الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الطرق التجارية الشمالية التي كانت ترتادها قوافل اليمن التجارية، حتى يأمنوا اعتداء قبائل البدو الشمالية عليها، بخاصة وأن الدول الكبرى القائمة على تخوم الصحراء، إنما كانت وقت ذاك تحاول أن تؤلف القبائل إليها لتحمي حدودها من غزواتها، وتمدها بالجند، وتسير معها في الحروب متحالفة على أعدائها، فإذا كان ذلك صحيحا، فإن تولية حجر آكل المرار، تكون سياسية يمنية حكيمة، فقد كانت عصبة حجر يمنية، وكان هو من أسرة تولت الملك في بلادها الأولى، ثم إن هذه الأسرة كانت قد استقرت في الشمال منذ فترة عرفت فيها اتجاه العصبيات وفهمت العقلية الشمالية1، وهكذا يكون ملوك حمير قد حققوا من إقامة دولة كندة، ما حققه الروم من إقامة دولة الغساسنة، والفرس من إقامة دولة اللخميين، وتصبح كندة لتبابعة اليمن، ما كان اللخميون للفرس، والغساسنة للروم2.
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الروايات العربية عن تأسيس مملكة كندة، تجد لها تأييدا في نقش عربي جنوبي -هو نقش "ريكمانز509"- يتحدث عن حملة قام بها الملك الحميري "أب كرب أسعد" هو وابنه "حسن يهأمن" واشتركت فيها كندة، هذا إلى أن هناك مخربشة عربية جنوبية تتحدث عن "حجر بن عمرو" ملك كندة3.
1 عمر فروخ: تاريخ الجاهلية، ص83، إيليا حاوي: امرؤ القيس "دار الثقافة، بيروت 1970"ص7.
2 جرجي زيدان: المرجع السابق ص226، وكذا P.K. Hitti، Op. Cit.، P.85-86
3 S. Moscati، Op. Cit.، P.127
وكذا M. Hofner، Die Beduinen In! Den Vorislamischen Arabischen Inschriften، P.53-68
2-
ملوك كندة:
عرفت كندة لدى الأخباريين بكندة الملوك، ربما لأن الملك كان لهم على بادية الحجاز من بني عدنان1؛ ولأنهم نصبوا أولادهم على القبائل، ولأنهم كانوا يتعززون بنسبهم إلى كندة، وإلى آكل المرار، لأنهم كانوا ملوكا، ولأنهم "ساسوا العباد وتمكنوا من البلاد"2، على أنه يجب أن نشير إلى أن مملكة كندة لم تكن مملكة
1 تاريخ ابن خلدون 2/ 275، الإكليل 2/ 221، 224، منتخبات ص94.
2 تاريخ الطبري 3/ 139، مروج الذهب 2/ 325، ابن هشام 2/ 345، جواد علي 3/ 315.
بالمعنى المعروف، وإنما كانت أقرب ما تكون "اتحادا فدراليا" "Cofederation قبليا، تشغل فيه قبيلة كندة مركز الصدارة، وتتولى فيه الحكم أسرة من أسرها1.
وأيا ما كان الأمر، ففي الربع الأخير من القرن الخامس الميلادي2، وربما في حوالي عام 480م3، أصبح "حجر بن عمرو آكل المرار" ملكا على كندة في قلب نجد، وانتزع جانبا من الأرض التي كانت تحت سيطرة المناذرة، ثم نزل في مكان يدعى "بطن عاقل" -جنوب وادي الرمة على الطريق بين مكة والبصرة4، وهكذا -كما يقول الدكتور عمر فروخ- تسرب النفوذ الأجنبي إلى مكان جديد في شبه الجزيرة العربية، نفوذ رومي مناهض لنفوذ الفرس في الحيرة، ومغلف بسياسية يمنية ظاهرة5، إلا أننا لا يمكننا أن نقبل وجهة النظر هذه ببساطة؛ ذلك لأن الدكتور فروخ نفسه يوافق الروايات العربية التي ذهبت إلى أن الذي أقام حجرا ملكا على كندة، إنما هم الحميريون وليس الروم أو الأحباش، كما أن اليمن لم تكن وقت ذاك تسير في فلك النفوذ الرومي أو الحبشي، فضلا عن أن ملوك كندة إنما عملوا بعد ذلك عند الفرس، وليس عند الروم أو الأحباش، كما سوف نرى وإن تحالفوا مع الروم حينا من الدهر.
وعلى أي حال، فإن حجرا، إنما يدعى عند المؤرخين العرب "آكل المرار"، ويعللون ذلك بقصة خلاصتها: أن حجرا قد سار بقبائل ربيعة لغزو البحرين، فعلم بذلك "زيادة بن الهبولة" من سليح بن حلوان، فأغار على غمر كندة، وقتل من وجد من الرجال، واستولى على الأموال، وسبى النساء، ومن بينهم "هند" زوج حجر نفسه، وما أن يعلم حجر بهذا الأمر، حتى يسرع فيدرك زياد عند "البردان"، فينزل على ماء يقال له "الحفير" -على مقربة من عين أباغ بين الفرات والشام- ويرسل رجالا ليأتوه بخبر زياد، وهنا يعلم -عن طريق رجل يقال له سدوس- أن هندا إنما هي راضية عما حدث، وأنها قد أجابت زيادا عندما سألها عن موقف
1 موسكاتي: المرجع السابق ص356.
2 G. Olinder، Op. Cit.، P.46
3 P.K. Hitti، Op. Cit.، P.85
4 ابن الأثير 1/ 512، وكذا G. Olinder، Op. Cit.، P.42
5 عمر فروخ: المرجع السابق ص86.
حجر: "إنه والله لن يدع طلبك حتى تعاين القصور الحمر -يعني قصور الشام- وكأنني به في فوارس من بني شيبان، يذمرهم ويذمرونه، وهو شديد الكلب، تزبد شفتاه كأنه بعير أكل مرارًا، فالنجاء النجاء، فإن وراءك طلبا حثيثا وجمعا كثيفا، وكيدا متينا، ورأيا صليبا". وما أن ينتهي "سدوس" من روايته، حتى يعبث حجر بالمرار، ويأكل منها، غضبا وأسفا، ولا يشعر أنه يأكله من شدة الغضب، فسمي يومئذ "بآكل المرار" أو أنه -على رواية أخرى- كان يوما على سفر، فلما لم يجد ما يأكله أكل المرار حتى شبع1، وأيا ما كان الأمر، فإن معركة حامية الوطيس سرعان ما تدور رحاها بين الفريقين، ينال فيها "زياد" هزيمة منكرة، ثم يقع في أسر "سدوس"، وتنجح بكر في استرداد ما سلبه زياد من غنائم وسبي، ثم يأخذ حجر هندا فيربطها في فرسين، ثم يركضهما، فشقاها نصفين على رواية، وأنه قد أحرقها على رواية أخرى، ثم عاد إلى الحيرة2.
وفي الواقع أن الرواية على هذا النحو، إنما تعترضها عقبات عدة، منها "أولا" أن هناك من يرى أن الذي هاجم ديار حجر، إنما هو الحارث بن الأهيم بن الحارث الغساني على رواية، والحارث بن جبلة على رواية أخرى، ودون ذكر اسم الذي أغار على غمر كندة، على رواية ثالثة، وهو الحارث بن منذلة الضجعي من بني سليح، على رواية رابعة، وهو عمرو بن الهبولة الغساني على رواية خامسة3، وهكذا يختلف الإخباريون في الرواية بصورة تلقي ظلالا من شك على صحتها من أساس، ومنها "ثالثا" أن الأسيرة -في رواية أخرى- ليست هندا، وإنما هي قينة من أحب قيان حجر إلى نفسه4.
