المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب فسخ الحج إلى العمرة - خلاصة الكلام شرح عمدة الأحكام

[فيصل آل مبارك]

فهرس الكتاب

- ‌ترجمة المؤلف:

- ‌كتاب الطهارة

- ‌باب دخول الخلاء والاستطابة

- ‌باب السواك

- ‌باب المسح على الخفين

- ‌باب في المذي وغيره

- ‌باب الغسل من الجنابة

- ‌باب التيمم

- ‌كتاب الصلاة

- ‌باب المواقيت

- ‌باب فضل الصلاة الجماعة ووجوبها

- ‌باب الأذان

- ‌باب استقبال القبلة

- ‌باب الصفوف

- ‌باب الإمامة

- ‌باب صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌باب وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود

- ‌باب القراءة في الصلاة

- ‌باب ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم

- ‌باب سجود السهو

- ‌باب المرور بين يدي المصلي

- ‌باب جامع

- ‌باب التشهد

- ‌باب الوتر

- ‌باب الذكر عقب الصلاة

- ‌باب الجمع بين الصلاتين في السفر

- ‌باب قصر الصلاة في السفر

- ‌باب الجمعة

- ‌باب صلاة العيدين

- ‌باب صلاة الكسوف

- ‌باب الاستسقاء

- ‌باب صلاة الخوف

- ‌كتاب الجنائز

- ‌كتاب الزكاة

- ‌باب صدقة الفطر

- ‌كتاب الصيام

- ‌باب الصوم في السفر وغيره

- ‌باب أفضل الصيام وغيره

- ‌باب ليلة القدر

- ‌باب الاعتكاف

- ‌كتاب الحج

- ‌باب المواقيت

- ‌باب ما يلبس المحرم من ثياب

- ‌باب الفدية

- ‌باب حرمة مكة

- ‌باب ما يجوز قتله

- ‌باب دخول مكة وغيره

- ‌باب التمتع

- ‌باب الهدي

- ‌باب الغسل للمحرم

- ‌باب فسخ الحج إلى العمرة

- ‌باب الحرم يأكل من صيد الحلال

- ‌كتاب البيوع

- ‌باب ما نهى الله عنه من البيوع

- ‌باب العرايا وغير ذلك

- ‌باب السَّلَم

- ‌باب الشروط في البيع

- ‌باب الربا والصرف

- ‌باب الرهن وغيره

- ‌باب اللقطة

- ‌باب الوصايا وغير ذلك

- ‌باب الفرائض

- ‌كتاب النكاح

- ‌باب الصداق

- ‌كتاب الطلاق

- ‌باب العدة

- ‌باب اللعان

- ‌كتاب الرضاع

- ‌كتاب القصاص

- ‌كتاب الحدود

- ‌باب حد الخمر

- ‌كتاب الأيمان والنذور

- ‌باب النذر

- ‌باب القضاء

- ‌كتاب الأطعمة

- ‌باب الصيد

- ‌باب الأضاحي

- ‌كتاب الأشربة

- ‌كتاب اللباس

- ‌كتاب الجهاد

- ‌كتاب العتق

- ‌باب بيع المُدَبَّر

الفصل: ‌باب فسخ الحج إلى العمرة

الشعث والتعرُّض لقلع الشعر.

قوله: "اختلفا بالأبواء"؛ أي: وهما نازلان بها.

قوله: "لا أماريك"؛ أي: لا أجادلك، قال ابن عبد البر: الظاهر أن ابن عباس كان عنده في ذلك نصٌّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أخَذَه عن أبي أيوب أو غيره؛ ولهذا قال عبد الله بن حنين لأبي أيوب: كيف كان يغسل رأسه ولم يَقُل: هل كان يغسل رأسه.

قال الحافظ: وفي هذا الحديث من الفوائد مناظرة الصحابة في الأحكام ورجوعهم إلى النصوص، وفيه اعتراف للفاضل بفضله، وإنصاف الصحابة بعضهم بعضًا، وفيه استتار الغاسل عند الغسل، والاستعانة في الطهارة، وجواز الكلام والسلام حالة الطهارة، وجواز غسل المحرم وتشريبه شعره بالماء، ودلكه بيده إذا أمن تناثره، والله أعلم.

* * *

‌باب فسخ الحج إلى العمرة

الحديث الأول

عن جابر رضي الله عنه قال: "أهلَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحج وليس مع أحدٍ منهم هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة، وقَدِم علي رضي الله عنه من اليمن فقال: أهللت بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يجعلوها عمرةً فيطوفوا، ثم يقصروا ويحلوا، إلَاّ مَن كان معه الهدي، فقالوا: ننطلق إلى منًى، وذكر أحدنا يقطر فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال:((لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت)) ، وحاضت عائشة فنسكت المناسك

ص: 212

كلها، غير أنها لم تَطُف بالبيت، فلمَّا طهرت طافت بالبيت، قالت: يا رسول الله، تنطلقون بحجة وعمرة، وأنطلق بحج، فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج.

"فسخ الحج إلى العمرة" هو الإحرام بالحج، ثم يتحلَّل منه بعمل عمرة فيصير متمتعًا.

قوله: "أهلَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحج"، (الإهلال) أصله رفع الصوت، والمراد به هنا التلبية.

قوله: "وليس مع أحد منهم هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة" في حديث عائشة عند مسلم: "كان مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وذوي اليسار"، وفي حديث ابن عباس:"وكان طلحة ممن ساق الهدي ولم يحلَّ".

