: لا تسب أهل الشام جماً غفيراً؛ فإنَّ بها الأبدال، فإنَّ بها الأبدال، فإنَّ بها الأبدال (2).
وروى الإِمام أحمد وسنده حسن، عن علي رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الأَبْدَالُ [يكونون] بِالشَّامِ وَهُمْ أَرْبَعُوْنَ رَجُلاً، كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللهُ مَكَانه رَجُلاً؟ يُسْقَى بِهِمُ الغَيْثُ، وَيُنْصَرُ لَهُم عَلَى الأَعْدَاءِ، وَيُصْرَفُ عَنْ أَهْلِ الشَّامِ بِهِمُ العَذَابُ"(3).
(1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(1/ 298).
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في "الأولياء"(ص: 35).
(3)
رواه الإِمام أحمد في "المسند"(1/ 112)، وعنده:"وينتصر بهم" بدل "وينصر لهم".
قال ابن الصلاح في "فتاويه"(1/ 184): وأما الأبدال، فأقوى ما رويناه =
وروى الخلال في "كرامات الأولياء"، والديلمي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأَبْدَالُ أَرْبَعُوْنَ رَجُلًا وَأَرْبَعُوْن امْرَأَةً، كُلَّمَا مَاتَ رَجُل أَبْدَلَ اللهُ مَكَانهُ رَجُلاً، وَكُلَّمَا مَاتَت اِمْرَأة أَبْدَلَ اللهُ مَكَانهَا اِمْرَأة"(1).
وهذا الحديث فيه أنَّ في النساء أبدالاً، ولا يصح كونهن أبدالاً عن الأنبياء؛ لأن النساء لا نبيَّةَ فيهنَّ على الأصح، وإنما أبدالهن من تبدلت أخلاقهن الحسنة عن أخلاقهن السيئة.
ولا يعارض هذا حديث: "كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيْر وَلَمْ يَكْمُل مِنَ النِّسَاءِ إِلا أَرْبَع"(2)؛ فإنَّ أبدال النسوة باعتبار ما يليق بحالهن، ولا يَبْلُغن من الكمال ما بلغ الرجال إلا قليلاً لغلبة الشهوة والهوى عليهن أكثر من غلبته على الرجال.
وروى الطبراني في "الكبير" عن عوف بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم
= فيهم قول علي رضي الله عنه: أنه بالشام يكون الأبدال، وأيضًا فإثباتهم كالمجمع عليه بين علماء المسلمين وصلحائهم، وأما الأوتاد والنجباء والنقباء، فقد ذكرهم بعض مشايخ الطريقة، ولا يثبت ذلك.
قال ابن القيم في "المنار المنيف"(ص: 36): ومن ذلك أحاديث الأبدال والأقطاب والأغواث والنقباء والنجباء والأوتاد كلها باطلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرب ما فيها: "لا تسبوا أهل الشام، فإن فيهم البدلاء، كما مات رجل منهم أبدل الله مكانه رجلًا آخر، ذكره أحمد، ولا يصح أيضًا.
(1)
رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(405).
(2)
تقدم تخريجه.
أنه قال: "الأَبْدَالُ في أَهْلِ الشَّامِ، وَبِهِم يُنصَرُوْنَ وَبِهِم يُرْزَقُوْنَ"(1)؛ أي: أهل الشام هم مظنة الأبدال.
ومن شواهد هذا المعنى حديث عبد الله بن حوالة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "عَلَيْكَ بِالشَّامِ؟ فَإِنَّهَا خِيْرَةُ اللهِ مِنْ أَرْضِهِ، يَجْتَبِي إِلَيْهَا خِيرَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ".
الحديث رواه أبو داود، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم وصححه (2).
وقد روى البزار نحوه من حديث أبي الدرداء، والطبراني من حديثه، ومن حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، وإسناداهما حسنان جيدان (3).
وروى الخطيب في "تاريخه" عن أبي بكر الكتاني رحمه الله تعالى قال: "النقباء ثلاث مئة، والنجباء سبعون، والبدلاء أربعون، والأخيار سبعة، والعُمُدُ أربعة، والمغيث واحد، فمسكن النقباء المغرب،
(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(18/ 65)، وعنده:"بهم تنصرون، وبهم ترزقون" بدل "بهم ينصرون، وبهم يرزقون".
