الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأيضًا، فإن العبد إذا قام في مقام الصديقية استغنى عن هؤلاء السبعة؛ لأن من أخلاقه الإنصاف من نفسه، فقد قام منه في كل مقام من الإنصاف ما أغناه عن الاحتياج إلى الخليفة فمن دونه من هؤلاء السبعة؛ لأنَّ هؤلاء السبعة إنما كانوا للتوصل إلى الإنصاف، فقد قام له في كل مقام من إنصافه ما أغناه عن مراجعة أحد من هؤلاء السبعة فيما بينه وبين الخلق، فإنه ينصف من نفسه ويعفو عن حقوقه ويُسامح بها، فلا يحتاج هو ولا من يخالطه إلى أحد من هؤلاء الأبدال، فقد قام مقام السبعة وأغنى نفسه وغيره عنهم كلهم، فبهذا الاعتبار قال أبو يزيد: أنا كل الأبدال السبعة.
*
تنبِيْهٌ:
ما تقدم في الأخبار أن الأبدال لم ينالوا ما نالوا لكثرة صلاة ولا كثرة صيام ولا كثرة صدقة، ولكن بالسخاء وسلامة الصدور والنصيحة والرحمة، هذا فيه إشارة إلى أن أعمالهم قلبية وهممهم عليَّة، وإن لم يكن لهم كثير عمل ولا مزيد اجتهاد، وأن نقصان العمل بعد تأدية الفرائض لا يضرُّهم ولا يحط من مرتبتهم.
ويؤيده ما اشتهر حتى كاد أن يكون مجمعًا عليه عند المحققين من الصوفية: أن العارف لا يَضرُّه قلة العمل إذ يكون سره قلبيًا وإلا لم يكن متحققًا بالمعرفة، والأبدال رؤوس العارفين.
وقال الجد رضي الله عنه في "الدرر اللوامع": [من الرجز]
وَصاحِبُ الْعِرْفانِ لا يُبالِي
…
إِذا ابْتُلِيْ بِقِلَّةِ الأَعْمالِ
قلت: وقد ظفرت لذلك بدليلٍ من الحديث، وهو ما رواه الطبراني في "الكبير" رحمه الله تعالى عن عبد اللُّه بن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا ابْنَ مَسْعُوْدٍ! أَيُّ عُرَى الإِيْمَانِ أَوْثَقُ؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال: لا أَوْثَقُ عُرَى الإِيْمَان الوِلايَةُ للهِ، وَالْحُبُّ في اللهِ، وَالبُغْضُ في اللهِ".
ثم قال: "يا ابْنَ مَسْعُوْدٍ! "، قلت: لبيك يا رسول الله، قال:"أتدري أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال:"فَإنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ أَفْضَلُهُم عَمَلاً إِذَا فَقهُوْا في دِيْنهِم". ثم قال: "يَا ابْنَ مَسْعُوْدٍ! "، قلت: لبيك يا رسول الله، قال:"أتدْرِي أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال:"أَعْلَمُ النَّاسِ أَبْصَرُهُم بِالْحَقِّ إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ وإنْ كَانَ مُقَصِّرًا في عَمَلِهِ، وإنْ كَانَ يَزْحَفُ عَلَى اسْتِهِ زَحْفًا"، الحديث (1).
وقد أخرجه جماعة غير الطبراني؛ منهم عبد بن حميد في "تفسيره"، والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"، وأبو يعلى في "مسنده"، والحاكم في "مستدركه" وصححه، والبيهقي في "شعبه"، وابن عساكر
(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(10531).
في "تاريخه"(1).
وهو حديث حسن، وله طرق يعضد بعضها بعضًا.
وقلت في المعنى: [من الخفيف]
أَعْلَمُ النَّاسِ أَبْصَرُ النَّاسِ بِالْحَقِّ
…
إِذا ما رَأَيْتَ فِيْ النَّاسِ خُلْفا
ذاكَ ما ضَرَّهُ كَما قَدْ رَوينا
…
نَقْصُ أَعْمالِهِ وَلَوْ سارَ زَحْفا
ومن أتمِّ ما وصف به الأبدال: ما أخبرنا شيخ الإِسلام الوالد عن أبي يحيى الأنصاري، عن العز بن الفرات الحنفي، عن أبي حفص عمر ابن الحسن المراغي، وجماعة قالوا: أنا الفخر أبو الحسن علي بن أحمد ابن عبد الواحد المقدسي -عُرف بابن البخاري- عن أبي المكارم أحمد ابن محمَّد اللبان، وأبي الحسن مسعود بن محمَّد (2) بن أبي منصور الكمال (3) قالا: أنا أبو علي الحسن بن أحمد بن الحسن الحداد، أنا أبو
(1) رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(1/ 86)، والحاكم في "المستدرك"(3790)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(9510).
