الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دفعها، انتهى.
وقال الحافظ بعد ما شرح هذا الحديث فأجاد وأفاد: وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدَّم، السؤال عن حكم ما يفعله المرء مخالفًا للشرع، والتحدُّث بذلك لمصلحة معرفة الحكم، واستعمال الكناية فيما يستقبح ظهوره بصريح لفظه؛ لقوله: وقعت، وأصبت، وفيه الرفق بالمتعلِّم، والتلطُّف في التعليم، والتألُّف على الدين، والندم على المعصية، واستشعار الخوف، وفيه الجلوس في المسجد لغير الصلاة من المصالح الدينية كنشر العلم، وفيه جواز الضحك عند وجود سببه، وإخبار الرجل بما يقع منه مع أهله للحاجة، وفيه الحلف لتأكيد الكلام، وقبول قول المكلَّف مما لا يطَّلع عليه إلا من قِبَله؛ لقوله في جواب قوله:"أفقر منَّا": ((وأطعمه أهلك)) ، ويحتمل أن يكون هناك قرينة لصدقه، وفيه التعاون على العبادة والسعي في خلاص المسلم، وإعطاء الواحد فوق حاجته الراهنة، وإعطاء الكفَّارة أهل بيت واحد انتهى، والله أعلم.
باب الصوم في السفر وغيره
الحديث الأول
عن عائشة رضي الله عنها أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام، قال:((إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر)) .
فيه دليلٌ على التخيير بين الصوم والفطر في السفر، وأخرج أبو داود والحاكم من طريق محمد بن حمزة بن عمرو عن أبيه أنه قال: يا رسول الله، إني صاحب ظهر أعالجه أسافر وأَكْرِيه، وإنه ربما صادَفَني هذا الشهر - يعني: رمضان - وأنا أجد القوَّة، وأجدني أن أصوم أهون عليَّ من أن أؤخِّر فيكون دَيْنًا علي، فقال:((أي ذلك شئت يا حمزة)) .
* * *
الحديث الثاني
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كنَّا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم".
فيه دليل على التخيير في رمضان للمسافر بين الإفطار والصوم، وفي حديث أبي سعيد عند مسلم:"كنَّا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجد الصائم على المفطر والمفطر على الصائم، يرون أن مَن وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، ومَن وجد ضعفًا فأفطر أن ذلك حسن"، قال الحافظ: وهذا التفصيل هو المعتَمَد وهو نصٌّ رافع للنزاع.
* * *
الحديث الثالث
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حرٍّ شديد، حتى إذا كان أحدنا لَيضع يده على رأسه من شدَّة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة".
قال الحافظ: فيه ردٌّ على مَن قال: مَن سافر في شهر رمضان امتنع عليه الفطر، وفيه دليلٌ على أن لا كراهية في الصوم في السفر لِمَن قوي عليه ولم يصبه منه مشقَّة شديدة.
وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على نهرٍ من ماء السماء والناس صيام في يوم صائف مشاة ونبي الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له فقال: ((اشربوا أيها الناس)) ، قال: فأبوا، قال:((إني لست مثلكم، إني آمركم إني راكب)) ، فأبوا، فثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذه فنزل فشرب وشرب الناس وما كان يريد أن يشرب؛ رواه أحمد.
* * *
الحديث الرابع
عن جابر رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى زحامًا ورجلاً قد ظلل عليه، فقال:((ما هذا؟)) ، قالوا: صائم، قال:((ليس من البر الصيام في السفر)) .
وفي لفظٍ لمسلم: ((عليكم برخصة الله التي رخَّص لكم)) .
قوله: ((ليس من البر الصيام في السفر)) ، قال ابن دقيق العيد: أُخِذ من هذه القصة أن كراهة الصوم في السفر مختصَّة بِمَن هو في مثل هذه الحالة ممَّن يجهده الصوم ويشقُّ عليه، أو يؤدِّي به إلى ترك ما هو أَوْلَى من الصوم من وجوه القُرَب.
وقوله: ((عليكم برخصة الله التي رخَّص لكم)) دليلٌ على أنه يستحب التمسُّك بالرخصة إذا دعت الحاجة إليها، ولا تترك على وجه التشديد والتنطُّع والتعمق انتهى، وبالله التوفيق.
* * *
الحديث الخامس
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فمنَّا الصائم ومنَّا المفطر، قال: فنزلنا منزلاً في يوم حار، وأكثرنا ظلاًّ صاحب الكساء، فمنَّا مَن يتَّقي الشمس بيده، قال: فسقط الصوَّامون وقام المفطِرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ذهب المفطرون اليوم بالأجر)) .
فيه دليلٌ على جواز الصوم في السفر وفضيلة الإفطار لِمَن يخدم أصحابه.
* * *
الحديث السادس
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان يكون عليَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان".
فيه دليلٌ على جواز تأخير قضاء رمضان إلى شعبان، وقال ابن عباس: لا بأس أن يفرق لقوله - تعالى -: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] .
قال الحافظ: وفي الحديث دليلٌ على جواز تأخير قضاء رمضان مطلقًا سواء كان لعذر أو لغير عذر، ويؤخَذ من حرصها على ذلك في شعبان أنه لا يجوز تأخير القضاء حتى يدخل رمضان آخر، انتهى.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "مَن فرَّط في صيام رمضان حتى أدركه رمضان آخر فليصم هذا الذي أدركه ثم ليصم ما فاته ويطعم مع كل يوم مسكينًا"؛ رواه الدارقطني.
* * *
الحديث السابع
عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن مات وعليه صيام صام عنه وليُّه)) .
وأخرجه أبو داود وقال: هذا في النذر خاصة وهو قول أحمد بن حنبل.