(2)
رواه أبو داود (2483)، وابن حبان في "صحيحه"(7356)، والحاكم في "المستدرك"(8556).
(3)
رواه البزار في "المسند"(4144)، والطبراني في "مسند الشاميين"(2217) عن أبي الدرداء رضي الله عنه.
ورواه الطبراني في "المعجم الكبير"(18/ 251) عن العرباض بن سارية رضي الله عنه.
ومسكن النجباء مصر، ومسكن الأبدال الشام، والأخيار سائحون في الأرض، والعُمُدُ في زوايا الأرض، ومسكن الغوث مكة، فإذا عرضت الحاجة من أمر العامة ابتهل فيها النقباء، ثم النجباء، ثم الأبدال، ثم الأخيار، ثم العُمُدُ، فإن أجيبوا وإلا ابتهل الغوث، فلا تتم مسألته حتى تُجاب دعوته" (1).
والنقباء جمع نقيب، وهو التعريف والشاهد، وكأنه أطلق النقباء على الأوتاد، وقد سبق أنهم من الأبرار، ويحتمل أن منهم شهداء.
والنجباء جمع نجيب، وهو الكريم؛ سُمَّوا نُجباء لكرمهم وتقدمهم، وهم فوق الأوتاد إلا أنهم لم يبلغوا رتبة الأبدال.
واعلم أنه كما يطلب التشبه بالأنبياء والصديقين، فكذلك يطلب التشبه بالأبدال لأنهم خيار الصديقين كما علمت، وقد تقدم في كلام أبي الدرداء وأبي الزناد جملة من أخلاقهم التي يحسن التشبه بهم فيها مثل: حسن الخلق، وصدق الورع، وحسن النية، وسلامة القلب، والنصيحة للمسلمين ابتغاء مرضاة الله تعالى، ويدخل فيها الدعاء والتوسل إلى الله تعالى في أمورهم كما يشير إليه كلام الكتاني.
وقال أبو الزناد في بقية كلامه السابق في أوصافهم: وعلم ذلك أنهم لا يلعنون أحدًا، ولا يؤذون أحدًا، ولا يتطاولون على أحد تحتهم ولا يحتقرونه، ولا يحسدون أحدًا فوقهم، ليسوا بمتخشعين ولا متهاونين ولا معجبين، لا يحبون الدنيا، ولا يحبون للدنيا، وليسوا اليوم في
(1) رواه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(3/ 75).
وحشة وغداً في غفلة (1).
وروى ابن أبي الدنيا، والحكيم الترمذي عن الحسن رحمه الله مرسلاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بُدَلاءَ أُمَّتِي لَم يَدْخُلُوْا الْجَنَّةَ بِكَثْرَةِ صَوْمٍ وَصَلاةٍ، وَلَكِنْ دَخَلُوْهَا بِرَحْمَةِ اللهِ، وَسَلامَةِ الصُّدُوْرِ، وَسَخَاوَةِ الأَنْفُسِ، وَالرَّحْمَةِ لِجَمِيع الْمُسْلِمِيْنَ"(2).
وروى ابن أبي الدنيا، والخلال عن علي رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأبدال فقال: "هُم ستُّوْنَ رَجُلاً"، فقلت: يا رسول الله! حلهم لي، قال:"لَيْسُوْا بِالْمُتَنَطّعِيْنَ ولا بِالْمُبْتَدِعِيْنَ وَلا بِالْمُتَعَجبيْنَ - وقال: الخلال عوض قوله: بالمتعمقين: ولا بِالْمُعْجَبِيْنَ - لَمْ يَنَالُوْا مَا ناَلُوْا بِكَثرةِ صَلاةٍ وَلا صِيَامٍ وَلا صَدَقَةٍ، وَلَكِنْ بِسَخَاوَةِ الأَنفسِ وَسَلامَةِ القُلُوْبِ، وَالنَّصِيْحَةِ لأُمَّتِهِم؛ إِنهم يَا عَلِيُّ في أُمَّتِي أقلَّ مِنَ الكَبْرِيْتِ الأَحْمَرِ"(3).
