الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الزكاة
الحديث الأول
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: ((إنك ستأتي قومًا أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تُؤخَذ من أغنيائهم فتُرَدُّ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتقِ دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) .
الزكاة أحد أركان الإسلام، وهي واجبة بالكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله - تعالى -:{وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]، وقال - تعالى -:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] .
قوله: ((إنك ستأتي قومًا أهل كتاب)) هي كالتوطئة للتوصية لتستجمع همته عليها؛ لكون أهل الكتاب أهل علم في الجملة، فلا تكون العناية في مخاطبتهم كمخاطبة الجهَّال من عبَدَة الأوثان.
قوله: ((فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله)) ، قال ابن دقيق العيد: وفي الحديث البداءة بالمطالبة بالشهادتين؛ لأن ذلك أصل الدين الذي لا يصحُّ شيء من فروعه إلا به، فمَن كان
منهم غير موحِّد على التحقيق كالنصارى فالمطالبة متوجِّهة إليه بكل واحدة من الشهادتين عينًا، ومَن كان موحِّدًا كاليهود فالمطالبة له بالجمع بين ما أقرَّ به من التوحيد وبين الإقرار بالرسالة، وإن كان هؤلاء اليهود الذين باليمن عندهم ما يقتضي الإشراك ولو باللزوم، يكون مطالبتهم بالتوحيد لنفي ما يلزم من عقائدهم، وقد ذكر الفقهاء
أن مَن كان كافرًا بشيء مؤمنًا بغيره لم يدخل في الإسلام إلا بالإيمان بما كفر به، انتهى.
قوله: ((فإن هم أطاعوا لك بذلك)) ؛ أي: شهدوا وانقادوا ((فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة)) فيه البداءة بالأهم فالأهم، وذلك من التلطُّف في الخطاب؛ لأنه لو طالَبَهم بالجميع في أوَّل مرَّة لم يأمن النفرة.
قوله: ((فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تُؤخَذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)) فيه دليل على جواز إخراج الزكاة في صنف واحد.
قوله: ((فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم)) قال ابن دقيق العيد: ويدل الحديث على أن كرائم الأموال لا تؤخذ من الصدقة كالأكولة والربا، وهي التي تربي ولدها، والماخض: وهي الحامل، وفحل الغنم وحزارات المال، وهي التي تحزر بالعين وترمق لشرفها عند أهلها، والحكمة فيه أن الزكاة وجبت مواساة للفقراء من مال الأغنياء ولا يناسب ذلك الإجحاف بأرباب الأموال فسامَح الشرع أرباب الأموال بما يضنُّون به ونهى المصدِّقين عن أخذه، انتهى.
قوله: ((واتقِ دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) ؛ أي: إنها مقبولة ليس لها صارف يصرفها ولا مانع.
وعن أبي هريرة مرفوعًا: ((دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرًا ففجوره على نفسه)) ؛ أخرجه أحمد.
وفي الحديث تنبيهٌ على المنع من جميع الظلم، والنكتة في ذكره عقب المنع من أخذ الكرائم الإشارة إلى أن أخذها ظلم.
قال الحافظ: وفي الحديث أيضًا الدعاء إلى التوحيد قبل القتال وتوصية الإمام عامله فيما يحتاج إليه من الأحكام وغيرها، وفيه بعث السعاة لأخذ الزكاة وقبول
خبر الواحد ووجوب العمل به، وفيه أن الزكاة لا تُدفَع إلى الكافر لعود الضمير في فقرائهم إلى المسلمين، انتهى.
وقال عياض: فيه إيجاب الزكاة في مال الصبي والمجنون؛ لعموم قوله: ((من أغنيائهم)) .
وقال البغوي: فيه أن المال إذا تلف قبل التمكُّن من الأداء سقطت الزكاة لإضافة الصدقة إلى المال.
تنبيه:
لم يذكر الصوم والحج في هذا الحديث وهما من أركان الإسلام؛ لأن الكلام في الدعاء إلى الإسلام، فاكتفى بالأركان الثلاثة: الشهادة والصلاة والزكاة؛ لأن كلمة الإسلام هي الأصل وهي شاقَّة على الكفار، والصلوات شاقَّة لتكرُّرها، والزكاة شاقَّة لما في جبلَّة الإنسان من حب المال، فإذا أذعن المرء لهذه الثلاثة كان ما سواها سهلاً عليه بالنسبة إليها، والله أعلم.
