الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خروجهم من اليمن لمجاورتهم يهود خيبر وقريظة والنضير، وتهود قوم من بني الحارث بن كعب، وقوم من غسان، وقوم من جذام، وقوم من "بلى"1، فضلا عن أن هناك ما يشير إلى أن المرأة المقلات في الجاهلية كانت تنذر إن عاش لها ولد أن تهوده، ومن ثم فقد تهود بعض منهم، فلما جاء الإسلام أراد الأنصار إكراه أبنائهم عليه، فنهاهم الله عن ذلك2، حيث يقول سبحانه وتعالى:{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَي} 3، كما أن اليهود قد عملوا على التبشير بدينهم بين العرب إلى حد ما.
1 تاريخ اليعقوبي 1/ 257، جواد 6/ 525
وكذا Graetz، Op. Cit.، P.408. وكذا Islamic Culture، Iii، 2، P.177.
2 أديان العرب في الجاهلية ص201، إسرائيل ولفنسون: المرجع السابق ص88، السنن الكبرى للبيهقي 9/ 186، سنن أبي داود 3/ 78-79.
3 سورة البقرة: آية 256، وانظر: تفسير الطبري 5/ 407-424 "دار المعارف بمصر"، تفسير القرطبي 3/ 279-282، تفسير روح المعاني 3/ 13-15، تفسير مجمع البيان للطبرسي 3/ 304-307، تفسير المنار 3/ 35-40، تفسير أبي السعود 1/ 189-190، تفسير ابن كثير 1/ 310-312، "دار إحياء التراث العربي"، تيسير العلي القدير 1/ 220-222، تفسير الكشاف 1/ 387، في ظلال القرآن 2/ 293-296، الدرر المنثور في التفسير بالمأثور 1/ 329-331، تفسير النسقي 1/ 129.
3-
العرب:
يروي الأخباريون أن القبائل العربية -من أوس وخزرج- قد هاجرت من اليمن إلى يثرب على إثر حادث حادث سيل العرم، وهناك في يثرب وجدت تلك القبائل أن الأموال والآطام والنخيل في أيدي اليهود، فضلا عن العدد والقوة، فأقام الأوس والخزرج مع اليهود، وعقدوا معهم حلفا يأمن من بعضهم إلى بعض، ويمتنعون به ممن سواهم1.
وهكذا فإن هجرة الأوس والخزرج إلى يثرب، إنما كانت -طبقًا لرواية الأخباريين- بسبب سبل العرم، الأمر الذي لا يمكن تحديد زمنه بسهوله؛ ذلك لأن سد مأرب إنما تهدم عدة مرات، خلال الفترة الطويلة التي مضت منذ تشييده في منتصف القرن السابع
1 ابن كثير 2/ 160، الأغاني 19/ 69، ياقوت 5/ 35-38، تاريخ اليعقوبي 1/ 203-420، ابن هشام 1/ 17-19، الأعلاق النفيسة ص62، جواد علي 4/ 129، على حافظ: فصول من تاريخ المدينة ص14-15.
ق. م- وربما الثامن ق. م1- وبين آخر مرة أصلح فيها السد في عام 543م، على أيام أبرهة الحبشي طبقًا لما جاء في نصي "جلازر 618" و"2Cih 451"، إذ أن هناك عدة إشارات إلى تهدم السد وإصلاحه، منها ما حدث على أيام "شمر يهرعش"3، ومنها ما حدث على أيام "ثاران يهنعم" عندما تهدم السد عند موضع "حبابض" و"رحبتن"، وأن القوم قد كتب لهم نجحا كبيرًا في إصلاحه4.
ولعل التهدم الذي حدث على أيام "شرحبيل يعفر" في القرن الخامس الميلادي، إنما كان واحدًا من أشد تهدمات السد خطورة، لأن آثارة تعدت الآثار الجانبية، إلى هروب سكان المنطقة إلى الهضاب والجبال، ثم هجرتهم من هذه المنطقة إلى أرضين أخرى، ربما لأنه كان بسبب كوارث طبيعية، كالزلازل والبراكين، وليس لمجرد سقوط أمطار غزيرة، ومع ذلك فقد نجح القوم بعد كل هذا في تجديد بناء السد وترميمه، على مقربة من "رحب" وعند "عبرن"، فضلا عن حفر مسايل للمياه، وبناء القواعد والجدران، كما أشرنا من قبل، وقد تم ذلك في عام 449/ 450م،5 وأخيرًا ذلك التهدم الذي كان على أيام أبرهة الحبشي.
وهكذا يبدو بوضوح أن تحديد تاريخ معين لخراب سد مأرب، وهجرة القبائل العربية من اليمن إلى وسط بلاد العرب وشمالها، أمر لا يمكن -على ضوء معلوماتنا الحالية- أن نقول فيه كلمة نظن أنها القول الفصل، أو حتى قريبًا من هذا القول، وأن الأمر ما يزال في مرحلة الحدس والتخمين، حتى تقدم لنا الأرض الطيبة في اليمن أو في غيرها، ما ينير أمامنا الطريق.
1 جواد علي 2/ 281، نزيه مؤيد العظم: المرجع السابق ص88
وكذا D. Nielsen، Op. Cit.، P.79. وكذا Die Araber، P.27
2 F. Altheim And R. Stiehl، Op. Cit.، P.587
وكذا A. Sprenger، Op. Cit.، P.31-126 وكذا E. Glaser، Op. Cit.، P.390
وكذا Le Museon، 1953، 66، P.340
وكذا A.F.L. Beeston، Problems Of Sabaean Chronology، Basor، 16، 1954
3 جواد علي 7/ 210
4 A. Jamme، Op. Cit.، P.176. وكذا Le Museon، 1964، 3-4، P.491-498
5 E. Glaser، In Mvg، Ii، 1897، P.372-379، 389-390
وكذا Le Museon، 1964، 3-4، P.493-4
وكذا H. St. J.B. Philby، The Background Of Islam، Alexandria، 1947، P.118.
وكذا A. Sprenger، Die Alte Geographie Arabiens، Berlin، 1875، P.13، 20، 28
وأما الروايات العربية، فإن بعضًا منها إنما يشير إلى أن ذلك إنما قد حدث قبل الإسلام بأربعة قرون، بينما يشير البعض الآخر إلى أن تلك الهجرات إنما تمت في القرن الخامس الميلادي، وعلى أيام "حسان بن تبان أسعد1"، علي أن هناك فريقًا ثالثًا إنما يقترح أخريات القرن الرابع الميلادي، معتمدا في ذلك على نسب "سعد بن عبادة الخرزجي"، وجعله مقياسا للزمن الذي ربما تكون الهجرة تمت فيه، فنسب سعد -طبقًا لرواية النسابين- إنما هو "سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبي خزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخرزج الأصغر بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأكبر بن حارثة"، فمن سعد إلى الخزرج الأكبر أحد عشر جيلا، وإذا افترضنا أن الفرق بين كل جيلين خمسة وعشرين عامًا، كانت المدة بين الهجرة النبوية الشريفة "في عام 622م"، وبين الخزرج الأكبر، حوالي مائتين وخمسين وسبعين سنة، أي أن هجرة الأوس والخزرج، ربما كانت في أخريات القرن الرابع2، هذا ويحدد "سديو" هذه الهجرة بعام 300م، ثم الاستيلاء على المدينة في عام 492م3.