وروى ابن عساكر عن الحارث بن رزين رحمه الله أن الأبدال لا يكون منهم متهاون ولا طعَّان (4).
(1) تقدم تخريجه.
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في "الأولياء"(ص: 28)، والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(1/ 263) واللفظ له.
(3)
رواه ابن أبي الدنيا في "الأولياء"(ص: 12)، وعنده:"لأئمتهم" بدل "لأمتهم".
(4)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(1/ 336)، وعنده:"متماوت" بدل "متهاون".
وروى أبو نعيم، وابن عساكر عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال -وذكر الأبدال- فقال:"بِهِم يُحْيِي وُيمِيْتُ، وُيمْطِرُ وَيُنْبِتُ وَيَدْفَعُ البَلاءَ"(1).
قيل لعبد الله: كيف بهم يُحيي وُيميت؟ قال: لأنهم يسألون الله تعالى إكثار الأمم فيكثرون، ويدعون على الجبابرة فيقصمون، ويستسقون فيسقون، ويسألون فتنبت لهم الأرض، ويدعون فيدفع بهم أنواع البلاء.
وروى ابن عساكر عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ دعاةَ أمتي عَصَبُ اليمنِ، وأبدالُ الشَّامِ، وهم أربعونَ رجلًا، كلَّما هلكَ رجل أبدلَ اللهُ مكانَه رجلًا، ليسوا بالمتماوتينَ ولا المُتَهالِكينَ ولا المُتَبارِينَ، لم يبلغوا ما بلغوا بكثرةِ صَومٍ ولا صَلاةٍ، وإنَّما بَلَغُوا ذاكَ بالسَّخَاء وصِحَّةِ القُلُوبِ، والنَّصيحةِ لجميعِ المُسْلمينَ"(2).
وروى هو والطبراني وأبو نعيم، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خِيارُ أُمَّتي في كلِّ قَرْنٍ خمسُ مئةٍ، والأبدالُ أربعونَ، فلا الخمسُ مئةٍ ينقصونَ، ولا الأربعون، كلَّما ماتَ رجلٌ أبدلَ اللهُ مكانَه آخرَ! قالوا: يا رسول الله! دلنا على أعمالهم،
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 9)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(1/ 304).
(2)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(26/ 435).
قال: "يعفُونَ عمَّنْ ظَلَمَهُم، ويُحْسِنونَ إلى مَنْ أَسَاءَ إِليهِمْ، ويتواسُون فيما آتاهمُ الله"(1).
وروى أبو عبد الرحمن السلمي في "سنن الصوفية" والديلمي، عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ثلاث مَنْ كُنَّ فيه فهو مِنَ الأبدالِ الذين بهم قَوَامُ الدُّنْيا وأهلُها: الرّضا بالقضاءِ، والصَّبرُ عَنْ مَحارِمِ الله، والغضبُ في ذَاتِ اللهِ"(2).
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الأولياء" عن بكر بن خُنيس رحمه الله تعالى مرسلاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"علامةُ الأبدالِ أنّهَم لا يلعنونَ شَيئاً"(3).
وهذا معلوم مما تقدم: أن الصدِّيق لا يكون لعانًا، والأبدال من الصديقين.
وروى الأصبهاني في "الترغيب" عن حكيم بن حِزام رضي الله تعالى عنه قال: كان أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه مضجعًا بين إخوانه وقد غطَّى وجهَه، فمر عليهم قِسٌّ سمين، فقالوا: اللهم العنه فما أغلظ رقبته، فقال أبو الدرداء: من هذا الذي لعنتم آنفاً، فأخبروه، فقال: لا تلعنوا أحدًا، لا ينبغي للَّعَّان أن يكون عند الله صدِّيقًا (4).
(1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(1/ 303)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 8).
(2)
رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(2457).
(3)
رواه ابن أبي الدنيا في "الأولياء"(ص: 28).
(4)
ورواه ابن أبي الدنيا في "الصمت وآداب اللسان"(377) وعنده: "حكيم بن جابر" بدل "حكيم بن حزام".