قوله: "وقدم عليٌّ رضي الله عنه من اليمن فقال: أهللت بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم"، ولمسلم في حديث ابن عباس فقال:"لبيك بما أهلَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يقيم على إحرامه وأشركه في الهدي".

قوله: "فقالوا ننطلق إلى منًى وذكَر أحدِنا يقطر"؛ أي: لقرب ملامستهم النساء.

قوله: ((لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت)) قال ابن دقيق العيد: معلل بقوله: {وَلَا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] ، انتهى.

وفيه جواز استعمال (لو) في تمنِّي القربات والعلم والخير.

قوله: "وحاضت عائشة فنسكت المناسك كلها غير أنها لم تطف بالبيت، فلما طهرت طافت بالبيت"، وفي حديث عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ((افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري)) ، قال الحافظ: والحديث ظاهر في نهي الحائض عن الطواف حتى ينقطع دمها وتغتسل؛ لأن النهي في العبادات يقتضي الفساد، وذلك يقتضي بطلان الطواف لو فعلته، وفي معنى الحائض الجنب والمحدِث وهو قول الجمهور، وذهب جمعٌ من الكوفيين إلى عدم الاشتراط، وعند أحمد رواية: أن الطهارة للطواف واجبة تجبر بالدم، وعند المالكية قول يوافق هذا، انتهى.

ص: 213

قال ابن مفلح في "الفروع": وتشترط الطهارة من حدث، قال القاضي وغيره: الطواف كالصلاة في جميع الأحكام إلا في إباحة النطق، وعنه: يجبره بدم، وعنه: إن لم يكن بمكة، وعنه: يصحُّ من ناسٍ ومعذور فقط، وعنه: يجبره بدم، وعنه: وكذا حائض، وهو ظاهر كلام القاضي وجماعة، واختاره شيخنا؛ يعني: شيخ الإسلام ابن تيميَّة، وأنه لا دم لعذر، ونقل أبو طالب: والتطوُّع أيسر وإن طاف فيما لا يجوز له لبسه صحَّ وفدى، ذكره الآجرِّي، انتهى.

قوله: "قالت: يا رسول الله، تنطلقون بحجة وعمرة وأنطلق بحج، فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج"، وفي رواية: "في ذي الحجة، وأن سراقة بن مالك بن جعشم لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالعقبة وهو يرميها، فقال: ألكم هذه خاصة يا رسول الله؟ قال: ((لا، بل للأبد)) .

قال الحافظ: الظاهر أن السؤال وقع عن الفسخ، والجواب وقع عمَّا هو أعمُّ من ذلك؛ أي: فيتناول جواز العمرة في أشهر الحج، وجواز القِرَان، وجواز فسخ الحج إلى العمرة، انتهى.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فأهللنا بعمرة، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن كان معه هدي فليهلَّ بالحج، ثم لا يحلُّ حتى يحلَّ منهما جميعًا، فقدمت مكة وأنا حائض ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((انقضى رأسك وامتشطي وأهلِّي بالحج ودعي العمرة)) ، ففعلت، فلمَّا قضينا الحج أرسلني النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم فاعتمرت، فقال: هذه مكان عمرتك، قالت: فطاف الذين كانوا أهلُّوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلُّوا ثم طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منًى، وأمَّا الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافًا واحدًا"؛ متفق عليه.

قال الحافظ: وفي الحديث جواز الخلوة بالمحارم سفرًا وحضرًا، وإرداف المحرم محرمه معه، واستدلَّ به على تعيُّن الخروج إلى الحلِّ لِمَن أراد العمرة ممَّن كان بمكة.

* * *

ص: 214

الحديث الثاني

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقول: لبيك بالحج، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلناها عمرة".

قال الحافظ: يؤخذ من هذا الحديث فسخ الحج إلى العمرة، وقد ذهب الجمهور إلى أنه منسوخ، وذهب ابن عباس إلى أنه محكم، وبه قال أحمد وطائفة يسيرة، انتهى.

قال الموفق: ومَن كان مفرِدًا أو قارِنًا أحببنا له أن يفسخ إذا طاف وسعى ويجعلها عمرة؛ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك، إلا أن يكون معه هدي فيكون على إحرامه انتهى، والله أعلم.

وقال البخاري: "باب التمتع والقران والإفراد بالحج وفسخ الحج لِمَن لم يكن معه هدي"، ثم ذكر حديث جابر وعائشة وغيرهما.

* * *

الحديث الثالث

عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة أربعة من ذي الحجة مهلِّين بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فقالوا: يا رسول الله، أيُّ الحل؟ قال:((الحلُّ كله)) .

هذا آخر الحديث، وأوَّله: "كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفرًا، ويقولون: إذا برأ الدبر وعفا الأثر

ص: 215

وانسلخ صفر حلت العمرة لِمَن اعتمر، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأصحابه

" الحديث، وفيه دليلٌ على مشروعية فسخ الحج إلى العمرة.

قوله: فقالوا: يا رسول الله، أيُّ الحل؟ قال:((الحل كله)) قال الحافظ: كأنهم يعرفون أن للحج تحلُّلَين فأرادوا بيان ذلك فبيَّن لهم أنهم يتحلَّلون الحلَّ كله؛ لأن العمرة ليس لها إلا تحلُّل واحد، انتهى.

والمراد: إباحة الجماعة وغيره من محظورات الإحرام.