وأما أن تهدم السيل كان بسبب "جرذ" له مخالب وأنياب من حديد4، فتلك أساطير لا تدور إلا في رءوس أصحابها، ومن ثم فهي لا تعرف نصيبًا من صواب، أو جانبا من منهج علمي، الأمر الذي ناقشناه بالتفصيل في كتابنا "دراسات في التاريخ القرآني" كما أن "كيتاني" قد جانبه الصواب كثيرًا حين ظن أن خراب سد مأرب، إنما كان بسبب الجفاف الذي أثر على السد، بل إن ضغط الماء على جوانب السد، ثم حدوث سيل العرم، إنما هو في حد ذاته لدليل على فساد نظرية الجفاف هذه5، فضلا عن معارضتها لما جاء في القرآن الكريم عن حادث السيل
1 ياقوت 5/ 35، جرجي زيدان: العرب قبل الإسلام ص155، الفصل التاسع من كتابنا "دراسات في التاريخ القرآني".
2 أحمد إبراهيم الشريف: مكة والمدينة في الجاهلية وعصر الرسول ص315.
3 لويس أميل سديو: تاريخ العرب العام، ترجمة عادل زعيتر ص51.
4 ابن خلدون 2/ 50، اليعقوبي 1/ 205، ياقوت 5/ 35، وفاء الوفا 1/ 117-120، مروج الذهب 2/ 163-164، نهاية الأرب 3/ 283-288، الدرر الثمينة ص326، الميداني 1/ 275-276، الدميري: حياة الحيوان الكبرى 1/ 445.
5 جواد علي 1/ 244-246، وكذا I. Caetani، Studi Della Historia Orientale، I، P.367، 296
وكذا A. Musil، Op. Cit.، P.310
هذا1.
على أن المؤرخين إنما يشككون كثيرًا في أن يكون السيل وحده هو سبب هجرة الأوس والخزرج؛ ذلك لأن السد إنما كان يسقي ربوة من الأرض لم تكن مسكنا لكل بطون الأزد، ومن ثم فإنه يصبح من الصعب أن نتقبل القول، بأن جميع البطون الأزدية قد هاجرت إلى شمال شبه الجزيرة العربية بسبب انهيار السد وحده، وإنه لمن المحتمل أن تكون هناك أسباب أخرى تعاونت مع سيل العرم، واضطرت بعض هذه البطون إلى ترك وطنها مهاجرة إلى الأرجاء النائية2.
ولعل أهم هذه الأسباب إنما هو ضعف الحكومة، ثم تحول الطرق التجارية، فضعف الحكومة في اليمن أدى إلى تزعم سادة القبائل والرؤساء، وانشقاق الزعامة في البلاد، فضلا عن المشاحنات الدينية بين أتباع النصرانية وأتباع الموسوية في اليمن، وزاد الطين بلة أن صاحب تلك القلاقل الداخلية تدخل الحبشة ثم الفرس في شئون اليمن الداخلية، وكان نتيجة ذلك كله اضطراب الأمن في البلاد، وظهور ثورات داخلية وحروب، كما تدلنا على ذلك نقوش النصف الثاني من القرن السادس الميلادي، فألهى ذلك الحكومة عن القيام بواجباتها، مما أدى إلى إهمال السد، ومن ثم فقد تصدعت جوانبه، وكان السيل الذي أغرق مناطق واسعة من الأرض الخصبة، التي كان القوم يعتمدون عليها في حياتهم الاقتصادية3، فإذا أضفنا إلى ذلك كله أن اليمن لم تصبح في تلك الفترة صاحبة السيادة على الطرق التجارية، كما أنها لم تعد الوسيط الوحيد في نقل التجارة إلى المناطق الشمالية، بل ربما لم يعد دور اليمن -بعد سيطرة الرومان على البحر المتوسط ونقل تجارة الهند عن طريق هذا البحر،
1 سورة سبأ: آية 15019، وانظر: تفسير البيضاوي 2/ 258-259، التفسير الكبير للفخر الرازي 25/ 250-252، تفسير القرطبي 14/ 282-291 "جار الكتب المصرية 1945"، تفسير الطبري 22/ 124-134، ابن هشام 1/ 17019 "مكتبة الجمهورية بمصر"، تفسير الجلالين "نسخة على هامش تفسير البيضاوي" 2/ 258-259، مروج الذهب 2/ 163-164، الدميري 1/ 445، البداية والنهاية لابن كثير 2/ 158-161، الميداني 1/ 185، وفاء الوفا 1/ 116-122.
2 إسرائيل ولفنسون: المرجع السابق ص54.
3 جواد علي 1/ 246، وكذا
Corpus Inscriptionum Semiticarum، Part، 4، Vol. 2، 384، 540-41، 554-64
فضلا عن ظهور القرشيين وقيامهم برحلتي الشتاء والصيف المشهورتين، إلا دورا ثانويا، وهكذا تجمعت العوامل السياسية والاقتصادية معا على إهمال الزراعة وكساد التجارة، مما دفع بقبائل عربية غير قليلة إلى الهجرة إلى بلاد العرب الشمالية، وكان من بين المهاجرين الأوس والخزرج1.
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن القول بأن قبائل الأزد هاجرت دفعة واحدة، أمر غير مقبول؛ ذلك لأن خزاعة -وهي بطن من الأزد- كانت لا تزال تحكم مكة حوالي عام 450م، وكانت قد استمرت مدة طويلة تلي هذا الأمر- رأى البعض أنها حوالي ثلاثة قرون، ورأى آخرون أنها خمسة قرون- وهذا يعني أنها هاجرت من اليمن حوالي منتصف القرن الثاني، وربما منذ القرن الثالث، في عام 207م2.
وأيًّا ما كان الأمر، فإن الأخباريين يذهبون إلى أن الأوس3 والخزرج أخوان، فهما أبناء "حارثة بن ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق، بن ثعلبة بن مازن بن الأز"4، الذي ينتهي نسبه إلى "يعرب بن قحطان"، ولكن القوم إنما كانوا ينسبون إلى أمهم "قيلة بنت الأرقم بن عمرو بن جفنة"، ولهذا كانوا يدعون "أبناء قيلة"، مما يدل على أن هذه المرأة إنما كانت تتمتع بشهرة عريضة، دفعتهم إلى الانتساب إليها5.
