الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب القصاص
الحديث الأول
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحلُّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاثٍ: الثيِّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارِك لدينه المفارِق للجماعة)) .
(القصاص) : مأخوذ من القص: وهو القطع، أو من اقتصاص الأثر؛ لأن المقتصَّ يتبع جناية الجاني ليأخذ مثلها؛ قال الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 178، 179]، وقال - تعالى -:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] .
قال ابن عباس: كان في بني إسرائيل قصاص ولم تكن فيهم ديَة، فقال الله لهذه الأمة:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} إلى قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} ، قال بن عباس: فالعفو أن يقبل الدية في العمد، وقال:{فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} أن يطلب بمعروف ويؤدِّي بإحسان؛ رواه البخاري.
قال أبو عبيد: ذهب ابن عباس إلى أن هذه الآية ليست منسوخة بآية المائدة: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ، بل هما محكمتان، وكأنه أراد أن آية المائدة مفسِّرة لآية البقرة، وأن المراد بالنفس نفس الأحرار ذكورهم وإناثهم دون الأرقَّاء، فأنفسهم متساوية دون الأحرار.
وقال سعيد بن جبير في قول الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ؛ يعني: إذا كان عمدًا الحر بالحر، "وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، فكان بينهم قتل وجراحات حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيَّين يتطاوَل على الآخَر في العدَّة والأموال، فحلفوا أن لا يرضوا حتى يقتل بالعبد منَّا الحر منهم، وبالمرأة من الرجل منهم، فنزل فيهم:{الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} [البقرة: 178] ؛ رواه ابن أبي حاتم.
قال الحافظ: والآية أصلٌ في اشتراط التكافؤ في القصاص، وهو قول الجمهور.
قوله: ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث)) ؛ أي: خصال ثلاث: ((الثيِّب الزاني)) ؛ أي: فيحلُّ قتله بالرجم ((والنفس بالنفس)) ؛ أي: مَن قتل نفسًا عمدًا بغير حقٍّ قُتِل ((والتارك لدينه)) ؛ أي: المرتد وهو المسلم يكفر بعد إسلامه.
قوله: ((المفارِق للجماعة)) المراد: جماعة المسلمين؛ أي: فارَقَهم بالارتداد، قال القرطبي: ظاهر قوله: ((المفارق للجماعة)) ، أنه نعت للتارك لدينه؛ لأنه إذا ارتدَّ فارَق جماعة المسلمين، غير أنه يلتحق به كلُّ مَن خرج عن جماعة المسلمين وإن لم يرتدَّ، كمَن يمتنع من إقامة الحد عليه إذا وجب ويقاتل على ذلك؛ كأهل البغي، وقطَّاع الطريق، والمحارِبين من الخوارج، وغيرهم، فيتناوَلهم لفظ المفارق للجماعة بطريق العموم، انتهى.
وقال الإمام أحمد: إذا ترك الصلاة كفر وقتل ولو لم يجحد وجوبها، وقال الجمهور: يقتل حدًّا لا كفرًا، والله أعلم.
* * *
الحديث الثاني
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أوَّل ما يُقضَى بين الناس يوم القيامة في الدماء)) .
أي: أو القضايا يوم القيامة القضاء في الدماء التي وقعت بين الناس في الدنيا وعند النسائي: ((أوَّل ما يُحاسَب عليه العبد صلاته، وأوَّل ما يُقضَى بين الناس في الدماء)) ، وفي الحديث الصدر الطويل عن أبي هريرة رفعه:((أوَّل ما يُقضَى بين الناس في الدماء، ويأتي كلُّ قتيل قد حمل رأسه فيقول: يا ربِّ، سَلْ هذا فيمَ قتلني؟)) الحديث.
قال الحافظ: وفي الحديث عظم أمر الدماء، فإن البداءة إنما تكون بالأهمِّ، والذنب يعظم بحسب عظم المفسدة وتفويت المصلحة، وإعدام البنية الإنسانية غاية في ذلك، انتهى، والله المستعان.
* * *
الحديث الثالث
عن سهيل بن أبي حثمة رضي الله عنه قال: "انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعودٍ إلى خيبر وهي يومئذ صلح فتفرَّقَا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحَّط في دمه قتيلاً، فدفنه ثم قدم المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعودٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذهب عبد الرحمن يتكلَّم فقال صلى الله عليه وسلم:((كبِّر كبِّر)) ، وهو أحدث القوم فسكت فتكلَّما، فقال:((أتحلفون وتستحقون دم قاتلكم أو صاحبكم؟)) ، قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد ولم نرَ؟ قال: ((فتبرئكم يهود يخمسين يمينًا؟)) ، قالوا: وكيف نأخذ بأيمان قومٍ كفار، فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من عنده.
