الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
تَتِمَّةٌ:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: 70].
أراد بالخير الأول الإيمان والإخلاص، وهما لم يكونا إذ ذاك في قلوب الأسارى، وإنما المراد منه الإيمان وقصده، فإن فيهم من كان يتلجلج الإيمان [في قلبه](1)؛ كالعباس رضي الله عنه، فإذا كانت إرادة الكافر للإيمان وقصده إياه مؤثراً في تحصيل الخير، فما ظنك بالمؤمن إذا أراد الخير ونواه؟
[وقد روى](2) ابن جهضم عن عبد الله ابن الإمام أحمد رضي الله عنه قال: قلت لأبي يوماً: أوصني يا أبه، فقال: يا بني! اِنْوِ الخير؛ فإنك لا تزال بخير ما نويْتَ الخير (3).
وروى الدينوري عن عبد الله (4) بن زبيد - يعني: اليامي - قال: كان أبي يقول: يا بني! انو في كل شيء تريده الخير حتى خروجك إلى الكناسة (5).
(1) طمس في "م"، والمثبت من "ت".
(2)
طمس في "م"، والمثبت من "ت".
(3)
وانظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (1/ 133).
(4)
في "م": "عبد الرحمن".
(5)
رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(596).
وأخبرنا والدي رحمه الله تعالى عن مشايخه مشايخ الإسلام أبي يحيى زكريا الأنصاري، وأبي إسحاق البرهان بن أبي شريف، وأبي إسحاق البرهان القلقشندي، والعلامة شهاب الدين القسطلاني، عن شيخ الإسلام أبي الفضل بن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى: أنه أنشد لنفسه بعد إملاء حديث: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَاتِ" في معناه: [من الرمل]
إِنَّما الأَعْمالُ بِالنِّيَّةِ فِيْ
…
كُلِّ أَمْرٍ أَمْكَنَتْ فُرْصَتُهُ
فَانْوِ خَيْراً وَافْعَلِ الْخَيْرَ فَإِنْ
…
لَمْ تُطِقْهُ أَجْزَأَتْ نِيَّتُهُ
وفي الحديث: "نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ (1) مِنْ عَمَلِهِ". رواه البيهقي في "الشعب" عن أنس رضي الله عنه (2).
وهو عند الطبراني في "الكبير" عن سهل بن سعد رضي الله عنه، إلا أنه زاد فيه:"وَعَمَلُ الْمُنَافِقِ خَيْرٌ مِنْ نِيَّتِهِ، [وكلٌّ يعملُ على نيته] (3)، فَإِذَا عَمِلَ الْمُؤْمِنُ نارَ فِي قَلْبِهِ نُوْرٌ"(4)؛ أي: بسبب نيته الخير في عمله بخلاف
(1) في "شعب الإيمان": "أبلغ" بدل "خير".
(2)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(6859) وقال: هذا إسناد ضعيف. وذكر السخاوي شواهد له في "المقاصد الحسنة"(ص: 702) ثم قال: وهي وإن كانت ضعيفة، فبمجموعها يتقوى الحديث.
(3)
زيادة من "المعجم الكبير".
(4)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(5942). وضعف العراقي إسناده في "تخريج أحاديث الإحياء"(2/ 1171).
المنافق فإنه ينوي السوء - وإن عمل الخير ظاهراً - فيظلم قلبه.
[وروى](1) ابن أبي الدنيا في "الإخلاص والنية" عن مالك بن دينار رحمه الله قال: إنَّ للمؤمن نية في الخير [هي أمامه](2) لا يبلغها عمله [وإن للكافر](3) نية في الشر [هي أمامه](4) لا يبلغها عمله، والله يبلغ بكل ما نوى.
[وعن داود الطائي قال](5): [رأيت الخير كله إنما](6) يجمعه حسن النية، فكفاك به خيراً وإن لم [تنصب](7)(8).
[وروى أبو نعيم عن إبراهيم النخعي قال: إن الرجل ليتكلم بالكلام على كلامه المقت، ينوي به الخير، فيلقي الله له العذر في قلوب الناس حتى يقولوا: ما أراد بكلامه إلا الخير، وإن الرجل ليتكلم الكلام الحسن لا يريد به إلا الخير، فيلقي الله في قلوب الناس حتى يقولوا: ما أراد بكلامه الخير](9).
(1) بياض في "م"، والمثبت من "ت".
(2)
طمس في "م"، والمثبت من "ت".
(3)
طمس في "م"، والمثبت من "ت".
(4)
طمس في "م"، والمثبت من "ت".
(5)
طمس في "م"، والمثبت من "ت".
(6)
طمس في "م"، وسقط من "ت"، والمثبت من "قوت القلوب".
(7)
طمس في "م"، و "ت".
(8)
ذكره أبو طالب المكي في "قوت القلوب"(2/ 275).
(9)
ما بين معكوفتين طمس في "م"، والمثبت من "ت"، والأثر رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 229).