وعلى أي حال، فلقد أقام الأوس والخزرج في المدينة، وربما لم يكونوا في أول الأمر يملكون من القوة وكثرة العدد، بحيث يخشى اليهود بأسهم، هذا ويبدو أن اليهود قد عملوا على الإفادة من خبراتهم التي اكتسبوها منذ فترة طويلة، في مجال الزراعة والتجارة في مواطنهم القديمة في اليمن، ومن ثم فقد سمحوا لهم بالإقامة في
1 Alois Musil، Northern Nejd، N.Y.، 1928، P.309-317
2 أحمد إبراهيم: المرجع السابق ص315، ابن كثير 2/ 183.
3 هناك من يفسر كلمة الأوس بأنها اختصار لجملة "أوس مناة" وهو صنم جاهلي "جواد علي 4/ 135"
4 ابن الأثير 1/ 655، وفاء الوفا 1/ 124، اللسان 4/ 18، تاج العروس 4/ 103، العقد الفريد 3/ 16، 159، ابن هشام 3/ 347، الاشتقاق 2/ 435، 437، ياقوت 4/ 203، 5/ 85، المعارف ص49، المقدسي 4/ 120-121، دائرة المعارف الإسلامية 3/ 150، جمهرة أنساب العرب ص332، نهاية الأرب للقلقشندي ص52-53، 93-94.
5 ابن حزم 1/ 332، اللسان 11/ 580، نهاية الأرب للقلقشندي ص404، المعارف ص49، خلاصة الوفا ص164، التنبيه والإشراف للمسعودي ص174، ياقوت 5/ 85، وفاء الوفا 1/ 124، جواد علي 4/ 133.
مجاوراتهم، إلا أن وجود الثروة والسلطان في أيدي اليهود جعل الأوس والخزرج يعيشون حياة قاسية، ومن ثم فقد كان الواحد منهم، إما أن يعمل في مزارع يهود، وإما أن يستغل خبرته السابقة في الزراعة، فيعمل في أرض لا تنتج الكثير من الغلات، لأنها في غالب الأحايين إنما كانت أرض موات تركها اليهود، وفي كلا الحالين فقد كان القوم غير ميسر عليهم في الرزق1.
وما أن يمضي حين من الدهر، حتى استطاع أصحابنا من أوس الخزرج وخزرج أن يكونوا أصحاب مال وعدد، حتى أن يهود بني قريظة والنضير أحسوا أنهم لو تركوهم على حالهم هذا، فقد يشكلون في وقت قريب خطرا، قد يهدد مصالح يهود في المدينة، وربما قد يهدد القوم أنفسهم، ومن ثم فقد "تنمروا لهم حتى قطعوا الحلف الذي بينهم، فأقامت الأوس والخزرج في منازلهم خائفين أن تجليهم يهود، حتى نجم منهم مالك بن العجلان، من بني سالم بن عوف بن الخزرج، فكان سببًا في أن يسود الحيان، الأوس والخزرج"2.
وهنا تجنح المصادر العربية إلى رواية -علم الله- أننا ما كنا براغبين في التعرض لها، لولا أنها -وأمثالها- قد تكررت بصورة أو بأخرى في مواضع وأزمنة مختلفة، وفي مراجع لها من القيمة مالها عند الناس، ورغم ذلك فهي لا تتعارض مع المنطق والتاريخ فحسب، ولكنها تتعارض كذلك مع العادات والتقاليد العربية التي يعترف الأعداء بها قبل الأصدقاء، والمخالفون قبل الموافقين، فضلا عن الحاقدين والمتشككين في كل خلة عربية كريمة.
تزعم المصادر العربية -دون غيرها من المصادر، حتى اليهودية- أن واحدًا دعوه "الفيطون""الفطيون أو الفطيوان" كان ملكًا على يهود في يثرب، وأنه كان جبارًا عشوما، فاجرا فاسقا، حتى أن المرأة من الأوس والخزرج- وكذا من اليهود في بعض الروايات- كانت لا تهدى إلى زوجها حتى تدخل عليه أولًا، فيكون هو الذي يفتضها، ثم إن أختا لابن العجلان -دعوها فضلاء- قد تزوجت برجل
1 تاريخ ابن خلدون 2/ 286-287، الأغاني 19/ 69، خلاصة الوفا ص165، وفاء الوفا 1/ 125، على حافظ: المرجع السابق ص15.
2 السمهودي: وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى 1/ 125-126، الدرر الثمينة ص326-327، الأعلاق النفيسة لابن رسته، ص63، أحمد إبراهيم الشريف: المرجع السابق ص324-325.
من قومها، فلما كان يوم زفافها، خرجت على مجلس قومها، وفيه أخوها مالك بن عجلان، فكشفت عن ساقيها، فغضب مالك، ولكنها ردت عليه إن "الذي يراد بي الليلة من هذا، أدخل على غير زوجي"، وهنا أضمر مالك في نفسها أمرًا، أسر إلى أخته.
وهكذا ما أن ذهبت النسوة بفضلاء إلى الفيطون، حتى كان مالك معهن في زي امرأة، وانتظر هناك في مخدع العروس، حتى خرجت النسوة ودخل الفيطون، فما أن أراد أن يقضي من فضلاء وطره، حتى صرعه مالك بسيفه فأرداه قتيلا، ثم ولي هاربًا إلى الشام، مستنجدًا بأبي جبلة ملك غسان، الذي أسرع بنجدته، فأقبل في جيش كثيف من الشام، حتى إذا ما وصل يثرب، نزل "بذي حرض".
وبدأ يكتب ليهود يتودد إليهم ويدعوهم لزيارته، حتى إذا ما لبوا دعوته انقض عليهم وقتلهم، ثم قال للأوس والخزرج "إن لم تغلبوا على البلاد بعد قتل هؤلاء لأحرقنكم"، ثم رجع إلى الشام، ومنذ ذلك اليوم بدأت كفة العرب ترجح على يهود، وأصبح الأوس والخزرج أعز أهل المدينة، فتفرقوا في عالية يثرب وسافلها يتبوؤن منها حيث يشاءون، واتخذوا الديار والأموال والآطام، غير أن يهود ما لبثت غير قليل حتى بدأت تعترض الأوس والخزرج وتناوشهم، فرأى مالك أن الغلبة لم تكتمل لهم بعد على يهود فكادهم كيدًا شبيها بكيد أبي جبلة، وقتل منهم من قتل، فذلوا وقل امتناعهم، وضاع سلطانهم على الأرض، وأخذوا يصورون مالكًا في بيعهم وكنائسهم في صورة شيطان رجيم، يلعنونه كلما دخلوا هذه البيع وكلما خرجوا منها، فضلا عن ذكره في شعرهم في أقبح هجاء قالوه1.
