المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب الرهن وغيره - خلاصة الكلام شرح عمدة الأحكام

[فيصل آل مبارك]

فهرس الكتاب

- ‌ترجمة المؤلف:

- ‌كتاب الطهارة

- ‌باب دخول الخلاء والاستطابة

- ‌باب السواك

- ‌باب المسح على الخفين

- ‌باب في المذي وغيره

- ‌باب الغسل من الجنابة

- ‌باب التيمم

- ‌كتاب الصلاة

- ‌باب المواقيت

- ‌باب فضل الصلاة الجماعة ووجوبها

- ‌باب الأذان

- ‌باب استقبال القبلة

- ‌باب الصفوف

- ‌باب الإمامة

- ‌باب صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌باب وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود

- ‌باب القراءة في الصلاة

- ‌باب ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم

- ‌باب سجود السهو

- ‌باب المرور بين يدي المصلي

- ‌باب جامع

- ‌باب التشهد

- ‌باب الوتر

- ‌باب الذكر عقب الصلاة

- ‌باب الجمع بين الصلاتين في السفر

- ‌باب قصر الصلاة في السفر

- ‌باب الجمعة

- ‌باب صلاة العيدين

- ‌باب صلاة الكسوف

- ‌باب الاستسقاء

- ‌باب صلاة الخوف

- ‌كتاب الجنائز

- ‌كتاب الزكاة

- ‌باب صدقة الفطر

- ‌كتاب الصيام

- ‌باب الصوم في السفر وغيره

- ‌باب أفضل الصيام وغيره

- ‌باب ليلة القدر

- ‌باب الاعتكاف

- ‌كتاب الحج

- ‌باب المواقيت

- ‌باب ما يلبس المحرم من ثياب

- ‌باب الفدية

- ‌باب حرمة مكة

- ‌باب ما يجوز قتله

- ‌باب دخول مكة وغيره

- ‌باب التمتع

- ‌باب الهدي

- ‌باب الغسل للمحرم

- ‌باب فسخ الحج إلى العمرة

- ‌باب الحرم يأكل من صيد الحلال

- ‌كتاب البيوع

- ‌باب ما نهى الله عنه من البيوع

- ‌باب العرايا وغير ذلك

- ‌باب السَّلَم

- ‌باب الشروط في البيع

- ‌باب الربا والصرف

- ‌باب الرهن وغيره

- ‌باب اللقطة

- ‌باب الوصايا وغير ذلك

- ‌باب الفرائض

- ‌كتاب النكاح

- ‌باب الصداق

- ‌كتاب الطلاق

- ‌باب العدة

- ‌باب اللعان

- ‌كتاب الرضاع

- ‌كتاب القصاص

- ‌كتاب الحدود

- ‌باب حد الخمر

- ‌كتاب الأيمان والنذور

- ‌باب النذر

- ‌باب القضاء

- ‌كتاب الأطعمة

- ‌باب الصيد

- ‌باب الأضاحي

- ‌كتاب الأشربة

- ‌كتاب اللباس

- ‌كتاب الجهاد

- ‌كتاب العتق

- ‌باب بيع المُدَبَّر

الفصل: ‌باب الرهن وغيره

به نسيئة ما لم تكن حاجة، والتحقيق في عقود الربا إذا لم يحصل فيها القبض أن لا عقد، والكيمياء باطلة محرَّمة، وتحريمها أشدُّ من تحريم الربا، ولا يجوز بيع الكتب التي تشتمل على معرفة صناعتها، وأفتى بعض ولاة الأمور بإتلافها، ويجوز قرض الخبز وردُّ مثله عددًا بلا وزن من غير قد الزيادة، وهو مذهب أحمد، ولو أقرضه في بلد آخر جاز على الصحيح، ويجوز قرض المنافع مثل أن يحصد معه يومًا، ويحصد معه الآخر يومًا، أو يسكنه دارًا ليسكنه الآخر بدلها، انتهى، والله أعلم.