ومنها "ثالثا" أن ابن الأثير5، سرعان ما يدرك الخطأ في الرواية؛ لأن ملوك
1 هناك تفسير آخر يذهب إلى أن المرار، إنما هو نبات إذا أكلته الإبل تقلصت مشافرها فبدت أسنانها، لذلك قيل الحجر، "آكل المرار" لكشر كان به، انظر: جواد علي 3/ 320، سعد زغلول: المرجع السابق ص232، أبوالفداء 1/ 74، اللسان 4/ 171، وكذا
Caussin De Perceval، Op. Cit.، Ii، P.267. وكذا P.K. Hitti، Op. Cit.، P.85
2 ابن الأثير 1/ 5067-509، الاشتقاق 1/ 22، الأغاني 15/ 82، البيان والتبيين 3/ 328، تاج العروس 2/ 300، القاموس 1/ 277، أيام العرب في الجاهلية ص42-50.
3 جواد علي 3/ 322-323، منتخبات ص97، الأغاني 13/ 63، الهمداني: صفة جزيرة العرب ص86 وكذا G. Olinder، Op. Cit.، P.44-5
4 منتخبات ص97، جواد علي 3/ 322.
5 ابن الأثير 1/ 510-511.
سليح كانوا بأطراف الشام عمالا للروم، ثم خلفهم الغساسنة في مكانتهم هذه، وأما الحيرة فقد كانت ملكا للخميين، ومن ثم فإن عودة حجر للحيرة بعد انتصاره على "زياد" لا تتفق والحقائق التاريخية، صحيح أن الفرس على أيام "قباذ""448-531م" قد استعملوا ملوك كندة على الحيرة، ولكن صحيح كذلك أن ذلك إنما حدث بعد وفاة "آكل المرار"، وعلى أيام حفيده "الحارث"، ثم إن "زياد بن الهبولة" هذا، إنما كان يعيش قبل "آكل المرار" بفترة طويلة، ومن ثم فإنه يفترض أن "زيادا" إنما كان رئيسا على قوم، أو متغلبا على بعض أطراف الشام، أضف إلى هذا كله أن هناك من يرى أن الذي غزا آكل المرار، إنما كان "غالب بن هبولة"، وأنه لم يشر إطلاقا إلى عودة آكل المرار إلى الحيرة.
وعلى أي حال، فلقد مات آكل المرار في "بطن عاقل" في وقت لا نستطيع تحديده على وجه اليقين، وإن اتجه "أوليندر" إلى أن ذلك ربما كان في العقد الأخير من القرن الخامس الميلادي، معتمدا في ذلك على وفاة حفيده "الحارث" في عام 528م1، وإن كان هناك من يرى أن "حجرا" إنما هو "Ogarus" المذكور في بعض التقاويم في حوادث أعوام 497م، 501، 502م، وقد ذكر معه أخ له يدعى "معديكرب""Badicharimus"، فضلا عن حفيد يدعى "الحارث2 Aretha.
وخلف حجر آكل المرار ولده المعروف بالمقصور "عمرو بن حجر"؛ ربما لأنه اقتصر على ملك أبيه؛ وربما لأن "ربيعة" قد اضطرته إلى ذلك3، وأنه لم يحمل لقب "ملك"، وإنما اكتفى بلقب "سيد كندة"، وأن اليمامة إنما كانت من نصيب أخيه معاوية المعروف بالجون4، ويبدو أن "عمر بن حجر" كان على علاقة طيبة بملوك اليمن" ومن ثم فقد تزوج بنتا لحسان بن تبع أسعد الأكبر،
1 ابن الأثير 1/ 512 وكذا جواد علي 3/ 325، وكذا G. Olinder، Op. Cit.، P.46
2 جواد علي 3/ 325، وكذا Provincia Arabia، Iii، P.286
3 ابن الأثير 1/ 512، المحبر ص369، المفضليات ص429، الأغاني 8/ 60، حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص92".
4 الأغاني 15/ 82، 18/ 62، ابن الأثير 1/ 512، تاريخ الطبري 2/ 89، المحبر ص369.
كما كانت كذلك باللخميين، ولهذا فقد تزوج "الأسود بن المنذر" ملك الحيرة من "أم الملك" ابنة عمرو المقصور، فولدت له النعمان بن الأسود1.
على أن علاقة عمرو المقصور هذا بالغساسنة إنما هي موضع خلاف بين المؤرخين، فذهب البعض إلى أنها كانت علاقة عدائية، وأن عمرا إنما كان في أحايين كثيرة يشن الغارة عليهم، حتى لقي حتفه آخر الأمر بيد "الحارث بن أبي شمر" الغساني2 بينما يذهب فريق آخر إلى أن العلاقات بينهما إنما كانت طيبة، وأن عمرا قد تزوج من "هند الهنود" بنت "ظالم بن وهب"، وكانت أختها "ماريا" زوجة للحارث الغساني الأكبر، وأن الذي قتل عمرا، إنما هو "عامر الجون" في "يوم القنان"، إبان ثورة ربيعة على عمرو المقصور3، وذلك حين انتهزت فرصة الضعف في آل كندة على أيامه، وكان قد ظهر من بني تغلب في نفس الوقت رجل قوي، هو "وائل بن ربيعة" المعروف بكليب وائل، فانتزع من عمرو السيطرة على جميع قبائل ربيعة، أو أن قبائل ربيعة قد انحازت من تلقاء نفسها إلى "كليب"، ومن ثم فقد اضطر عمرو إلى أن يستنجد "بمرشد بن عبد ينكف الحميري"، الذي أنجده بجيش كبير، والتقى عمرو بكليب في ديار بني أسد -على مقربة من جبل القنان- فقتل عمرو في المعركة، وتحررت قبائل ربيعة من سيطرة آل كندة إلى حين4.
وجاء بعد عمرو ولده "الحارث" من زوجه أم إياس أو أم إناس بنت عوف على رأي5، ومن امرأة من بني عامر بن صعصة على رأي ثان6، ومن بنت حسان بن تبع الحميري على رأي ثالث7، ويرى الطبري أن "عمرو بن تبع" إنما أراد بهذا الزواج الإقلال من شأن بني أخيه "حسان بن تبع" بعد أن قتله بنفسه، وفي نفس الوقت الإعلاء من شأن عمرو بن حجر الكندي؛ ذلك لأن العرب لم تكن
1 تاريخ الطبري 2/ 104، حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص69، المعارف ص275.
2 تاريخ اليعقوبي 1/ 216، الأغاني 8/ 65، مروج الذهب 2/ 83-84.
3 ياقوت 4/ 401، المفضليات ص429، عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص87.
4 عمر فروخ: المرجع السابق ص88، المفضليات ص416.
5 جواد علي 3/ 326، كتاب المعاني الكبير لابن قتيبة 1/ 531، وما بعدها، الأغاني 8/ 62، ثم قارن: الأغاني 15/ 83، وانظر: G. Olinder، Op. Cit.، P.48
6 الدينوري: الأخبار الطوال ص52.
7 تاريخ الطبري 2/ 89، حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص69.
تطمع في مصاهرة هذا البيت العريق1.