* * *
الحديث الثامن
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم شهر،
أفأقضيه؟ قال: ((لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟)) ، قال: نعم، قال:((فدين الله أحق أن يُقضَى)) .
وفي رواية: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال:((أفرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان يؤدِّي ذلك عنها؟)) ، قالت: نعم، قال:((فصومي عن أمك)) .
قوله: ((مَن مات وعليه صيام صام عنه وليُّه)) ، قال الحافظ: خبر بمعنى الأمر تقديره فليصم عنه وليه، وليس هذا الأمر على الوجوب عند الجمهور.
وقد اختلف السلف في هذه المسألة؛ فأجاز الصيامَ عن الميت أصحابُ الحديث، وعلَّق الشافعي في القديم القول به على صحَّة الحديث وهو قول أبي ثور وجماعة من محدثي الشافعية.
وقال البيهقي في "الخلافيات": هذه المسألة ثابتة لا أعلم خلافًا بين أهل الحديث في صحتها فوجب العمل بها، ثم ساق بسنده إلى الشافعي قال: كل ما قلت وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه فخذوا بالحديث ولا تقلِّدوني، وقال الشافعي في الجديد ومالك وأبو حنيفة: لا يُصام عن الميت.
وقال الليث وأحمد وإسحاق وأبو عبيد: لا يُصام عنه إلا النذر؛ حملاً للعموم الذي في حديث عائشة على المقيد في حديث ابن عباس، وليس بينهما تعارض حتى يجمع بينهما؛ فحديث ابن عباس صورة مستقلَّة سأل عنها مَن وقعت له، وأمَّا حديث عائشة فهو تقرير قاعدة عامة، وقد وقعت الإشارة في حديث ابن عباس إلى نحو هذا العموم حيث قال في آخره:((فدين الله أحق أن يُقضَى)) .
وأمَّا رمضان فيطعم عنه، ومعظم المجيزين للصيام لم يوجبوه، وإنما قالوا: يتخيَّر الولي بين الصيام والإطعام، انتهى ملخصًا.
وقال النووي: اختلف العلماء فيمَن مات وعليه صوم واجب من رمضان أو قضاء أو نذر أو غيره هل يقضى عنه؛ وللشافعي في المسألة قولان مشهوران:
أشهرهما لا يصام عنه، ولا يصح عن ميت صوم أصلا، والثاني: يستحب لوليه أن يصوم عنه ويبرأ به الميت ولا يحتاج إلى إطعام، وهذا القول هو الصحيح المختار الذي نعتقده، وهو الذي صحَّحه محققو أصحابنا الجامعون بين الفقه والحديث لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة، انتهى.
وقال الشوكاني: ظاهر الأحاديث أنه يصوم عنه وليُّه وإن لم يوصِ بذلك، وأن مَن صدق عليه اسم الولي لغةً أو شرعًا أو عرفًا صام عنه، ولا يصوم عنه مَن ليس بولي، انتهى، والله أعلم.
* * *
الحديث التاسع
عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال الناس بخيرٍ ما عجَّلوا الفطر وأخَّروا السحور)) .
فيه دليلٌ على استحباب تعجيل الإفطار بعد تحقُّق غروب الشمس، وتأخير السحور.
قوله: ((ما عجَّلوا الفطر)) (ما) ظرفية؛ أي: لا يزال الناس بخير مُدَّة فعلهم ذلك امتثالاً للسنة واقفين عند حدِّها غير متنطِّعين بعقولهم ما يغير قواعدها، وزاد أبو هريرة في هذا الحديث:"لأن اليهود والنصارى يؤخِّرون"؛ أخرجه أبو داود.
ولابن حبان والحاكم من حديث سهل: ((ولا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم)) .
قال الحافظ: من البدع المنكرة ما أحدث في هذا الزمان من إيقاع الأذان الثاني قبل الفجر بنحو ثلث ساعة في رمضان، وإطفاء المصابيح التي جعلت علامة
لتحريم الأكل والشرب على مَن يريد الصيام زعما ممَّن أحدثه أنه للاحتياط في العبادة ولا يعلم بذلك إلا آحاد الناس، وقد جرَّهم ذلك إلى أن صاروا لا يؤذِّنون إلا بعد الغروب بدرجةٍ لتمكين الوقت - زعموا - فأخَّروا الفطر وعجَّلوا السحور وخالَفوا السنة؛ فلذلك قلَّ عنهم الخير وكثر فيهم الشر، والله المستعان.
* * *
الحديث العاشر
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إذا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا فقد أفطر الصائم)) .
فيه دليل على استحباب تعجيل الفطر إذا تحقَّق غروب الشمس.
قوله: ((إذا أقبل الليل من ها هنا)) ؛ أي: من جهة المشرق ((وأدبر النهار من ها هنا)) ؛ أي: من جهة المغرب، وعند البخاري:((وغربت الشمس فقد أفطر الصائم)) ؛ أي: قد حلَّ له الفطر.
قال ابن دقيق العيد: الإقبال والإدبار مثلا زمان؛ أعني: إقبال الليل وإدبار النهار، وقد يكون أحدهما أظهر للعين في بعض المواضع فيستدلُّ بالظاهر على الخفي، كما لو كان في جهة المغرب ما يستر البصر عن إدراك الغروب وكان المشرق ظاهرًا بارزًا فيستدلُّ بطلوع الليل على غروب الشمس، انتهى.
* * *
الحديث الحادي عشر
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال، قالوا يا رسول الله: إنك تواصل، قال:((إني لست مثلكم؛ إني أطعم وأسقى)) ؛ رواه أبو هريرة وعائشة وأنس بن مالك رضي الله عنهم.
ولمسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ((فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر)) .