المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل السادس: بلاد العرب فيما قبل العصر التاريخي - دراسات في تاريخ العرب القديم

[محمد بيومى مهران]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأول: مصادر التاريخ العربي القديم

- ‌أولًا: المصادر الأثرية

- ‌ثانيًا: المصادر غير العربية

- ‌أولًا: الكتابات اليهودية

- ‌ التوراة:

- ‌ كتابات المؤرخ اليهودي يوسف بن متى:

- ‌ثانيًا: كتابات الرحالة اليونان والرومان

- ‌ثالثًا: الكتابات المسيحية

- ‌ثالثًا: المصادر العربية

- ‌ القرآن الكريم:

- ‌ الحديث:

- ‌ التفسير:

- ‌ كتب السير والمغازي:

- ‌ الأدب الجاهلي:

- ‌ كتب اللغة:

- ‌ كتب التاريخ والجغرافية:

- ‌الفصل الثاني: تاريخ البحث العلمى في العصر الحديث في تاريخ العرب القديم

- ‌مدخل

- ‌أولًا: في جنوب شبه الجزيرة العربية

- ‌ثانيًا: في شمال شبه الجزيرة العربية

- ‌ثالثا: في شرق شبه الجزيرة العربية

- ‌مدخل

- ‌ البحرين:

- ‌ قطر:

- ‌ دولة الإمارات العربية:

- ‌ دولة الكويت:

- ‌الفصل الثالث: جغرافية شبه الجزيرة العربية

- ‌ موقع بلاد العرب:

- ‌التقسيم اليوناني والروماني لبلاد العرب

- ‌العربية الصحراوية

- ‌ العربية الصخرية:

- ‌ العربية السعيدة:

- ‌التقسيم العربى

- ‌مدخل

- ‌ اليمن:

- ‌ تهامة:

- ‌ الحجاز:

- ‌ نجد:

- ‌ العروض:

- ‌مظاهر السطح

- ‌مدخل

- ‌ الحرار:

- ‌ الدهناء:

- ‌ النفوذ

- ‌التضاريس:

- ‌ الجبال:

- ‌ الأنهار والأودية:

- ‌المناخ:

- ‌الموارد الطبيعية:

- ‌ المعادن:

- ‌ النبات:

- ‌ الحيوان:

- ‌طرق القوافل:

- ‌الفصل الرابع: لفظة العرب مدلولها وتطورها التاريخي

- ‌الفصل الخامس: العرب البائدة

- ‌مدخل

- ‌طبقات العرب:

- ‌العرب البائدة

- ‌مدخل

- ‌ عاد:

- ‌ ثمود:

- ‌ طسم وجديس:

- ‌ أميم:

- ‌ عبيل:

- ‌ جرهم:

- ‌ العمالقة:

- ‌ حضوراء:

- ‌ المديانيون:

- ‌الفصل السادس: بلاد العرب فيما قبل العصر التاريخي

- ‌الفصل السابع: دولة معين

- ‌ معين والمعينيون:

- ‌ عصر دولة معين:

- ‌ ملوك معين:

- ‌ أهم المدن المعينية:

- ‌موقع حضر موت:

- ‌الفصل التاسع: دولة قتبان

- ‌الفصل العاشر: دولة‌‌ سبأ

- ‌ سبأ

- ‌السبئيون والآراء التي دارت حول موطنهم الأصلي:

- ‌أدوار التاريخ السبئي الأربعة الرئيسية

- ‌مدخل

- ‌أولًا: عصر المكاربة

- ‌ثانيًا: عصر ملوك سبأ

- ‌ثالثًا: ملوك سبأ وذو ريدان

- ‌دويلات أوسان وسمعاي وأربع وجبان ومهأمر:

- ‌الفصل الحادى عشر: عصر الدولة الحميرية

- ‌مدخل

- ‌الاحتلال الحبشي لليمن:

- ‌اليمن في العهد الحبشي:

- ‌حركة التحرير والسيطرة الفارسية:

- ‌الفصل الثاني عشر: مكة المكرمة

- ‌ مكة: نشأتها وتطورها

- ‌ مكة في عصر قصي:

- ‌ مكانة مكة:

- ‌الفصل الثالث عشر: المدينة المنورة

- ‌مدخل

- ‌سكان المدينة

- ‌مدخل

- ‌ اليهود:

- ‌ العرب:

- ‌ غلبة الأوس والخزرج على يهود يثرب

- ‌من مدن الحجاز

- ‌الطائف

- ‌ تيماء:

- ‌ دومة الجندل:

- ‌ الحجر "مدائن صالح

- ‌الفصل الرابع عشر: الأنباط

- ‌مدخل

- ‌ملوك الأنباط:

- ‌البتراء:

- ‌الفصل الخامس عشر: اللحيانيون

- ‌الفصل السادس عشر: التدمريون

- ‌ مدينة تدمر وتطورها التاريخي:

- ‌ أذينة:

- ‌ الزباء:

- ‌الفصل السابع عشر: الغساسنة

- ‌مدخل

- ‌ملوك الغساسنة:

- ‌الفصل الثامن عشر: المناذرة

- ‌ مدينة الحيرة:

- ‌ ملوك الحيرة:

- ‌الفصل التاسع عشر: مملكة كندة

- ‌ كندة قبل عهد الملكية:

- ‌ ملوك كندة:

- ‌المراجع المختارة

- ‌المراجع العربية

- ‌ المراجع المترجمة إلى اللغة العربية

- ‌ المراجع الأجنبية

- ‌اختصارات

- ‌فهرس الموضوعات

- ‌للمؤلف

الفصل: ‌الفصل السادس: بلاد العرب فيما قبل العصر التاريخي

‌الفصل السادس: بلاد العرب فيما قبل العصر التاريخي

ليس من شك في أن معلوماتنا عن بلاد العرب فيما قبل العصر التاريخي ضيئلة، لا تقدم لنا نفعًا كبيرًا لإقامة الهيكل التاريخي في تلك العصور الممعنة في القدم، ومن هنا فإننا سنحاول أن نقدم ما عثر عليه الأثريون في شبه الجزيرة العربية، وبخاصة في تلك الأماكن التي تقع عند الأودية، وعند الطرق والأماكن التي تتوافر فيها وسائل الحياة، والتي ترجع إلى فترات مختلفة من عصور ما قبل التاريخ، فضلا عن تلك الكهوف التي عاش فيها نفر من القوم في جنوب وغرب شبه الجزيرة العربية، في عصور ترجع إلى ما قبل الميلاد، بأمد لا ندري مداه على وجه التحديد، وقد تحدث الكتاب القدامى من الأغارقة والرومان عن تلك الكهوف، بل إن البعض ما يزال يتخذها سكنًا له في حضرموت، وفي غيرها من المواضع1.