وروى الطبراني - بإسنادين أحدهما جيد - عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. "يُؤْتَى يَوْمَ القِيَامَةِ بِصُحُفٍ مَخَتَّمَةٍ، فتنْصَبُ بَيْنَ يَدَي اللهِ تَعَالَى فَيقُوْلُ: ألقُوا هَذهِ وَأَلقُوا (1) هَذهِ، فتَقُوْلُ الْمَلائِكَةُ: وَعِزَّيكَ مَا رَأَيْنَا إِلا خَيْرًا، فَيَقُوْلُ اللهُ عز وجل: إِنَّ هَذَا كَانَ لِغَيْرِ وَجْهِي وإِنِّي لا أَقْبَلُ [اليومَ مِنَ العملِ] إِلا مَا ابْتُغِيَ بِهِ وَجْهِي"(2).
وروى ابن أبي الدنيا عن أبي عمران الجون لي رحمه الله تعالى قال: بلغنا أن الملائكة عليهم السلام تصف لكتبها في السماء الدنيا كل عشية بعد العصر، فينادي الملك:"ألق تلك الصحيفة"، وينادي الملك:"ألق تلك الصحيفة"، قال: فيقولون: "ربَّنا! قالوا خيراً وحفظناه عليهم"، قال: فيقول: "إنهم لم يريدوا به وجهي، وإني لا أقبل إلا ما أُريد به وجهي"، قال: وينادي الملك الآخر: "اكتب لفلان بن فلان كذا وكذا"، قال: فيقول: "يا رب! إنه لم يعمله، يا رب! إنه لم يعمله" قال: فيقول: "إنه نواه، إنه نواه"(3).
[إن](4) حسن النية يؤول إلى خير في الدنيا كما يؤول إلى خير في
(1) في "المعجم الأوسط": "واقبلوا" بدل "وألقوا".
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(2603)، و (6133). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 350): رواه الطبراني بإسنادين، ورجال أحدهما رجال الصحيح.
(3)
ورواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 596).
(4)
بياض في "م"، والمثبت من "ت".
الآخرة، ومن هنا قيل: العبد محمول على نيته، فكثيراً ما ينوي العبد الخير فيرى الخير، وينوي الشر فيرى الشر.
[ثم إنَّه](1) يثني عليه بما في نيته فربَّ عامل خير يثنى عليه بشر ثناء لأن نيته السوء، ورب مقصر في أعمال الخير يثنى عليه بخير ثناء لأن نيته (2) الخير، فليس كل عمل مقبولاً عند الله ولا مطلقة به ألسنة عباده، ومن ثم قال الله تعالى:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105]؛ أي: فسيرى الله عملكم المقصود منكم، الموافق لحقيقة ما في سرائركم.
وقال تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84].
قال الحسن: أي: على نيته. رواه هناد بن السري، وابن المنذر (3).
والمعنى: أنَّ عمل كل عامل على مقدار شاكلته ونيته في جزائه عند الله تعالى فيما يظهره الله تعالى من حاله على ألسنة الناس، وبهذا الطريق يُطلق الله ألسنة الناس بالثناء على العبد.
وروى الإمام أحمد، وابن أبي الدنيا، وأبو يعلى، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم وصححه، والبيهقي في "الشعب" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَو أَنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ فِي صَخْرَةٍ
(1) غير واضح في "م"، والمثبت من "ت".
(2)
لعل الصواب: "نيته".
(3)
رواه هناد بن السري في "الزهد"(2/ 440)، وانظر:"الدر المنثور" للسيوطي (5/ 330).
صَمَّاءَ لَيْسَ لَهَا بَابٌ وَلا كُوَّةٌ لَخَرَجَ عَمَلُهُ لِلنَّاسِ كَائِناً مَا كَان" (1)؛ أَيْ: مِنْ خَيْرٍ أَو شَرٍّ.
والكوة - بفتح الكاف وضمها -: الخرق في الحائط، ويقال بغير هاء، أو يختص المذكر بالكبير، والمؤنث بالصغير كما في "القاموس"(2).
جمع صلى الله عليه وسلم بين الباب والكوة مبالغة في أن لا منفذ لتلك الصخرة الصَّماء التي لو فرض أن الله تعالى خلق فيها آدمياً يعمل ويسَّر عمله لأخرج الله تعالى عمله للناس على ألسنة الناس.
وروى ابن أبي الدنيا وغيره عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: ما من عبدٍ يسرُّ سريرةً إلا ردَّاه الله رداءها علانية؛ إن خيراً فخير، وإن شراً فشر (3).
أي: إن كان ما يسره خيراً فرداؤه بين الناس خير، وإن كان ما يسره شراً فرداؤه شر.
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 28)، وأبو يعلى في "المسند"(1378)، وابن حبان في "صحيحه"(5678)، والحاكم في "المستدرك"(7877)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(6940).
(2)
انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 1713)(مادة: كوي).
(3)
ورواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(5/ 1458) مع اختلاف في اللفظ.