وقد اختلف المؤرخون في فترة حكم "الحارث بن عمرو المقصور" هذا، فبينما يحدد له أستاذنا الدكتور عبد العزيز سالم الفترة "495-528م"2، يرى "كوسان ده يرسيفال" أنه حكم في الفترة "495-524م"3، ويذهب "أوليندر" إلى أنه كان في الفترة "490-528م"4، وعلى أي حال، فلقد كان الحارث أقوى ملوك كندة قاطبة، وأشدهم بأسأ، وأعظمهم شخصية، وأكثرهم طموحا، وقد ساعدته الظروف، فأصبح أعداؤه من بني بكر وتغلب -بعد حرب البسوس التي دامت أربعين عاما5- في حالة ضعف شديد، ومن ثم فقد نجح في أن يعيد سلطانه على قبائل ربيعة في نجد، وعلى بني أسد وبني كنانة وبني بكر.
وتذهب الروايات العربية إلى أن الحارث قد كتب له نُجْحًا بعيد المدى في توسيع مملكة كندة، حتى أنه استطاع آخر الأمر أن يضم إليه ملك آل لخم، وأن يجلس على عرشهم في الحيرة نفسها، منتهزا الفرصة التي أتاحتها له الظروف التي كانت تمر بها الدول الشمالية "الروم والفرس والغساسنة والمناذرة"، ومن ثم فقد بدأ حوالي عام 497م بغزو فلسطين، إلا أن الحاكم الروماني قد ألحق بجيشه -الذي كان بقيادة ولده حجر- هزيمة منكرة، ولكن ما أن تمضي سنون خمسة حتى تصبح بيزنطة في موضع حرج، إذ تبدأ قبائل البلغار والصقالبة تتغلغل في تخوم الإمبراطورية الشمالية، ثم سرعان ما تعود الحرب بين الروم والفرس، من جديد في حوالي عام 502م، وهكذا رأى الإمبرطور الروماني "أنسطاسيوس""491-518م" أن يخفف من مشكلاته، وأن يقلل من أعدائه، فعقد مع الحارث معاهدة تنص على أن
1 تاريخ الطبري 2/ 89.
2 عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص411.
3 Caussin De Perceval، Op. Cit.، Ii، P.286
4 G. Olinder، Op. Cit.، P.54، 56
5 انظر عن حرب البسوس: ابن الأثير 1/ 523-53، الميداني 1/ 374-376، تاريخ اليعقوبي 1/ 225، بلوغ الأرب 2/ 149-157، كتاب المعارف ص261، ياقوت 1/ 112-113، الأغاني 4/ 140-152، العقد الفريد 3/ 95، أيام العرب في الجاهلية ص142-168، أبو تمام: الحماسة ص420-423، تاريخ الجاهلية ص98-103، جرجي زيدان: المرجع السابق ص245-248، وكذا
P.K. Hitti، History Of The Arabs، P.89-90
يترك آل كندة مهاجمة الشام، وأن يتعاونوا مع الروم على قتال الفرس والمناذرة، وهكذا قام الروم في العام التالي "503م" -بمساعدة الحارث- بهجوم على الحيرة، واستولوا على قافلة1.
ولم يكن الحال بالنسبة إلى الفرس، بأفضل منه بالنسبة إلى الروم، فعلى أيام قباذ "488-531م"، انتشرت الاضطرابات في أنحاء البلاد، وأصبح الأمر بيد "الموابذة" كما كان للأغنياء والإقطاعيين دور كبير في إدارة شئون البلاد، وهنا رأى قباذ أملاً في استرداد سلطانه، ورغبة في القضاء على الأغنياء، وعلى رجال الدين أن ينشر مبادئ "مزدوك" بين الناس2، والتي تدعوا إلى نوع من الاشتراكية البدائية في الأموال والنساء، حيث إن الناس قد تظالموا في الأموال والأرزاق، فاغتصبها بعضهم من بعض، وأن الأغنياء قد اغتصبوا أرزاق الفقراء، ومن ثم فإنهم "يأخذون للفقراء من الأغنياء، ويردون من المكثرين على المقلين، وأن من كان عنده فضل من الأموال والنساء والأمتعة، فليس هو بأولى به من غيره، فافترض السفلة ذلك واغتنموه، وكانفوا مزدوك وأصحابه وشايعوهم، فابتلى الناس بهم، وقوي أمرهم، حتى كانوا يدخلون على الرجل في داره، فيغلبونه على منزله ونسائه وأموال، لا يستيطع الامتناع عنهم"3.
وقد أدت هذه الأحداث إلى قيام ضد قباذ، انتهت بخلعه في عام 498م -وربما في عام496م4- ولكنه استطاع أن يفلت من السجن، وأن يستعيد عرشه في عام 502 - أو عام 504م- طبقا لرواية يذهب الأخباريون فيها إلى أن أخته -بمساعدة واحد من ضباطه- قد لعبت الدور الأول في هروبه من السجن، بعد أن مكث فيه ست سنين5.
وفي أثناء ذلك كان قباذ قد دعا "المنذر بن ماء السماء" إلى المزدكية فأبى،
1 عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص89.
2 جواد علي 3/ 333، وانظر
T. Noldeke، Aufsatze Zur Persischen Geschichte، Leipzig، 1887، P.109
3 تاريخ الطبري 2/ 92-93، ابن الأثير 1/ 512-415، إيليا حاوي: المرجع السابق ص8، سعد زغلول: المرجع السابق ص222.
4 جواد علي 3/ 334، وكذا Eb، 17، P.574. وكذا Ei، 4، P.178
5 ابن الأثير 1/ 414، تاريخ الطبري 2/ 93-94.
وأسرها قباذ في نفسه، وعندما عرض دعوته هذه على الحارث الكندي أسرع بإجابته إليها، ومن ثم فقد عزل المنذر عن عرش الحيرة، وأقام مكانه الحارث الكندي1، فيما بين عامي 525م، 528م، على رأي2، وفي حوالي عام 529م على رأي آخر3، وهكذا اتسع ملك الحارث وعظم شأنه، وجعل أولاد ملوكا على القبائل، فكان "حجر" على بني أسد وغطفان، وكان "شرحبيل" على بكر بن وائل بأسرها، وعلى عدد من القبائل الأخرى، وكان "معد يكرب" على قيس بن عيلان وطوائف من غيرهم، وكان "سلمة" على بني تغلب والنمر بن قاسط، وعلى بني سعد بن زيد مناة من تميم4.
على أن هناك من يذهب إلى أن العرب قد انتهزوا فرصة ضعف قباذ، فتواثبوا على المنذر بن ماء السماء، واضطروه إلى الهروب من الحيرة، ومن ثم فقد استدعي عرب الحيرة الحارث الكندي فملكوه على بكر، وحشدوا له وقاتلوا معه، ثم اضطر المنذر -بعد أن فشل في الحصول على مساعدة عسكرية من قباذ- إلى أن يخضع للحارث، وأن يتقرب إليه، وأن يتزوج من ابنته "هند""عمة امرئ القيس الشاعر"5.
ويرى حمزة الأصفهاني أن الحارث الكندي كان قد طمع في ملك آل لخم، فانتهز فرصة ضعف قباذ، وباغت الحيرة، واضطر المنذر إلى الهرب إلى "الجرساء الكلبي" حيث بقي هناك حتى وفاة قباذ، وتولية كسرى أنوشروان الذي أعاده إلى ملكه6.
1 تاريخ ابن خلدون 2/ 274، المحبر ص369، أيام العرب في الجاهلية ص46، ابن الأثير 1/ 512، تاريخ الطبري 2/ 59، محمد الخضري: المرجع السابق ص31.
