المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

قوله: ((أمسِك عليك بعض مالك)) ، في رواية: "فقلت: إني - خلاصة الكلام شرح عمدة الأحكام

[فيصل آل مبارك]

فهرس الكتاب

- ‌ترجمة المؤلف:

- ‌كتاب الطهارة

- ‌باب دخول الخلاء والاستطابة

- ‌باب السواك

- ‌باب المسح على الخفين

- ‌باب في المذي وغيره

- ‌باب الغسل من الجنابة

- ‌باب التيمم

- ‌كتاب الصلاة

- ‌باب المواقيت

- ‌باب فضل الصلاة الجماعة ووجوبها

- ‌باب الأذان

- ‌باب استقبال القبلة

- ‌باب الصفوف

- ‌باب الإمامة

- ‌باب صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌باب وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود

- ‌باب القراءة في الصلاة

- ‌باب ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم

- ‌باب سجود السهو

- ‌باب المرور بين يدي المصلي

- ‌باب جامع

- ‌باب التشهد

- ‌باب الوتر

- ‌باب الذكر عقب الصلاة

- ‌باب الجمع بين الصلاتين في السفر

- ‌باب قصر الصلاة في السفر

- ‌باب الجمعة

- ‌باب صلاة العيدين

- ‌باب صلاة الكسوف

- ‌باب الاستسقاء

- ‌باب صلاة الخوف

- ‌كتاب الجنائز

- ‌كتاب الزكاة

- ‌باب صدقة الفطر

- ‌كتاب الصيام

- ‌باب الصوم في السفر وغيره

- ‌باب أفضل الصيام وغيره

- ‌باب ليلة القدر

- ‌باب الاعتكاف

- ‌كتاب الحج

- ‌باب المواقيت

- ‌باب ما يلبس المحرم من ثياب

- ‌باب الفدية

- ‌باب حرمة مكة

- ‌باب ما يجوز قتله

- ‌باب دخول مكة وغيره

- ‌باب التمتع

- ‌باب الهدي

- ‌باب الغسل للمحرم

- ‌باب فسخ الحج إلى العمرة

- ‌باب الحرم يأكل من صيد الحلال

- ‌كتاب البيوع

- ‌باب ما نهى الله عنه من البيوع

- ‌باب العرايا وغير ذلك

- ‌باب السَّلَم

- ‌باب الشروط في البيع

- ‌باب الربا والصرف

- ‌باب الرهن وغيره

- ‌باب اللقطة

- ‌باب الوصايا وغير ذلك

- ‌باب الفرائض

- ‌كتاب النكاح

- ‌باب الصداق

- ‌كتاب الطلاق

- ‌باب العدة

- ‌باب اللعان

- ‌كتاب الرضاع

- ‌كتاب القصاص

- ‌كتاب الحدود

- ‌باب حد الخمر

- ‌كتاب الأيمان والنذور

- ‌باب النذر

- ‌باب القضاء

- ‌كتاب الأطعمة

- ‌باب الصيد

- ‌باب الأضاحي

- ‌كتاب الأشربة

- ‌كتاب اللباس

- ‌كتاب الجهاد

- ‌كتاب العتق

- ‌باب بيع المُدَبَّر

الفصل: قوله: ((أمسِك عليك بعض مالك)) ، في رواية: "فقلت: إني

قوله: ((أمسِك عليك بعض مالك)) ، في رواية:"فقلت: إني أمسك سهمي الذي بخيبر"، ولأبي داود:((يجزى عنك الثلث)) ، قال ابن المنير: لم يبت كعب الانخلاع بل استشار هل يفعل أو لا، وقال الفاكهاني: أورد الاستشارة بصيغة الجزم.

قال الحافظ: الأَوْلَى لِمَن أراد أن ينجز التصدُّق بجميع ماله أو يعلقه أن يمسك بعضه، ولا يلزم من ذلك أنه لو نجزه لم ينفذ، والتصدُّق بجميع المال يختلف باختلاف الأحوال، فمَن كان قويًّا على ذلك يعلم من نفسه الصبر لم يُمنَع، وعليه يتنزل فعل أبي بكر الصديق، وإيثار الأنصار على أنفسهم المهاجرين ولو كان بهم خصاصة، ومَن لم يكن كذلك فلا، وعليه يتنزل ((لا صدقة إلا عن ظهر غنى)) ، وفي لفظ:((أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى)) ، اهـ.