وفي حديث حماد بن زيد: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمَّته)) ، قالوا: أمر نشهده كيف نحلف؟ قال: ((فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم؟)) ، قالوا: يا رسول الله، قوم كفار".
وفي حديث سعد بن عبيد: "فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه فوَدَاه بمائةٍ من إبل الصدقة".
هذا الحديث أصلٌ في مشروعية القسامة؛ وهي: الأيمان المكرَّرة في دعوى القتل عند وجود اللوث، وهو ما يغلب على الظن صحَّة الدعوى به.
قال الزهري: قال لي عمر بن عبد العزيز: إني أريد أن أدع القسامة يأتي رجل من أرض كذا وآخر من أرض كذا فيحلفون على ما لا يرون، فقلت: إنك إن تتركها يوشك أن الرجل يقتل عند بابك فيبطل دمه، وإن للناس في القسامة لحياة.
قال القاضي عياض: هذا الحديث أصلٌ من أصول الشرع، وقاعدة من قواعد الأحكام، وركن من أركان مصالح العباد، انتهى.
وقال أبو الزناد عن خارجة: "قتلنا بالقسامة والصحابة متوافرون، إني لأرى أنهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان"؛ أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي.
وقال القرطبي: الأصل في الدعاوى أن اليمين على المدَّعَى عليه، وحكم القسامة أصلٌ بنفسه لتعذُّر إقامة البيِّنة على القتل فيها غالبًا، فإن القاصد للقتل يقصد الخلوة، ويترصَّد للغفلة، وتأيَّدت بذلك الرواية الصحيحة المتَّفَق عليها وبقي ما عدا القسامة على الأصل.
قوله: ((يُقسِم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته)) (الرمة) : حبل يكون في عنق الأسير، وهذا اللفظ يُستَعمل في دفع القاتل للأولياء للقتل.
وروى النسائي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن ابن محيصة الأصغر أصبح قتيلاً على أبواب خيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أَقِم شاهدين على مَن قتله أدفعه إليكم برمَّته)) ، فقال: يا رسول الله، ومن أين أُصِيب شاهدين
وإنما أصبح قتيلاً على أبوابهم؟ قال: فتحلف خمسين قسامة؟ فقال: يا رسول الله، فيكف أحلف على ما لم أعلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((فاستحلف منهم خمسين قسامة)) ، فقال: يا رسول الله، كيف نستحلفهم وهم يهود؟ فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ديَتَه عليهم، وأعانهم بنصفها.
قال الشافعي: لا يجب الحق حتى يحلف الورثة خمسين يمينًا سواء قلُّوا أم كثروا، فلو كانوا بعدد الأيمان حلف كل واحد منهم يمينًا، وإن كانوا أقلَّ أو نكل بعضهم رُدَّت الأيمان على الباقين، فإن لم يكن إلا واحدًا حلف خمسين يمينًا واستحقَّ.
وقال مالك: إن كان ولي الدم واحدًا ضمَّ إليه آخر من العصبة، ولا يُستَعان بغيرهم، قال في "الفروع": ولا قسامة على أكثر من واحد، نصَّ عليه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((فتستحقون دم صاحبكم)) وعنه: بلى في غير هذه دم وتجب الدية، انتهى.
وعن الشعبي: "أن قتيلاً وُجِد بين وادعة وشاكر فأمرهم عمر بن الخطاب أن يقيسوا ما بينهما، فوجدوه إلى وادعة أقرب، فأحلفهم عمر خمسين يمينًا كل رجل: ما قتلته ولا علمت قاتله، ثم أغرمهم الديَة، فقالوا: يا أمير المؤمنين، لا أيماننا دفعت عن أموالنا، ولا أموالنا دفعت عن أيماننا، فقال عمر: كذلك الحق"؛ أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي.
قال الحافظ: وفي الحديث أن الحلف في القسامة لا يكون إلا مع الجزم بالقاتل، والطريق إلى ذلك المشاهدة أو إخبار مَن يُوثَق به مع القرينة الدالَّة على ذلك، وفيه الاكتفاء بالمكاتبة وبخبر الواحد مع إمكان المشافهة، انتهى.