2 جواد علي 3/ 341، وكذا G. Olinder، Op. Cit.، P.65
3 P.K. Hitti، Op. Cit.، P.85
4 ابن الأثير 1/ 513-514، المفضليات ص427-428، تاريخ اليعقوبي 1/ 217، محمد الخضري 1/ 31، تاريخ ابن خلدون 2/ 274، المحبر ص369-370، الأغاني 9/ 82 "دار الكتب المصرية"، ياقوت 4/ 472-473 حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص92، أيام العرب في الجاهلية ص46، 112.
Ei، Ii، P.1018 وكذا G. Olinder، Op. Cit.، P.82
5 تاريخ ابن خلدون 2/ 274-275، حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص70، ابن قتيبة الدينوري: الشعر والشعراء ص75.
6 حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص70 وما بعدها.
على أن هناك رواية أخرى تذهب إلى أن النعمان بن المنذر قد لقي مصرعه، في معركة دارت رحاها بينه وبين الحارث الكندي، وإن نجا منها ولده المنذر، وأمه ماء السماء، ومن ثم فقد أصبح الحارث الكندي يملك ما يملكون، وهنا بعث "قباذ" يطلب لقاء الحارث، ويبدو أن الأخير قد استشعر ضعف الملك الفارسي عندما التقيا، ومن ثم فقد بدأ يخطط لنفوذ أوسع في العراق على حساب الفرس، وهكذا أمر رجاله بأن يشنوا الغارة على السواد، ويعلم قباذ بالأمر، ويدرك أن الحارث أقوى شخصية، وأكثر دهاء مما كان يتصور، ومن ثم فقد عمل على أن يدرأه عن نفسه، فأعطاه بعض المناطق التي تقع في مجاورات الحيرة، إلا أن الحارث كان أكثر طموحا، ومن ثم فقد كتب إلى "تبع" ملك اليمن، يقول له:"إني قد طمعت في ملك الأعاجم، وقد أخذت منه ست طساسيح فاجمع الجنود وأقبل"، وتذهب الرواية بعد ذلك، إلى أن "تبعا" قد جمع الجنود وسار بهم حتى نزل الحيرة، ثم وجه ابن أخيه "شمر بن ذى الجناج" إلى قباذ، فحاربه وانتصر عليه ثم قتله بالري1، وأما التقاء الحارث بقباذ، فقد كان -فيما يرى الويس موسل- في عام 525م، عند قنطرة الفيوم، وهي موضع لا يبعد كثيرا عن "هيث"، والتي يصفها "ياقوت" بأنها بلدة على الفرات، من نواحي بغداد فوق الأنبار ذات نخل كثير وخيرات واسعة2.
وهكذا تختلف الروايات في كيفية وصول الحارث الكندي إلى عرش الحيرة، فبعضها يزعم أن ذلك إنما كان بأمر من قباذ نفسه، بعد أن رفض المنذر اعتناق المزدكية، ومن ثم فقد حل الحارث مكانه في الحيرة، وأن الأخير قد اصطنع المنذر بعد ذلك، وزوجه من ابنته "هند"، وأن المنذر قد قبل بعد أن أصبح لا يملك من أسباب القوة ما يعيد إليه عرشه الأسلاف، ومنها ما يزعم أن الحارث إنما استولى على عرش الحيرة بحد السيف، فقد قتل النعمان بن المنذر، ثم أجبر "قباذ" بعد ذلك أن يزيد من أملاكه فيما وراء الفرات، ثم استعا بملوك اليمن الذين حاربوا قباذ فانتصروا عليه وقتلوه في الري، ثم استمروا يفتحون البلاد في إتجاه الصين شرقا، والقسطنطينية غربا.
1 ابن الأثير 1/ 415، تاريخ الطبري 2/ 89، 95-96، تاريخ ابن خلدون 2/ 264-265.
2 ياقوت 4/ 286، البكري 4/ 1356، وكذا A. Musil، The Middle Ehuprates، P.350
إلا أننا رغم ذلك، نستطيع أن نستخلص من تلك الروايات المتضاربة أحيانا، والتي تمتلئ بالمبالغات أحيانا أخرى، حقيقة مهمة، وهي أن الحارث الكندي قد كتب له أن يجلس على عرش الحيرة حينا من الدهر، قد يكون في الفترة "525-528م" إبان فتنة المزدكية في إيران1، وربما كان الحارث قد اتصل من قبل بالفرس بعد عقد صلح بينهم وبين الروم في عام 506م، اعتقادا منه أن العمل في جانب الفرس، ربما كان أفضل له منه في جانب الروم، ثم زحفت بكر وتغلب بعد ذلك من مواطنها القديمة في اليمامة ونجد نحو العراق، وأن الفرس قد أقروه على ذلك، مقابل جعل يدفعه لهم كل عام، إلى جانب أهداف أخرى أرادوا من ورائها كسر شوكة اللخميين في الحيرة، وضم الحارث القوى إلى جانبهم، خوفا من أن ينحاز إلى جانب الروم -أعدائهم التقليديين- وقد أدى ذلك كله- إلى جانب الخلافات بسبب المزدكية، فضلا عن ضعف قباذ العاهل الفارسي- إلى أن تسوء العلاقات بين الفرس وأتباعهم اللخميين، واستغل الحارث الفرصة، حتى انتهى الأمر باستيلائه على عرش الحيرة نفسه2.
وأما استنجاد الحارث الكندي بملوك اليمن، وانتصارات هؤلاء الملوك في أرض العراق وما وراءها، فليس ذلك إلا من نوع الإشادة بماضي القحطانيين -الذي يردهه الكتاب العرب في صفحات كتبهم دائما، دونما ملل -فهم- دون العدنانيين- أصحاب التاريخ التليد والمجيد كذلك، وهم أصل العروبة وأول الناطقين بلغتها، فضلا عن التركيز هنا بصورة ملفتة للنظر، من أن دولة كندة ما كانت بقادرة على تحقيق مجد، أو إحراز نصر، دون عون يأتيها من الجنوب، من اليمن.
هذا وقد اختلف المؤرخون في مقر الحكم الذي اختاره الحارث الكندي في العراق، فبينما يذهب فريق إلى أنه في الحيرة، عاصمته اللخميين، يرى آخرون أنه في "الأنبار" -وتقع على مبعدة أربعين ميلا إلى الشمال الغربي من بغداد -على أن فريقا ثالثا رأى أن الرجل إنما كان سيارة في أرض العرب3.
1 G. Olinder، Op. Cit.، P.65
2 جواد علي 3/ 337-342
وكذا G. Olinder، Op. Cit.، P.65 وكذا Zdmg، 23، 1869، P.559
3 ابن الأثير 1/ 512، الأغاني 8/ 62، ياقوت 1/ 257-258، البكري 1/ 197، جواد علي 3/ 342، حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص72، 93
وكذا P.K. Hitti، Op. Cit.، P.85
وكذا G. Rothstein، Die Dynastie Der Lackmiden، In Al Aira، Berbin، 1899، P.88
وأيا ما كان الأمر، فإن ملك الحارث لم يستمر طويلا في العراق، فما هو إلا أن مات قباذ في عام 531م، وآل أمر الفرس إلى "كسرى أنوشروان""531-589م"، حتى اتخذ العاهل الجديد سياسة مناهضة للمزدكية، فقتل "مزدوك" وصلبه، كما قتل كبار أصحابه غدرا، ثم تتبع الزنادقة من المزدكية في كل أرجاء الإمبراطورية الفارسية، حتى قيل إنه قتل منهم في يوم واحد مائة ألف، وحتى قيل أنه اتخذ من هذا اليوم لقب "أنوشروان" أي "الروح الطيبة"، ثم طرد الحارث الكندي، وأعاد المنذر الثاث على عرش الحيرة، ربما بسبب المزدكية، وربما بسبب سياسية الحارث الكندي نفسه، إذ يبدو أن الرجل قد لجأ في أخريات أيامه إلى إيجاد علاقات طيبة بينه وبين الروم، مما كان سببا في قضاء كسرى أنوشروان على سلطته في الحيرة1.