وأما أهم الآثار التي عثر عليها في شبه الجزيرة العربية من تلك العصور العتيقة، فمنها تلك الأدوات الحجرية التي عثر عليها في مواضع مختلفة من حضرموت، والتي لم تكن على مستوى نظيراتها في سورية أو في أفريقية، وقد حاول بعض الباحثين أن يرجع ذلك إلى طبيعة أحجار المنطقة نفسها، بينما ذهب آخرون إلى أن السبب في ذلك إنما يرجع إلى مستوى الحضارة نفسها، بالنسبة إلى الحضارات الأخرى2،

1 جواد علي 1/ 531، وكذا

Van Der Muelen، Aden To The Hadharmaut، P.120، 200، 203

2 Fraya Stark، An Exploration In The Hadharmaut And Journey To The Coast، Gj، Xciii، 1939. P.30

ص: 173

على أن فريقًا ثالثًا إنما يذهب إلى أن عزلة حضرموت عن الحضارة الشمالية، فضلا عن صلتها القوية بأفريقية، إنما كانا من وراء ذلك كله1.

وترى "مس كاتون طومسون" أن انفصال جنوب غربي بلاد العرب عن أفريقية الشرقية، قد حدث في حقبة "البليستوسين" -أي قبل مليون عام على أقل تقدير -وأن آلات الظران "حجر الصوان" التي عثر عليها في حضرموت تشبه كثيرًا تلك التي عثر عليها الباحثون في شرقي أفريقية2.

أضف إلى ذلك أنه قد عثر في حضرموت كذلك على نماذج من الزجاج البركاني، الذي اتخذ أشكالا هندسية بفعل البراكين، يرى بعض الباحثين أنها ترجع في أصلها إلى سواحل أفريقية الشرقية3، ولعل هذا هو السبب الذي دعا "مس طومسون" إلى القول بأنه كانت توجد في شرق أفريقية ثقافة مركزية تفرعت عنها ثقافات متعددة، ليس في أفريقية وحدها، وإنما في آسيا كذلك، وتدلل "مس طومسون" على نظريتها في انفصال أفريقية عن آسيا، بأنه لا يوجد بين أدوات الظران التي عثر عليها في جنوب بلاد العرب بعض الأدوات المعروفة من العصور الحجرية القديمة "باليوليتية"، والتي كانت منتشرة في تلك الأيام الخوالي على طول أفريقية الشرقية من الشمال إلى الجنوب4.

على أن الدكتور سليمان حزين يرى أنه إذا كان ولا بد لنا من البحث عن أي الجهتين -شرقي أفريقية أو جنوبي بلاد العرب- أقدم ثقافة، فإن بلاد العرب هي الأقدم، وأن الثقافة قد انتقلت منها في العصور الحجرية القديمة إلى شرقي أفريقية5، وذلك لأن اليمن وعدن كانتا في تلك العصور الحجرية القديمة مأهولتين بالسكان، وأن قسمًا من هؤلاء السكان قد هاجر إلى عمان ومناطق الخليج العربي، كما هاجر

1 جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الجزء الأول ص530.

2 G. Caton Thompson And E.W. Gardiner، Climate، Irrigation And Early Man In The Hadharmaut، Geographical Journal، 93، 1939، P.18-19، 29-35

3 جواد علي 1/ 531.

4 أحمد فخري: المرجع السابق ص123

وكذا G. Caton Thompson And E. Gardiner، Op. Cit.،

5 أحمد فخري: المرجع السابق ص123

وكذا S.A. Huzayyin، Nature، Vol. Xi، 1937، P.513-514

ص: 174

قسم آخر -عن طريق مأرب ونجران- إلى شبه جزيرة سيناء، وإلى فلسطين والأردن بينما ذهب فريق ثالث -عن طريق باب المندب- إلى الصومال وكينيا وتنجانيقا1.

هذا وقد استمرت هذه الهجرات إلى السواحل الأفريقية، حتى في العصور التاريخية، وربما يرجع ذلك إلى العوامل المناخية والاقتصادية، فضلا عن المصالح التجارية الخارجية، وهكذا كانت حركة التجارة، فضلا عن ثروات أفريقية، دافعًا قويًّا إلى الفتح والاستيطان الدائم، ومن ثم رأينا العرب الجنوبيين يهاجرون إلى أفريقية، وبمرور الزمن أخذوا يستقرون هناك ثم سرعان ما يلعبون دورًا خطيرًا في إرساء قواعد حضارة وثقافة تنبثق من صميم الحضارة في جنوب شبه الجزيرة العربية، وهكذا بدا العرب الجنوبيون يتجهون نحو أفريقية منذ وقت مبكر، على دفعات متعددة، وفي أوقات مختلفة، وفي الألفي سنة الأخيرة قبل الميلاد هاجرت جماعات عربية جنوبية إلى الحبشة، وبلغت هذه الهجرات أقصاها فيما بين عامي 1500، 300ق. م2.

ويرى "كارل بيترز" أن جالية عربية كانت تعيش في المنطقة الواقعة بين نهري الزمبيزي واللمبوبو، منذ الألف الثاني قبل الميلاد، وأن المعبد الكبير في "زمببوية" بني عام 1100ق. م، وأن السبئيين كانوا أصحاب السيادة في ذلك الوقت3، على أن الأمر، إنما يزداد وضوحًا منذ القرن السادس قيل الميلاد، حيث نزحت جالية سبئية إلى منطقة "تعزية" في أريتيريا -وكذا إلى هضبة الحبشة- مكونة حكومة محلية هناك4، ولعل هجرة الأوسانيين إلى السواحل الأفريقية، إنما كانت في نفس الفترة، حيث اتخذوا من "عزانيا" مقرًّا لهم، أضف إلى ذلك كله تلك الهجرة السبئية التي حدثت في القرن الخامس قبل الميلاد5.