قال في "الاختيارات": نقل الميموني عن الإمام أحمد أنه قال: اذهب إلى القسامة إذا كان ثَمَّ لطخ، وإذا كان ثَمَّ سبب بيِّن، وإذا كان ثَمَّ عداوة، وإذا كان مثل المدَّعَى عليه بفعل هذا، وهذا هو الصواب، فإذا كان ثم لوث يغلب على الظن أنه قتل مَن اتهم بقتله جاز لأولياء القتيل أن يحلفوا خمسين يمينًا ويستحقُّوا دمه، وأمَّا ضربه ليقرَّ فلا يجوز إلا مع القرائن التي تدلُّ على أنه قتله، فإن بعض العلماء جوَّز تقريره بالضرب في مثل هذه الحال، وبعضهم منع من ذلك مطلقًا، انتهى، والله أعلم.
* * *
الحديث الرابع
عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن جارية وُجِد رأسُها مرضوضًا بين حجرين، فقيل: مَن فعل هذا بك فلان فلان؟ حتى ذُكِر يهودي، فأَوْمَأَت برأسها، فأُخِذ اليهودي فاعترف؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُرَضَّ رأسه بين حجرين".
ولمسلم والنسائي عن أنس: "أن يهوديًّا قتل جارية على أوضاح، فأقاده رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(الأوضاح) بالمهملة: حليُّ الفضة، قال المهلب: فيه أنه ينبغي للحاكم أن يستدلَّ على أهل الجنايات، ثم يتلطَّف بهم حتى يقرُّوا ليُؤَاخَذوا بإقرارهم، وهذا بخلاف ما إذا جاؤوا تائبين فإنه يعرض عمَّن لم يصرح بالجناية، فإنه يجب إقامة الحدِّ عليه إذا أقرَّ، وفيه أنه تجب المطالبة بالدم بمجرَّد الشكوى وبالإشارة.
وقال المازري: فيه الردُّ على مَن أنكر القصاص بغير السيف، وقتل الرجل بالمرأة، انتهى.
والحديث يدلُّ على أن القاتل يُقتَل بما قتَل به، ولقوله - تعالى -:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]، وقوله - تعالى -:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ، وهذا قول الجمهور، وأمَّا حديث ((لا قَوَد إلا بالسيف)) ، فقال الحافظ: هو ضعيف، وقال ابن عدي: طرقه كلها ضعيفة، قال ابن المنذر: قال الأكثر: إذا قتله بشيء يقتل مثله غالبًا فهو عمد، وقال ابن العربي: يُستَثنى من المماثلة ما كان فيه معصية؛ كالخمر واللواط والتحريق، وفي الثالثة خلاف عند الشافعية والأوَّلان بالاتفاق، لكن قال بعضهم: يُقتَل بما يقوم مقام ذلك، قال الحافظ: وفي قصَّة اليهودي حجَّة للجمهور في أنَّه لا يُشتَرط في الإقرار بالقتل أن يتكرَّر، انتهى.
وقال البخاري: باب القصاص بين الرجال والنساء والجراحات، وقال أهل العلم: يقتل الرجل بالمرأة، ويذكر عن عمر: تُقَاد المرأة من الرجل في كلِّ عمد يبلغ نفسه فما دونها من الجراح، انتهى.
قال الحافظ: قوله: "تُقَاد"؛ أي: يقتص منها إذا قتلت الرجل ويقطع عضوها الذي تقطعه منه وبالعكس، انتهى.
* * *
الحديث الخامس
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((لما فتح الله - تعالى - على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قتلت هذيل رجلاً من بني ليث بقتيلٍ كان لهم في الجاهلية، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن الله عز وجل قد حبس عن مكة الفيل وسلَّط عليها رسوله والمؤمنين، وأنها لم تحلَّ لأحدٍ كان قبلي ولا تحلُّ لأحدٍ بعدي، وإنما أُحلِّت لي ساعةً من نهارٍ، وإنها ساعتي هذه حرام، لا يعضد شجرها، ولا يُختَلى خلاها، ولا يُعضَد شوكها، ولا تُلتَقط ساقطتها إلا لمُنشِد، ومَن قُتِل له قتيل فهو بخير النظرين، إمَّا أن يقتل وإمَّا أن يفدى)) ، فقام رجل من أهل اليمن يُقال له: أبو شاه، فقال: يا رسول الله، اكتبوا لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((اكتبوا لأبي شاه)) ، ثم قام العباس فقال: يا رسول الله، إلَاّ الإذخِر، فإنَّا نجعله في بيوتنا وقبورنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إلا الإذخِر)) .
قوله: "قتلتْ هذيل"، الذي في البخاري:"قتلت خزاعة".