على أن المنذر الثالث، سرعان ما تتبع الحارث الكندي وأهله، حتى أسر اثني عشر أميرا من بني حجر بن عمرو، ثم قتلهم في دير بني مرينا -بين دير هند والكوفة- وإن كانت هناك رواية أخرى تذهب إلى أن المنذر قد لحق بالحارث في أرض كلب، فهرب الحارث تاركا ماله وإبله فانتهبها المنذر، وأسر ثمانية وأربعين من بني آكل المرار -من بينهم عمرو ومالك ولدى الحارث- فأمر المنذر بهم فقتلوا في ديار بني مرينا2، على أن رواية ثالثة تذهب إلى أن الذين قتلوا الحارث إنما هم بني كلب، بينما تذهب رواية رابعة إلى أنه مات حتف أنفه بعد مطاردة لتيس من الظبا، دامت ثلاثة أيام، حتى إذا ما تمكن منه شويت له بطنه، فأكل فلذة حارة من كبده فمات، ثم دفن في "بطن عاقل"3 وإن ذهب "أوليندر"4 إلى أن هناك
1 تاريخ الطبري 2/ 101-103، حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص17، سعد زغلول: المرجع السابق ص222-223، جواد علي 3/ 342، وانظر: John Malalas، Xviii، Col.653
وكذا Caussin De Perceval، Op. Cit.، Ii، P.79-85
وكذا G. Olinder، Op. Cit.، P.65-6
2 ابن الأثير 1/ 512-513، إيليا حاوي: امرؤ القيس ص8-9، تاريخ الأمم الإسلامية 1/ 31، سعد زغلول: المرجع السابق ص223، وكذا P.K. Hitti، Op. Cit.، P.85
3 ابن الأثير 1/ 513، أبو الفداء 1/ 74، الأغاني 8/ 62، العقد الفريد 3/ 77، نهاية الأرب 15/ 406، صحيح الأخيرا 1/ 45، أيام العرب في الجاهلية ص46، جواد علي 3/ 344-345، وكذا
وكذا G. Olinder، Op. Cit.، 68. وكذا A. Musil، Op. Cit.، P.350
4 جواد علي 3/ 345، وكذا G. Olinder- Op. Cit.، P.68
اضطرابا في الرواية العربية بين "حجر" الذي دفن ببطن عاقل1، وبين حفيده الحارث.
وأيا ما كان الصواب في موت الحارث الكندي، فمما لا شك فيه أن ذلك المصير التعس الذي لقيه الرجل، ومن أسر من أهل بيته، إنما كان ضربة في الصميم وجهت إلى دولة كندة، وسرعان ما دب الشقاق فيها، فانحلت عراها بعد أن قتل أبناء الحارث واحدا بعد الآخر، وعاد إلى حضرموت من أهل كندة، هؤلاء الذين هاجروا من قبل إلى وسط شبه الجزيرة العربية.
ويبدو أن المنذر اللخمي لم يرضه ما ناله من بني الحارث الكندي، ولم يقتنع بما آل إليه أمرهم بعد موت أبيهم، إذ تفرقت كلمتهم، ومشت الرجال بينهم، وتفاقم أمرهم حتى جمع كل واحد منهم لصاحبه الجموع، وزحف إليه بالجيوش، وكان المنذر من وراء ذلك كله، حتى أنه وجه إلى "سلمه" بهدايا، ثم دس إلى "شرحبيل" من قال له:"إن سلمة أكبر منك، وهذه الهدايا تأتيه من المنذر"، وما زال المنذر يغري كل واحد منهما بمحاربة الآخر، حتى نشبت الحرب بينهما، في يوم عرف بين العرب "بيوم الكلاب الأول"، أعلن كل فيه من الأخوين عن جائزة مقدارها مائة من الإبل لمن يأتيه براس أخيه، وكان يوما عصيبا اشتدت فيه الحرب حتى آخر النهار، وانتهى بقتل "شرحبيل"2.
ويذهب الرواة إلى أن "سلمة" سرعان ما أخرجه بنو تغلب من بينهم، فلجأ إلى بني بكر بن وائل، ثم انضم بنو تغلب إلى المنذر اللخمي، الذي بذل الجهد -كل الجهد- لطرد سلمه من ديار بني بكر، وانضوائهم تحت لوائه، إلا أن جهوده ذهبت أدراج الرياح، ومن ثم فقد مصمم على غزوهم، بل وذبحهم -إذ ظفر بهم- على قمة أوارة، حتى يبلغ دمهم سفح الجبل، وهكذا كان "يوم أوارة الأول"، حيث اقتتل الفريقان قتالا شديدا، وانتهت المعركة بهزيمة
1 عاقل واد قريب من الرس، ولا يزال بهذا الاسم إلى يومنا هذا، غير أنه يقال له العاقلي "صحيح الأخبار 1/ 45" أو هو ماء لبني أبان بن درام من وراء القريتين، او جبل كان يسكنه حجر "البكري 9123"
2 ابن الأثير 1/ 549-552، المحبر ص370، البكري 4/ 1132، ياقوت 4/ 472-473، نهاية الأرب 1/ 406، صحيح الأخبار 1/ 44-45، العقد الفريد 6/ 78، 5/ 222، تاريخ اليعقوبي 1/ 217، 225، ابن خلدون 2/ 274، أيام العرب في الجاهلية ص47-48، بلوغ الأرب 2/ 72، جرجي زيدان: المرجع السابق ص227-228.
بكر، وأسر "يزيد بن شرحبيل الكندي"، فأمر المنذر بقتله، مع جمع كبير من بكر1.
وأما الابن الثالث "معد يكرب" فقد ظل بعد موت أبيه الحارث الكندي رئيسا على "قيس عيلان"، إلا أن الأحزان كانت قد هدت قواه بعد مقتل أخوية "شرحبيل وحجر" وبعد موت "سلمه" فاعتراه وسواس هلك به2.
وأما رابع الأخوة "حجر بن الحارث" من زوجه "فطام بنت سلمة" فقد قتل أول إخوته، وإن كنا قد أخرنا قصته لنربط بينها وبين قصة ولده الشاعر المشهور "امرؤ القيس"، وحجر هذا، هو أكبر أبناء الحارث وأعظمهم جاها، ومن ثم فقد انتقل إليه عامة ملك كندة، ولعل هذا هو السبب في أن بعض الباحثين يرون أن حجرا قد قام بغارة على اللخميين بعد وفاة أبيه الحارث، أملا في أن يسترجع ما فقده أبوه، وأن يعيد نفوذ كندة، كما كما على عهد الحارث3، إلا أن الحملة لم يكتب لها نصيبا من نجاح.
وعلى أي حال، فلقد أثرت كل هذه الأحداث على دولة كندة، فعملت على إضعاف ملوكها وتضعضع نفوذهم، فكانت البداية تتمثل في خروج بني أسد على حجر، فامتنعوا عن أداء الإتاوة التي كان قد فرضها عليهم من قبل، ومن ثم فقد خرج عليهم حجر من تهامة -حيث كان يقيم- على رأس جيش كبير، وما أن وصل إلى ديار بني أسد في جنوب جبلي طيئ "أجأ وسلمى، ويعرفان اليوم بجبل شمر على جانبي وادي الرمة"، حتى قتل الكثير من أشرافهم، كما أخذ بعضا منهم -وعلى رأسهم عمرو بن مسعود الأسدي، والشاعر عبيد بن الأبرص- أسرى إلى تهامة، مما ترك أثرا سيئا في نفوس القوم، فعقدوا العزم على الانتقام- وما لبثوا
1 ابن الأثير 1/ 552-553، أيام العرب في الجاهلية ص99.