1 جواد علي 1/ 532 وكذا A. Grohmann، Arabien، Munchen، 1963، P.15

2 انظر: مقالنا "العرب وعلاقاتهم الدولية في العصور القديمة"، مجلة كلية اللغة العربية، الرياض 1976 ص287-437، صلاح الشامي: المواني السودانية ص63، موسكاتي، المرجع السابق ص213، مصطفى مسعد: الإسلام والنوبة في العصور الوسطى ص107.

3 فضلو حوراني: العرب والملاحة في المحيط الهندي، ترجمة يعقوب بكر ص128، وكذا

Carl Peters، The Eldorado Of The Ancient، P.271-272

4 A. Grohmann، Op. Cit.، P.25

5 جواد علي 3/ 450.

ص: 175

وأيًّا ما كان الأمر، فهناك حقيقة ثابتة، تتلخص في وجود ثقافة من العصر الحجري القديم في بلاد العرب، وأن هذه الثقافة تشبه إلى حد كبير ما عثر عليه في أفريقية، كما تشبه كذلك -مع وجود اختلافات غير قليلة- ما عثر عليه الباحثون من رجال عصور ما قبل التاريخ في سورية والعراق1.

وربما كان نصيب شرق شبه الجزيرة العربية من آثار عصور ما قبل التاريخ أفضل من غيرها، ففي خلال النصف الأخير من هذا القرن استقطبت بلاد العرب -خصوصا الجزء الشرقي منها، بما في ذلك ساحل الخليج العربي- أنظار علماء الآثار عامة، نتيجة للأبحاث التي قامت بها بعثة علمية دنمركية في أجزاء مختلفة من عمان وأبو ظبي وقطر والبحرين والكويت، وأهم ما لفت أنظار المجتمع العلمي هو الكشف عن عاصمة البحرين القديمة، والتي كانت تعرف سابقا بمركز حضارة دلمون2، والتي جاء ذكرها في النصوص السومرية، واشتهر ذكرها في مجال التجارة الدولية وقت ذاك بين مراكز الحضارة في سومر وبلاد نهر السند في باكستان الحالية، ومن ثم فعندما برزت نتائج التنقيبات عن "دلمون" في جزيرة البحرين، تأكدت

1 أحمد فخري: المرجع السابق ص124.

2 كان العلماء مختلفين في موقع "دلمون" السومرية هذه، فذهب بعضهم إلى أنها في الجهة الجنوبية الغرببية من بلاد فارس -أي في الجزء الشرقي من ساحل الخليج العربي - "S.N. Kramer، Dilmun، The Land Of The Living، Basor، 96، P.18-28"

وذهب فريق آخر إلى أنها منطقة وادي السند "S.N. Kramer، The Indus Civilization And Dilmun The Sumerian Paradise Land، Expedition، Philadelphia، 1964، P.45"

وذهب فريق ثالث إلى أنها سهول العراق الكائنة إلى جنوب غرب بابل "جون الدر،: الأحجار تتكلم، ترجمة عزت زكي ص30" بل إن هناك من رأى أنها إنما تقع في القسم الشرقي من جزيرة العرب بين مجان وبيت نبسانو "F. Hommel، Grundriss I، P. 250" على أن غالبية العلماء إنما تكاد تجمع على أن موقع دلمون هذه، إنما هو جزيرة البحريزن الحالية، أو جزيرة البحرين والساحل المقابل لها "انظر: مقالنا: دراسة حول: قصة الطوفان بين الآثار والكتب المقدسة، مجلة كلية اللغة العربية، العدد الخامس، الرياض 1976 ص390.

وكذا P.B. Cornwell، On The Location Of Dilmun، Basor، 103، 1946، P.3-11

وكذا J. Finegan، Light From The Ancient Past، Princeton، 1969، P.32

ص: 176

مجددا تلك الأهمية البارزة التي أولتها كتابات السومريين1 القدامى لهذه المنطقة2.

وعلى أي حال، فلقد تتم العثور في الإحساء وفي قطر -وبخاصة في عوينات علي، وجنوب دخان- على فؤوس ونبال، فضلا عن كميات من حجر الصوان، ترجع إلى العصور "الباليوليثية" و"النيوليثية"3.

هذا وقد عثرت البعثة الدنمركية في عامي 1958/ 1959م ي "تل سعد وسعيد" الواقع في الزاوية الجنوبية الغربية من جزيرة "فيلكا" وتقع على مبعدة 30 كيلو مترا إلى الشرق من مدينة الكويت -على بعض الأختام، وعلى أنقاض من مدينة قديمة في طبقات بُني بعضها فوق بعض، ما عثرت على كسر من الفخار يرجع تاريخها إلى منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد، فضلا عن ختم مستدير من حجر التلك، يختلف عن أحجار العراق الأسطوانية -وكذا عن أختام الهند المربعة- وقد نقش من الناحيتين، هذا وقد أرخت البعثة تل سعد -اعتمادًا على فحص طبقات التل، ودراسة الفخار المتنوع الأشكال -بالعصر النحاسي "أي حوالي عام 3500ق. م" أما تل سعد، فقد أرخته بالعصر اليوناني4.

وهناك فريق من الباحثين يذهب إلى أن جزيرة البحرين "وهي Tyios عند

1 يتفق الباحثون على أن السومريين جنس غير سامي، وأن لغتهم غريبة لا تشبه اللغات السامية، ولا يعلم زمن مجئيهم إلى وادي الرافدين، وإن ذهب البعض إلى أن ذلك ربما كان في فترة مبكرة من الألف الرابعة قبل الميلاد، وقد اختلفت الأرآء في موطنهم الأصلي، فقد ذكرت أساطيرهم أنهم جاءوا من الجنوب، ومن ثم ذهب رأي إلى أنهم مهاجرون من منطقة البحرين بعد أن استقروا في غربي إيران فترة من وذهب رأي ثان إلى اعتبارهم بدوا مما وراء القوقاز أو بحر قزوين، ويرى آخرون أنهم جاءوا من آسيا الصغرى، بينما ذهب رأي ثالث إلى أنهم جاءوا من السند، بل لقد اتجه فريق رابع إلى أنهم من الأقوام التي قطنت العراق في عصور ما قبل التاريخ، وأن حضارتهم أصيلة في العراق، بل ويمكن تسمية أهل حضارة "العبيد" بالسومريين، على الرغم من عدم معرفتنا للغة أهل حضارة للعبيد "انظر: أحمد فخري: المرجع السابق ص28، عبد العزيز صالح: مصر والعراق ص386، طه باقر مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة جـ1 ص89-90

وكذا E.A. Speiser، The Sumerian Problem Reviewed

وكذا Aja، 52، 1948، P.156-164

2 عبد الله حسن مصري: آثار شرق الجزيرة ودورها في نشأة حضارة سومر: مجلة الدارة، العدد الأول، الرياض 1976 ص69-70.

