الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هو كسب فيه دناءة وليس بمحرَّم، فحملوا الزجر عنه على التنزيه، ومنهم مَن ادَّعى النسخ وأنه كان حرامًا ثم أُبِيح، وجنح إلى ذلك الطحاوي، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، وذهب أحمد وجماعة إلى الفرق بين الحر والعبد، فكرهوا للحر الاحتراف بالحجامة، ويحرم عليه الإنفاق على نفسه منها، ويجوز له الإنفاق على الرقيق والدواب منها، وأباحوها للعبد مطلقًا، وعمدتهم حديث محيصة: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام فنهاه، فذكر له الحاجة فقال:((أعلفه نواضحك)) ؛ أخرجه مالك وأحمد وأصحاب السنن ورجاله ثقات، انتهى.
قال في "الاختيارات": وإذا كان الرجل محتاجًا إلى هذا الكسب ليس له ما يغنيه عنه إلا المسألة للناس فهو خيرٌ له من مسألة الناس، كما قال بعض السلف: كسبٌ فيه دناءة خيرٌ من مسألة الناس.
* * *
باب العرايا وغير ذلك
الحديث الأول
عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخَّص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها تمرًا يأكلونها رطبًا".
* * *
الحديث الثاني
عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخَّص في بيع العرايا في خمسة أَوْسُق أو دون خمسة أَوْسُق)) .
(العرايا)، جمع عرية: وهي في الأصل عطية ثمر النخل دون الرقبة، كان العرب في الجدب يتطوَّع أهل النخل بذلك على مَن لا ثمر له، كما يتطوَّع صاحب الشاء
أو الإبل بالمنيحة، وصورة العرية المرخَّص فيها: أن يشتري ثمرَ نخلاتٍ بأعيانها بخرصها من التمر خمسة أَوْسُق أو دونها فيخرصها ويبيعه ويقبض منه التمر ويسلم له النخلات بالتخلية فينتفع برطبها.
* * *
الحديث الثالث
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن باع نخلاً قد أبرَّت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع)) .
ولمسلم: ((مَن ابتاع عبدًا فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع)) .
(التأبير) : التشقيق والتلقيح، قال القرطبي: إبار كل شيء بحسب ما جرت العادة أنه إذا فعل فيه ثبتت ثمرته وانعقدت فيه، ثم قد يعبر به عن ظهور الثمرة وعن انعقادها وإن لم يفعل فيها شيء.
قال الحافظ: وقد استدلَّ بمنطوقه على أن مَن باع نخلاً وعليها ثمرة مؤبرة لم تدخل الثمرة في البيع، بل تستمرُّ على ملك البائع وبمفهومه على أنها إذا كانت غير مؤبرة أنها تدخل في البيع وتكون للمشتري وبذلك قال الجمهور.
قوله: "إلا أن يشترط المبتاع"؛ أي: المشتري، قال الحافظ: وقد استدلَّ بهذا الإطلاق على أنه يصحُّ اشتراط بعض الثمرة كما يصحُّ اشتراط جميعها، ويُستَفاد من الحديث أن الشرط الذي لا ينافي مقتضى العقد لا يُفسِد البيع فلا يدخل في النهي عن بيع وشرط، انتهى.
قوله: "ولمسلم: ((مَن ابتاع عبدًا فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع)) وهو في البخاري أيضًا، قال ابن دقيق العيد: استدلَّ به لمالك على أن العبد يملك لإضافة الملك إليه باللام، وقال غيره: يؤخذ منه أن العبد إذا ملكه سيده مالاً فإنه يملكه، وبه قال مالك وكذا الشافعي في القديم، لكنه إذا باعه بعد ذلك رجع المال لسيده إلا أن يشترط المبتاع، وقال الكرماني: قوله: وله مال، إضافة المال إلى العبد مجاز كإضافة الثمرة إلى النخلة.
* * *
الحديث الرابع
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه)) ، وفي لفظ:((حتى يقبضه)) ، وعن ابن عباس مثله.
قال البخاري: باب بيع الطعام قبل أن يقبض، وبيع ما ليس عندك، وذكر حديث ابن عباس بلفظ:"أمَّا الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو الطعام أن يباع حتى يقبض"، قال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا مثله، ثم ذكر حديث ابن عمر وفي رواية:"قال طاوس قلت لابن عباس: كيف ذاك؟ قال: ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجًا".
قوله: ((مَن ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه)) هذا نصٌّ في المنع عن بيع الطعام قبل أن يستوفيه.
قوله: ((حتى يقبضه)) فيه زيادة في المعنى؛ لأنه قد يستوفيه بالكيل ولا يقبضه.
وروى الدارقطني عن جابر: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان: صاع البائع، وصاع المشتري"، وروى الجماعة إلا الترمذي عن ابن عمر:"كنَّا نشتري الطعام من الركبان جزافًا فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله"، قال في "الاختيارات": ويملك المشتري المبيع بالعقد، ويصحُّ عتقه قبل القبض إجماعًا فيهما، ومَن اشترى شيئًا لم يبعه قبل قبضه سواء المكيل والموزون وغيرهما، وهو رواية عن أحمد اختارها ابن عقيل ومذهب الشافعي.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: "وسواء كان البيع من ضمان المشتري أو لا"، وعلى ذلك تدلُّ أصول أحمد، انتهى.
* * *
الحديث الخامس
عن جابر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يقول عام الفتح: ((إن الله ورسوله حرَّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة فإنها يُطلَى بها السفن ويُدهَن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: ((لا، هو حرام)) ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك:((قاتَل الله اليهود، إن الله لمَّا حرَّم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه)) .
((جملوه)) ؛ أي: أذابوه.
الميتة ما زالت عنه الحياة بغير ذكاة شرعية، وهي حرام بالكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله - تعالى -:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَاّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِْ} [المائدة: 3] .
ويُستَثنى من الميتة السمك والجراد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أُحِلَّت لنا ميتتان ودمان؛ فأمَّا الميتتان فالجراد والحوت، وأمَّا الدمان فالطحال والكبد)) .
قوله: "فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة فإنها يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس"؛ أي: فهل يحلُّ بيعها، فقال:((لا، هو حرام)) ؛ أي: البيع، قال في "الاختيارات": وقرن الميتة وعظمها وظفرها وما هو من جنسه كالحافر ونحوِه طاهرٌ، وقال غير واحد من العلماء: ويجوز الانتفاع بالنجاسات، وسواء في ذلك شحم الميتة وغيرُه وهو قول الشافعي، وأومأ إليه أحمد في رواية ابن منصور، ويطهُر جلد الميتة الطاهرة حال الحياة بالدباغ، وهو روايةٌ عن أحمد، انتهى.
قال الحافظ: والظاهر أن النهي عن بيع الأصنام للمبالغة في التنفير عنها، ويلتحق بها في الحكم الصلبان التي تعظِّمها النصارى، ويحرم نحت جميع ذلك وصنعته، انتهى.
قوله: ((قاتل الله اليهود؛ إن الله لما حرم عليم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه)) فيه إبطال الحِيَل والوسائل إلى المحرم.
* * *