وروى أبو نعيم عن داود بن يحيى بن يمان رحمه الله تعالى قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم، فقلت: يا رسول الله من الأبدال؟ قال: الذين لا يضربون بأيديهم شيئًا، وإنَّ وكيع بن الجراح منهم (1).
وعن أحمد بن أبي الحواري رحمه الله تعالى قال: سمعت أبا سليمان -يعني الداراني- رضي الله تعالى عنه يقول: لم يبلغ الأبدال ما بلغوا بصوم ولا صلاة، ولكن بالسخاء وشجاعة القلب وسلامة الصدر وذمِّهم أنفسهم عند أنفسهم (2).
وعن بشر بن الحارث رحمه الله تعالى: أنه سُئل عن التوكل فقال: اضطراب بلا سكون، وسكون بلا اضطراب، ثم فسره فقال: اضطراب بلا سكون: رجل ساكن إلى الله بلا حركة وهذا (3) عزيز، وهو صفة الأبدال (4).
وعن معروف الكرخي رحمه الله تعالى قال: من قال في كل يوم عشر مرات: اللهم أصلح أمة محمَّد، اللهم فرِّج عن أمة محمَّد، اللهم ارحم أمة محمَّد، كُتِبَ من الأبدال (5).
وروى الطبراني في "الكبير" عن عبادة بن الصامت (6) رضي الله عنه قال:
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 371).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(9/ 274).
(3)
في "ت": "وهو".
(4)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 351).
(5)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 366).
(6)
في "مجمع الزوائد": "أبي الدرداء" بدل "عبادة بن الصامت". وللطبراني =
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنِ اسْتَغْفَرَ لِلمُؤْمِنِيْنَ والْمُؤْمِنَاتِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعًا وَعِشْرِيْنَ مَرَّةً أَوْ خَمْسًا وَعِشْرِيْنَ مَرَّةً -أَحَدَ العَدَدينِ- كَانَ مِن الَّذِيْنَ يُسْتَجَابُ لَهُم وُيرْزَقُ بِهِم أَهْلُ الأَرْضِ"(1).
وهذه صفة الأبدال كما علم مما سبق.
وروى الشيخ نصر المقدسي في كتاب "الحجة" عن أحمد بن حنبل رحمه الله: أنه سُئِلَ: هل في الأرض أبدال؟ قال: نعم، قيل: مَنْ هم؟ قال: إن لم يكن أصحاب الحديث هم الأبدال ما أعرف لله أبدالاً (2).
وروى الخطيب في كتاب "شرف أصحاب الحديث" عن صالح ابن محمَّد الرازي أنه قال -وسأله رجل-: إذا لم يكن أصحاب الحديث هم الأبدال فلا أدري من الأبدال.
وقال: هذا كلام يزيد بن هارون ذكره عن سفيان الثوري (3).
= في "مسند الشاميين"(2155) حديث آخر عن عبادة غير هذا ولفظه: "من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة". وهو موجود في "الفتح الكبير" للسيوطي (3/ 150) قبل حديث أبي الدرداء، فكأن المصنف رحمه الله سبق نظره إليه، فأخطأ في العزو، والله أعلم.
(1)
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 210): رواه الطبراني، وفيه عثمان ابن أبي العاتكة، وثقه غير واحد وضعفه الجمهور، وبقية رجاله المسمين ثقات.
(2)
انظر: "مختصر الحجة على تارك. المحجة للشيخ نصر المقدسي"(ص: 113).
(3)
رواه الخطيب البغدادي في "شرف أصحاب الحديث"(ص: 50).
وقال الدينوري في "المجالسة": ثنا الحارث بن أبي أسامة قال: سُئِلَ يزيد بن هارون وأنا أسمع، فقيل له: مَنْ الأبدال؟ قال: أهل العلم (1).
وروى ابن أبي الدنيا، وأبو نعيم عن أبي عبد الله النباجي رحمه الله تعالى قال: إذا أحببتم أن تكونوا أبدالاً فأحبوا ما شاء الله، ومن أحبَّ ما شاء الله لم يترك من مقادير الله شيئًا إلا أحبه (2).
زاد في رواية: وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: ما استحثني أحدٌ لحاجة بمثل قوله: ما شاء الله (3).