ولعل من الأفضل هنا أن نناقش هذه الروايات، على أنها تتكون من شقين.
1 وفاء الوفا 1/ 115، 126-129، خلاصة الوفا ص159، 166-167، ابن الأثير 1/ 656-658، الاشتقاق ص259، 270، ياقوت 2/ 242، 5/ 84-87، أبو الفداء 1/ 123، المقدسي 1/ 179-180 البكري 2/ 439، جمهرة أنساب العرب ص356، الدرر الثمينة ص327، ابن خلدون 2/ 287-289، الأغاني 19/ 96-97، علي حافظ: المرجع السابق ص15، إسرائيل ولفنسون ص56، الشريف: المرجع السابق ص324-327،
وكذا Caussin De Perceval، Op. Cit.، Ii، P.652
وكذا H. Hirschfeld، Essai De L'histoire Des Juives De Medine، Rej، Vll، 1883، P.173
الواحد يتصل بقصة الفيطون، وعرائس يثرب العربيات، والآخر يتصل بغلبة الأوس والخزرج على يهود يثرب.
وقد اختلفت الآراء في الرواية الأولى، فذهبت جمهرة من المؤرخين على رفضها، فالدكتور إسرائيل ولفنسون يذهب إلى أن القصة ملفقة، معتمدًا في ذلك على أدلة، منها "أولًا" أن أصحابها لم يكن لهم إلمام كاف بحياة العرب في الجاهلية، بل كانوا يعتبرونهم متوحشين همجيين لا يعرفون من النظم الاجتماعية شيئًا، ولا يفهمون من الآداب قليلا ولا كثيرًا، ولا ينقادون إلا لما يدعو إليه الخرق والسفاهة، ولا شك أن قولا كهذا ليس إلا طعنًا فاحشًا في قبائل العرب في الجاهلية، وإنكارًا شنيعًا لما هو معروف عنهم من الأنفة والغيرة وإباء الضيم والشجاعة والبسالة، إلى حد التضحية بكل شيء في سبيل العرض وحفظ الشرف والكرامة.
ومنها "ثانيًا" أن يهود الحجاز إنما كانوا أصحاب دين سماوي يأمر بالمعروف وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وليس من المعقول أن يرتكب ملك يهودي جريمة منكرة كهذه تناقض روح التوراة وتخالف الإيمان بإله موسى، دون أن يجد مقاومة عنيفة وإنكارًا شديدًا من شعبه وأبناء جلدته، ومنها "ثالثًا" أنه لم يوجد في المدينة ملوك من يهود، ومنها "رابعًا" أن الطبري يذكر قصة تشبه هذه عن طسم وجديس.
ومنها "خامسًا" أننا لا نجد صلة بين هذه القصة وبين "يوم بعاث" الذي جاء بعدها، بل على العكس من ذلك، فإننا نستطيع أن نستنتج- اعتمادًا على الأخبار التي وصلتنا عن يوم بعاث- أن اليهود كانوا متمتعين بجميع حقوقهم السياسية والاجتماعية، وكانت مزارعهم وأموالهم وآطامهم كاملة غير منقوصة.
ويخلص الدكتور إسرائيل ولفنسون من ذلك كله إلى أن الباعث على اختلاق هذه القصة وتلفيقها، إنما هو محاولة إخفاء الحقيقة في حادثة غدر ابن عجلان، بدليل أن ابن هشام، والواقدي، وصاحب الأغاني، قدموا أسبابًا أخرى -غير حادث الفطيون- لتغير الأحوال بين العرب واليهود في المدينة، ومن ثم فالقصة -في رأيه- لا تعدو أن تكون واحدة من الخرافات عند أمم الشرق في قصصهم
وتواريخهم1.
وذهبت قلة من المؤرخين -ومنهم الدكتور عبد الفتاح شحاتة- إلى أن القصة حقيقية، وأن حكم الدكتور ولفنسون عليها بالخرافة والتلفيق ليس عجبًا، فاسمه يغني عن التعريف به، وإنما العجيب حقًّا محاولته إخفاء التاريخية من أخلاق اليهود والعرب، ثم يقدم أدلة على صحة رأيه، منها "أولًا" أن العرب من أوس وخزرج لم يسكتوا على هتك الأعراض وثلم الشرف، ودبروا الخطة للتخلص من الفيطون وقتلوه دفاعًا عن شرفهم، وإذا كانوا قد رضوا بالسكوت على العار حينًا من الدهر، فإنما كان ذلك تحت جبروت الملك وبطش السلطان، ويشهد لذلك أن مالكًا لما هم بقتل الملك لم يتمكن من ذلك علانية، بل تنكر في زي النساء، ومنها "ثانيًا" أن كون دين اليهود ينهي عن الفحشاء والمنكر، لا يمنع من أن يخرج على تعاليم الدين ومبادئ الأخلاق الفاضلة من يتبع هواه ويركب رأسه، ثم هل كل من يعتنق دينًا ينهى عن الفحشاء منزه عن الإثم والخطأ؟
ومنها "ثالثًا" أن رواية الطبري وغيره عن أمثال هذه القصص ليست دليلا على أنها من الأساطير، وقد تكون من العادات التي شاعت في تلك العصور الأولى عند الملوك والرؤساء، ثم يتساءل الدكتور شحاتة بعد ذلك عن الدوافع التي دعت الطبري وغيره إلى اختلاق قصة الفيطون؟ ثم يجيب بعد ذلك عن تساؤله: بأنه إذا كان المراد منها إخفاء غدر مالك بجيرانه اليهود، كما يزعم ولفنسون، فذلك أمر بعيد، فمالك ليس قديسًا من القديسين، بل رجل جاهلي، الظلم عنده قوة، وسفك الدماء بطولة وشجاعة2.
ولعل أفضل ما نفعله في موقفنا هذا أن نناقش حجج الطرفين -قبل أن ندلي بدلونا في القصة- حتى نتبين في كل منها موقف القوة والضعف، فضلا عن جانب الخطأ والصواب، بخاصة وأن الطرفين يمثلان اتجاهين مختلفين، لا التقاء بينهما، فالأول إسرائيلي يهودي، والثاني عربي مسلم.
1 إسرائيل ولفنسون: تاريخ اليهود في بلاد العرب - القاهرة 1927 - ص56-61.
2 عبد الفتاح شحاتة: تاريخ الأمة العربية قبل ظهور الإسلام -الجزء الثاني - القاهرة 1960، ص286-292.