* * *

الحديث الرابع

عن عروة بن الزبير رضي الله عنه قال: "سُئِل أسامة بن زيد وأنا جالس: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير حين دفع؟ فقال: كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص"، العنق: انبساط السير، والنص: فوق ذلك.

قوله: "حين دفع"؛ أي: من عرفة، و (الفجوة) : المتَّسع، وفي رواية "فرجة".

قال ابن عبد البر: في هذا الحديث كيفية السير في الدفع من عرفة إلى مزدلفة لأجل الاستعجال للصلاة؛ لأن المغرب لا تصلَّى إلا مع العشاء بالمزدلفة، فيجمع بين المصلحتين من الوقار والسكينة عند الزحمة، ومن الإسراع عند عدم الزحام،

وفيه أن السلف كانوا يحرصون على السؤال عن كيفية أحواله صلى الله عليه وسلم في جميع حركاته وسكونه؛ ليقتدوا به في ذلك.

تتمَّة:

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "غدَا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منًى حين صلَّى الصبح في صبيحة يوم عرفة حتى أتى عرفة فنزل بنمرة، وهي منزل الإمام الذي ينزل به بعرفة، حتى إذا كان عند صلاة الظهر راح رسول الله صلى الله عليه وسلم مهجِّرًا، فجمَع بين الظهر والعصر، ثم خطَب الناس ثم راح فوقف على الموقف من عرفة"؛ رواه أحمد وأبو داود.

قوله: "حين صلى الصبح"

ص: 216

في حديث جابر عند مسلم: "ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس"، واختلف العلماء - رحمهم الله تعالى - في جواز الجمع والقصر بعرفة لأهل مكة، فلم يجوِّزه الشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه، وجوَّزه مالك وأحمد في الرواية الأخرى عنه، واختارَه شيخ الإسلام ابن تيميَّة وأبو الخطاب.

وقال ابن القيم: "خطب صلى الله عليه وسلم واحدة، فلمَّا أتمَّها أمر بلالاً فأذَّن، ثم أقام الصلاة فصلَّى الظهر ركعتين، ثم أقام فصلى العصر ركعتين أيضًا، ومعه أهل مكة وصلُّوا بصلاته قصرًا وجمعًا بلا ريب، ولم يأمرهم بالإتمام ولا بترك الجمع"، ومَن قال: إنه قال لهم: ((أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر)) فقط غلط، وإنما قال لهم ذلك في غزاة الفتح بجوف مكة حيث كانوا في ديارهم مقيمين، ولهذا كان أصحُّ أقوال العلماء أن أهل مكة يقصرون ويجمعون بعرفة كما فعلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم انتهى.

وقال الموفق في "المغني": والحجة مع مَن أباح القصر لكلِّ مسافر إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه، انتهى.

وعن عروة بن مضرِّس بن أوس بن حارثة بن لامٍ الطائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت: يا رسول الله، إني جئت من جبلي طيِّئ أكللت راحلتي وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه،

فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف قبل ذلك بعرفه ليلاً أو نهارًا، فقد تمَّ حجُّه وقضى تفَثَه)) ؛ رواه الخمسة وصحَّحه الترمذي.

قال المجد: وهو حجَّة في أن نهار عرفة كله وقت للوقوف.

وعن عبد الرحمن بن يعمر: "أن ناسًا من أهل نجد أتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة فسألوه، فأمر مناديًا ينادي: ((الحج عرفة، مَن جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر أدرك أيام منًى ثلاثة أيام، فمَن تعجَّل في يومين فلا إثم عليه، ومَن تأخر فلا إثم عليه)) ، وأردف رجلاً ينادي بهن"؛ رواه الخمسة.

قال الشوكاني: وقد أجمع العلماء على أن مَن وقف في أيِّ جزء كان من عرفات صحَّ وقوفه، ولها أربعة حدود: حد إلى جادة طريق المشرق، والثاني إلى حافات الجبل الذي وراء أرضها، والثالث إلى البساتين التي تلي قرنيها على يسار مستقبِل الكعبة، والرابع وادي عرنة، وليست هي ولا نمرة من عرفات ولا من الحرم،

ص: 217

انتهى.

وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((نحرت ها هنا ومني كلها منحر فانحروا في رحالكم، ووقفت ها هنا وعرفة كلها موقف، ووقفت ها هنا وجمع كلها موقف)) ؛ رواه أحمد ومسلم وأبو داود، ولابن ماجه وأحمد أيضًا نحوه، وفيه: كل فِحَاجِ مكة طريق ومنحر.

وعن أسامة بن زيد قال: "كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات، فرفع يديه يدعو، فمالت به ناقته، فسقط خطامها، فتناول الخطام بإحدى يديه وهو رافع يده الأخرى"؛ رواه النسائي.

قال الموفق: والمستحبُّ أن يقف عند الصخرات وجبل الرحمة ويستقبِل القبلة؛ لما جاء في حديث جابر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة"، انتهى.

تنبيه:

ما يفعله العوامُّ من استقبال قرن عرفة واستدبار القبلة عند الدعاء بدعة مخالفة للسنة، ولا أعلم لذلك أصلاً من كتاب الله - تعالى - ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا قول مَن يقتدي به، وبالله التوفيق.