3 جواد علي 1/ 531، تقرير عن الحفريات الأثرية في جزيرة فيلكا "1958/ 1959"، الكويت، ص24.

4 عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، القاهرة 1966 ص30.

ص: 177

بليني، و Tyrus عند سترابو"، إنما كانت مأهولة بالسكان منذ العصور الجليدية المتأخرة في أوربا، وأن جو البحرين وقت ذاك إنما يشبه مثيله في بلاد اليونان في أيامنا هذه، وأن البحرين إنما كانت خضراء تغطيها الغابات1، وإذا صحت المعلومات التي وصلت إلى الفيلسوف اليوناني "ثيوفراستوس" "371-287ق. م"، فقد كانت تزرع في البحرين مساحات كبيرة من القطن، وأنه كان يوجد في هذه الجزيرة مساحات كبيرة لإنباته، وقد أشار "بليني "32-79م" إلى استمرار زراعة القطن في "Tyios" أو "Aradus" حتى أيامه2.

وأما سكان البحرين فقد كانوا قومًا من الصيادين، يعيشون على ما يقنصونه من حيوان، وما يصطادونه من أسماك، وقد عثر على أدوات من حجر الصوان كان القوم يستخدمونها في صيدهم وفي تقطيع لحوم الفرائس التي تقع في أيديهم، وأن هذه الأدوات المكتشفة إنما تنتمي إلى أواسط عصور "Paiothitic"، كما أنها تشبه مثيلاتها في شمال العراق وفلسطين وشمال غرب الهند3.

هذا وقد عثر في البحرين كذلك على رؤوس حراب وسكاكين، صنعها أصحابها من صخور صوانية، وقدر لها بعض الباحثين عمرًا يتراوح ما بين عشرة آلاف واثني عشر ألف سنة، ومن ثم فربما ترجع إلى أخريات أيام الرعي، وبداية عهد الاستقرار، بدليل أن منها أحجارًا شذبت لتكون آلات حصد للمحاصيل، فضلا عن قطع الحشائش واجتثاثها من الأرض4.

وأما في وسط شبه الجزيرة العربية، فقد عثر في مواضع مختلفة من المملكة العربية السعودية -تمتد من الاحساء شرقًا إلى إلى الحجاز غربًا، ومن مدائن صالح شمالا، وحتى نجران جنوبًا -على أدوات حجرية تنتمي إلى تلك العصور المبكرة، كما في "الدوادمي"- وتقع على الطريق بين مكة والرياض، وعلى مبعدة 336 كيلو مترًا إلى الغرب من الرياض -حيث عثر على أدوات حجرية من بينها فأس تميل لونها إلى الخضرة5، وكما في "تل الهبر" إذ كان الصيادون في عصور ما

1 جواد علي 1/ 534.

2 عبد الحميد زايد: الشرق الخالد ص127.

3 جواد علي 1/ 534.

وكذا James، H.D. Belgrave، Welcome To Bahrain، London، 1966، P.50.

4 Ibid.، P.51

5 P.B. Cornwall، Ancient Arabia، Exploration In Hasa، 1940-1941، In Gj، Cvii، 1946، P.39

ص: 178

قبل التاريخ يتنقلون باتجاه الأودية من مكان إلى آخر، وقد ترك الصيادون -ثم الرعاة من بعدهم- بعض الآثار في الأماكن التي حلوا بها حينًا من الدهر، وما برح السياح، وخبراء شركة "أرامكو" وغيرهم، يعثرون على بعض منها، بين الحين والحين1.

وأما في شمال شبه الجزيرة العربية، فقد عثر في "كلوة"، عند سفح جبل الطبيق، على آثار رأى بعض الباحثين أنها ترجع إلى الألف الستين قبل الميلاد، وأن تاريخ السكنى بها، إنما يرجع إلى الألف الثامنة قبل الميلاد2.

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الباحثين لم يوفقوا بعد في العثور على هياكل كاملة للإنسان من عصور ما قبل التاريخ في شبه الجزيرة العربية، أو حتى سيناء، وإن كان بعض رجال شركة "أرامكو" قد عثروا على بقايا عظام وأسنان لبعض الحيوانات "الحلمية""Mastodom"، وعلى جزء من جمجمة إنسان قديم، في موضع يبعد تسعين ميلا إلى الغرب من "الدمام"، إلا أن ذلك لا يمكن الباحثين من إعطاء رأي علمي فيما يتصل بالحياة في عصور ما قبل التاريخ، حتى وإن أمكن العثور على مثل هذه البقايا في أماكن أخرى من شبه الجزيرة العربية3.

على أن البحرين قدمت للباحثين هيكلين كاملين، رأينا الميت فيهما يرقد على جنبه الأيمن، ويتجه بوجهه نحو المشرق، الأمر الذي كان يتبعه سكان العراق القديم في الألف الثالثة قبل الميلاد4. كما وجدت في المقبرة بقايا عظام حيوانات، فضلا عن أدوات بيت الميت وحليه، ولعلهم في هذا يشبهون المصريين القدامى الذين كانوا يعتقدون في الحياة الآخرة، وأنها على غرار الحياة الدنيا، ومن ثم فقد كانوا يضعون في مقبرة الميت ما قد يحتاجه من متاع في هذه الحياة الأخرى.

وأما أبواب مقابر البحرين هذه، ففي الناحية الأخرى من اتجاه الميت -أي في

1 H. Field، Papers Of The Pesbody Museum، 48/ 2، 1956، P.63

وكذا A. Grohmann Op. Cit.، P.15

2 جواد علي 1/.532

وكذا A. Grohmann، Op. Cit.، P.16

وكذا N. Glueck، The Other Side Of The Jordan، New Haven، 1940، P.43

3 جواد علي 1/ 536، وكذا P.B. Cornwall، Op. Cit.، P.39

4 J.H.D. Belgrave، Op. Cit.، P.52

ص: 179

الناحية الغربية- وربما كان لذلك صلة بدين القوم، وربما كانوا -مرة أخرى- يشبهون المصريين الذين كانوا يطلقون على عالم الموت اسم "عالم الغرب"، كما كان الموتى يسمون "أهل الغرب"، بل إن مقابرهم إنما كانت في كثير من الأحايين، إنما تقع على الضفة الغربية من النيل.