وقال ابن دقيق العيد: وفي الحديث دليلٌ على أن الصدقة لها أثر في محو الذنب، ولأجل هذا شرعت الكفارات المالية، اهـ.

تتمَّة:

وعن سعيد بن المسيب: أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث، فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال: إن عدت تسألني فكلُّ مالي في رتاج الكعبة، فقال له عمر: إن الكعبة غنية عن مالك، كفِّر عن يمينك وكلِّم أخاك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((لا يمين عليك، ولا نذر في معصية الرب، ولا في قطيعة الرحم، ولا فيما لا تملك)) ؛ رواه أبو داود، والله أعلم.

* * *

‌باب القضاء

الحديث الأول

عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ)) ، وفي لفظ:((مَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ)) .

ص: 356

الأصل في القضاء ومشروعيته: الكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله - تعالى -: {يا دَاودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26]، وقال - تعالى -:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49]، وقال عز وجل:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] .

وفي الحديث المتفق عليه: ((إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)) .

وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار وَكَلَه إلى نفسه)) ؛ رواه ابن ماجه، وفي لفظ:((فإذا جار تخلَّى عنه ولزمه الشيطان)) ؛ رواه الترمذي.

وعن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار؛ فأمَّا الذي في الجنة: فرجلٌ عرف الحق فقضى به، ورجلٌ عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار، ورجلٌ قضى للناس على جهل فهو في النار)) ؛ رواه ابن ماجه وأبو داود.

قال مالك: لا بُدَّ أن يكون القاضي عالمًا عاقلاً، وقال البخاري: يستحبُّ للكاتب أن يكون أمينًا عاقلاً، اهـ.

وعن معاذ بن جبل: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه قاضيًا إلى اليمن، قال له:((بِمَ تحكم؟)) ، قال: بكتاب الله - تعالى - قال: ((فإن لم تجد)) ، قال: فبسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فإن لم تجد)) ، قال: أجتهد رأيي، قال:((الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله)) ؛ رواه أحمد.

وكتب عمر إلى معاذ بن جبل وأبي عبيدة حين بعثهما إلى الشام: أن انظرَا رجالاً من صالحي مَن قِبَلَكم فاستعمِلوهم على القضاء، وأوسعوا عليهم وارزقوهم واكفُوهم من مال الله، وقال علي: لا ينبغي أن يكون القاضي قاضيًا حتى تكون فيه خمس خصال: عفيف، حليم، عالم بما كان قبله، يستشير ذوي الألباب، لا يخاف في الله لومة لائم.

قال الموفق: وله أن ينتهر الخصم إذا التوى ويصِيح عليه، وإن استحقَّ التعزير عزَّره بما يرى من أدب أو حبس.

قوله: ((مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ)) قال الحافظ: هذا الحديث معدودٌ من أصول الإسلام، وقاعدة من قواعده، فإن معناه: مَن اخترع في الدين ما لا يشهد له أصلٌ من أصوله فلا يلتفت إليه.

قال النووي: هذا الحديث ممَّا ينبغي أن يعتنى بحفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به كذلك، اهـ.

وقال الطرفي: هذا الحديث نصف أدلة الشرع.

قوله: وفي لفظ: ((مَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ)) قال الحافظ:

ص: 357

هذا أعمُّ من اللفظ الأول فيحتجُّ به في إبطال جميع العقود المنهيَّة وعدم وجود ثمراتها المرتبة عليها، وفيه ردُّ المحدثات، وأن النهي يقتضي الفساد؛ لأن المنهيات كلها ليست من أمر الدين فيجب ردُّها، ويُستَفاد منه أن حكم الحاكم لا يغير ما في باطن الأمر؛ لقوله:((ليس عليه أمرنا)) والمراد به أمر الدين، وفيه أن الصلح الفاسد منتقض والمأخوذ عليه مستحق الرد، اهـ.