* * *

الحديث الخامس

عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع فجعلوا يسألونه، فقال رجل: لم أشعر، فحلقت قبل أن أذبح، قال:((اذبح ولا حرج)) ، وقال الآخر: لم أشعر، فنحرت قبل أن أرمي، فقال:((ارمِ ولا حرج)) ، فما سُئِل يومئذٍ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال:((افعل ولا حرج)) .

قوله: "عن عبد الله بن عمر"، قال الحافظ: هو ابن العاص، بخلاف ما وقع في بعض نسخ "العمدة"، وشرح عليه ابن دقيق العيد ومَن تبعه على أنه ابن عمر.

قوله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع"؛ أي: بمنًى "فجعلوا يسألونه"، وفي رواية: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم عند الجمرة وهو يسأل"،

ص: 218

وفي رواية: "وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته"، وفي رواية: "أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم النحر، فقام إليه رجل فقال: كنت أحسب أنَّ كذا قبل كذا، ثم قام آخر فقال: كنت أحسب أن كذا قبل كذا، حلقت قبل أن أنحر، نحرت قبل أن أرمي، وأشباه ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((افعل ولا حرج)) لهن كلهن، فما سُئِل يومئذ عن شيء إلا قال:((افعل ولا حرج)) .

قال الحافظ: كان ذلك يوم النحر بعد الزوال وهو على راحلته يخطب عند الجمرة، ولا يلزم من وقوفه عند الجمرة أن يكون حينئذ رماها، ففي حديث ابن عمر: أنه صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر بين الجمرات فذكر خطبته، فلعل ذلك وقع بعد أن أفاض ورجع إلى منى.

قوله: "فقال رجل لم أشعر أي لم أفطن"، ولمسلم:"لم أشعر أن الرمي قبل النحر، فنحرت قبل أن أرمي"، وقال آخر:"لم أشعر أن النحر قبل الحلق فحلقت قبل أن أنحر"، ولمسلم:"إني حلقت قبل أن أرمي"، وقال آخر:"أفضت إلى البيت قبل أن أرمي".

قوله: ((أذبح ولا حرج)) ؛ أي: لا ضيق عليك في ذلك، قال الحافظ: أي: لا شيء عليك مطلقًا من الإثم، لا في الترتيب ولا في ترك الفدية، هذا ظاهره، وقال بعض الفقهاء: المراد نفي الإثم فقط، وفيه نظر؛ لأن في بعض الروايات الصحيحة:"ولم يأمر بكفارة"، وقال الحافظ أيضًا: وظائف يوم النحر بالاتفاق أربعة أشياء: رمي جمرة العقبة، ثم نحر الهدي أو ذبحه، ثم الحلق أو التقصير، ثم طواف الإفاضة.

وفي حديث أنس في الصحيحين: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى منًى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنًى فنحر وقال للحلاق: ((خذ)) ، ولأبي داود: "رمى ثم نحر ثم حلق".

وقد أجمع العلماء على مطلوبية هذا الترتيب، واختلفوا في جواز تقديم بعضها على بعض؛ فأجمعوا على الإجزاء في ذلك، إلا أنهم اختلفوا في وجوب الدم في بعض المواضع.

وقال القرطبي: ذهب الشافعي وجمهور السلف والعلماء وفقهاء أصحاب الحديث إلى الجواز وعدم وجوب الدم؛ لقوله للسائل: ((لا حرج)) ، فهو ظاهر في رفع الإثم والفدية معًا؛ لأن اسم الضيق يشملها، انتهى.

ولمسلم: فما سمعته سُئِل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء أو يجعل من تقديم بعض الأمور على بعض وأشباهها إلا قال: ((افعلوا ولا حرج)) ،

ص: 219

قال الموفق في "المغني": قال الأثرم عن أحمد: إن كان ناسيًا أو جاهلاً فلا شيء عليه، وإن كان عالمًا فلا؛ لقوله في الحديث:((لم أشعر)) .

وقال ابن دقيق العيد: ما قاله أحمد قوي من جهة أن الدليل دلَّ على وجوب اتِّباع الرسول في الحج بقوله: ((خذوا عني مناسككم)) ، وهذه الأحاديث

المرخِّصة في تقديم ما وقع عنه تأخيره قد قُرِنت بقول السائل: لم أشعر، فيختصُّ الحكم بهذه الحالة وتبقى حالة العمد على أصل وجوب الاتباع في الحج.

قال الحافظ: وفي الحديث من الفوائد جواز القعود على الراحلة للحاجة، ووجوب اتباع أفعال النبي صلى الله عليه وسلم لكون الذين خالفوها لمَّا علموا سألوه عن حكم ذلك، واستدلَّ به البخاري على أن مَن حلف على شيء ففعله ناسيًا أو جاهلاً أن لا شيء عليه.

* * *

الحديث السادس

عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي: "أنه حجَّ مع ابن مسعود رضي الله عنه فرآه يرمي الجمرة الكبرى بسبع حصياتٍ فجعل البيت عن يساره ومنًى عن يمينه، ثم قال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم".

قال الأعمش: سمعت الحجاج يقول على المنبر: السورة التي يذكر فيها البقرة والسورة التي يذكر فيها آل عمران، والسورة التي يذكر فيها النساء، قال: فذكرت ذلك لإبراهيم فقال: حدثني عبد الرحمن بن يزيد أنه كان مع ابن مسعود رضي الله عنه حين رمى جمرة العقبة فاستبطن الوادي حتى إذا حاذَى بالشجرة اعترَضَها فرمى بسبع حصيات يكبِّر مع كل حصاة، ثم قال: من ها هنا، والذي لا إله غيره قام الذي أنزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم.