* * *

‌باب الرهن وغيره

الحديث الأول

عن عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعامًا ورهنه درعًا من حديد".

(الرهن) : هو المال الذي يُجعَل وثيقة بالدين ليستوفى من ثمنه إن تعذَّر استيفاؤه من الغريم، وهو جائزٌ بالكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله - تعالى -:{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 283] .

قال الحافظ: وإنما قيَّده بالسفر لأنه مظنَّة فَقْدِ الكاتب فأخرجه مخرَج الغالب، قال: وفي الحديث جواز معاملة الكفار فيما لم يتحقق تحريم عين المتعامل فيه، وعدم الاعتبار بفساد معتقدهم ومعاملاتهم فيما بينهم، واستنبط منه جواز معاملة مَن أكثر ماله حرام، وفيه جواز بيع السلاح ورهنه وإجارته وغير ذلك من الكافر ما لم يكن حربيًّا، وفيه ثبوت أملاك أهل الذمة في أيديهم، وجواز الشراء بالثمن المؤجَّل، واتِّخاذ الدروع والعدد وغيرها من آلات الحرب، وأنه غير قادح في التوكُّل، وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التواضع والزهد في الدنيا والتقلُّل منها مع قدرته عليها، والكرم الذي أفضى به إلى عدم

ص: 261

الادِّخار حتى احتاج إلى رهن درع والصبر على ضيق العيش والقناعة باليسير، وفيه فضيلة لأزواجه لصبرهن معه على ذلك.

قال العلماء: الحكمة في عدوله صلى الله عليه وسلم عن معاملة مياسير الصحابة إلى معاملة اليهود إمَّا لبيان الجواز، أو لأنهم لم يكن عندهم إذ ذاك طعام فاضل عن حاجة غيرهم، أو خشي أنهم لا يأخذون منه ثمنًا أو عوضًا فلم يرد التضييق عليهم، والله أعلم.

وفي الحديث الردُّ على مَن قال: إن الرهن في السلم لا يجوز، انتهى.

وقال مالك: يلزم الرهن بمجرَّد العقد قبل القبض؛ لأنه عقد يلزم بالقبض فلزم قبله كالبيع وهو روايةٌ عن أحمد.

قال الزجاج في قول الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] : أي: العقود التي عقد الله عليكم وعقدتم بعضكم على بعض، والله أعلم.

* * *

الحديث الثاني

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مطل الغني ظلم، إذا أُتبِع أحدكم على مَلْْءٍ فليَتْبع)) .

(المطل) : المدافعة، والمراد تأخير ما استحقَّ أداؤه بغير عذر.

قوله: ((وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع)) ؛ أي: إذا أُحِيل فليحتل، قال الحافظ: ومناسبة هذه الجملة للتي قبلها أنه لمَّا دلَّ على أن مطل الغني ظلم عقبه بأنه ينبغي قبول الحوالة على المليء؛ لما في قبولها من دفع الظلم الحاصل بالمطل، فإنه قد تكون مطالبة المحال عليه سهلة على المحتال دون المحيل، ففي قبول الحوالة إعانة على كفِّه عن الظلم.

وفي الحدث الزجر عن المطل، واختُلِف هل يُعَدُّ فعله عمدًا كبيرة أم لا؟ فالجمهور على أن فاعله يفسق، لكن هل يثبت فسقه بمطله مرَّة واحدة أم لا؟ قال: ويدخل في المطل كلُّ مَن لزمه حقٌّ؛ كالزوج لزوجته، والسيد لعبده، والحاكم لرعيته وبالعكس، واستدلَّ به على أن العاجز عن الأداء لا يدخل في الظلم وهو بطريق

ص: 262

المفهوم، انتهى.