وأيًّا ما كان الأمر، فإن هناك من يرى أن القوم إنما كانوا يسكنون على ساحل الخليج العربي، بينما يتخذون من جزيرة البحرين مقبرة لموتاهم، على أن فريقًا آخر إنما يذهب إلى أن تلك المقابر، إنما كانت مقابر الفينيقيين الذين كانوا يقطنون البحرين بعد هجرتهم إليها من الأفلاج والخرج، وأنها إنما ترجع إلى الفترة ما بين عامي 3000 و 1500 قبل الميلاد1، على أن هناك من يعارض هذا الاتجاه أصلا، ويرفض أن يكون الفينيقيون من هناك2.

هذا وقد عثرت البعثة الدنماركية في عام 1959م3 جنوب طريق البديع في البحرين، على أربع مقابر، ترجع إلى العصور الحجرية، كما عثر بعض السياح على تلال في مواضع متفرقة في كل من عمان وقطر، ترجع إلى ما قبل الميلاد، هذا وقد عثر رجال شركة "أرامكو" على مقابر كثيرة في جبلي المذري الشمالي والجنوبي4، فضلا عما عثر عليه "جون فلبي" و"كورنول" من مقابر في جنوب غرب شبه الجزيرة العربية، وفي "الرديف" -على مبعدة 110 أميال شمالي غربي الدمام- وفي "الرويق"، وفي مرتفعات العلم الأبيض والعلم الأسود، وفي كثير من هذه المقابر تمكن الباحثون من الحصول على أدوات من الفخار، وعلى قطع من العاج، وعلى قشور من بيض النعام، وعلى أسلحة برونزية كما استدلوا من وجود

1 H. St. J.B. Philby، Sheba's Daughters، 1939، P.373

وكذا جواد علي 1/ 539-540 وكذا R. Sanger، Op. Cit.، P.141 وكذا Ei، I، P.585

وانظر: كتابنا "إسرائيل" ص335.

2 سير أرنولد ويلسون: الخليج العربي، ترجمة عبد القادر يوسف، الكويت، ص77-79:

3 P.V. Glob، Archaeological Investigations In Four Arab States، 1959، P.238

4 J.B. Philby، Oa. Cit.، P.373

ص: 180

بعضها في مناطق صحراوية بعيدة عن العمران الآن، على أن هذه المناطق إنما كانت مأهولة بالسكان في تلك العصور العتيقة1.

ومن أسف أننا لا نملك دراسة علمية مقارنة عن هذه المقابر، ومن ثم فقد ذهب البعض إلى أنها إنما ترجع إلى عصر "Chaicoithic"، أو إلى العصر البرونزي، بينما ذهب آخرون إلى أنها إنما ترجع إلى العصر البرونزي المتأخر2، هذا وقد ذهب فريق ثالث إلى أن مقابر "أم النار"، في أبو ظبي، إنما ترجع إلى الألف الثالثة "ق. م"3، وأما عن أصحاب هذه المقابر، فإن الباحثين يتجهون إلى أن مقابر المرتفعات إنما كانت للصيادين أو الرعاة، بينما كانت مقابر السهول للمزارعين المستقرين4.

ولعل مما تجدر ملاحظته أنه قد تبين من مخلفات المقابر في أم النار أنها إنما تضم العديد من الهياكل العظمية المتكدسة في المدفن المشترك، ويقل العدد في غرف الدفن والممرات، مما يدل على أن القبر قد استخدم مرات عديدة، هذا ويدل وجود الهياكل العظمية خارج الجدران الخارجية على وجود ظاهرة التضحية البشرية التي تواكب مراسم الدفن حيث توضع جثث الأشخاص الذين يضحى بهم مع بعض خارج المبنى الذي يضم جثة المتوفى5.

وإنه لمن الأهمية بمكان الإشارة إلى وجود مراكز استيطان عديدة في شمال شرق الجزيرة العربية، تنتمي إلى حضارة "العبيد" في العراق القديم، من الناحية الزمنية، فضلا عن تشابه حضاري بينهما، وأما موقع هذه المراكز فقد كان بحذاء الساحل، وفي داخل المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، ولعل من المفيد هنا أن نشير إلى أن منطقة شرق الجزيرة العربية لم تخضع لتطورات عصور ما قبل التاريخ في منطقة الشرق الأدنى القديم، والتي انتقلت من مرحلة الصيد وجمع

1 P.B. Cornwall، Op. Cit.، P.36-37. وكذا J.B. Philby، Op. Cit.، P.373

2 R. Sanger، Op. Cit.، P.141

3 جواد علي 1/ 541-542، تقرير عن الحفريات الأثرية في فيلكا، الكويت ص24.

4 P.B. Cornwall، Op. Cit.، P.37

5 G. Bibby، Looking For Dilmun، P.212

وكذا K. Thorvildsen، Kuml، 1962، P.217-218

ص: 181

الغذاء "حوالي 9000ق. م" إلى مرحلة استئناس الحيوان ثم الزراعة "حوالي 7000ق. م"، فمرحلة القرى الزراعية، ثم مرحلة التجمعات الزراعية "عصر العبيد"1.

وعلى أي حال، فلقد اكتشف في شمال شرق الجزيرة العربية أكثر من ثلاثين موقعًا، ينتمي إلى حضارة العبيد، فيها أربعة عبارة عن أماكن استقرار، والباقي مناطق سطحية تحيط بالأربعة السابقة، وتتوزع هذه المناطق على مساحة واسعة داخل المنطقة الشرقية -وكذا على الساحل، وتوجد الأولى في العروض الجنوبية، بينما توجد الثانية في العروض الشمالية، وإن اتفقت جميعًا في الفخار الملون -وكذا الأدوات التي عثر عليها فيها- إنما تتشابه جميعًا مع مثيلاتها في منطقة العبيد2.