قال الحافظ: تمتاز جمرة العقبة عن

ص: 220

الجمرتين الأُخرَيَيْن بأربعة أشياء: اختصاصها بيوم النحر، وأن لا يوقف عندها، وترمي ضحى، ومن أسفلها استحبابًا.

قال: وليست من منًى بل هي حد مني من جهة مكة، وهي التي بايَع النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار عندها على الهجرة، و (الجمرة) : اسم لمجتمع الحصى.

قال: وقد أجمعوا على أنه من حيث رماها جاز، سواء استقبلها، أو جعلها عن يمينه، أو عن يساره، أو من فوقها، أو من أسفلها، أو وسطها، والاختلاف في الأفضل، انتهى.

وخصَّ ابن مسعود سورة البقرة لأنها التي ذكر الله فيها كثيرًا من أفعال الحج، وقيل: خص البقرة بذلك لطولها وعظم قدرها وكثرة ما فيها من الأحكام.

قال الحافظ: واستدلَّ بهذا الحديث على اشتراط رمي الجمرات واحدة واحدة؛ لقوله: "يكبر مع كل حصاة"، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:((خذوا عنِّي مناسككم)) ، وفيه ما كان الصحابة عليه من مراعاة حال النبي صلى الله عليه وسلم في كلِّ حركة وهيئة، ولا سيَّما في أعمال الحج، وفيه التكبير عند رمي حصى الجمار، وأجمعوا على أن مَن لم يكبر فلا شيء عليه.

فائدة:

زاد محمد بن عبد الرحمن بن يزيد النخعي عن أبيه في هذا الحديث عن ابن مسعود: أنه لما فرغ من رمي جمرة العقبة قال: "اللهم اجعله حجًا مبرورًا وذنبًا مغفورًا"، انتهى.

تتمَّة:

عن الفضل بن العباس رضي الله عنهما وكان رديف النبي صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في عشية عرفة وغداةَ جمع للناس حين دفعوا: ((عليكم السكينة)) ، وهو كافٌّ ناقته حتى دخل محسِّرًا وهو من منى، قال:((وعليكم بحصى الخذف الذي يرمى به الجمرة)) ؛ رواه أحمد ومسلم.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لضَعَفة الناس من المزدلفة بليل"؛ رواه أحمد.

وعن جابر رضي الله عنه قال: "رمى النبي صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحى، وأمَّا بعد فإذا زالت الشمس"؛ أخرجه الجماعة.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى الجمار مشى إليها ذاهبًا وراجعًا"؛ رواه الترمذي وصحَّحه، وفي لفظٍ عنه: أنه كان يرمي الجمرة يوم النحر راكبًا، وسائر ذلك ماشيًا، ويخبرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك؛

ص: 221

رواه أحمد.

وعن سالم عن ابن عمر: أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبِّر مع كل حصاة، ثم يتقدَّم فيسهل، فيقوم مستقبل القبلة طويلاً ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل، فيقوم مستقبل القبلة، ثم يدعو ويرفع يديه ويقوم طويلاً، ثم يرمي الجمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها، ثم ينصرف ويقول: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله؛ رواه أحمد والبخاري.

وعن سعد بن مالك رضي الله عنه قال: "رجعنا في الحجة مع النبي صلى الله عليه وسلم وبعضنا يقول: رميت بسبع حصيات، وبعضنا يقول: رميت بست حصيات، فلم يعب بعضهم على بعض"؛ رواه أحمد والنسائي.

وعن وبرة قال: "سألت ابن عمر رضي الله عنهما: متى أرمي الجمار؟ قال: إذا رمى إمامك فارمِه، فأعدت عليه المسألة، قال: كنَّا نتحيَّن فإذا زالت الشمس رمينا"؛ رواه البخاري.

قال الحافظ: فيه دليلٌ على أن السنة أن يرمي الجمار في غير يوم الأضحى بعد الزوال، وبه قال الجمهور، وخالَف فيه عطاء وطاوس فقالا: يجوز قبل الزوال مطلقًا، ورخَّص الحنفية في الرمي في يوم النفر قبل الزوال، وقال إسحاق: إن رمى قبل الزوال أعاد، إلَاّ في اليوم الثالث فيجزئه، انتهى.

وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ورقد رقدة بالمحصب، ثم ركب إلى البيت فطاف به؛ رواه البخاري.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "إنما كان منزلاً ينزله النبي صلى الله عليه وسلم ليكون أسمح لخروجه"؛ تعني: بالأبطح، متفق عليه.

وعن عبد العزيز ابن رفيع قال: "سألت أنس بن مالك: أخبِرني بشيء عقلتَه عن النبي صلى الله عليه وسلم أين صلى الظهر يوم التروية؟ قال: بمنًى، قلت: فأين صلى العصر يوم النفر؟ قال: بالأبطح، افعل كما يفعل أمراؤك"؛ متفق عليه.

* * *

الحديث السابع

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم ارحم المحلِّقين)) ، قالوا: والمقصِّرين يا رسول الله؟

ص: 222

قال: ((اللهم ارحم المحلِّقين)) ، قالوا: يا رسول الله، والمقصِّرين؟ قال:((والمقصِّرين)) .

الحلق أو التقصير: نسك من مناسك الحج والعمرة؛ قال الله - تعالى -: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 27] .