وقال البخاري: باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ خلاف الرسول من غير علم فحكمه مردود؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ)) ، وقال أيضًا:((إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد)) ، وأورد قصة خالد وقول النبي صلى الله عليه وسلم:((اللهم إني أبرأ إليك ممَّا صنع خالد بن الوليد)) ، قال ابن بطال: الإثم إن كان ساقطًا عن المجتهد في الحكم إذا تبيَّن له أنه بخلاف جماعة أهل العلم لكن الضمان لازمٌ للمخطئ عند الأكثر مع الاختلاف هل يلزم ذلك عاقلة الحاكم أو بيت المال؟

قال الحافظ: والذي يظهر أن التبرُّؤ من الفعل لا يلزم منه إثم فاعله ولا إلزامه الغرامة؛ فإن إثم المخطئ مرفوع وإن كان فعله ليس بمحمود اهـ، والله أعلم.

* * *

الحديث الثاني

عن عائشة رضي الله عنها قالت: "دخلت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إنَّ أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي

ص: 358

بنيَّ إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل عليَّ في ذلك من جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفِي بنيك)) .

قولها: "شحيح"، في لفظ:"مسيك" بكسر الميم وتشديد السين، وبالفتح والتخفيف، والشح: البخل مع حرص وهو أعمُّ من البخل، قال القرطبي: قوله: ((خذي)) ، أمر إباحة، والمراد بالمعروف القدر الذي عرف بالعادة أنه الكفاية، اهـ.

وفي الحديث جواز ذكر الإنسان بما لا يعجبه إذا كان على وجه الاستفتاء والاشتكاء ونحو ذلك، وفيه جواز سماع كلام الأجنبية عند الحكم والإفتاء، وفيه جواز استماع كلام أحد الخصمين في غيبة الآخَر، وفيه وجوب نفقة الزوجة وأنها مقدَّرة بالكفاية، وهي معتبرة بحال الزوجين معًا؛ لقوله - تعالى -: {لِيُنْفِقْ ذُو

سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ

} [الطلاق: 7] الآية، وفيه وجوب نفقة الأولاد بشرط الحاجة، واستدلَّ به على أن مَن له عند غيره حق وهو عاجز عن استيفائه جاز له أن يأخذ من ماله قدر حقِّه بغير إذنه، وتسمَّى مسألة الظفر، وأن للمرأة مدخلاً في القيام على أولادها وكفالتهم والإنفاق عليهم، وفيه اعتماد العرف في الأمور التي لا تحديد فيها من قِبَل الشرع، وفيه جواز القضاء على الغائب.

قال ابن بطال: أجاز مالك والليث والشافعي وأبو عبيد وجماعة الحكم على الغائب واستثنى ابن القاسم عن مالك ما يكون للغائب فيه حجج كالأرض والعقار، إلا إن طالت غيبته أو انقطع خبرة.

قال الحافظ: واحتج مَن منع بحديث عليٍّ رفعه: ((لا تقضِ لأحد الخصمين حتى تسمع كلام الآخر)) ، وبحديث الأمر بالمساواة بين الخصمين، وبأنه لو حضر لم تسمع بيِّنة المدَّعي حتى يسأل المدَّعى عليه فإذا غاب فلا تسمع، وبأنه لو جاز الحكم مع غيبته لم يكن الحضور واجبًا عليه، وأجاب مَن أجاز بأن ذلك كله لا يمنع الحكم على الغائب؛ لأن حجته إذا حضر قائمة فتسمع ويعمل بمقتضاها ولو أدَّى إلى نقض الحكم السابق، وحديث عليٍّ محمول على

ص: 359

الحاضرين.

وقال ابن العربي: حديث عليٍّ إنما هو مع إمكان السماع، فأمَّا مع تعذره بمغيب فلا يمنع الحكم، كما لو تعذر بإغماء أو جنون أو حجر أو صغر.