يرى الدكتور إسرائيل ولفنسون أن أخلاق العرب تتعارض وقصة الفيطون، وهو أمر لا نشك فيه لحظة واحدة، وأن اليهود لم يكن لهم ملوك في يثرب، وتلك حقيقة أخرى نوافقه عليها تمامًا، كما نوافقه كذلك على أن قصة الفيطون تشبه إلى حد كبير قصة طسم وجديس -كما رواها الطبري- وعلى أن يهود كانوا أصحاب دين سماوي ينهاهم عن الفحشاء والمنكر والبغي.
غير أننا نختلف معه تمامًا أنه ليس من المعقول أن يرتكب ملك يهودي ما يناقض روح التوراة، دون أن يجد مقاومة عنيفة من اليهود أنفسهم، وسوف نحتكم إلى التوراة نفسها التي يحتج بها الدكتور ولفنسون، لنرى رأيها فيما تعرض له ولن نلجأ إلى الغزل المكشوف فيها، الذي ينتمي إلى مدرسة "عمر بن أبي ربيعة" وإلى كل مدرسة غزلية إباحية لا تهتم إلا بالجسد وحده1، كما أننا لن نلجأ إلى ما جاء في التوراة -المتداولة حاليًّا- من تهم بذيئة ألصقتها بالمصطفين الأخيار، والتي تتصل بمثل هذه الأمور2، ولكننا سوف نقدم بعض الأدلة المحدودة.
تقول توراة اليهود -المتداولة اليوم، وليست توراة موسى بالتأكيد- أن راؤبين بكر إسرائيل، قد زنى ببلهة، زوج أبيه يعقوب وأم أخويه دان ونفتالي3، ولم تحدثنا التوراة عما فعل يعقوب وبنوه إزاء تلك الجريمة النكراء، حتى أننا لا ندري سببًا مقبولا أو غير مقبول لسكوتها، هذا إلى جانب مأساة أخرى تسجلها توراة اليهود -ولا أقول توراة موسى- تذهب فيها إلى أن يهوذا- رابع أبناء يعقوب- قد زنى بزوجة ابنه "ثامارا"4، وموقف التوراة هنا، هو موقفها في القصة الأولى، رغم أن نصوصها صريحة، في أنه "إذا اضطجع رجل من امرأة
1 ول ديورانت: المرجع السابق ص388، حبيب سعد: المدخل إلى الكتاب المقدس ص145، 155، عبده الراجحي: الشخصية الإسرائيلية ص61، كتابنا إسرائيل ص134-138، التوراة: سفر الإنشاد "انظر جميع إصحاحات السفر".
2 كتابنا إسرائيل ص69-87، ف. ب.ماير: حياة إبراهيم ص650221، القس عبد المسيح عبد النور: إبراهيم السائح الروحي ص26، وانظر ي التوراة، سفر التكوين، صموئيل ثان، ملوك أول.
3 التوراة: سفر التكوين 35/ 22، كتابنا إسرائيل ص76=77.
4 التوراة: سفر التكوين 37: 12-30.
أبيه، فقد كشف فقط كشف عورة أبيه، إنهما يقتلان، وكلاهما دمهما عليهما1"، وأنه "إذا اضطجع رجل مع كنته "زوجة ابنه" فإنهما يقتلان كلاهما، فقد فعلا فاحشة، دمهما عليهما"2، وأخيرًا فإن التوراة التي حرمت الزنا في الوصايا العشر3، هي نفسها التوراة التي تصمت تمامًا عن زنى "راؤيين" بزوج أبيه، وزنى "يهوذا" بزوج ابنه، وهي نفسها التي تمجد الفتاة اليهودية "أستير" على ما ارتضته من أن تكون محظية الملك الفارسي وعشيقته، ما دام في ذلك تحقيق لمصلحة مبتغاة، بل لقد وصل هذا التمجيد بالتوراة إلى أن تفرد لها سفرًا خاصًا من أسفارها، هو سفر أستير4.
وتلك مأساة ثالثة ترويها توراة اليهود -ولا أقول توراة موسى- حين تروي أن "أمنون" بن داود عليه السلام، قد أحب أخته "ثامارا" إلا أنه لم يستطع أن يشبع منها شهوته، لأن الفتاة إنما كانت عذراء، ومن ثم فإنه يلجأ إلى إعمال الحيلة، وبمشورة ابن عم لهما، حتى تصل الفتاة إلى مخدعه، فيراودها عن نفسها، فترفض، ومع ذلك فإنها تقترح عليه أن "كلم الملك فإنه لا يمنعني منك"، ولكن أمنون يأبى إلا أن ينالها اغتصابًا، وليت الأمر اقتصر على ذلك -وما أشنعه وأخزاه- بل إن أمنون بعد أن ينال وطره منها، يأمر خادمه أن يطردها ويقفل الباب من ورائها، وهنا لا تملك الفتاة المجروحة إلا أن تهيل التراب على رأسها، ويسمع أبوها بالمأساة فيغضب، ولكن غضبه لا يمتد إلى عقاب الجاني، مما اضطر شقيقها "أبشالوم" إلى أن يثأر لعرضها، فيقتل أمنون5، غير أنه سرعان ما يتجاوز كل حدود الشرف، فيثور على أبيه وينتزع منه عرشه، ثم لا يتورع عن أن ينتهك عرضه على مرأى من عامة القوم، وفي خيمة نصبت له على سطح بيت أبيه6.
ولعل الدكتور إسرائيل ولفنسون لا ينسى ما جاء في توراة يهود7 بشأن قصة
1 لاويين: 20: 11.
2 لاويين 20: 12.
3 صبري جرجس: التراث اليهودي الصهيوني ص66.
4 خروج 20: 1-17.
5 صموئيل ثان 13: 1-39.
6 صموئيل ثان 16: 20-23.
7 صموئيل ثان: 11: 3-37، 12: 1-31.
داود، و"بتشبع" امرأة أوريا الحيثي، وكيف تصور توراة قومه النبي الأواب، وقد قضى منها وطره، ثم دبر أمر قتل زوجها في ميدان القتال، ثم ضمها آخر الأمر إلى حريمه1.
هذه أمثلة عن رأي التوراة فيما تعرض له "ولفنسون"، وهو رأي لا يسر على أي حال، ونحن نؤمن -الإيمان كل الإيمان- أن هذه الأكاذيب قد دستها طغمة باغية من يهود، ومن ثم فقد لعبت أصابع التحريف بتوراة موسى عليه السلام، وبالتالي فقد بعدت نسبتها إليه، فضلا عن أن تكون من لدن عَلِيٍّ قدير، فَجَلَّ اللهُ عما يقول المبطلون من بني إسرائيل ويفتري الظالمون من يهود، ومن ثم -والحال كما قدمنا، وفيها من النصوص ما رأينا -فلا يصح أن يتخذ منها "ولفنسون"، دليلا على أن من يرتكب جريمة تناقض روح التوراة، لن يجد من يهود، إلا كل المقاومة، وكل الإنكار، وانطلاقًا من هذا، فإن كذب رواية الفيطون، ليس لأن مرتكبها، يؤمن باليهودية ويقرأ التوراة، وإنما كذبها -فيما أرى- لأنها لم تحدث أصلا، وما أكثر ما ارتكب اليهود من جرائم يندى لها جبين الإنسانية، فضلا عن الشرف والكرامة.