قوله: ((اللهم ارحم المحلقين)) في حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم اغفر للمحلِّقين)) ، قالوا: وللمقصِّرين، قال:((اللهم أغفر للمحلِّقين)) ، قالوا: وللمقصِّرين، قالها ثلاثًا، قال:((وللمقصرين)) .

وعن ابن عمر قال: "حلق النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأناس من أصحابه وقصر بعضهم".

وزاد فيه مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يرحم الله المحلِّقين)) .

قوله: "قالوا: والمقصرين يا رسول الله" قال الحافظ: الواو في قوله: ((والمقصرين)) معطوفة على شيء محذوف تقديره: قل: والمقصرين، أو: قل: وأرحم المقصرين، وهو يسمى العطف التلقيني، انتهى.

وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لأهل الحديبية، للمحلِّقين ثلاثًا وللمقصِّرين مرَّة"؛ رواه أحمد، قال الحافظ: ظاهر الروايات أن ذلك كان بالحديبية وفي حجة

ص: 223

الوداع، إلَاّ أن السبب في الموضعين

مختلف؛ فالذي بالحديبية كان بسبب توقُّف مَن توقَّف من الصحابة عن الإحلال لما دخل عليهم من الحزن لكونهم مُنِعوا من الوصول إلى البيت مع اقتدارهم في أنفسهم على ذلك، فحالَفَهم النبي صلى الله عليه وسلم وصالَح قريشًا على أن يرجع من العام المُقبِل، فلمَّا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإحلال توقَّفوا، فأشارت أم سلَمَة أن يحلَّ هو صلى الله عليه وسلم قبلهم ففعل فتبعوه، فحلق بعضهم وقصَّر بعض، وكان مَن بادر إلى الحلق أسرع إلى امتثال الأمر ممَّن اقتصر على التقصير، وقد وقع التصريح بهذا السبب في حديث ابن عباس؛ فإن في آخره عند ابن ماجه وغيره: أنهم قالوا: يا رسول الله، ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالرحمة؟ قال:((لأنهم لم يشكُّوا)) ، وأمَّا السبب في تكرير الدعاء للمحلِّقين في حجة الوداع، فالأَوْلَى ما قاله الخطابي وغيره: إن عادة العرب أنها كانت تحبُّ توفير الشعر والتزيُّن به، وكان الحلق فيهم قليلاً، وربما كانوا يرَوْنَه من الشهرة ومن زيِّ الأعاجم، فلذلك كرهوا الحلق واقتصروا على التقصير.

قال: وفي الحديث من الفوائد أن التقصير يجزى عن الحلق، وفيه أن الحلق أفضل من التقصير، ووجهه أنه أبلغ في العبادة وأَبْيَن للخضوع والذلَّة وأدلُّ على صدق النية، والذي يقصر يبقى على نفسه شيئًا مما يتزيَّن به بخلاف الحالق فإنه يشعر بأنه ترك ذلك لله - تعالى - واستدلَّ بقوله:((المحلقين)) على مشروعية حلق جميع الرأس؛ لأنه الذي تقتضيه الصيغة، وقال بوجوب حلق جميعه مالك وأحمد، واستحبَّه الكوفيون والشافعي، والتقصير كالحلق، فالأفضل أن يقصر من جميع شعر رأسه، ويستحب أن لا ينقص عن قدر الأنملة، وهذا كله في حق الرجال، وأما النساء: فالمشروع في حقِّهن التقصير بالإجماع، وفيه حديثٌ لابن عباس عند أبي داود، ولفظه:((ليس على النساء حلق، وإنما على النساء التقصير)) ، وللترمذي من حديث عليٍّ:"نهى أن تحلق المرأة رأسها".

وفي الحديث أيضًا مشروعيةُ الدعاء لِمَن فعل ما شرع له وتكرير الدعاء لِمَن فعل الراجح من الأمرين المخيَّر فيهما، والتنبيه بالتكرار على الرجحان، وطلب الدعاء لِمَن فعل الجائز وإن كان مرجوحًا، انتهى ملخصًا.

* * *

الحديث الثامن

عن عائشة رضي الله عنها قالت: "حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأفضنا يوم النحر، فحاضت صفية، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم منها ما يريد الرجل من أهله، فقلت: يا رسول الله، إنها حائض، فقال:((أحابِسَتَنا هي؟)) ، قالوا: يا رسول الله، إنها قد أفاضت يوم النحر،

ص: 224

قال: ((اخرجوا)) ، وفي لفظ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((عَقْرَى حَلْقَى، أفاضت يوم النحر؟)) ، قيل: نعم، قال:((فانفري)) .

قوله صلى الله عليه وسلم: ((عَقْرَى حَلْقَى)) ؛ أي: عقرها الله وحلق شعرها، والعرب تدعو على الرجل ولا تريد وقوع الأمر به، كما قالوا: قاتَلَه الله، وترِبت يداه، ونحو ذلك.

قوله: ((أحابستنا هي؟)) قال الحافظ: أي: مانعتنا من التوجُّه من مكة في الوقت الذي أردنا التوجُّه فيه ظنًّا منه صلى الله عليه وسلم أنها ما طافت طواف الإفاضة، وإنما قال ذلك لأنه كان لا يتركها ويتوجَّه، ولا يأمرها بالتوجُّه معه وهي باقية على إحرامها، فيحتاج إلى أن يقيم حتى تطهر وتطوف وتحل الحل الثاني.