2 تاريخ ابن خلدون 2/ 274، المحبر ص370، عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص423.
3 المفضليات ص429، 423، جواد علي 3/ 350، وكذا G. Olinder، Op. Cit.، P.7
وكذا T. Noldeke، Funf Mo' Allaqat، I، P.80
أن نفذوا وعيدهم، وقتلوا الرجل1.
وهناك رواية تذهب إلى أن حجرا لما علم أنه ميت، كتب وصيته ثم دفعها إلى رجل، أمره أن ينطلق إلى أكبر أولاده "نافع"، فإن بكى وجذع فليذهب إلى غيره، وهكذا حتى يصل إلى أصغرهم وهو امرؤ القيس، فإن لم يجزع دفع إليه الوصية، وتستطرد الرواية إلى أن الرجل إنما وجد امرأ القيس في "دمون" من أرض اليمن، يلعب النرد ويشرب الخمر مع بعض رفاقه، فلما دفع إليه الرسالة لم يجزع، وإنما سأل الرحل عن أمر أبيه كله، فلما أخبره بما حدث، انتوى الثأر قائلا:"الخمر والنساء على حرام، حتى أقتل من بني أسد مائة، وأطلق مائة"، ثم قال قولته المشهورة:"ضيعني صغيرا، وحملني دمه كبيرا، لا صحوا اليوم ولا سكر غد، اليوم خمر، وغدا أمر"2.
وامرؤ القيس هذا، هو أصغر أولاد "حجر بن الحارث الكندي" من زوجه "فاطمة بنت ربيعة بن الحارث بن زهير التغلبية" وأخت "مهلهل وكليب بن وائل" على رأي3، و"تملك بنت عمرو بن زبيد بن مذجح" رهط عمرو بن يعد يكرب، على رأي آخر،4، وإن ذهب البعض إلى أن ذلك إنما كان لقبًا لها، وقد سمت العرب نساءها "تملك"5، ويعرف امرؤ القيس بالملك الضليل، وبذى القروح6،
1 ابن الأثير 1/ 514-515، الأغاني 2/ 63، 9/ 81، تاريخ اليعقوبي 1/ 217، خزانة الأدب 1/ 159 وما بعدها، المحبر ص370، تاريخ ابن خلدون 2/ 274، أيام العرب في الجاهلية ص112-114، شعراء النصرانية ص598، الشعر والشعراء ص50-51، محمد صالح سمك: أمير الشعراء في العصر القديم ص24-25، وانظر: ديوان عبيد بن الأبرص ص138-139، ثم قارن: ابن حزم: جمهرة أنساب العرب ص427 "دار المعارف 1962م".
2 ابن الأثير 1/ 515-516، نهاية الأرب 3/ 26، ياقوت 3/ 7، الأغاني 9/ 85-86 "دار الكتب المصرية"، أيام العرب في الجاهلية ص115-116، البكري 2/ 557، الهمداني: صفة جزيرة العرب ص85.
3 الأغاني 8/ 60، ابن الأثير 1/ 516، الشعر والشعراء ص57، تاريخ اليعقوبي 1/ 217، وكذا
Ei، Ii، P.477
4 الأغاني 8/ 61، وكذا G. Olinder، Op. Cit.، P.95
5 عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص92.
6 ابن كثير: البداية والنهاية 2/ 219، الأغاني 8/ 61، الشعر والشعراء ص50، خزانة الأدب للبغدادي 3/ 432، العمدة لابن رشيق 1/ 41-42، 97، وانظر: محمد فريد أبو حديد: الملك الضليل، القاهرة 1944، وكذا G. Olinder، Op. Cit.، P.95
ويتجه بعض الباحثين إلى أنه قد ولد في حوالي عام "500م"1، وتوفي في أنقرة في أثناء عودته من القسطنطينية، فيما بين عام 530، 540م2، وإن ذهب البعض إلى أنه توفي في عام 565م3.
وقد اختلف الباحثون في معتقد امرئ القيس الديني، فذهب البعض إلى أنه إنما كان وثنيا، شأنه في ذلك شأن معظم الجاهليين، كما كان يقسم بالقداح جريا على عادة الوثنيين، فضلا عن أن اسمه "امرؤ القيس" إنما يعني "مولى قيس"، وهو صن جاهلي، ولكن اللفظة إنما تعني كذلك "الشدة والبأس"، ومن ثم فالتسمية فروسية وليست دينية4، وذهب فريق آخر إلى إنما كان يعتنق المزدكية، بدليل إقباله على الملذات بطريقة تشبه أنصار المزدكية، وأن جده الحارث كان كذلك -كما أشرنا من قبل- غير أن خلق الشاعر العربي واعتزازه بشرفه، فضلا عن تمتعه بالصيد والقنص، ونذره قتل مائة من بني أسد، قد يتعارض مع اعتناقه المزدكية التي تحرم تلك الأشياء، وإن كان هذا لا يمنع من القول بأنها قد أثرت فيه، وبخاصة في جانب الإباحية والتهتك في طلب اللذة5.
هذا إلى أن هناك من يرى أن الشاعر الكبير إنما كان نصرانيا، اعتمادا على خلو شعره من الشرك إلى حد كبير، وإقراره بالوحدانية، وذكره لأمور كثيرة خلو شعره من الشرك إلى حد كبير، وإقراره بالوحدانية، وذكره لأمور كثيرة خاصة بالنصارى، وانتشار النصرانية في كندة، ثم طلبه العون من القيصر النصراني، وأخيرا نصرانية أمه فاطمة أخت المهلهل، غير أن الإقرار بالوحدانية لا يعني اعتناق النصرانية، فقد يكون الرجل يهوديا، كما أن نصرانية أمه لا تستدعي بالضرورة نصرانيته هو، وأما التجاؤه للقيصر النصراني؛ فلأنه الباب الوحيد المفتوح أمامه، بعد أن سدت في وجهه كل سبل العون من الأكاسرة، فضلا عن أعدائه أمراء
1 G. Olinder، Op. Cit.، P.95
2 Encyclopaedia Of Islam، Ii، P.477
3 صحيح الأخبار 1/ 16.
4 إيليا حاوي: امرؤ القيس ص24-26، رئيف خوري: امرؤ القيس، بيروت 1934 ص37-38.
5 إيليا حاوي: المرجع السابق ص26-27، رئيف خوري: المرجع السابق ص38.
الحيرة1.
وعلى أي حال، فإن الروايات العربية تذهب إلى أن حجرا قد طرد ولده امرئ القيس، وأصر على أن لا يقيم معه، أنفة من قوله الشعر، على غير عادة أبناء الملوك، فضلا عن التغزل بالنساء غزلا، ربما كان غير بريء في كثير من الأحايين، بل إن البعض قد ذهب إلى أن الأمر قد وصل بامرئ القيس إلى أن يتغزل بامرأة من نساء أبيه، وهكذا أخذ امرؤ القيس يسير في أحياء العرب، ومعه أخلاط من شذاذ العرب، يشرب الخمر على الغدران، ويتغزل في النساء، وظل كذلك حتى أتاه خبر مقتل أبيه، فأقسم ألا يأكل لحما، ولا يشرب خمرا، ولا يدهن بدهن، ولا يصيب امرأة، ولا يغسل رأسه من جنابة حتى يدرك ثأره2.