1 حضارة العبيد: وتمثل أقدم أطوار فجر الحضارة في العراق الجنوبي، وإن انتشرت في جميع أنحاء العراق، شماله وجنوب، وقد أخذت اسمها من تل على بضعة كيلو مترات إلى الغرب من "الناصرية" قرب مدينة "أريدو""أبو شهرين"، ويمثلها في الشمال ما عثر عليه من آثار في "ثبة كورا" و"نوزي" و"تل حسونة" و"نينوى" و"تل حلف"، وأما في الجنوب: فأهم مواقعها "أبو شهرين" و"أور" و"لجش"، و"قلعة الحاج محمد" و"الوركاء"، وقد أثبتت الدراسة المقارنة لحضارات العبيد الشمالية والجنوبية وجود تشابه واختلاف بين إنتاج هاتين الحضارتين، ولكنهما ينتميان أصلا إلى حضارة واحدة، سرعان ما تأثرت بالبيئة المحيطة بها، فأعطتها شكلها المعين.

وهناك من الباحثين من يرى أن حضارة العبيد ليست تطورًا لغيرها من الحضارات السابقة، وإنما هي حضارة مستوردة من الهضبة الإيرانية، جاء أصحابها من جنوب غرب إيران في أوائل الألف الرابعة ق. م، أو قبلها بقليل، بينما يذهب آخرون إلى أنها من المنطقة الشمالية "بلاد الآشوريين فيما بعد"، على أن هناك رأيًا حديثًا يتجه بها إلى الجنوب "شرقي جزيرة العرب"، وأنها ليست دخيلة على المنطقة، وإنما نشأت من جراء تطور طبيعي، سبقته مراحل عديدة خلال العصر الحجري الحديث "انظر: نجيب ميخائيل، مصر والشرق الأدنى القديم 5/ 63-65، طه باقر: المرجع السابق، رشيد الناضوري: جنوب غربي آسيا وشمال إفريقيا، الكتاب الأول -بيروت 1968م، وكذا

G. Roux، Ancient Iraq، 1966

وكذا Jnes، Iii، 1944، P.47. وكذا Summer، Iii، 1947، P.84f، Iv، 1948، P.115f

وكذا A.L. Perkins، The Comparative Stratigraphy Of Early Mesopotamia، 1949

وكذا H. Frankfort، The Art And Architecture Of The Ancient Orient، 1958

2 A.H. Masry، Prehistory In Northeastern Arabia، The Problem Of Interregional Interaction، Miami، Florida، 1974، P.1-11

ص: 182

شرق الجزيرة العربية وسكان جنوب العراق من أولئك الذين كانوا يحترفون الصيد وجمع الغذاء، وأن مجموعات بشرية من شرق الجزيرة العربية قد هاجرت إلى السهل الفيضي القريب منهم، وساهمت بذلك في خلق نوع من التفاعل الثقافي، ومن ثم فقد كان هناك تبادل بين جنوب العراق وشمال شرق الجزيرة العربية في الأدوات الحجرية والمنتجات البحرية إبان عصر العبيد، وربما أدى هذا التبادل إلى هجرات دورية من جانب الرعاة والصيادين أو جامعي الغذاء، إن التطور الاقتصادي في كل من المنطقتين "الصيد والجمع وصيد الأسمال في شرق الجزيرة العربية، والزراعة في جنوب العراق" قد ساعد على عملية التبادل المادي والحضاري بين الناحيتين1.

وعلى أي حال، فلقد كان من نتائج فحص مناطق الاستقرار التي تنتمي إلى حضارة العبيد في شمال شرق الجزيرة العربية، أن الجنوب قد سادت فيه حضارة العبيد المبكرة، بينما سادت في الشمال نفس الحضارة في عصرها المتأخر، وإن عثر في موقع وحيد -على مقربة من قرية الهفوف- على فخار يشبه فخار العبيد المبكر، كما أن الحضارات التي تعاقبت بعد ذلك في جنوب العراق -كالوركاء وما قبل الكتابة- لا أثر لها في تلك المواقع التي عثر فيها على حضارة العبيد في بلاد العرب، كما أنه ليس هناك من دليل على وجود لحضارة العبيد في جزيرة "تارون"، والتي ظهر أن حضارتها إنما كانت على صلة مباشرة بحضارة الخليج العربي التي تنتمي إلى منتصف الألف الثالثة ق. م، وفيما بعد، مثل حضارة البحرين2.

ولعل من نتائج ذلك كله أن هناك عناصر حضارية ثلاثة في شرق الجزيرة العربية في عصور ما قبل التاريخ، تميزت الواحدة بصناعة الأدوات الحجرية، وتأثرت الثانية بحضارة العبيد، وأما الثالثة -ويمثلها موقع جزيرة تارون- فتنتمي إلى حضارة الألف الثالثة ق. م، وما بعدها، وقد كانت نتيجة للعلاقات التجارية بين الجانبين، والتي قامت فيها شواطئ الخليج بدور مهم3.

وطبقًا لعلم الطبقات، فإن العنصرين الحضاريين وجدا أنهما على علاقة مباشرة ومتتابعة في موقع "عين قناص" في الداخل، وفي جنوب غرب المنطقة الشرقية،

1 Ibid.، P.16

2 G. Bibby Looking، For Dilmun، N.Y.، 1969. وكذا A.H. Masry، Op. Cit.، P.17-18

3 Abdullah Hassan Masry، Op. Cit.، P.18-19

ص: 183

فضلا عن ذلك، فإن تحليل الرواسب من هذا الموقع أمدنا بدليل مباشر على تواجد سكاني دوري في المنطقة في العصر الحجري، وهكذا يمكننا أن نستنتج أن حركات سكانية وهجرات دورية حدثت على المدى الطويل تجاه الوادي الغريني في جنوب العراق، ومن الممكن أن نظن أن مواطن الاستقرار التي تنتمي إلى حضارة العبيد في بلاد العرب، خاصة تلك التي تقع على طول الساحل، تبادلت المواد الخام مع مثيلاتها في جنوب العراق، فلقد كانت مواد التبادل هذه تتمثل في الأصداف واللآلئ والمنتجات البحرية الأخرى، فضلا عن المواد الحجرية المنتجة من سواحل الجزيرة العربية، كما أن وجود حجر الأوبسيديون في مواقع الجزيرة العربية، لدليل على العلاقات بين هذه الأخيرة وبين الشمال عن طريق جنوب العراق1.