ثم هناك التلمود -وهو في نظر اليهود يقف على قدم المساواة مع التوراة- يرى أن اليهودي إذا اعتدى على عرض الأجنبية لا يعاقب، لأن كل عقد نكاح- فيما يرى التلمود- عند الأجانب "أي الأمميين" فاسد؛ وذلك لأن المرأة غير اليهودية، إنما تعتبر بهيمة، والعقد لا يصح بين البهائم، ومن ثم فلليهودي الحق في اغتصاب
1 أخطأ بعض المفسرين خطأ كبيرًا، عندما فسروا ما في سورة ص "آية 21-25" عن داود والخصمين اللذين اختصما إليه على النحو الذي جاء في التوراة، مع أن العبارة التي ذكرت بها القصة في القرآن الكريم لا تدل صراحة على شيء من ذلك، ومن هنا ختمت هذه الآيات الكريمة بقوله تعالى:{وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} ، ولا يمكن أن يكون هذا للزناة القتلة، ولهذا يروى عن الإمام علي -كرم الله وجهه- أنه قال:"لو سمعت رجلا يذكر أن داود عليه السلام قارف من تلك المرأة محرمًا، لجلدته ستين ومائة؛ لأن حد قاذف الناس ثمانون، وحد قاذف الأنبياء ستون ومائة"، "بل إن ابن العربي يرى أن من قال إن نبيًّا زنى فإنه يقتل" "انظر: تفسير القرطبي ص5625 "طبعة الشعب"، تفسير النسفي 4/ 29-30، تفسير ابن كثير 4/ 30-31، تفسير الخازن 6/ 38-42، تفسير الطبري 23/ 141-152، تفسير البيضاوي 2/ 307-310، تفسير روح المعاني 23/ 173-190، تفسير مقاتل 3/ 1266-1268، تفسير الفخر الرازي 26/ 188-198، تفسير الجلالين "نسخة على هامش البيضاوي" 2/ 207-310".
النساء غير المؤمنات، أي غير اليهوديات؛ لأن الزنا بغير اليهود -ذكورًا وإناثًا- لا عقاب عليه؛ لأن كل الأجانب إنما هم من نسل الحيوان1.
وهكذا يبدو بوضوح أن الاعتماد على كتب اليهود الدينية -سواء أكانت توراة أو تلمودًا- إنما تؤكد قصة الفيطون ولا تنفيها، وإنما يمكن نفيها- كما أشرنا من قبل- عن طريق دراسة أحوال العرب وتقاليدهم في تلك العصور الخالية، بل وفي كل عصور التاريخ قاطبة، وحتى يومنا هذا.
وأما الدكتور عبد الفتاح شحاتة فلم يقدم لنا في الواقع أدلة مقنعة تثبت هذه الرواية، وإنما أخذ أضعف مواقفها واتخذها حججًا له، فقتل الفيطون- كما جاء في القصة- لا يثبت شرفًا، ولا ينفي عارًا، وأما أن أمثال هذه القصة حدثت في أوربا في العصور الوسطى، ومن ثم فقد تكون عادة شائعة في تلك العصور القديمة عند بعض ملوك الشرق ورؤسائه، فليست حجة يحتج بها لإثبات قصة الفيطون وأمثالها، فليس هناك من شك في أن ما يحدث في بلد قد لا يحدث في بلد آخر، لاختلاف العادات والتقاليد، فضلا عن الظروف السياسية والاقتصادية، ولست أدري كيف قبل الشيخ الجليل أن يجعل تاريخ أوربا في عصورها الوسطى نموذجًا يحتذى عند بعض ملوك الشرق القديم ورؤسائه، والفرق بين العادات والتقاليد في المنطقتين كان -وما يزال- جد شاسعًا، بل إن أمور العرض حتى اليوم هذه قد يختلف الناس عليها في بلد واحد، وفي عصر واحد، فما أشد الخلاف حتى اليوم في كيفية معالجة هذه الأمور -خطأ أو صوابًا- في صعيد مصر، وفي غيره من أقاليم الكنانة.
وأما عن تساؤله عن الدوافع التي دعت الطبري وغيره إلى اختلاق مثل قصة طسم وجديس وغيرها، فليس ذلك إثباتا لها، وما أكثر ما جاء في كتب المؤرخين من روايات لا تتفق مع المنطق والتاريخ، فضلا عن تعارضها في بعض الأحايين مع الخلق والدين، وليس من المنطق، فضلا عن التاريخ الصحيح، القول بأن كل ما جاء في كتب المؤرخين صحيح، لمجرد التساؤل عن الدوافع التي دعت إلى هذا القول أو ذاك، أو حتى عدم معرفة هذه الدوافع، وأخيرًا فنحن لسنا مسؤلين عن هذه الدوافع، فضلا عن الدفاع عنها.
1 انظر مقالتنا عن "التلمود" مجلة الأسطول، العدد 70، الإسكندرية 1970 ص5-21.
والرأي عندي أن القصة مختلقة تمامًا؛ وذلك لأسباب منها "أولًا" أنها تتعارض مع حقائق التاريخ، تلك الحقائق التي لا تعرف لليهود في يثرب ملكًا، وبالتالي فليس هناك ملك يدعى الفيطون، وحتى لو وجد الشخص بذاته، فلا يعدو أن يكون رئيس قبيل، وفي أحسن الظروف زعيم يهود في يثرب، ومن ثم فليس صحيحًا ما ذهب إليه البعض من أن كلمة "الفيطون" إنما تعني "ملك"، وأنها تقابل النجاشي عند الأحباش، و"خاقان" عند الأتراك1.
ومنها "ثانيًا" أن تاريخ الغساسنة لا يعرف ملكًا باسم "أبي جبلة"، والذي يزعم الإخباريون أن "مالكان بن العجلان" قد لجأ إليه، يستنصره ضد يهود، ومرة أخرىن حتى لو عرف هذا الشخص بذاته، فربما كان واحدًا من المقربين لأمراء بني غسان، وإن صدقت "نسبة أبي جبلة" هذا إلى الخزرج، وأنهه رحل إلى الشام وأقام عند الغساسنة2، فأكبر الظن أن الرجل قد أصبح واحدًا من رجال البلاط الغساني، وربما كان ذا مكانة عند ذوي قرباه، ومنها "ثالثًا" أن بعضًا من المؤرخين -كالسمهودي- إنما ينكر هذه القصة، بل إن هذا الفريق من المؤرخين إنما يرى أن الفيطون كان يمارس هوايته الدنئية هذه في غير الأوس والخزرج، وعندا أراد ذلك مع بنات "بني قيلة" قتله مالك بن العلجان3، ومنها "رابعًا" أن بعضًا آخر من المؤرخين المسلمين -كابن هشان والواقدي والأصفهاني- إنما تجاهلوا الرواية تمامًا.