على أنه هناك من يرى أنه ليس في التاريخ الثابت ما يدل على أن أباه قد طرده من منزله، ولا أنه كان يوم مقتل أبيه يشرب الخمر في دمون، وإنما كان مع إخوته وأعمامه في المعركة التي قتل فيها أبوه، ثم فر منها معهم، حتى عيره بذلك شاعر بني أسد "عبيد بن الأبرص"3.
وأيا ما كان الأمر، فلقد جد امرؤ القيس في أن يأخذ بثأر أبيه -بعد أن فشل أعمامه وإخوته في ذلك- ومن ثم فقد نزل بكر وتغلب، وسألهم النصر على بني أسد، وحين أجابه القوم إلى سؤاله، بث العيون على بني أسد، فعلم أنهم قد لجئوا إلى بني كنانة، ومن ثم فقد بدأ هجومه على بني كنانة -وهو يظنهم بني أسد- إلا أن القوم سرعان ما أخبروه أن بني هجومه على بني كنانة -وهو يظنهم بني أسد- إلا أن القوم سرعان ما أخبروه أن بني أسد قد ساروا بالأمس، فأسرع إليهم حتى إذا ما أدركهم أنزل بهم هزيمة قاسية، أدرك بها ثأره، ومن ثم فقد أبت بكر وتغلب
1 لويس شيخو: شعراء النصرانية 1/ 38-39، محمد صالح سمك: أمير الشعراء في العصر القديم ص211-214، إيليا حاوي: المرجع السابق ص27-33.
2 ابن الأثير 1/ 515-516، الشعر والشعراء لابن قتيبة 1/ 51-52، الأغاني 8/ 65، العمدة 1/ 41-42، إيليا حاوي: المرجع السابق ص38-82، معجم الشعراء للمزرباني ص9، وكذا
G. Olinder، Op. Cit.، P.96
3 عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص93، وكذا
Gunner Olinder، The Kings Of Kindah، Of The Family Of Akil Al-Mirar، Lund، P.96. 1927،
أن تستمر في القتال بعد ذلك1.
كان من المنتظر أن يستنجد امرؤ القيس بملوك اليمن من حمير، ولكننا نعلم أن ملك اليمن إنما كان وقت ذاك بيد الأحباش، ولم يكن للحبشة -ولا للروم من ورائهم- مصلحة في مساعدة امرئ القيس على الطلب بثأر أبيه؛ لأن المستعمر لا يأبه لأهل خدمته إلا إذا كانوا أقويا؛ لأنه يريدهم ليدافعوا عنه، لا ليدافع عنهم2، وهكذا اضطر امرؤ القيس إلى أن يطوف بقبائل العرب يستنصرها على قتله أبيه، فمنهم من كان يقف إلى جانبه، ومنهم من كان يرفض مساعدته خشية بني أسد، وخوفا من إغضاب المناذرة والفرس3، بخاصة وأن المنذر بن ماء السماء كان يسعى للإيقاع بامرئ القيس، الأمر الذي لم يكن له به طاقة، وكذا القبائل التي كان يرجو مساعدتها4.
وأخيرا قرر امرؤ القيس أن يذهب إلى القسطنطينية ليستنجد بملك الروم، وقد دفعته حاجته إلى المال إلى أن يذهب إلى تيماء، وأن يرهن سلاحه ودروعه عن السموأل، أن أنه إنما تركها هناك وديعة عند الشاعر اليهودي5، الذي كتب له كتابا إلى الحارث بن أبي شمر الغساني، يطلب إليه فيه أن يتوسط لشاعر كندة عند الإمبرطور الروماني، ليساعده على الانتقام من قتلة أبيه، وخاصة وأن ملوك الحيرة، وهم
1 ابن الأثير 1/ 516-517، أيام العرب في الجاهلية ص116-120، نهاية الأرب 3/ 25، تاريخ ابن خلدون 2/ 274-275، إيليا حاوي: امرؤ القيس ص17-21، تاريخ اليعقوبي 1/ 217-219، الشعر والشعراء 1/ 52، 58.
2 عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص93.
3 أيام العرب في الجاهلية ص120-121، رئيف خوري: إمرئ القيس ص27، محمد مبروك نافع: عصر ما قبل الإسلام ص120، تاريخ اليعقوبي 1/ 219-220.
4 تاريخ ابن خلدون 2/ 275، الأغاني 9/ 91 "دار الكتب"، رئيف خوري: امرؤ القيس ص27
5 يذهب الباحثون إلى أن السمؤال بن عاديا شاعر يهودي الديانة مقره حصن الأبلق في غرب تيماء "طبقات فحول الشعراء ص235، الأغاني 19/ 98، وكذا Ei، 4، P.133." ولكنهم
اختلفوا في جنسيته، فجعله بعضهم يهوديا من سلالة هارون بن عمران، وجعله آخرون عربيا غسانيا "الأمثال للميداني 2/ 276، المشرق، العدد 3 عام 1909م ص162، الاشتقاق 2/ 436، المحبر ص349، تاريخ الأمم الإسلامية 1/ 41، عبد الرحمن الأنصاري: المرجع السابق ص82، عبد اللطيف الطيباوي المرجع السابق ص14، P.K. Hitti، Op. Cit.، P.107."
عمال الفرس أعداء الروم، قد مدوا لهم يد العون1.
ويصل امرؤ القيس إلى القسطنطينية، ويستقبله الأمبراطور "جستنيان""527-565م" استقبالا حسنا، وإن لم يقدم له المساعدة المطلوبة، فالنجدة التي طلبها امرؤ القيس كبيرة جدا، والجيش الرومي لم يكن مستعدا للقتال في الصحراء، ثم إن الغاية التي جاء من أجلها امرؤ القيس -وهي الأخذ بثأر رجل واحد- كانت بعيدة عن سياسة الروم ومألوفهم، فضلا عن أن الإمبراطورية الرومانية كانت مهددة بهجمات البرابرة، ومن ثم فالإمبراطور في حاجة إلى الدفاع عن إمبراطوريته نفسها2.
وهناك رواية تذهب إلى أن الإمبراطور جستنيان قد أكرم امرأ القيس، وأصبحت للشاعر الكندي منزلة رفيعة عنده، وأنه كان يدخل معه الحمام، وأن امرأ القيس قد أحب ابنة القيصر وأنه كان يأتيها وتأتيه، فبلغ ذلك بني أسد، فأرسلوا رجلا منهم يدعى "الطماح"، وصل في وقت سير فيه القيصر مع امرئ القيس جيشا كثيفا، وهنا أعلم الطماح القيصر بقصة ابنته مع امرئ القيس، وأن الأخير قد قال فيها أشعارا أشهرها بها في العرب، فبعث القيصر إلى امرئ القيس بحلة مسمومة، ثم مات في أنقرة، حيث دفن بجوار قبر امرأة من بنات الملوك، في سفح جبل يقال له "عسيب"3.
ويعترض الدكتور عمر فروخ على غضبة القيصر بسبب اتصال امرئ القيس بابنته، ويرى أن تلك رواية إسلامية متأخرة، وأن الحياة في البلاط الرومي مخالفة لما استنتجه المؤرخ المسلم، وأن الصلات الجنسية هناك أمرا مألوفا، حتى أن القياصرة
1 أبو الفداء 1/ 75، الأغاني 8/ 68-70، تاريخ اليعقوبي 1/ 220، المحبر ص349، الشعر والشعراء ص59-60، تاريخ ابن خلدون 2/ 276، ياقوت 4/ 124-125، محمد مبروك نافع: المرجع السابق ص120، سعد زغلول المرجع السابق ص237، محمد الخضري: المرجع السابق ص41.
