الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوقت أو الزمان، والتقدير الثلث كأنه قال: الليالي العشر التي هي الثلث الأوسط من الشهر، انتهى.
قال ابن دقيق العيد: في الحديث دليلٌ لِمَن يرجح ليلة إحدى وعشرين في طلب ليلة القدر، ومَن ذهب إلى أن ليلة القدر تنتقل في الليالي فله أن يقول: كانت في تلك السنة ليلة إحدى وعشرين، ولا يلزم من ذلك أن تترجَّح هذه الليلة مطلقًا، والقول بتنقُّلها حسن؛ لأن فيه جمعًا بين الأحاديث، وحثًّا على إحياء جميع تلك الليالي، انتهى.
وقال الحافظ بعدما ذكر الاختلاف فيها على ستة وأربعين قولاً، وأرجحها كلها أنها في وترٍ من العشر الأخير، وأنها تنتقل، وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين.
قال العلماء: الحكمة في إخفاء ليلة القدر ليحصل الاجتهاد في التماسِها بخلاف ما لو عُيِّنت لها ليلة لاقتصر عليها كما تقدَّم نحوه في ساعة الجمعة.
قال: وفي حديث أبي سعيد من الفوائد تركُ مسح جبهة المصلِّي، وفيه جواز السجود في الطين، وفيه الأمر بطلَب الأَوْلَى والإرشاد إلى تحصيل الأفضل، وأن النسيان جائزٌ على النبي صلى الله عليه وسلم ولا نقصَ عليه في ذلك لا سيَّما فيما لم يؤذَن له في تبليغه، وقد يكون في ذلك مصلحة تتعلَّق بالتشريع؛ كما في السهو في الصلاة، أو بالاجتهاد في العبادة؛ كما في هذه القصة، وفيه استعمال رمضان بدون شهر، واستح
باب الاعتكاف
فيه وترجيح اعتكاف العشر الأخير، وأن من الرؤيا ما يقع تعبيره مطابقًا، وترتُّب الأحكام على رؤيا الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام.
* * *
باب الاعتكاف
الحديث الأول
عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان حتى توفَّاه الله - تعالى - ثم
اعتكف أزواجه من بعده.
وفي لفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في كلِّ رمضان، فإذا صلى الغداة جاء مكانه الذي اعتكف فيه.
(الاعتكاف) : هو المقام في المسجد لطاعة الله - تعالى - على صفة مخصوصة، وهو قربة وطاعة؛ قال الله - تعالى -:{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26]، وقال - تعالى -:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187] .
وهو في اللغة: لزوم الشيء وحبس النفس عليه، برًّا كان أو غيره، ومنه قوله - تعالى -:{مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] .
قال ابن دقيق العيد: وحديث عائشة فيه استحباب مطلق الاعتكاف، واستحبابه في رمضان بخصوصه، وفي العشر الأواخر بخصوصها، وفيه تأكيد هذا الاستحباب بما أشعر به اللفظ من المداوَمَة، وبما صرَّح به في الرواية الأخرى من قولها:"في كل رمضان"، وبما دلَّ عليه من عمل أزواجه من بعده، وفيه دليلٌ على استواء الرجل والمرأة في هذا الحكم، انتهى.
قوله: "فإذا صلى الغداة جاء مكانه الذي اعتكف فيه" فيه أن أوَّل الوقت الذي يدخل فيه المعتكف بعد صلاة الصبح، وهو قول الأوزاعي والليث والثوري، ورواية عن الإمام أحمد، وبه قال الأوزاعي وإسحاق، وقال الجمهور: يدخل قبل غروب الشمس.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتَكَفه، وأنه أمر بخِبَاء فضُرِب لمَّا أراد الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، فأمرت زينب بخبائها فضُرِب، وأمرت غيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بخبائها فضُرِب، فلمَّا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر نظر فإذا الأخبية فقال: ((البر يردن)) ، فأمر بخبائه ففوض وترك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف في العشر الأواخر من شوال"؛ رواه
الجماعة إلا الترمذي، لكن له منه:"كان إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه".
وفي اعتكافه صلى الله عليه وسلم في شوال دليلٌ على استحباب قضاء النوافل المعتادة إذا فاتت، والله أعلم.