قال الحافظ: كلُّ حكم يصدر من الشارع فإنه ينزل منزلة الإفتاء بذلك الحكم في مثل تلك الواقعة، فيصحُّ الاستدلال بهذه القصة للمسألتين؛ يعني: مسألة القضاء على الغائب ومسألة الظفر، وقال البخاري: باب مَن رأى للقاضي أن يحكم بعلمه في أمر الناس إذا لم يخف الظنون والتهمة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لهند:((خُذِي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) ، وذلك إذا كان أمرًا مشهورًا، اهـ، والله أعلم.

* * *

الحديث الثالث

عن أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال:((إلا إنما أنا بشر مثلكم، وإنما يأتيني الخصم، فلعلَّ بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له، فمَن قضيتُ له بحقِّ مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو يذرها)) .

"الجلبة": اختلاط الأصوات وارتفاعها.

قوله: ((إنما أنا بشر مثلكم)) أتى به ردًّا على مَن زعم أن مَن كان رسولاً فإنه يعلم كل غيب حتى لا يخفى عليه المظلوم.

قوله: ((أبلغ)) ، في رواية:((ألحن)) .

قوله: ((قطعة من النار)) كقوله - تعالى -: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] .

قوله: ((فليحملها أو يذرها)) الأمر فيه للتهديد كقوله - تعالى -: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، قال ابن التين: هو خطاب للمقضيِّ له، ومعناه: أنه يعلم من نفسه هل هو محقٌّ أو مبطِل، فإن كان محقًّا فليأخذ، وإن كان مبطلاً فليترك، فإن الحكم لا ينقل الأصل عمَّا كان عليه.

ولأبي داود: فبكى الرجلان وقال كلٌّ منهما: حقِّي لك، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم:((أمَا إذا فعلتما فاقتسما وتوخَّيَا الحق ثم استهِما ثم تحاللا)) .

ص: 360

وفي هذا الحديث من الفوائد إثم مَن خاصم في باطل حتى استحقَّ به في الظاهر شيئًا هو في الباطن حرام عليه، وفيه أن مَن ادَّعى مالاً ولم يكن له بيِّنة فحلف المدعى عليه وحكم الحاكم ببراءة الحالف أنه لا يبرأ في البطان وأن المدعي لو أقام بيِّنة بعد ذلك تُنافِي دعواه سُمِعت وبطل الحكم، وفيه أن المجتهد قد يخطئ وأنه ليس كل مجتهد مصيبًا، وإذا أخطأ لا يلحقه إثم بل يُؤجَر، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقضي بالاجتهاد فيما لم ينزل عليه فيه شيء.

قال الشافعي: فيه دلالة على أن الأمة إنما كلفوا القضاء على الظاهر، وأن قضاء القاضي لا يحرم حلالاً ولا يحلُّ حرامًا، اهـ.

وفيه أن التعمُّق في البلاغة بتزيين الباطل في صورة الحق والحق في صورة الباطل مذموم، وأمَّا البلاغة فلا تذمُّ لذاتها وهي أن يبلغ بعبارة لسانه كُنْهَ ما في قلبه، وقال أهل المعاني والبيان: البلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع الفصاحة وهي خلوُّه عن التعقيد، وفيه موعظة الخصوم والعمل بالنظر الراجح وبناء الحاكم عليه.

فائدة:

قال الحافظ: نقل بعض العلماء الاتِّفاق على أنه لو شهدت البينة بخلاف ما يعلمه القاضي لم يجز له أن يحكم بما قامت به البينة.

* * *

الحديث الرابع

عن عبد الرحمن بن أبي بكرة رضي الله عنه قال: كتب أبي وكتبت له إلى ابنه عبد الله بن أبي بكرة، وهو قاضٍ بسجستان: لا تحكم بين اثنين وأنت غضبان، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان)) ، وفي رواية:((لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان)) .

ص: 361

قوله: "كتب أبي"؛ أي: أمره بالكتابة "وكتبت له"؛ أي: باشرت الكتابة التي أمر بها.