ومما هو جدير بالملاحظة أن الفترة التي بدأت تتكون فيها المدن في العراق، قد توافقت زمنيًّا مع فترة اختفاء حضارة العبيد في الجزيرة العربية، مما يحمل على الظن بأن هجرة كبيرة من سكان الجزيرة نزحت إلى العراق القديم في نهاية الألف الرابعة قبل الميلاد، وهذا يتفق مع ما افترضه العلماء من أن تدفق السكان على سهول العراق كان حاسمًا في قيام المراكز المدنية هناك2.

وعلى أي حال، فلعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى المراكز الحضارية في منطقة الخليج العربي إنما قد تأثرت في عصور ما قبيل الكتابة بحضارات جنوبي بلاد الرافدين -كما أشرنا من قبل- ووادي السند ووادي النيل وإيران، ذلك لأن المراحل الأخيرة في عصور ما قبل التاريخ إنما قد تأثرت إلى حد كبير بظاهرة الاتصالات الخارجية3.

وهناك ما يشير إلى تشابه في أشكال الأدوات الفخارية التي تنتمي إلى عصر حضارة العبيد، وتلك التي في موقع أم النار في أبو ظبي بدولة الإمارات العربية، وموقع باكون بإقليم فارس4 في إيران.

1 A.H. Masry، P. Cit.، P.19

2 A.H. Masry، Op. Cit.، P.20

3 رشيد الناضوري: جنوب غربي آسيا وشمال أفريقيا -الكتاب الأول- ص235-237.

4 يقع إقليم فارس في الجنوب الغربي من إيران ويوازي ساحل الخليج العربي، وأهم مواقعه الأثرية موقع باكون، ويقع على مبعدة 2.5 كيلو مترا جنوب بيرسبوليس القريبة من شيراز في سهول "مرفت داست" "D. Mccown، Saoc، 23، 1957، P.23."

ص: 184

هذا وقد قامت منطقة الخليج العربي بدور فعال في الاتصال بين حضارة جنوب وادي الرافدين وواد السند، وهناك ما يشير إلى أن تجار منطقة وادي السند قد مارسوا التجارة مع سكان الخليج العربي ومدن وادي الرافدين1.

وفي هذا المجال فقد عثر في أم النار و"هيلي"- على مبعدة عشرة كيلو مترات من مدينة العين- على أواني فخارية تحمل زخارف تشبه تلك التي عثر عليها في وادي السند، هذا ويستدل على الاتصال التجاري مع وادي السند من العثور على العديد من الأختام المربعة التي تتميز بها حضارة وادي السند في فيلكا وفي البحرين وكذا العثور على أختام دائرية في موقع وادي السند يعود أصلها إلى فيلكا والبحرين2.

هذا وقد تبين من الدراسة والمقارنة لفخار أم النار، وفخار "كولي" أن الأول ينتمي إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، وأن التشابه بين النوعين إنما يكمن في الصناعة وتطبيق الألوان وأسلوب الزخرفة والحفر البارز، وإن تميز فخار أم النار بتعدد ألوانه وأشكاله وزخارفه3.

وفي موقع بلوخستان الإيراني يوجد موقع "بامبور""بجنوب شرق إيران" ويضم ست طبقات تؤرخ ابتداء من الربع الثاني من الألف الثالثة ق. م، وحتى بداية الألف الثانية ق. م4، وتمثل ست مراحل حضارية، عثر في الطبقات الأربعة الأولى منها على أواني فخارية رمادية تشبه فخار أم النار5، أما المرحلة السادسة فإلى جانب تشابه فخارها مع فخار أم النار، فلقد كشف فيها كذلك عن ختم من أختام الخليج العربي، يؤرخ بحوالي عام 1923ق. م6، ومن ناحية أخرى فلقد وصلت أختام وادي السند -ومنها ما يحمل خصائص أختام الخليج العربي -إلى

1 Bridget And Raymond Allchin، The Irth Of Indian Civilization، London 1968، P.270

2 سليمان البدر: المرجع السابق ص315-316.

3 سليمان البدر: دراسة تاريخية الخليج العربي أثناء الألفين الثاني والأول قبل الميلاد -رسالة دكتوراة -الإسكندرية 1976 ص41، وكذا: حسين جعفر منديل: الآثار في أبو ظبي- مؤتمر الآثار السادس، 1971 ص1 وكذا

K. Thorvildsen، Burial Cairns On Umm-An-Nar، Kumal، 1962، P.219

4 De Cardi "B."، Excavations At Bampur، S.E. Iran، Iran، 6، 1968، P.135

5 A.S. Matheson، Persia، An Archaeological Guide، London، 1972، P.274

6 سليمان البدر: المرجع السابق ص51، وانظر: B. DE CARDI، OP.CIT.، P.135

ص: 185

بلاد الرافدين ومواقع الخليج العربي1، هذا فضلا عما عثر عليه في البحرين وفيلكا من أدوات حجرية من وادي السند، وكذا لوحة لعب من حجر اللازورد عثر عليها في موقع "باربار" في البحرين2.

وعلى أي حال، فرغم أن هناك من يرى أن عصر ما قبل التاريخ قد بدأ في شبه الجزيرة العربية حوالي الألف الثالثة ق. م، في وقت كان العصر التاريخي قد بدأ في أماكن أخرى3 -كمصر والعراق القديم- فإن معلوماتنا الحالية لا تسمح لنا بتحديد العصر الذي ينتهي فيه العصر الحجري القديم، ويبدأ فيه العصر الحجري الحديث أو العصر التاريخي في بلاد العرب، فإن ذلك ما زال متوقفًا على الأبحاث الأثرية.

على أن هناك حقيقة مهمة تتلخص في أن الهجرات بدأت تفد إلى مصر من بلاد العرب منذ الألف الرابعة قبل الميلاد، وإلى العراق قبل بداية الألف الثالثة قبل الميلاد4، ذلك لأن شبه الجزيرة العربية، فيما يرى غالبية العلماء -ومنهم سبرنجر5 وإيرهارد شرادر6، وهربرت جريمة7 وروبرتسون سمث8 وكارل بروكلمان9 وكنج10 وجون ماير11 ستانلي كوك12، ورايت13، وهوجو فنكلر

1 سليمان البدر: المرجع السابق ص128-129، وكذا

B. DE CARDI، CAH، I، PART، II، P.453

2 سليمان البدر: المرجع السابق ص130، وكذا G. BIBBY، OP. CIT.، P.354

3 A.H. MASRY، OP. CIT.، P.2

4 أحمد فخري: دراسات في تاريخ الشرق القديم ص124؛ قارن: نجيب ميخائيل: المرجع السابق 3/ 182-183.