وقال البخاري: باب الحوالة، وهل يرجع في الحوالة؟ وقال الحسن وقتادة: إذا كان يوم أحال عليه مليًّا جاز، وقال ابن عباس: يتخارج الشريكان وأهل الميراث فيأخذ هذا عينًا وهذا دينًا، فإن تَوِيَ لأحدهما لم يَرجِع على صاحبه، انتهى.

قال في "الاختيارات": والحوالة على ماله في الديوان إذن في الاستيفاء فقط، والمختار الرجوع ومطالبته، انتهى، والله أعلم.

قال الحافظ: واستدلَّ بالحديث على ملازمة المماطل وإلزامه بدفع الدين، والتوصُّل إليه بكل طريق وأخذه منه قهرًا، واستدلَّ به على اعتبار رضا المحيل والمحتال دون المحال عليه؛ لكونه لم يذكر في الحديث، وبه قال الجمهور، وفيه الإرشاد إلى ترك الأسباب القاطعة لاجتماع القلوب؛ لأنه زجر عن المماطلة وهي تؤدِّي إلى ذلك، انتهى، وبالله التوفيق.

* * *

الحديث الثالث

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم يقول:((مَن أدرك ماله بعينه عند رجلٍ أو إنسانٍ قد أفلس فهو أحقُّ به من غيره)) .

قوله: ((مَن أدرك ماله بعينه)) ؛ أي: لم يتغيَّر ولم يتبدَّل سواء كان بيعًا أو قرضًا أو وديعة.

قوله: ((عند رجل أو إنسان)) شكٌّ من الراوي.

قوله: ((قد أفلس)) ؛ أي: تبيَّن إفلاسه، والمفلس مَن تزيد ديونه على موجوده، وروى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة قال:"قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحقُّ بمتاعه إذا وجده"، زاد بعضهم:"إلا أن يترك صاحبه وفاء".

فائدة:

روى أحمد وأبو داود والنسائي من حديث الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن وجد عين ماله عند رجل فهو أحقُّ به ويتبع البيع مَن باعه)) ، وفي لفظ:((إذا سرق من الرجل متاع أو ضاع منه فوجده بيد رجل بعينه فهو أحقُّ به، ويرجع المشتري على البائع بالثمن)) ؛ رواه أحمد وابن ماجه.

ص: 263

تتمَّة:

قال في "الاختيارات": والدين الحالُّ يتأجَّل بتأجيله سواء كان الدين قرضًا أو غيره، وهو قول مالك، ووجه في مذهب أحمد، وإذا كان الذي عليه الحق قادرًا على الوفاء ومطل صاحب الحق حتى أحوجه إلى الشكاية، فما غرمه بسبب ذلك فهو على الظالم المبطل إذا كان غرمه على الوجه المعتاد، انتهى.

* * *

الحديث الرابع

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "جعل - وفي لفظ: قضى - النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كلِّ مالٍ لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة".

الشفعة ثابتة بالسنة والإجماع، وهي استحقاق الإنسان انتزاع حصة شريكه من يد مشتريها ولا يحلُّ الاحتيال لإسقاطها.

وروى الخمسة عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبًا إذا كان طريقهما واحدًا)) ، والحكمة في مشروعية الشفعة دفع الضرر.

وقد روى الطحاوي من حديث جابر: "قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شيء".

قوله: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق"؛ أي: بينت مصارف الطرق وشوارعها "فلا شفعة" قال في "المقنع": ولا شفعة فيما لا تجب قسمته في إحدى الروايتين، انتهى.

واختار ابن عقيل وشيخ الإسلام الشفعة فيه، قال الحارثي: وهو أحق، والله أعلم.

* * *

الحديث الخامس

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "أصاب عمر أرضًا بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه،

ص: 264

فما تأمرني به؟ قال: ((إن شئت حبست أصلها وتصدَّقت بها)) ، قال: فتصدَّق بها عمر غير أنه لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب، قال: فتصدق بها عمر في الفقراء وفي القربى وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، لا جناح على مَن وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقًا غير متمولٍ فيه"، وفي لفظ: "غير متأثل".