* * *
الحديث الثاني
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس فيما دون خمس أواقٍ صدقة، ولا فيما دون خمس ذود صدقة، ولا فيما دون خمسة أوسق صدقة)) .
فيه دليلٌ على اعتبار النصاب وسقوط الزكاة فيما دون ذلك.
وفي رواية للبخاري: ((ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة، وليس فيما دون خمس أواقٍ من الورق صدقة، وليس فيما دون خمس ذَوْدٍ من الإبل صدقة)) .
وفي روايةٍ لمسلم: ((ليس فيما دون خمسة أوساق من ثمر ولا حب صدقة)) ، ((الوسق)) : ستون صاعًا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم و ((الأوقية)) : أربعون درهما، و ((عشرة الدراهم)) : سبعة مثاقيل.
* * *
الحديث الثالث
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة)) ، وفي لفظ:((إلا زكاة الفطر في الرقيق)) .
فيه دليلٌ على عدم وجوب الزكاة في الخيل والعبيد إذا كان ذلك لغير التجارة.
وعن عليٍّ مرفوعًا: ((قد عفوت عن الخيل والرقيق، فهاتوا صدقة الرقة)) ؛ رواه أبو داود.
وقال البخاري: وقال الزهري في المملوكين للتجارة: يزكي في التجارة، ويزكي في الفطر.
قال الحافظ: وما نقله البخاري عن الزهري هو قول الجمهور.
* * *
الحديث الرابع
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((العَجْمَاء جُبَار، والبئر جُبَار، والمَعْدِن جُبَار، وفي الرِّكَاز الخمس)) ، الجُبَار: الهَدَر الذي لا شيء فيه، و ((العجماء)) : الدابة، سميت البهيمة عجماء؛ لأنها لا تتكلم.
وفي الحديث دليلٌ على أنه لا ضمان على أحد في شيء مما ذُكِر إذا لم يكن منه تسبُّب ولا تغرير.
وعن البراء بن عازب - رضي اله عنه - قال: "كانت له ناقة ضاربة فدخلت حائطًا فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها، وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها، وأن على أهل المواشي ما أصابت ماشيتهم بالليل"؛ أخرجه الشافعي وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
قوله: ((وفي الركاز الخمس)) ، ((الركاز)) : هو المال المدفون، قال البخاري وقال مالك وابن إدريس: الركاز دفن الجاهلية في قليله وكثيرة والخمس، وليس المعدن بركاز.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((في المعدن جُبَار وفي الركاز الخمس)) ، وأخذ عمر بن عبد العزيز من المعادن من كل مائتين خمسة انتهى.
* * *
الحديث الخامس
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة، فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد
والعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما ينقم ابن جميل إلَاّ أن كان فقيرًا فأغناه الله - تعالى - وأمَّا خالد فإنكم تظلمون خالدًا؛ فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، وأمَّا العباس فهي عليَّ ومثلها)) ، ثم قال:((يا عمر، أمَا علمت أن عم الرجل صِنْوُ أبيه)) .
قوله: ((ما ينقم)) ؛ أي: ما ينكر.
قوله: ((وأعتاده)) هو ما يعدُّه الرجل من الدواب والسلاح.
قوله: ((فهي علي ومثلها)) ؛ أي: هي عندي قرض، لأنني استسلفت منه صدقة عامين، ويؤيِّد ذلك ما أخرجه الخمسة إلا النسائي عن علي رضي الله عنه أن العباس بن عبد المطلب سأل النبي صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحلَّ، فرخَّص له في ذلك.
قوله: ((فإنكم تظلمون خالدًا)) ؛ أي: بنسبتكم إياه إلى المنع وهو لم يمنع، وكيف يمنع الفرض وقد تطوَّع بتحبيس سلاحه وخيله في سبيل الله؟ واستدلَّ بقصة خالد على مشروعية تحبيس الحيوان والسلاح، وأن الوقف يجوز بقاؤه تحت يد محتبِسه، وعلى صرف الزكاة إلى صنف واحد من الثمانية، وفيه دليلٌ على وجوب الزكاة في عروض التجارة.
قوله: ((يا عمر، أمَا علمت أن عمَّ الرجل صِنْوُ أبيه)) (الصنو) : المِثْل، وأصله في النخل أن يجمع النخلتين أصلٌ واحد؛ قال - تعالى -:{وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4] .