قوله: ((أفاضت يوم النحر؟)) ، قيل: نعم، قال:((فانفري)) قال ابن المنذر: قال عامة الفقهاء بالأمصار: ليس على الحائض التي قد أفاضت طواف وداع، انتهى.

وعن عكرمة: "أن أهل المدينة سألوا ابن عباس رضي الله عنهما عن امرأة طافت ثم حاضت، قال لهم: تنفر، قالوا: لا نأخذ بقولك وندع قول زيد، قال: إذا قدمتم المدينة فسلوا، فقدموا المدينة فسألوا: فكان فيمَن سألوا أم سليم، فذكرت حديث صفية"؛ متفق عليه.

قال الحافظ: وفي الحديث أن طواف الإفاضة ركن، وأن الطهارة شرطٌ لصحة الطواف، وأن طواف الوداع واجب، وقد ذكر مالك في "الموطأ": أنه يلزم الجمال أن يحبس لها؛ أي: لِمَن لم تَطُفْ طواف الإفاضة إلى انقضاء أكثر مُدَّة

الحيض، وكذا على النفساء، واستشكله ابن المواز بأن فيها تعريضًا للفساد كقطع الطريق، وأجاب عياض بأن محلَّ ذلك مع أمن الطريق، كما أن محلَّه أن يكون مع المرأة محرم، انتهى.

وقال ابن مفلح في "الفروع": ويلزم الناس في الأصحِّ وجزَم به ابن شهاب انتظارها إن أمكن، ونقل المروذي في المريض ببلد العدو يقيمون عليه، قال: لا ينبغي للوالي أن يقيم عليه، انتهى.

وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: والمحصَر بمرض أو ذهاب نفقة كالمحصَر بعدوٍّ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، ومثله حائض تعذَّر مقامها وحرم طوافها أو رجعت ولم تَطُفْ لجهلها بوجوب طواف الزيارة، أو لعجزها

ص: 225

عنه، أو لذهاب الرفقة، والمحصَر يلزمه دم في أصح الروايتين، ولا يلزمه قضاء حجه إن كان تطوعًا، وهو إحدى الروايتين انتهى، والله أعلم.

* * *

الحديث التاسع

عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "أُمِر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خُفِّف عن المرأة الحائض".

طواف الوداع واجب، ويلزم بتركه دمٌ، وهو قول أكثر العلماء.

قوله: "أُمِر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت"؛ أي: أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية لمسلم قال: "كان الناس ينصرفون في كلِّ وجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت)) .

قال الحافظ: وفيه دليل على وجوب طواف الوداع للأمر المؤكَّد به وللتعبير في حق الحائض بالتخفيف، والتخفيف لا يكون إلا من أمر مؤكَّد، واستدلَّ به على أن الطهارة شرط لصحة الطواف، انتهى، والله أعلم.

* * *

الحديث العاشر

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "استأذن العباس بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته، فأذن له".

قال الحافظ: في الحديث دليلٌ على وجوب المبيت بمنًى، وأنه من مناسك الحج؛ لأن التعبير بالرخصة يقتضي أن مقابلها عزيمة، وأن الإذن وقَع للعلة المذكورة وإذا لم توجد أو ما في معناها لم يحصل الإذن، وبالوجوب قال الجمهور، وفي الحديث

ص: 226

أيضًا استئذان الأمراء والكبراء فيما يطرأ من المصالح والأحكام، وبدار مَن استؤمر إلى الإذن عند ظهور المصلحة، والمراد بليالي منًى ليلة الحادي عشر واللتين بعدها، انتهى.

قال الأزرقي: "كان عبدمناف يحمل الماء في الروايا والقرب إلى مكة ويسكبه في حياض من أدم بفناء الكعبة للحجاج، ثم فعله ابنه هاشم بعده ثم عبد المطلب، فلمَّا حفر زمزم كان يشتري الزبيب فينبذه في ماء زمزم ويسقي الناس.

قال ابن إسحاق: ثم ولي السقاية من بعد عبد المطلب ولده العباس وهو يومئذ من أحدث إخوته سنًّا، فلم تزل بيده حتى قام الإسلام وهي بيده، فأقرَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، فهي اليوم إلى بني العباس، روى الفاكهي عن ابن عباس: أن العباس لما مات أراد عليٌّ أن يأخذ السقاية، فقال له طلحة: أشهد لَرَأيت أباه يقوم عليها، وإن أباك أبا طالب لنازل في إبله بالأراك بعرفة، قال: فكف علي عن السقاية".

ومن طريق ابن جريج قال: "قال العباس: يا رسول الله، لو جمعت لنا الحجابة والسقاية، فقال:((إنما أعطيتكم ما تُرزؤون ولم أعطكم ما تَرزؤون)) ؛ أي: أعطيتكم ما ينقصكم لا ما تنقصون به الناس.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى السقاية فاستسقى، فقال العباس: يا فضل، أذهب إلى أمك فائت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها، فقال:((اسقني)) ، قال يا رسول الله، إنهم يجعلون أيديهم فيه، قال:((اسقني)) ، فشرب منه، ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها، فقال: ((اعملوا

فإنكم على عمل صالح)) ، ثم قال:((لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذه)) ؛ يعني: عاتقه، وأشار إلى عاتقه"؛ رواه البخاري.

تتمَّة:

عن عاصم بن عدي رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منًى، يرمون يوم النحر ثم يرمون الغداة ومن بعد الغد ليومين ثم يرمون يوم النفر"؛ رواه الخمسة وصحَّحه الترمذي.