هذا الحديث أصلٌ في مشروعية الوقف، وهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة في طرق الخير.

قوله: "أنفس"؛ أي: أجود، والنفيس: الجيد المغتبط به.

قوله: "فتصدق بها عمر غير أنه لا يباع أصلها" في لفظ: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تصدق بأصله لا يُباع ولا يُوهب ولا يُورث ولكن يُنفق ثمره)) .

قوله: "وفي القربى"؛ يعني: قربى الواقف.

قوله: "لا جناح على مَن وليها أن يأكل منها بالمعروف"؛ يعني: بالقدر الذي جرت به العادة، قال القرطبي: جرت العادة بأن العامل يأكل من ثمرة الوقف، حتى لو اشترط الواقف أن العامل لا يأكل يستقبح ذلك منه.

قوله: "غير متموِّل فيه"؛ أي: غير متَّخذ مالاً، و (التأثل) : اتخاذ أصل المال حتى كأنه عند قديم، وكتب عمر هذا الوقف في خلافته، ونصه:"هذا ما كتب عبد الله أمير المؤمنين في ثمغ، أنه إلى حفصة ما عاشت تنفق ثمره حيث أراها الله، فإن توفيت فإلى ذوي الرأي من أهلها، والمائة وسق الذي أطعمني النبي صلى الله عليه وسلم فإنها مع ثمغ على سنته الذي أمرت به إن شاء ولي ثمغ أن يشتري من ثمره رقيقًا يعملون فيه فعل، وكتب معيقيب، وشهد عبد الله بن الأرقم".

وفيه من الفوائد جواز إسناد الوصية والنظر على الوقف للمرأة، وإسناد النظر إلى مَن لم يسمَّ إذا وصف بصفة تميِّزه، وأن الواقف له النظر على وقفه، وفيه استشارة أهل العلم والدين والفضل، وفيه فضيلة ظاهرة لعمر، وفيه فضل الصدقة الجارية، وفيه صحة شروط الواقف إذا لم تخالف الشرع، وفيه جواز الوقف

ص: 265

على الأغنياء، وفيه أن للواقف أن يشترط لنفسه جزءًا من ريع الموقوف، وفيه جواز وقف المشاع، وفيه دليل على المسامحة في بعض الشروط؛ حيث علق الكل بالمعروف وهو غير منضبط.

* * *

الحديث السادس

عن عمر رضي الله عنه قال: "حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه، وظننت أنه يبيعه برخص، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال:((لا تشترِه ولا تَعُد في صدقتك، وإن أعطاكه بدرهم فإن العائد في هبته كالعائد في قيئه)) ، وفي لفظ:((فإن الذي يعود في صدقته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه)) .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((العائد في هبته كالعائد في قيئه)) .

الحديث دليلٌ على تحريم الرجوع في الصدقة والهبة، وفي لفظ:((ليس لنا مثل السوء: الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه)) ، وهذا أبلغ في الزجر عن ذلك.

قوله: "حملت على فرس في سبيل الله"؛ أي: حمل تمليك ليجاهد به، فأضاعه الذي كان عنده، وفي رواية:"وكان قليل المال".

قوله: ((لا تشتره ولا تعد في صدقتك وإن أعطاكه بدرهم)) سمي الشراء عودًا في الصدقة لأن العادة جرت بالمسامحة من البائع في ذلك، قال الطبري: يخصُّ من عموم هذا الحديث مَن وهب بشرط الثواب،

ص: 266

ومَن كان والدًا، والموهوب ولده،

والهبة التي لم تقبض، والتي ردَّها الميراث إلى الواهب لثبوت الأخبار باستثناء كلِّ ذلك، وفي الحديث جواز إذاعة عمل البر للمصلحة.