قوله: ((لا يحكم أحدٌ بين اثنين وهو غضبان)) قال المهلب: سبب هذا النهي أن الحكم حالة الغضب قد يتجاوَز بالحاكم إلى غير الحق فمنع، وبذلك قال فقهاء الأمصار، وقال ابن دقيق العيد: فيه النهي عن الحكم حالة الغضب؛ لما يحصل بسببه من التغيير الذي يختل به النظر فلا يحصل استيفاء الحكم على الوجه، وعداه الفقهاء بهذا المعنى إلى كلِّ ما يحصل به تغيُّر الفكر من الجوع والعطش المفرطين، وغلبة النعاس وسائر ما يتعلق به القلب تعلقًا يشغله عن استيفاء النظر، وهو قياس مظنة على مظنة.

قال الحافظ: لو خالف فحكم في حال الغضب صحَّ إن صادَف الحق مع الكراهة، وهذا قول الجمهور، وفي الحديث ذكر الحكم مع دليله في التعليم وكذلك الفتوى، وفيه شفقة الأب على ولده وإعلامه بما ينفعه وتحذيره من الوقوع فيما ينكر، وفيه نشر العلم للعمل به والاقتداء وإن لم يسأل العالم عنه، والله الموفق.

* * *

الحديث الخامس

عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألَا أنبكم بأكبر الكبائر؟)) ثلاثًا، قلنا: بلى يا رسول الله، قال:((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)) ، وكان متكئًا فجلس فقال:((ألَا وقول الزور، وشهادة الزور)) ، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت.

قوله: ((ألَا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) ثلاثًا؛ أي: قال ذلك ثلاث مرات، كرَّره تأكيدًا لينتبه السامع على إحضار فهمه0.

قوله: ((الإشراك بالله)) تخصيصه بالذكر لغلبته في الوجود، فذكره تنبيهًا على غيره من أصناف الكفر.

قوله: ((وعقوق الوالدين)) العقوق صدور ما يتأذَّى به الوالد من ولده من قول أو فعل.

قوله: وكان متكئًا

ص: 362

فجلس فقال: ((ألا وقول الزور وشهادة الزور)) قال الحافظ: يشعر بأنه اهتمَّ بذلك حتى جلس بعد أن كان متكئًا، ويفيد ذلك تأكيد تحريمه وعظم قبحه، وسبب الاهتمام بذلك كون قول الزور وشهادة الزور أسهل وقوعًا على الناس والتهاون بها أكثر، فإن الإشراك ينبو عنه قلب المسلم، والعقوق يصرف عنه الطبع، وأمَّا الزور فالحوامل عليه كثيرة؛ كالعداوة والحسد وغيرهما، فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيمه.

قوله: "فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت"؛ أي: شفقةً عليه وكراهيةً لما يزعجه، وفيه تحريم شهادة الزور، وفي معناها كلُّ ما كان زورًا من تعاطي المرء ما ليس له أهلاً، قال القرطبي: شهادة الزور هي الشهادة بالكذب ليتوصَّل بها إلى الباطل من إتلاف نفس، أو أخذ مال، أو تحليل حرام أو تحريم حلال، فلا شيء من الكبائر أعظم ضررًا منها ولا أكثر فسادًا بعد الشرك بالله، اهـ.

وفيه التحريض على مجانبة كبائر الذنوب ليحصل تكفير الصغائر بذلك، كما وعد الله عز وجل في قوله - تعالى -:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا} [النساء: 31] ، وفي الحديث انقسام الذنوب إلى كبير وأكبر، ويُؤخَذ منه ثبوت الصغائر؛ لأن الكبيرة بالنسبة إليها أكبر منها، قال الغزالي: إنكار الفرق بين الصغيرة والكبير لا يليق بالفقيه، اهـ.

وقال ابن عباس: الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) ، قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولِّي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)) ؛ متفق عليه.

وعن ابن عباس: أنه قيل له: الكبائر سبع، قال: هي إلى السبعين أقرب، قال القرطبي: كل ذنب أطلق عليه بنص كتاب الله أو سنة أو إجماع أنه كبيرة أو عظيم أو أخبر فيه بشدَّة العقاب أو علَّق عليه الحد أو شدَّد النكير عليه فهو كبير، وقال الحليمي ما من ذنب إلا وفيه صغيرة وكبيرة، وقد تنتقل الصغيرة كبيرة بقرينةٍ تضمُّ إليها وتنقلب الكبيرة فاحشة كذلك، والله اعلم.