قال الحافظ: وفي الحديث بعث الإمام العمَّال لجباية الزكاة، وتنبيه الغافل على ما أنعم الله به من نعمة الغنى بعد الفقر ليقوم بحق الله عليه، والعيب على مَن منع الواجب وجواز ذكره في غيبته بذلك، وتحمُّل الإمام عن بعض رعيته ما يجب عليه، والاعتذار عن بعض الرعية بما يسوغ الاعتذار به، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
* * *
الحديث السادس
عن عبد الله بن زيد بن عاصم المازني رضي الله عنه قال: "لمَّا أفاء الله على نبيه صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم في الناس وفي المؤلَّفة قلوبهم ولم يعطِ الأنصار شيئًا، فكأنما وجدوا في أنفسهم؛ إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، فخطبهم فقال:((يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضُلَاّلاً فهداكم الله بي، وكنتم متفرِّقين فألَّفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي؟)) ، كلَّما قال شيئًا قالوا: الله ورسوله أمنُّ، قال:((ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟)) ، قالوا: الله ورسوله أمنُّ، قال:((لو شئتم لقلتم: جئتَنا بكذا وكذا، ألا ترضَون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي إلى رحالكم، لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس واديًا أو شعبًا لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار، والناس دثار، إنكم ستلقَون بعدي أثَرَة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)) .
قوله: "لمَّا أفاء الله على نبيه صلى الله عليه وسلم يوم حنين"؛ أي: أعطاه غنائم الذين قاتلهم يوم حنين، وكان السبي ستة آلاف نفس من النساء والأطفال، وكانت الإبل أربعة وعشرين ألفًا، والغنم أربعين ألف شاة.
قوله: ((لو شئتم لقلتم: جئتنا بكذا وكذا)) وفي حديث أبي سعيد: ((فقال أمَا والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم، أتيتنا مكذبًا فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريدًا فآويناك وعائلاً فواسيناك)) ، وفي حديث أنس عند أحمد فقالوا:"بل المنُّ علينا لله ورسوله".
قوله: ((ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي إلى رحالكم)) ، في رواية:"قالوا: يا رسول الله، قد رضينا".
قوله: ((لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار)) ؛ أي: لولا أن النسبة إلى الهجرة نسبة دينية لا يسعني تركها لانتسبت إلى داركم.
قوله: ((ولو سلَك الناس واديًا أو شِعْبًا لسلكت وادي الأنصار وشِعْبَها)) ، قال القرطبي: لما كانت العادة أن المرء يكون في نزوله وارتحاله مع قومه، وأرض الحجاز كثيرة الأودية والشعاب، فإذا تفرَّقت في السفر الطرق سلَك كل قوم منهم واديًا وشعبًا، فأراد أنه مع الأنصار.
قوله: ((الأنصار شعار والناس دثار)) (الشعار) : الثوب الذي يلي الجلد، و (الدثار) : الذي فوقه، وهي استعارة لطيفة؛ والمعنى: أنهم بطانته وخاصته، و (الأثرة) : الانفراد بالشيء المشترك دون مَن يشركه فيه.
قال الحافظ: وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدَّم: إقامة الحجة على الخصم وإفحامه بالحق عند الحاجة إليه، وحسن أدب الأنصار في تركهم المماراة، والمبالغة في الحياء، وبيان أن الذي نقل عنهم إنما كان عن شبَّانهم لا عن شيوخهم وكهولهم، وفيه مناقب عظيمة لهم لما اشتمل من ثناء الرسول البالغ عليهم، وأن الكبير ينبِّه الصغير على ما يغفل عنه ويوضح له وجه الشبهة ليرجع إلى الحق، وفيه المعاتبة واستعطاف المعاتب وإعتابه عن عتبة بإقامة حجة مَن عتب عليه، والاعتذار
والاعتراف، وفيه علَم من أعلام النبوة لقوله:((ستلقون بعدي أثَرَة)) فكان كما قال، وفيه أن للإمام تفضيل بعض الناس على بعض في مصارف الفيء، وأن له أن يعطي الغني منه للمصلحة، وأن مَن طلب حقَّه من الدنيا لا عتب عليه في ذلك، وفيه مشروعية الخطبة عند الأمر الذي يحدث سواء كان خاصًّا أم عامًّا، وفيه جواز تخصيص بعض المخاطبين في الخطبة، وفيه تسلية مَن فاته شيء من الدنيا بما حصل له من ثواب الآخرة، والحض على طلب الهداية والألفة والغني، وأن المنة لله ولرسوله على الإطلاق، وتقديم جانب الآخرة على الدنيا، والصبر عمَّا فات منها؛ ليدَّخر ذلك لصاحبه في الآخرة (والآخرة خير وأبقى) .
* * *