تتمَّة:

قال في "الاختيارات": وتصحُّ هبة المعدوم كالثمر واللبن، واشتراط القدرة على التسليم هنا فيه نظر بخلاف البيع، وتصحُّ هبة المجهول كقوله: ما أخذت من مالي فهو لك، أو مَن وجد شيئًا من مالي فهو له، وفي جميع هذه الصور يحصل الملك بالقبض ونحوه، وللمبيح أن يرجع فيما قال قبل التملُّك، وهذا نوعٌ من الهبة يتأخَّر القبول فيه عن الإيجاب كثيرًا وليس بإباحة، انتهى.

* * *

الحديث السابع

عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: "تصدق عليَّ أبي ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقتي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفعلت هذا بولدك كلهم؟)) ، قال: لا، قال: ((اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم)) ، فرجع أبي فرد تلك الصدقة"، وفي لفظ: قال: ((فلا تشهدني؛ إذًا فإني لا أشهد على جور)) ، وفي لفظ:((فأشهد على هذا غيري)) .

الحديث دليلٌ على وجوب التسوية بين الأولاد.

وفي رواية لمسلم: ((اعدلوا بين أولادكم في النحل، كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر)) ، وفيه الندب إلى التآلف بين الإخوة، وترك ما يورث العقوق للآباء، وفيه مشروعية استفصال الحاكم والمفتي، وجواز تسمية الهبة صدقة، وفيه أن للأم كلامًا في مصلحة الولد، وفيه

ص: 267

أمر الحاكم والمفتي بتقوى الله في كل حال، وفيه إشارة إلى سوء حال عاقبة الحرص والتنطُّع؛ لأن عمرة لو رضيت بما وهبه زوجها لولده لما رجع فيه، فلمَّا اشتدَّ حرصها في تثبيت ذلك أفضى إلى بطلانه.

قوله: ((فأشهد على هذا غيري)) المراد به التوبيخ، وفي حديث جابر عند مسلم:((فليس يصلح هذا، وإني لا أشهد إلا على حق)) ، وفيه كرامة تحمل الشهادة فيما ليس بمباح، وأن للإمام أن يتحمل الشهادة.

* * *

الحديث الثامن

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم عامَل أهل خيبر شطر ما يخرج منها من ثمرٍ أو زرعٍ".

الحديث دليلٌ على جواز المساقاة في النخل وجميع الشجر وعلى جواز المزارعة بجزء معلوم، وقد عامَل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر، وإن جاؤوا بالبذر فلهم كذا، وفي الحديث جواز دفع النخل مساقاة والأرض مزراعة من غير ذكر سنين معلومة، وقال أبو ثور: إذا أطلقا حمل على سنة واحدة.

* * *

الحديث التاسع

عن رافع بن خديج قال: "كنَّا أكثر الأنصار حقلاً، وكنَّا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، وربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك، فأمَّا الذهب والورق فلم ينهنا".

ولمسلم عن حنظلة بن قيس قال: "سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق فقال: لا بأس به إنما كان الناس يؤاجرون

ص: 268

على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذِيانَات وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأمَّا شيء معلوم مضمون فلا بأس به.

الماذيانات: الأنهار الكبار، والجدول: النهر الصغير.

النهي عن كراء الأرض محمول على الوجه المُفضِي إلى الضرر والمجادلة والمخاطرة، وفي الحديث جواز إجارة الأرض بالذهب والفضة.

وفي الصحيحين على أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن كانت له أرض فليزرعها أو ليحرثها أخاه، فإن أبي فليمسك أرضه)) ، قال المجد: وبالإجماع تجوز الإجارة ولا تجب الإعارة، فعلم أنه أراد الندب.

* * *

الحديث العاشر

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالعُمرَى لِمَن وهبت له"، وفي لفظ:"مَن أعمر عمرى فهي له ولعقبه، فإنها للذي أعطيها لا ترجع إلى الذي أعطاها؛ لأنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث، وقال جابر: إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك، فأمَّا إذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها".