ومنها "خامسًا" أن الإخباريين لم يستقروا على رأي واحد، بشأن ذلك الذي لجأ إليه ابن العجلان، فبينما يذهب فريق إلى أنه "أبو جبلة"، كما رأينا، يذهب فريق آخر إلى أنه إنما كان "تبع الأصغر بن حسان"- الذي رأوا فيه "أسعد أب كرب" أو "تبع بن حسان" -ملك اليمن، وليس ملك غسان4، ومنها "سادسًا" ذلك الخلاف بين الأخباريين على جنسية الفيطون هذا، فهناك آراء ذهبت إلى أنه يهودي،
1 الاشتقاق 2/ 259، جواد علي 6/ 522.
2 تاريخ ابن خلدون 2/ 289، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/ 657، الاشتقاق 2/ 272، وفاء الوفا 1/ 126، ابن حزم: جمهرة أنساب العرب ص236.
3 وفاء الوفا 1/ 126-127، إبراهيم العياشي: المرجع السابق ص34-35.
4 وفاء الوفا 1/ 128، 131، خلاصة الوفا ص167-169، المقدسي: البدء والتأريخ 3/ 179، تاريخ اليعقوبي 1/ 197، 204، إسرائيل ولفنسون: المرجع السابق ص61-62.
كما أشرنا من قبل، بينما ذهبت آراء أخرى إلى أنه عربي، ومن اليمن كذلك، وأنه يدعي "عامر بن عامر بن ثعلبة بن حارثة"، وينتهي نسبه إلى "عمرو مزيقياء1" ومنها "سابعًا" ذلك الخلاف بين الأخباريين فيمن أرسله القوم إلى الشام، أهو "مالك بن العجلان" نفسه، أم هو شخص آخر دعوه "الرمق بن زيد بن امرئ القيس الخزرجي"2.
ومنها "ثامنًا" أن عنصر الخيلا قد لعب دورا في هذه القصة، ومن الغريب أن نقرأ قصصا -كقصة الفيطون- يرويها الإخباريون عن ملوك اليمن، وعن ولعهم بالنساء وعمل المنكر بهن، ومنها واحدة تتصل بملكة سبأ -"بلقيس"3 صاحبة سليمان عليه السلام وأخرى عن "عتودة" مولى أبرهة الحبشي4، وكلها تشبه قصة الفيطون، أضف إلى ذلك أننا نجد للعلاقات الجنسية مكانة في هذا القصص الجاهلي الذي يرويه الإخباريون، وما قصة الفيطون إلا واحدة من هذا القصص الذي تلعب الغرائز الجنسية فيه مكانة بارزة5، على أن الشبه أكثر وضوحا بين قصة الفيطون هذه، وبين قصة "عملوق" ملك طسم، الذي كان يفعل بالعذارى من بنات جديس، ما يفعل الفيطون ببنات الأوس والخزرج، فضلا عن عذاري يهود6.
ومنها "تاسعًا" أن الطريقة التي قدمتها الرواية عن قتل زعما يهود في "ذي حرض" طريقة ساذجة، لا تتفق وما عرف عن يهود من مكر وخداع ودسيسة، فضلا عن أن يهود إنما كانوا يتخذون دائمًا جانب الحذر والحيطة من الروم وعمالهم بسبب ما لاقوه من الروم الذين قضوا عليهم في فلسطين، ثم شردوا البقية الباقية منهم في جميع أنحاء الدنيا، بل إن وجودهم نفسه في يثرب لم يكن إلا بسبب الروم.
ومنها "عاشرا" أن القصة، كما يرويها الأخباريون، تتعارض تمامًا وأخلاق العرب الذين كانوا يشعلون نار الحرب لأقل كلمة، يمكن أن تفسر على أنها تسيء
1 الاشتقاق 2/ 436.
2 وفاء الوفا 1/ 126-127.
3 ابن الأثير 1/ 232-233، تاريخ الخميس ص276.
4 تاريخ الطبري 2/ 128-129، ابن الأثير 1/ 432-433.
5 جواد علي 4/ 135.
6 تاريخ الطبري 1/ 629-632، ابن الأثير 1/ 351-354، تاريخ ابن خلدون 2/ 24-25، مروج الذهب 2/ 111-119، وفاء الوفا 1/ 129-132.
إلى الكرامة والشرف، فضلا عن تعارضها مع أخلاق قوم يصل بهم الحفاظ على العرض إلى ارتكاب أكثر الجرائم قسوة، حتى كان بعض منهم يلجأ إلى وأد بناتهم، خوفا من عار قد تجلبة هذه البنت أو تلك، إذا ما كبرت وتعرضت للسبي، وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى:{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُون} 1.
ومنها "حادي عشر" أن القصة تصور القوم وكأنهم لا يثورون على هذا الوضع الدنيء، إلا بعد أن ظهرت "فضلا" أمام قومها وقد كشفت عن ساقيها، فيغضب أخوها، وهنا تذكرة أخته بأمر هذه الليلة، وكيف أنها سوف تزف ليلة عرسها إلى غير زوجها، ومن ثم فإن مالكا إنما يتذكر شرفه وشرف قومه المستباح، فيغضب ويقتل الفيطون، وهذا يعني ببساطة أن القوم ما كانوا يأنفون من أن ينتهك الفيطون أعراضهم، ولكنهم يثورون أشد الثورة إذا ما بدت ساقا أخت مالك هذا، أمام بعض رجالات قومها، فهل هذا صحيح؟ ثم كيف استطاع اليهود أن ينزلوا بالعرب كل هذا الهوان، وفي وسط بلاد العرب، أي في عرين الأسد كما يقولون؟
وهل صحيح أن اليهود كانوا بقادرين في أي فترة من فترات التاريخ أن يفعلوا بالعرب ما تصوره قصة الفيطون؟ إن التاريخ يحدثنا -واليهود يشهدون بذلك- أن العكس هو الذي حدث، وأن كل شعوب المنطقة إنما فعلت ذلك باليهود، فالفراعين يقتلون أبناءهم ويستحيون نساءهم2، والآشوريون والبابليون يأخذون نساء اليهود سبايا3، بل إن انتهاك أعراض اليهود إنما تم في مصر وفي فارس برض من اليهود أنفسهم، ونقرأ في كتاب يهودي، أن الإسرائيلي الذي كان يريد
1 سورة النحل: آية 58-59، وانظر: تفسير روح المعاني 14/ 168-170، الكشاف 2/ 414، تفسير ابن كثير 4/ 200-202، تفسير القرطبي 10/ 116-118، في ظلال القرآن 14/ 2178-2179.