* * *

ص: 363

الحديث السادس

عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لو يعطى الناس بدعاويهم لادَّعى ناس دماء رجالٍ وأموالهم ولكن اليمين على المدَّعى عليه)) .

هذا الحديث أصلٌ في فصل الخصومات بين الناس.

قوله: ((ولكن اليمين على المدعى عليه)) في حديث ابن عمر عند الطبراني: ((البينة على المدِّعِي واليمين على المدَّعَى عليه)) ، وعند الإسماعيلي:((ولكن البينة على الطالب واليمين على المطلوب)) ، وعند البيهقي:((لكن البينة على المدَّعي واليمين على مَن أنكر)) .

قال العلماء: الحكمة في ذلك أن جانب المدَّعِي ضعيف لأنه يقول خلاف الظاهر فكلف الحجة القوية وهي البيِّنة؛ لأنها لا تجلب لنفسها نفعًا ولا تدفع عنها ضررًا فيقوى بها ضعف المدَّعي، وجانب المدَّعى عليه قوي فاكتفي منه باليمين وهي حجة ضعيفة؛ لأن الحالف يجلب لنفسه النفع ويدفع الضرر فكان ذلك في غاية الحكمة، والمدَّعي مَن إذا سكت ترك وسكوته، والمدَّعَى عليه مَن لا يخلى إذا سكت، قال الإصطخري: إن قرائن الحال إذا شهدت بكذب المدَّعي لم يتلفت إلى دعواه، اهـ.

وروى مسلم عن ابن عباس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد"، قال ابن عبد البر: لا مطعن لأحدٍ في صحته ولا إسناده.

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: "قضى الله ورسوله في الحق بشاهدين، فإن جاء بشاهدين أخذ حقَّه، وإن جاء بشاهد واحد حلف مع شاهده، قال الشافعي: القضاء بشاهد ويمين لا يخالف ظاهر القرآن؛ لأنه لا يمنع أن يجوز أقل مما نص عليه، قال الحافظ: لا يلزم من التنصيص على الشيء نفيه عمَّا عداه.

وقال: تخصيص الكتاب بالسنة جائز، وكذلك الزيادة عليه كما في قوله - تعالى -:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] ، وأجمعوا على تحريم العمَّة

مع بنت أخيها، وسند الإجماع في ذلك السنة الثابتة، وكذلك قطع رجل السارق

ص: 364

في المرَّة الثانية، وأمثلة ذلك كثيرة، اهـ.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض على قوم اليمين فأسرعوا، فأمر أن يُسهِم بينهم في اليمين أيهم يحلف"؛ رواه البخاري.

وعن أبي موسى رضي الله عنه: "أن رجلين ادَّعيا بعيرًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث كلُّ واحد منهما بشاهدين فقسمه النبي صلى الله عليه وسلم بينهما نصفين"؛ رواه أبو داود.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل حلفه: ((احلف بالله الذي لا إله إلا هو ماله عندي شيء)) ؛ يعني: المدعي؛ رواه أبو داود.

فائدة: في وضع اليد:

كل دعوى يكذبها العرف والعادة غير مسموعة، فإذا رأينا رجلاً حائزًا لدار متصرِّفًا فيها مدَّة طويلة وهو ينسبها إلى نفسه وملكه، وإنسان حاضر يراه لا يعارضه، وليس له مانع يمنعه من مطالبته، وليس بينه وبين المتصرِّف قرابة ولا شركة، ثم جاء بعد طول هذه المدَّة يدَّعيها لنفسه ويريد أن يقيم بيِّنة بذلك، فدعواه غير مسموعة وتبقى الدار بيد حائزها، هذا مقتضى اختيار شيخ الإسلام ابن تيميَّة، وشمس الدين ابن القيم، وإمام الدعوة النجدية الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأولاده، وهو مذهب الإمام مالك، واختاره شيخنا محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، والله أعلم.

* * *

ص: 365