(2)
لعل الصواب: "أبي الحسن مسعود بن أبي منصور بن محمَّد" كما في "سير أعلام النبلاء" للذهبي (21/ 268).
(3)
لعل الصواب: "الجمَّال" بدل "الكمال" كما في "سير أعلام النبلاء، للذهبي (21/ 268).
نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني الحافظ، أنا أبو الحسن أحمد بن محمَّد ابن مقسم، نا العباس بن يوسف الشكلي، حدثني محمَّد بن عبد الملك قال: قال عبد الباري: قلت لذي النون رحمه الله تعالى: صف لي الأبدال، قال: إنك لتسألني عن دياجي الظلم لأكشفها لك، عبد الباري! ؛ هم قومٌ ذكروا الله بقلوبهم تعظيماً له لمعرفتهم بجلاله، فهم حجج الله على خلقه، ألبسهم النور الساطع من محبته، ورفع لهم أعلام الهداية إلى مواصلته، وأقامهم مقام الأبطال لإرادته، وأفرغ عليهم الصبر عن مخالفته، وطهر أدرانهم بمراقبته، وطيبهم بطيب أهل معاملته (1)، وكساهم حُلَلًا من نسج مودته، ووضع على رؤوسهم تيجان مسرته، ثم أودعَ القلبَ من ذخائر الغيوب فهي معلقة بمواصلته، فهمومهم إليه ثائرة، وأعينهم إليه بالغيب ناظرة، وقد أعانهم على باب النظر من قُربه، وأحلهم على كراسي أطباء أهل معرفته، ثم قال: إن أتاكم عليلٌ من فقدي فداووه أو مريضٌ من فرقي (2) فعالجوه، أو خائفٌ مني فأمنوه، أو آمنٌ مني فحذروه، أو راغبٌ في مواصلتي فهنؤوه، أو راحلٌ نحوي فزودوه، أو جبانٌ في متاجرتي فشجعوه، أو آيسٌ من فضلي فعِدُوه، أو راجٍ لإحساني فبشروه، أو حَسَنُ ظن فيَّ (3) فباسطوه، أو محب لي فواظبوه، أو معظم لقدري فعظموه، أو مستوصفكم نحوي فأرشدوه، أو مسيءٌ بعد إحسانٍ فعاتبوه، ومن واصلكم فيَّ فواصلوه، ومن غاب عنكم
(1) في "حلية الأولياء": "مجاملته" بدل "معاملته".
(2)
في "حلية الأولياء": "فراقي" بدل "فرقي".
(3)
في "حلية الأولياء": "بي" بدل "في ".
فافتقدوه، ومن ألزمكم جنايةً فاحتملوه، ومن قصر في واجبِ حقي فاتركوه، ومن أخطأ خطيئةً فناصحوه، ومن مرض من أوليائي فعودوه، ومن حزن فبشروه، وإن استجار بكم ملهوفٌ فأجيروه.
يا أوليائي! لكم عاتبت، وفيَّ إياكم رغبت، ومنكم الوفاء طلبت، ولكم اصطفيت وانتخبت، ولكم استخدمت واختصصت لأني لا أحب استخدام الجبارين، ولا مواصلة المتكبرين، ولا مصافاة المخلطين، ولا محاورة (1) المخادعين، ولا قرب المعجبين، ولا مجالسة البطالين، ولا موالاة الشرهين.
يا أوليائي!
جزائي لكم أفضل الجزاء، وعطائي لكم أجزل العطاء، وبذلي لكم أفضل البذل، وفضلي عليكم أفضل الفضل، ومعاملتي لكم أوفى المعاملة، ومطالبتي لكم أشد المطالبة، أنا مُحيي (2) القلوب، وأنا علَاّم الغيوب، أنا مُراقب الحركات، أنا ملاحظ اللحظات، أنا المشرف على الخواطر، أنا العالم بمجال الفكر، فكونوا دُعاة إليَّ لا يفزعنكم دون سلطاني سواي (3)، فمن عاداكم عاديته، ومن والاكم واليته، ومن آذاكم أهلكته، ومن أحسن إليكم جازيته، ومن هجركم قَلَيته (4).
• • •
(1) في "حلية الأولياء": "مجاوبة".
(2)
في "حلية الأولياء": "مجتني".
(3)
في "حلية الأولياء": "ذو سلطان سوائي" بدل "دون سلطاني سواي".
(4)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 12).