* * *
الحديث الثاني
عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تُرَجِّل النبي صلى الله عليه وسلم وهي حائض وهو معتكِف في المسجد وهي في حجرتها يناولها رأسه، وفي رواية: وكان لا يدخل البيت إلا لحاجه الإنسان، وفي رواية: أن عائشة قالت: "إني كنت لا أدخل البيت إلا للحاجة والمريض فيه فما أسأل عنه إلا وأنا مارَّه".
في الحديث دليلٌ على أن خروج رأس المعتكف من المسجد لا يُبطِل اعتكافه، وفيه دليلٌ على طهارة بدن الحائض، وفيه دليلٌ على عدم خروج المعتكِف إلَاّ لما لا بُدَّ منه، وفيه جواز عيادة المريض على وجه المرور من غير تعريج.
قوله: "تُرَجِّل النبيَّ صلى الله عليه وسلم"؛ أي: تمشِّط رأسه وتدهنه.
قال الحافظ: وفي الحديث جواز التنظُّف والتطيُّب والغسل والحلق والتزيُّن إلحاقًا بالترجُّل، والجمهور على أنه لا يُكرَه في المسجد.
قوله: "وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان" قال الحافظ: وفسَّرها الزهري بالبول والغائط، وقد اتَّفقوا على استثنائهما، واختلفوا في غيرهما من
الحاجات كالأكل والشرب، ولو خرج لهما فتوضَّأ خارج المسجد لم يبطل، ويلتحق بهما القيء والفصد لِمَن احتاج إليه.
* * *
الحديث الثالث
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة - وفي رواية: يومًا - في المسجد الحرام، قال:((فأوفِ بنذرك)) ، ولم يذكر بعض الرواة يومًا ولا ليلة.
استدل بالحديث على أن الصوم ليس بشرطٍ في الاعتكاف؛ لأن الليل ليس وقتًا للصوم، فلو كان شرطًا لأمر به النبي صلى الله عليه وسلم وفيه دليلٌ على لزوم الوفاء بنذر القربة، وفيه أنه لا يشترط للاعتكاف حدٌّ معين.
* * *
الحديث الرابع
عن صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكِفًا، فأتيته أزوره ليلاً، فحدثته، ثم قمت لأنقلب، فقام معي ليقلبني، وكان مسكنها في بيت أسامة بن زيد، فمرَّ رجلان من الأنصار، فلمَّا رأَيَا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرَعَا في المشي، فقال:((على رِسْلِكُمَا، إنها هي صفية بنت حُيَيٍّ)) ، فقالا: سبحان الله يا رسول الله، فقال:((إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خفتُ أن يقذف في قلوبكما شرًّا - أو قال: شيئًا)) ، وفي رواية: أنها جاءت تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر
الأواخر من رمضان، فتحدَّثت عنده ساعة، ثم قامت تنقلب، فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يقلبها حتى إذا بلغ باب المسجد عند باب أم سلمة
…
ثم ذكره بمعناه.
فيه دليلٌ على جواز زيارة المرأة للمعتكِف، وجواز التحدُّث معه، والمشي مع الزائر.
قولها: "يقلبني"؛ أي: يردُّها إلى منزلها.
قال الحافظ: وفي الحديث من الفوائد جواز اشتغال المعتكِف بالأمور المباحة؛ من تشييع زائره، والقيام معه، والحديث مع غيره، وإباحة خلوة المعتكف بالزوجة، وزيارة المرأة للمعتكف، وبيان شفَقَتِه صلى الله عليه وسلم على أمته، وإرشادهم إلى ما يدفع عنهم الإثم، وفيه التحرُّز من التعرُّض لسوء الظن، والاحتفاظ من كيد الشيطان والاعتذار.
قال ابن دقيق العيد: وهذا متأكِّد في حق العلماء ومَن يقتدي به، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلاً يوجِب سوء الظن بهم وإن كان لهم فيه مخلص؛ لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع يعلمهم، ومن ثَمَّ قال بعض العلماء: ينبغي للحاكم أن يبيِّن للمحكوم عليه وجهَ الحكم إذا كان خافيًا؛ نفيًا للتهمة، ومن هنا يظهر خطأ مَن يتظاهر بمظاهر السوء ويعتذر بأنه يجرِّب بذلك على نفسه، وقد عَظُم البلاء بهذا الصنف، والله أعلم.
وفيه إضافة بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليهن، وفيه جواز خروج المرأة ليلاً، وفيه قول: سبحان الله عند التعجُّب، وقد وقعت في الحديث لتعظيم الأمر وتهويله وللحياء من ذكره كما في حديث أم سليم، انتهى وبالله التوفيق.
* * *