ويشهد لما حدث به عن موسى عليه السلام: ما رواه عبد الله ابن الإِمام أحمد في "زوائد الزهد" عن يحيى بن سليم الطائفي، عن من ذكره قال: طلب موسى عليه السلام من ربه تبارك وتعالى حاجة فأبطأت عليه وأكدت، فقال:"ما شاء الله" فإذا حاجته بين يديه؛ قال: "يا رب! أنا أطلب حاجتي منذ كذا وكذا، أعطيتنيها الآن؟ " قال: فأوحى الله إليه: "يا موسى! أما علمت أن قولك: ما شاء الله أنجح ما طلبت به الحوائج؟ " وقال: الكلمة التي تزجر بها الملائكة الشياطين حين يَسْتَرِقون السمع: ما شاء الله (4).
(1) رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 55).
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في "الأولياء"(ص: 28)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(9/ 312).
(3)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(9/ 312).
(4)
رواه عبد الله ابن الإِمام أحمد في "زوائد الزهد"(ص: 68).
وروى ابن أبي حاتم عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله قال: ما سأل رجلٌ مسألة أنجح من أن يقول: ما شاء الله.
وعن عمرو بن مرة رحمه الله قال: إنَّ من أفضل الدعاء قول الرجل: ما شاء الله (1).
وقد علمت أن الدعاء من أخص أحوال الأبدال، ولهم بهذه الكلمة مزيد خصوصية لأنهم يتشبهون بالملائكة في التبدل والتشكل على قول.
ولهذه الكلمة خصوصية في تصرف الملائكة.
وللأبدال من أُولي العزم من الرسل مواريث، وهذه الكلمة من ميراثهم من موسى عليه السلام.
وروى أبو نعيم، وابن الجوزي في "الصفوة" عن أبي سعيد بن عطاء: أن الجنيد رضي الله عنه رأى فيما يرى النائم قومًا من الأبدال، فسأل: هل ببغداد أحد من الأولياء أو من الأبدال؟ فقالوا: نعم، أبو العباس ابن مسروق، قال: فقلت متعجبًا: أبو العباس بن مسروق؟ فقالوا: نعم، أبو العباس بن مسروق من أهل الأنس بالله (2).
وفيه إشارة أن الأنس بالله تعالى من أحوال الأبدال.
وروى الإِمام أحمد في "الزهد"، وابن أبي الدنيا، وأبو
(1) وانظر: "الدر المنثور" للسيوطي (5/ 391).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(15/ 214)، وابن الجوزي في "صفة الصفوة"(4/ 128).
نعيم، والبيهقي، وابن عساكر عن جليس وهب بن منبه (1) قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله! أين بُدلاء أمتك؟ فأومَأ بيده نحو الشام، قلت: يا رسول الله! أما بالعراق منهم أحد؟ قال: بلى، محمَّد بن واسع، وحسان بن أبي شيبان، ومالك بن دينار الذي يمشي في الناس بزهد أبي ذر (2).
وفيه إشارة إلى أن الزهد من أحوالهم أيضًا.
وقال حجة الإِسلام في "الإحياء": إنَّ بعضهم قال لبعض العلماء: من كل عمل قد أعطاني الله نصيبًا - حتى ذكر الحج والجهاد وغيرها -، فقال له: أين أنت من عمل الأبدال؟ قال: ما هو؟ قال: كسب الحلال والنفقة على العيال (3).
ونقل أبو طالب المكي في "القوت" عن بعضهم أنه قال في وصف الأبدال: أكْلُهم فاقة، وكلامهم ضرورة، ونومهم غلبة (4).
ونقلاً عن سهل بن عبد الله التستري رضي الله عنه أنه قال: صارت الأبدال أبدالاً بأربعة؛ قلة الكلام، وقلة الطعام، وقلة المنام، واعتزال الأنام (5).
(1) في "الزهد": "عن رجل من صنعاء" بدل "جليس وهب بن منبه".
(2)
رواه الإِمام أحمد في "الزهد"(ص: 324)، وابن أبي الدنيا في "المنامات" (ص: 77)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 114)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(1/ 301).
(3)
انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 32).
(4)
انظر: "قوت القلوب" لأبي طالب المكي (1/ 74) عن فزارة الشامي.
(5)
انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (3/ 76).