2 عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص94.
3 ابن الأثير 1/ 518-519، الأغاني 8/ 141، الشعر والشعراء ص53، 61-63، أيام العرب في الجاهلية ص122-123، ابن خلدون 2/ 276، ياقوت 4/ 124-125، جواد علي 3/ 360، اليعقوبي 1/ 220، آمال المرتضى 1/ 591، إيليا حاوي: المرجع السابق ص21-22، وكذا
P.K. Hitti، Op. Cit.، P.85-86
كانوا يولون ويعزلون في ميادين الخيل، وفي مخادع النساء1، والرأي عندي أن تفسير الأمور بهذه البساطة وتوجيه التهم للآخرين أمر غير مقبول في البحث العلمي، ثم إن القيصر، ما أظن أنه كان على المستوى الخلقي الذي ذهب إليه الدكتور فروخ، فإذا أضفنا إلى ذلك أنه هو نفسه يرى أن الغساسنة -وهم أقوى بكثير من امرئ القيس وأهم منه بالنسبة للروم- لم يكونوا إلا جباة ضرائب للروم من العرب2، فضلا عن أن امرأ القيس، في ظروفه التي قدم من أجلها إلى القسطنطينية، لا يعدو أن يكون مستجيرا بالقيصر يطلب عونه في الأخذ بثأره، وفي أحسن الأحوال لاسترجاع ملكه، ليكون بعد ذلك صنيعة للروم، وفي كل ذلك ليس هناك ما يدعو القيصر لغض النظر عن فعلته هذه، إن كانت قد حدثت، وهذا ما نشك فيه؛ لأننا لا نملك دليلا واحدا على حدوثها، غير الروايات العربية، وما أكثر ما في هذه الروايات من جنوح إلى الخيال، حتى لو كان هذا الخيال، يتعارض مع الشرف، كما في روايتهم عن عملوق في جديس3، والفيطون في يثرب4، وابن عم بلقيس في سبأ5، ولختيعة أيم ذى نواس6، وعتودة مولى أبرهة الحبشي7، وغير ذلك من الروايت الخيعة، والتي تعد رواية ابنة القيصر وامرئ القيس، هينة بسيطة بالنسبة إليها.
أضف إلى ذلك أن هناك رواية أخرى تذهب إلى أن "الطمح الأسدي" قد اتصل بجماعة من رجال القيصر بعد خروج امرئ القيس مع الجيش الذي أعانه به القيصر ليأخذ بثأره، وطلب منهم أن يبلغوا القيصر:"إن العرب قوم غدر، ولا نأمن أن يظفر امرؤ القيس بما يريد، ثم يغزوك بمن بعثت معه"8، كما أن الحلة
1 عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص94.
2 نفس المرجع السابق ص68.
3 ابن الأثير 1/ 352-354، تاريخ الطبري 1/ 629-632، مروج الذهب 2/ 111-119، تاريخ ابن خلدون 2/ 24-25.
4 ابن الأثير 1/ 656-658، السمهودي: وفاء الوفا 1/ 629-632، ابن خلدون 2/ 287، 289، ياقوت 84-87، الدرر الثمينة ص327، الاشتقاق ص270.
5 تاريخ الخميس ص276، ابن الأثير 1/ 232-233.
6 ابن هشام 1/ 31-32، ابن الأثير 1/ 425-426، تاريخ الطبري 2/ 118-119، المحبر ص268.
7 تاريخ الطبري 2/ 128-129، ابن الأثير 8/ 432-433.
8 ابن قتيبة: الشعر والشعراء ص46، الأغاني 8/ 70، جواد علي 3/ 371، إيليا حاوي: امرؤ القيس ص21.
المسمومة التي زعم الرواة أنها كانت سبب وفاة امرئ القيس، ينفيها أن هناك رواية أخرى تزعم أنه كان مصابا بداء قديم كان مستكنا، ثم اتفق أن هاج في ديار الروم، ومن ثم فإنهم ينسبون إلى امرئ القيس أنه قال:"تأويني دائي القديم فغلسا"، وأن الدكتور فروخ نفسه، إنما يفترض أنه مات بالجدري في أنقرة زمن الشتاء القارص1.
وأيا ما كان الأمر، فلقد مات امرؤ القيس، وانقطع آخر أمل في استعادة "بني آكل المرار" لملكهم في كندة، وأسرع الحارث بن أبي شمر الغساني، على رواية، والحارث بن ظالم على رواية أخرى، وبأمر من المنذر ملك الحيرة، إلى السموأل بن عاديا في حصنه الأبلق في تيماء، وطالبه بدروع امرئ القيس، وما تكر عنده من ودائع، غير أن السموأل أبى التفريط في دروع الشاعر الكندي وودائعه، ومن ثم فقد ذبح ابنه أمام عينيه2، على أن هناك من يشك في نسب السموأل أولا، وفي صحة قصته مع امرئ القيس ثانيا، ويرى "هوجوفنكلر" أن قصة الوفاء هذه أسطورة استمدت مادتها من سفر صموئيل الأول، ومن الأساطير العربية التي تحدثت عن الوفاء3.
وهكذا انتهت أول محاولة في داخل بلاد العرب لتوطيد مجموعة من القبائل حول سلطة مركزية واحدة، لها زعيم واحد، الأمر الذي لم ينجح إلا على يد مولانا وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبصورة منقطعة النظير، ثم سرعان ما عادت عشائر كندة إلى الجنوب، حيث ساد منهم "قيس بن معد يكرب" ثم ابنه "الأشعث" الذي وفد إلى المصطفى -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في ستين
1 عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص94.
2 ابن الأثير 1/ 519، تاريخ ابن خلدون 2/ 275، الأغاني 19/ 99، نهاية الأرب 1/ 136، ياقوت الحموي: معجم البلدان 3/ 442: أمراء غسان ص22، محمد بن سلام الجمحي: المرجع السابق ص235، سعد زغلول: المرجع السابق ص237، جواد علي 3/ 377-378، المحبر ص349، ديوان الأعشي ص126.
3 الأغاني 19/ 98، الاشتقاق ص259، جواد علي 3/ 378، وكذا
H. Winckler، Arabisch-Semitisch، In Mavg، 1901، P.112
أو سبعين من أشراف كندة، فأسلموا على يديه الشريفتين في المدينة المنورة1، وعلى أي حال، فلقد تكونت بعد نهاية دولة بني آكل المرار، إمارة كندية في حضرموت، فضلا عن إمارات أخرى حكمها أمراء صغار، لا تتجاوز سلطة الواحد منهم مدينة أو واديا، وأشهرها تلك كانت في دومة الجندل والبحرين ونجران وغمر ذى كندة2.
1 يذهب ابن خلدون إلى أن الأشعب قد ارتد في عهد أبي بكر، غير أنه قد هزم بعد ذلك، ثم جئ به إلى المدينة أسيرا، فمن الخليفة عليه وزوجه أخته وخرج من نسله بنو الأشعث المذكورون في الدولة الأموية "تاريخ ابن خلدون 2/ 276".
2 جواد علي 3/ 378، 382، المحبر ص370، جرجي زيدان: المرجع السابق ص228، سعد زغلول: المرجع السابق ص237، وكذا P.K. Hitti، Op. Cit.، P.86