2 انظر على سبيل المثال: سورة البقرة: آية 49، وكذا تفسير روح المعاني 2/ 253-254، تفسير البحر المحيط 1/ 187-188، تفسير الطبري 2/ 36-49، تفسير المنار 1/ 308-313، الكشاف 1/ 279-280، تفسير ابن كثير 1/ 90-91، "دار إحياء التراث العربي"، في ظلال القرآن 1/ 70-72، الدرر المنثور في التفسير بالمأثور 1/ 68-69 "طهران 1377هـ" وانظر سورة القصصن آية، وكذا تفسير الطبري 20/ 27-28، تفسير ابن كثير 13/ 379-280، روح المعاني 20/ 42-44، في ظلال القرآن 20/ 2676، وانظر التوراة: سفر الخروج 1/ 22
3 حسن ظاظا: المرجع السابق ص18.
الراحة في مصر يهب زوجته لمن يقوم عليه من المصريين، حتى تحمل منه فيردها لزوجها بحملها1، ونقرأ في كتاب آخر، أن رؤساء العمل كانوا يأخذون النساء الإسرائيليات ليضطجعن معهن حتى يحبلن، فإذا حبلت المرأة اليهودية ترد إلى زوجها فتلد له ابنا ينسب إليه2، وأما في فارس فما جاء في التوراة عن "أستير" ليس في حاجة إلى بيان3، والأمر كذلك بما فعله الرومان ببنات يهود -طوعا أو كرها، ومن عجب أن يحدثنا التاريخ بكل هذا -ويقر اليهود به- ثم يأتي بعض مؤرخي المسلمين، فيجعلوا بنات يثرب العربيات متاعا مباحا لشخص- لا يدري التاريخ عنه شيئًا -دعوه الفيطون، ثم يأتي بعض المؤرخين المحدثين، فيجهدوا أنفسهم في إثبات تلك الأكذوبة، لا لسبب، إلا ليثبتوا أن مؤرخينا القدامى فوق الخطأ، وكأن تاريخ أمة يمكن أن يدنس، رغبة في إثبات أن مؤرخيها ما عرفوا الخطأ أبدًا.
ومنها "ثاني عشر" أن المرأة -وليس الرجل- في كل هذه الروايات، هي التي تأنف من العار، وتأبى الذل، وتحرض الرجال على الانتقام للعرض المستباح، فبلقيس سبأ تقول لقومها "أما كان فيكم من يأنف لكريمته وكرائم عشيرته4" و"عفيرة" جديس تقول:
لا أحد أذل من جديس
…
أهكذا يفعل بالعروس
يرضى بذا يا قوم بعل حر
…
أهدى وقد أعطى وثيق المهر
ولو أننا كنا رجالا وكنتم
…
نساء لكنا لا نقر بذا الفعل
فموتوا كراما أو أميتوا عدوكم
…
ودبوا لنار الحرب بالحطب الجزل
وإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه
…
فكونوا نساء لا تعاب من الكحل
ودونكم طيب النساء فإنما
…
خلقتم لأثواب العروس وللنسل5
و"فضلاء" يثرب تقول: "الذي يراد بي الليلة أشد من ذلك، أهدى إلى غير زوجي6، فهل حقًّا كانت النساء تغير على العرض أكثر من الرجال؟ ثم وهل
1 انظر: كتاب عذاب عبيد الرب في مصر، لمؤلفه عزرا، محمد فؤاد الهاشمي: اليهود في الكتب المقدسة ص69.
2 انظر: كتاب أخبار إسرائيل في مصر، لمؤلفه حاييم ناحوم.
3 انظر سفر أستير 1-10.
4 ابن الأثير 1/ 233.
5 ابن الأثير 1/ 352-353.
6 ابن الأثير 1/ 657.
حقًّا هذا الحديث -نثرًا وشعرًا- قالته النسوة اللآتي أشرنا إليهن؟، أم أن الأمر كله لا يعدو أن يكون أسطورة من أساطير الأخباريين، ولكنها هذه المرة مؤلمة، أشد ما يكون الألم، حيث تجعل أعراض العرب مستباحة ليهود.
ومنها "ثالث عشر" أن الذين يذهبون إلى صحة هذه الروايات الكذوب، لا يعرفون أم مسألة العرض مسألة تتصل بنفس الأصول التي قامت عليها العصبية القبلية بالمعنى المفهوم القديم، باعتبارها عاملا دمويا حيويا، فأساس العصبية هو الرباط الدموي القائم بين الأفراد، وأساس العرض هو الحرص -كل الحرص- على ألا يدنس هذا الرباط الدموي بحال من الأحوال1، ومن ثم فإن صيانة المرأة صيانة لعرض العشيرة كلها، بهدف الرغبة في الإبقاء على نقاء الدم فيها بعدم دخول غريب عليها مهما علا قدره2، فما بالك إذا كان دخول هذا الغريب إلى دماء القبيلة ليس عن طريق الزواج، وإنما كان الاغتصاب وسيلته، وبأحط الطرق وأعنفها، وذلك بأن يقدم القوم ابنتهم بأنفسهم إلى هذا الرجل أو ذاك، ليفترعها أمام أعين أبناء القبيلة، وعلى مسمع من الشيبة والشبان فيها، فضلا عن الصبايا وذوات البعول.
ومنها "رابع عشر" هذا التشابه العجيب بين قصة الفيطون وقصة عملوق، فف كل منهما تنتهك أعراض القوم، حتى لا تهدى بكر إلى زوجها قبل أن تدخل على الفيطون أو عملوق فيفترعها، وفي كل من الروايتين للعروس أخ ذو حسب وجاه في قومه، يقتل الفاعل ثم يهرب إلى تبايعة اليمن، وإن ترددت قصة الفيطون بين ملوك اليمن وأمراءغسان، وفي كل من الروايتينن فإن المرأة هي التي تثور لشرفها، وتحرض الرجال من قومها على الانتقام لعرضها المستباح، وفي كل من الروايتين ينتهي الأمر بنصرة المظلومين عن طريق قوة تأتي من خارج القبيلة
…
إلخ.
وسؤال البداهة الآن: والذي كان يجب أن يسأله لأنفسهم هؤلاء المتعصبون لصحة هذه الرواية وأمثالها، كيف قبل هؤلاء الإخباريون أن يجعلوا أعراض العرب مباحة لكل من يريدها؟ فمرة بينهم وبين بعضهم الآخر، كما في قصة بلقيس وقصة
1 مصطفى محمد حسنين: نظام المسئولية عند العشائر العراقية العربية المعاصرة - القاهرة 1967 ص62.
2 نفس المرجع السابق ص61.