قوله: ((إن الله عز وجل قد حبس عن مكة الفيل)) أشار بحبسه عن مكة إلى قصة الحبشة وهي مشهورة،
قال الله - تعالى -: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل: 1- 5] .
قوله: ((ومَن قتل له قتيل فهو بخيرِ النظرين: إمَّا أن يقتل، وإمَّا أن يفدى)) ؛ أي: مَن قتل له قريب فوليُّه مخيَّر بين القصاص والدية، ولأبي داود من حديث أبي شريح:((فإنه يختار إحدى ثلاث خصال: إمَّا أن يقتصَّ، وإمَّا أن يعفو، وإمَّا أن يأخذ الديَة، فإن أراد الرابعة فخُذُوا على يديه)) ؛ أي: إن أراد زيادة على القصاص أو الديَة.
قال الحافظ: وفي الحديث جواز إيقاع القصاص في الحرم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم خطب بذلك بمكة ولم يقيِّده بغير الحرم.
قوله: ((اكتبوا لأبي شاه)) ؛ أي: هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه مشروعية كتابة العلم، والله أعلم.
* * *
الحديث السادس
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أنه استشار الناس في إملاص المرأة، فقال المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبدٍ أو أمَةٍ فقال: لتأتين بِمَن يشهد معك، فشهد معه محمد بن مسلمة".
* * *
الحديث السابع
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجرٍ فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ديَة
جنينها غرَّة عبد أو وليدة، وقضى بديَة المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومَن معهم، فقام حمل بن النابغة الهذلي فقال: يا رسول الله، كيف أغرم مَن لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهلَّ، فمثل ذلك يطل؟ فقال صلى الله عليه وسلم:((إنما هو من إخوان الكهَّان)) ، من أجل سجعه الذي سجع".
(الإملاص) : أن تزلقه المرأة قبل حينِ الولادة، وفي رواية:"أن عمر نشد الناس مَن سمع النبي صلى الله عليه وسلم قضى في السقط".
قال ابن دقيق العيد: الحديث أصلٌ في إثبات ديَة الجنين، وأن الواجب فيه غرَّة: إمَّا عبد وإمَّا أمَة، وذلك إذا ألقته ميتًا بسبب الجناية، واستشارة عمر في ذلك أصلٌ في سؤال الإمام عن الحكم إذا كان لا يعلمه، أو كان عنده شكٌّ، أو أراد الاستثبات.
وفيه أن الوقائع الخاصَّة قد تخفى على الأكابر ويعلمها مَن دونهم، وفي ذلك ردٌّ على المقلد إذا استدلَّ عليه بخبرٍ يخالفه، فيجيب لو كان صحيحًا لعلمه فلان مثلاً، فإن ذلك إذا جاز خفاؤه عن مثل عمر فخفاؤه عمَّن بعده أَجْوَز.
قوله: "فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ديَة جنينها غرَّة عبدٍ أو وليدة"، (الجنين) : حمل المرأة ما دام في بطنها؛ قال الله - تعالى -: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إذ إنَّشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإذ إنَّتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم: 32] ، فإن خرج حيًّا فهو ولد، وإن خرج ميتًا فهو سقط، و (الغرة) في الأصل: البياض يكون في جبهة الفرس، وتُطلَق على الشيء النفيس أدميًّا كان أو غيره.
قوله: "وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومَن معهم"، روى أبو داود عن جابر: "أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى، ولكلِّ واحدة منهما زوج وولد، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديَة المقتولة على عاقلة القاتلة، وبرأ زوجها وولدها، قال: فقال: عاقلة المقتولة ميراثها لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا، ميراثها لزوجها وولدها)) .
وعن عمر رضي الله عنه قال: "العمد والعبد والصلح والاعتراف لا تعقله العاقلة"؛ رواه الدارقطني، وقال الزهري: مضت السنَّة أن
العاقلة لا تحمل شيئًا من ديَة العمد إلا أن يشاؤوا"؛ رواه مالك في "الموطأ".
قال الشوكاني: قد وقع الإجماع على أن ديَة الخطأ مؤجَّلة على العاقلة، ولكن اختلفوا في مقدار الأجل، فذهب الأكثر إلى أن الأجل ثلاث سنين، انتهى.
قال في "الاختيارات": وأبو الرجل وابنه من عاقلته عند الجمهور؛ كأبي حنيفة ومالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه، وتؤخَذ الديَة من الجاني خطأ عند تعذُّر العاقلة في أصحِّ قولي العلماء، ولا يؤجل على العاقلة إذا رأى الإمام المصلحة فيه، ونصَّ على ذلك الإمام أحمد، انتهى.