وفي رواية لمسلم: "أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها فإنه مَن أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حيًّا وميتًا ولعقبه".

ص: 269

"العمرى": مأخوذة من العمر؛ لأنهم كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية، يعطى الرجل الدار ويقول له: أعمرتك إياها؛ أي: أبحتها لك مدَّة عمرك؛ وكذا قيل لها: رقبى؛ لأن كلاً منهما يرقب متى يموت الآخر لترجع إليه، وإذا وقعت كانت ملكًا للآخِذ ولا ترجع إلى الأوَّل إلا إن صرح باشتراط ذلك، وهي كسائر الهبات.

والحاصل أن للعمرى ثلاثة أحوال: أحدها أن يقول: هي لك ولعقبك، فهذا صريح في أنها للموهوب له ولعقبه، الثاني أن يقول: هي لك ما عشت، فإذا مت رجعت إليَّ، فهذه عارية مؤقتة وهي صحيحة، فإذا مات رجعت إلى الذين أعطى، الثالث أن يقول أعمرتكها ويطلق فحكمها حكم الأولى ولا ترجع إلى الواهب، وهذا قول الجمهور.

وعن ابن عباس يرفعه: ((العمرى لِمَن أعمرها، والرقبى لِمَن أرقبها، والعائد في هبته كالعائد في قيئه)) .

وعن جابر: "أن رجلاً من الأنصار أعطى أمه حديقة من نخيل حياتها فماتت، فجاء إخوته فقالوا: نحن فيه شرع سواء، قال: فأبى، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقسمها بينهم ميراثًا"؛ رواه أحمد، والله أعلم.

* * *

الحديث الحادي عشر

عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبة في جداره، ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرِضين، والله لأضربن بها بين أكتافكم".

قوله: "خشبة" روى بالإفراد والجمع والمعنى واحد؛ لأن المراد الجنس، والحديث دليل على أن الجار إذا طلب إعارة حائط جاره ليضع خشبة عليه، وجب ذلك على المالك إذا لم يتضرَّر به.

وروى مالك أن الضحاك بن خليفة سأل محمد

ص: 270

بن مسلمة أن يسوق خليجًا له فيمرُّ به في أرض محمد بن مسلمة فامتنع، فكلَّمه عمر في ذلك فأبى، فقال: والله ليمرَّن به ولو على بطنك، فحمل عمر الأمر على ظاهره وعداه إلى كل ما يحتاج الجار إلى الانتفاع به من دار جاره وأرضه.

قوله: "ما لي أراكم عنها معرضين"؛ أي: عن هذه السنَّة "والله لأضربن بها بين أكتافكم"، روى بالمثناة وبالنون، قال في "الاختيارات": وإذا كان الجدار مختصًّا بشخص لم يكن له أن يمنع جاره من الانتفاع بما يحتاج إليه الجار، ولا يضرُّ بصاحب الجدار، ويجب على الجار تمكين جاره من إجراء مائه في أرضه إذا احتاج إلى ذلك ولم يكن على صاحب الأرض ضرر، وحكم به عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

* * *

الحديث الثاني عشر

عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن ظلم من الأرض قِيدَ شبرٍ طُوِّقه من سبع أرضين)) .

قوله: ((قِيدَ شبر)) ؛ أي: قدر شبر، وهو إشارة إلى الوعيد في قليل ظلم الأرض وكثيره، وفي الحديث تحريم الظلم والغصب وتغليظ عقوبته وأنه من الكبائر، وأن مَن ملك أرضًا ملك أسفلها بما فيه من حجارة ومعادن وغير ذلك، وفيه أن الأرضيين السبع طباق كالسموات.

وروى البخاري عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن أخذ من الأرض شيئًا بغير حقِّه خُسِف به يوم القيامة إلى سبع أرضيين)) .

* * *

ص: 271