الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الذكر عقب الصلاة
الحديث الأول
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس: "كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته".
وفي لفظ: "ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير".
فيه دليلٌ على استحباب رفع الصوت بالذكر عقب المكتوبة.
* * *
الحديث الثاني
عن وارد مولى المغيرة بن شعبة قال: "أملى عليَّ المغيرة بن شعبة في كتابٍ إلى معاوية: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) ، ثم وفدت بعد على معاوية فسمعته يأمر الناس بذلك".
وفي لفظ: "كان ينهى عن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال، وكان ينهي عن عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات".
قوله: ((ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) ؛ أي: لا ينفع ذا الحظ حظه، وإنما ينفعه العمل الصالح كما قال - تعالى -:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وقال - تعالى -:{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَاّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88- 89]، وإضاعة المال: بذلُه في غير مصلحة دينية ولا دنيوية.
قال ابن دقيق العيد: وأمَّا كثرة السؤال ففيه وجهان: أحدهما: أن يكون ذلك راجعًا إلى الأمور العلمية، وقد كانوا يكرهون تكلُّف المسائل التي لا تدعو الحاجة إليها، وفي حديث معاوية:"نهى الله عن الأغلوطات"؛ وهي شداد المسائل وصعابها، وإنما كان ذلك مكروهًا لما يتضمَّن كثيرًا من التكلُّف في الدين والتنطُّع والرجم بالظن من غير ضرورة تدعو إليه، مع عدم الأمن من العثار وخطأ الظن، والأصل المنع من الحكم بالظن إلا أن تدعو الضرورة إليه.
الوجه الثاني: أن يكون ذلك راجعًا إلى سؤال المال، وقد وردت أحاديث في تعظيم مسألة الناس، انتهى.
قال الحافظ: والأَوْلَى حَمْلُه على العموم.
قوله: "وكان ينهي عن عقوق الأمهات ووأد البنات"؛ أي: قتلهن.
"ومنع وهات"؛ أي: منع ما أمر ببذله، وسؤال ما ليس له، وحكم اختصاص الأم بالذكر إظهار لعِظَم حقها، والعقوق محرَّم في حق الوالدين جميعًا.
وفي لفظ: ((إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات ومنعًا وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)) .
قال الحافظ: وفي الحديث استحباب هذا الذكر عقب الصلوات؛ لما اشتمل عليه من ألفاظ التوحيد، ونسبة الأفعال إلى الله، والمنع والإعطاء وتمام القدرة، وفيه المبادرة إلى امتثال السنن وإشاعتها.
* * *
الحديث الثالث
عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن فقراء المسلمين
أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالدرجات العُلَى والنعيم المقيم، قال:((وما ذاك؟)) ، قالوا: يصلُّون كما نصلِّي، ويصومون كما نصوم، ويتصدَّقون ولا نتصدَّق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفلا أعلِّمكم شيئًا تدركون
به مَن سبقكم، وتسبقون من بعدكم، ولا يكون أحدٌ أفضل منكم إلا مَن صنع مثل ما صنعتم)) ، قالوا: بلى يا رسول الله، قال:((تسبِّحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة)) ، قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين فقالوا: يا رسول الله، سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء)) ، قال سمي: فحدَّثت بعض أهلي بهذا الحديث فقال: وهمت، إنما قال:((تسبح الله ثلاثًا وثلاثين، وتحمد الله ثلاثًا وثلاثين، وتكبر الله ثلاثًا وثلاثين)) ، فرجعت إلى أبي صالح فذكرت له ذلك فقال:"الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، حتى يبلغ من جميعهن ثلاثًا وثلاثين".
"الدثور": جمع دثر هو المال الكثير قوله: ((تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين)) ، قال الحافظ: يحتمل أن يكون المجموع للجميع فإذا وُزِّع كان بكلِّ واحد إحدى عشرة، والأظهر أن المراد أن المجموع لكل فرد فرد؛ أي: تسبحون خلف كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وتحمدون كذلك، وتكبرون كذلك، انتهى.
قلت: ويؤيِّده ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن سبَّح الله دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وحمد الله ثلاثًا وثلاثين، وكبر الله ثلاثًا وثلاثين، فتلك تسع وتسعون وقال تمام المائة: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، غُفِرت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر)) .
قال الحافظ: وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدَّم أن العالِم إذا سُئِل عن مسألة يقع فيها الخلاف أن يجيب بما يلحق به المفضول درجة الفاضل، ولا يجيب بنفس الفاضل لئلَاّ يقع الخلاف، وفيه التوسعة في الغبظة والفرق بينهما وبين الحسد المذموم، وفيه المسابقة إلى الأعمال المحصلة للدرجات العالية لمبادرة الأغنياء إلى العمل بما بلَغَهم، وفيه أن العمل السهل قد يدرك به صاحبه فضل العمل الشاق، وفيه أن العمل القاصر قد يساوي المتعدِّي.
* * *
الحديث الرابع
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلمَّا انصرف قال:((اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وأتوني بأنبجانية أبي جهم؛ فإنها ألهتني آنفًا عن صلاتي)) .
((الخميصة)) : كساء مربع له أعلام، ((والأنبجانية)) : كساء غليظ.
قال ابن دقيق العيد: فيه دليل على جواز لباس الثوب ذي العلم، وعلى أن اشتغال الفكر يسيرًا غير قادح في الصلاة، وفيه دليلٌ على طلب الخشوع في الصلاة والإقبال عليها، ونفي ما يقتضي شغل الخاطر بغيرها، انتهى.
وقال شيخنا سعد بن عتيق - رحمه الله تعالى -: في الحديث دليلٌ على جواز الكلام بعد السلام قبل الذكر والدعاء، والله أعلم.