قوله: ((إنما هو من إخوان الكهَّان)) وفي رواية أسامة بن زيد عند البيهقي: فقال: ((دعني من أراجيز الأعراب)) ، وفي حديث ابن عباس عند أبي داود: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أسجع الجاهلية وكهانتها، إن في الصبي غرة)) .
قال الموفق: وإذا لم يجد الغرَّة انتقل إلى خمس من الإبل على قول الخرقي، وعلى قول غيره ينتقل إلى خمسين دينارًا أو ستمائة درهم، انتهى.
وفي الحديث ذم السجع لإبطال حق أو تحقيق باطل.
* * *
الحديث الثامن
عن عمران بن حصين رضي الله عنه: "أن رجلاً عضَّ يد رجلٍ فنزع يده من فيه فوقعت ثناياه، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:((يعضُّ أحدكم أخاه كما يعضُّ الفحل، اذهب لا ديَة لك)) .
الحديث دليلٌ على أن المعضوض لا يلزمه قصاص ولا ديَة؛ لأنه في حكم الصائل، وهو قول الجمهور، واحتجُّوا أيضًا بالإجماع بأن مَن شهر على آخر سلاحًا ليقتله فدفع عن نفسه فقتل الشاهر أنه لا شيء عليه، قال يحيى بن عمر: لو بلغ مالكًا هذا الحديث لما خالفه.
وفي الحديث من الفوائد التحذير من الغضب، وأن مَن وقع له ينبغي له أن يكظمه ما استطاع؛ لأنه أدَّى إلى سقوط ثنايا الغضبان وإهدارها، وفيه رفع الجناية
إلى الحاكم من أجل الفصل، وأن المرء لا يقتصُّ لنفسه، وفيه جواز تشبيه فعل الآدمي بفعل البهيمة إذا وقع في مقام التنفير عن مثل ذلك الفعل.
قال في "المقنع": وإن اقتتلت طائفتان لعصبية أو طلب رياسة فهما ظالمتان وتضمن كلُّ واحدة ما أتلفت على الأخرى، قال في "الإنصاف": هذا بلا خلاف أعلمه، لكن قال الشيخ تقي الدين: إن جهل قدر ما نهبه كل طائفة من الأخرى تساوتا، كمَن جهل قدر الحرام من ماله أخرج نصفه والباقي له، وقال أيضًا: وإن تقابلا تقاصَّا؛ لأن المباشر والمعين سواء عند الجمهور.
* * *
الحديث التاسع
عن الحسن بن أبي الحسن البصري - رحمه الله تعالى - قال: حدثنا جندب في هذا المسجد، وما نسينا منه حديثًا، وما نخشى أن يكون جندب كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان فيمَن كان قبلكم رجل به جرح فجزع، فأخذ سكينًا فجزَّ بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، قال الله عز وجل: بادَرَنِي عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة)) .
هذا الحديث أصلٌ كبير في تعظيم قتل النفس.
قوله: "بادرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة"؛ أي: لأنه استعجل الموت؛ لأنه حزَّها لإرادة الموت لا لقصد المداواة.
قال الحافظ: وفي الحديث تحريم قتل النفس، سواء كانت نفس القاتل أم غيره، وفيه الوقوف عند حقوق الله ورحمته بخلقه؛ حيث حرَّم عليهم قتل نفوسهم وأن الأنفس ملك لله، وفيه التحديث عن الأمم الماضية، وفضيلة الصبر على البلاء،
وترك التضجُّر من الآلام؛ لئلَاّ يُفضِي إلى أشد منها، وفيه تحريم تعاطي الأسباب المفضِيَة إلى قتل النفس، وفيه التنبيه على أن حكم السراية على ما يترتَّب عليه ابتداء القتل، وفيه الاحتياط للتحديث وكيفية الضبط له والتحفُّظ فيه بذكر المكان والإشارة إلى ضبط المحدث وتوثيقه لِمَن حدَّثه ليركن السامع إلى ذلك، والله أعلم، اهـ.
وفي الحديث أن مَن قتل نفسه عمدًا فلا ديَة له وهو إجماع، وقال البخاري: باب إذا قتل نفسه خطأ فلا ديَة له، وذكر حديث سلمة بن الأكوع في قصة قتل عامر نفسه يوم خيبر.
قال الحافظ: إنما قيَّد بالخطأ لأنه محلُّ الخلاف، قال ابن بطال، قال الأوزاعي وأحمد وأسحاق: تجب ديَتُه على عاقلته، وقال الجمهور: لا يجب غير ذلك شيء، وقصة عامر حجة لهم.
* * *