وروى نحوه ابن المبارك في "الزهد"(2/ 17)، وأبو داود في "الزهد"(1/ 104) موقوفا من قول عثمان رضي الله عنه.
استعار الرداء للثناء، والتردية للزوم ذلك الثناء ذلك العبد وسبوغه عليه كما يلزم الثوب لابسه، ويسبغ عليه.
[وروى الدينوري عن مسعر رضي الله عنه: أنه قال:
إذا المرء أخفى الخير مكتتماً له
…
فلا بد أن الخير يوماً سيظهر
ويكس رداءً بالذي هو عامل
…
كما يرفع الثوب الرفيع المشهر] (1)
وروى الحكيم الترمذي في "نوادره" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِكُل عَبْدٍ صِيْتٌ؛ فَإِنْ كَانَ صَالِحًا وُضعَ فِي السماء (2)، وَإِنْ كَانَ مُسِيْئاً وُضعَ فِي الأَرْضِ"(3).
والصيت: الذكر الحسن، واقتصر عليه في "القاموس"(4).
ويحتمل أن يكون في الذكر السيئ أيضاً، والحديث يدلُّ عليه.
ويحتمل أنه أُطلق على الذكر السيئ مجازاً على سبيل التهكم.
(1) ما بين معكوفين طمس في "م"، والمثبت من "ت"، والأثر رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم" (ص: 512 - 513).
(2)
في "م" و "ت": "الأرض".
(3)
رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(2/ 226).
(4)
انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 199)(مادة: صوت).
وكذلك الثناء هو حقيقة في الخير، ومن أهل اللغة من يقول: هو حقيقة في الشر أيضاً، ومنهم من يقول: مجاز فيه.
وإنما سُمي الصيت صِيْتاً لأن الأصوات ترفع به في الناس، وفي طبيعة كل إنسان محبة الثناء الحسن وحسن الصيت.
وإنما يحسن هذا منه إذا أحبَّ أن يكون الثناء الحسن دليلاً على إرادة الله تعالى الخير فيحمد الله تعالى ويشكره، لا على وجه محبة المحمدة من الناس وطلب الإقبال لنفسه منهم عليه، فإنَّ هذا يدخل في حدود الرياء، وإذا كان هذا مما جُبل عليه الإنسان، وكماله أن يحبه لإخوانه المؤمنين أيضاً.
كما يدخل ذلك في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يَسْتكمِلُ عَبْدٌ الإِيْمَانَ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيْهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ". رواه أبو نعيم في "معرفة الصحابة" عن أبي مليكة الذِّماري رضي الله عنه (1).
فإذا علم من أحدٍ خيرًا، وعلم أن الثناء عليه بما يعلم منه ينفعه أو يدفع عنه شراً، فقد وجب عليه أن يثني عليه ويعرف حقه.
روى أبو نعيم في "الحلية" عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَنْ تَزَالُوا بِخَيْرٍ مَا أَحْبَبْتُمْ خِيَارَكُم وَعَرَفْتُم لَهُم الْحَقَّ (2)؛
(1) رواه أبو نعيم في "معرفة الصحابة"(6/ 3021).
(2)
في "حلية الأولياء": "وما قيل فيكم بالحق فعرفتموه" بدل "وعرفتم لهم الحق".
فَإنَّ العَارِفَ بِالْحَقِّ كَالعَامِلِ بِه" (1).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُم"، وهو في "صحيح مسلم"، وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها (2).
لا يجوز لك أن تثني على أهل الشر بالخير؛ فإنَّ هذا جفاء، وعجز، ومُراءاة، وزُور، ونفاق خصوصاً إذا فضلت أهل الشر، وأظهرت مزيتهم على أهل الخير؛ فإنه مكابرة في الفسوق والنفاق، كما حكى الله تعالى ذلك عن أهل الكتاب بقوله:{وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 51].
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 210) موقوفاً من قول أبي الدرداء رضي الله عنه، ورواه في "أخبار أصبهان"(2/ 426) مرفوعاً.
(2)
ذكره مسلم في "مقدمة صحيحه"(1/ 6) معلقاً، ورواه أبو داود (4842) وقال: ميمون لم يدرك عائشة رضي الله عنها. وتعقبه ابن الصلاح في "صيانة صحيح مسلم"(ص: 84) فقال: قد حكم الحاكم أبو عبد الله الحافظ في كتابه "معرفة علوم الحديث" بصحته، وأخرجه أبو داود في "سننه" بإسناده منفرداً به، وذكر أن الراوي عن عائشة رضي الله عنها، ميمون بن أبي شبيب، لم يدركها، وفيما قاله أبو داود توقف ونظر، فإنه كوفي متقدم قد أدرك المغيرة ابن شعبة، ومات المغيرة قبل عائشة رضي الله عنها، وعند مسلم التعاصر مع إمكان التلاقي كاف في ثبوت الإدراك، فلو ورد عن ميمون هذا أنه قال: لم ألق عائشة أو نحو هذا، لاستقام لأبي داود الجزم بعدم إدراكه، وهيهات ذلك، والله أعلم.