وفي رواية: "رخص للرعاء أن يرموا يومًا ويدعوا يومًا"؛ رواه أبو داود والنسائي، وللترمذي:"ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر يرمون في أحدهما".

قال الشوكاني في قوله: "ويدعوا يومًا": أي: يجوز لهم أن يرموا الأوَّل من أيام التشريق ويذهبوا

ص: 227

إلى إبلهم فيبيتوا عندها، ويدعوا يوم النفر الأول ثم يأتوا في اليوم الثالث فيرموا ما فاتهم في اليوم الثاني مع الثاني مع رمي اليوم الثالث، وفيه تفسير ثانٍ: وهو أنهم يرمون جمرة العقبة ويدعون رمي ذلك اليوم ويذهبون، ثم يأتون في اليوم الثاني من التشريق فيرمون ما فاتهم، ثم يرمون ذلك اليوم كما تقدَّم وكلاهما جائز، انتهى.

وقال الموفق: وإن أخَّر الرمي كله فرماه في آخر أيام التشريق أجزأه ويرتبه بنيته، وإن أخَّره عن أيام التشريق أو ترك المبيت بمنًى في لياليها فعليه دم، وفي حصاة واحدة أو ليلة واحدة ما في حلق شعرة، وليس على أهل سقاية الحاج والرعاء مبيت بمنى، انتهى.

وعن أبي نضرة قال: "حدثني من سمع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق فقال: ((يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألَا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على

أحمر - إلا بالتقوى، أبلغت؟)) ، قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم"؛ رواه أحمد.

وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: "دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت، فحمد الله وأثنى عليه، وكبر وهلل، ثم قام إلى ما بين يديه من البيت فوضع صدره عليه وخده ويديه، ثم هلل وكبر ودعا، ثم فعل ذلك بالأركان كلها، ثم خرج فأقبل على القبلة وهو على الباب فقال: ((هذه القبلة، هذه القبلة)) ، مرتين أو ثلاثًا"؛ رواه أحمد والنسائي.

وعن عبد الرحمن بن صفوان رضي الله عنه قال: "لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة انطلقت فوافقته قد خرج من الكعبة وأصحابه قد استلموا البيت من الباب إلى الحطيم، وقد وضعوا خدودهم على البيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطهم"؛ رواه أحمد وأبو داود، وبالله التوفيق.

* * *

الحديث الحادي عشر

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بجمعٍ يجعل لكلِّ واحدة منهما إقامة ولم يسبِّح بينهما، ولا على أثر واحدة منهما".

ص: 228

قوله: "بجمع"؛ أي: المزدلفة، وفي حديث أسامة:"دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة، فنزل الشِّعْبَ فبَالَ، ثم توضَّأ ولم يسبغ الوضوء، فقلت له: الصلاة، فقال: ((الصلاة أمامك)) ، فجاء المزدلفة فتوضَّأ فأسبغ، ثم أُقِيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أُقِيمت الصلاة فصلى العشاء ولم يصلِّ بينهما"؛ متفق عليه.

ولمسلم: "فأقام المغرب ثم أناخ الناس ولم يحلُّوا حتى أقام العشاء، فصلُّوا ثم حلُّوا"، قال الحافظ: وكأنهم صنعوا ذلك رفقًا بالدواب أو للأمن من تشوُّشِهم بها، وفيه إشعارٌ بأنه خفَّف القراءة في الصلاتين، وفيه أنه لا بأس بالعمل اليسير بين الصلاتين اللتين يجمع بينهما ولا يقطع ذلك الجمع، انتهى.

وعن جابر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المزدلفة فصلَّى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئًا ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حين تبيَّن له الصبح بأذان وإقامة"؛ رواه مسلم.

وفي حديث ابن مسعود: فلمَّا طلع الفجر قال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي هذه الساعة، إلا هذه الصلاة في هذا المكان من هذا اليوم، قال عبد الله: هما صلاتان يحولان عن وقتهما: صلاة المغرب بعدما يأتي الناس المزدلفة، والفجر حين يبزغ الفجر"؛ رواه البخاري.

قوله: "ولم يسبح بينهما ولا على أثر واحدة منهما"، قال الحافظ: ويستفاد منه أنه ترك التنفُّل عقب المغرب وعقب العشاء، ولما لم يكن بين المغرب والعشاء مهلة، صرح بأنه لم يتنفَّل بينهما بخلاف العشاء، فإنه يحتمل أن يكون أنه لم يتنفَّل بعدها، لكن تنفَّل بعد ذلك في أثناء الليل، انتهى.

وقال ابن رشد في "بداية المجتهد": واختلفوا إذا كان الإمام مكيًّا، هل يقصر بمنًى الصلاة يوم التروية، وبعرفة يوم عرفة، وبالمزدلفة ليلة النحر إن كان من أحد هذه المواضع؟ فقال مالك والأوزاعي وجماعة: سنة هذه المواضع التقصير سواء كان من أهلها أو لم يكن.

وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وداود: لا يجوز أن يقصر مَن كان من أهل تلك المواضع.

وحجة مالك: أنه لم يروَ أن أحدًا أتمَّ الصلاة معه صلى الله عليه وسلم أعني بعد سلامه منها.

وحجة الفريق الثاني البقاء على الأصل المعروف أن القصر لا يجوز إلا للمسافر حتى يدل الدليل على التخصيص، انتهى.

قال شيخ الإسلام

ص: 229