5 A. SPRENGER، DAS LEBEN UND DIE LEHRE DES MOHAMMAD، BERLIN، 1861، P.241

وكذا A. SPRENGER، ALTE GEOGRAPHIE ARABIENS، 1875، P.293

6 E. SHRADER، ZDMG، 27، 1873، P.397F

7 H. GRIMME، MOHAMMED

، 1904، P.6F

8 R. SMITH، KINSHIP AND MARRIAGE IN EARLY ARABIA، P.178

9 C. BROCKLEMANN، GRUNDRISS DER VERGLEICHENDEN GRAMMATIK DER SEMITISCHEN، SPRACHEN، BERLIN، 1908، 1، 2

10 L.W. KING، HISTORY OF SUMER AND AKKAD، LONDON، 1915، P.119

11 J.L. MEYERS، IN CAH، I، 1923، P.28

12 S.A. COOK، IN CAH، I، 1923، P.192

13 E. WRIGHT، COMPARATIVE GRAMMER OF SEMITIC LANGUAGES، P.8

ص: 186

وتيله والأب فنسان وجاك دي مورجان وكايتاني1 وديتلف نلسن2، وفريتز هومل3 وفلبي4 وسايس5 وحسن ظاظا6 سبتينو موسكاتي7 وغيرهم- يرون أن الموطن الأصلي للساميين إنما هو شبه الجزيرة العربية8، ذلك الخزان البشري الشهير، الذي لم يتوقف عن أن يقذف- كإقليم طرد وكصحراء فقيرة، ولكنها ولود -بالموجة تلو الموجة إلى منطقة الهلال الخصيب المتاخمة والجذابة، وإلى وادي النيل، عبر البحر الأحمر، أو عن طريق سيناء9.

ورغم اختلاف أصحاب هذه النظرية في المكان الذي كان الموطن الأصلي للساميين من الجزيرة العربية -فيما بين أواسط شبه الجزيرة العربية ولا سيما نجد، وبين العروض ولا سيما جزيرة البحرين والسواحل المقابلة لها، وبين الأقسام الجنوبية من بلاد العرب10- فالذي لا شك فيه أن الجزيرة العربية هي موطن الساميين الأول، وعلى هذا الأساس يمكن تفسير حركات القبائل السامية من البادية إلى أودية الأنهار الخصبة، والتي بدأت منذ عصور ما قبل التاريخ، ولم تتوقف على الإطلاق حتى الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي.

وهكذا انطلقت من شبه الجزيرة العربية هجرات ضخمة تتدفق في موجات متتابعة تشق طريقها إلى الأراضي الخصبة، ويذهب بعض العلماء إلى أن الفترة بين

1 حسن ظاظا: المرجع السابق ص13.

2 D. NIELSEN، HANDBUCH، I، 1927، 47، 55

3 F. HOMMEL، ETHNOLOGIE UND GEOGRAPHIE DES ALTEN ORIENT، 1926، P.10

وكذا A. GROHMANN، OP. CIT.، P.14

4 J.B. PHILBY، THE BACKGROUND OF ISLAM، P.9F

5 A.H. SAYCE، ASSYRIAN GRAMMER، 1872، P.13

6 حسن ظاظا: المرجع السابق ص15-16.

7 S. MOSCATI، HISTOIRE ET CIVILISATION DES PEUPLES SEMITIQUES، P.32-3

8 انظر مقالنا: الساميون والآراء التي دارت حول موطنهم الأصلي، مجلة كلية اللغة العربية، العدد الرابع، الرياض 1974م ص245-271.

9 نفس المرجع السابق ص263.

10 A. SPRENGER، OP. CIT.، P.241

وكذا J. HASTINGS، A DICTIONARY OF THE BIBLE، 1904، P.74

وكذا J، MONTGOMERY، ARABIA AND THE BIBLE، P.126

وكذا J.B. WARRELL، A STUDY OF RACES IN ANCIENT NEAR EAST، 1927، P.45، 94.

ص: 187

الموجة والتي تليها تبلغ زهاء ألف عام1، ولعل من أشهر هذه الموجات موجة الأموريين2، ثم الكنعانيين -أو الفينيقيين3- وأما ثالث الموجات فقد كانت الموجة الآرامية4.

وتشير الآثار المستخرجة من الأراضي فيما بين دجلة والفرات، على أن أولى الهجرات السامية إنما بدأت حوالي عام 5000ق. م، وأن هذه الاكتشافات لا تنفي فكرة وقوع هجرات سامية قبل هذا التاريخ5، فضلا عن التي أتت بعده، ومنها تلك التي كانت في بداية الألف الثالثة قبل الميلاد، والتي كان أصحابها على قدر غير قليل من الثقافة، حتى أنهم استطاعوا على أيام سرجون الأولى "حوالي عام 2350ق. م" من أن يقيموا دولة اتسعت فتوحاتها حتى وصلت آسيا الصغرى، وبدهي أنهم لن يستطيعوا أن يفرضوا أنفسهم على شعب ذي حضارة كالسومريين، إلا إذا كانوا قد وصلوا إلى درجة من التقدم تجعلهم يعرفون كيف يستفيدون من غيرهم، وتصبح لهم السيطرة على البلاد، وأن تظل لغتهم الأصلية وكثير من مظاهر ثقافتهم، ملازمة لهم قرونًا طويلة، ومن ثم يمكننا القول أن هؤلاء المهاجرين من بلاد العرب إلى العراق قبل خمسة آلاف سنة، لم يكونوا قومًا بدائيين، بل كانوا ذوي ثقافة خاصة بهم، كما كان لهم نظمهم وحياتهم الاجتماعية6.

1 H، WINCKLER، THE HISTORY OF BABYLONIA AND ASSYRIA، N.Y.، 1907، P.18-22

وكذا J.A. MONTGOMERY، OP. CIT.، P.21

2 انظر: كتابنا "إسرائيل" ص331-333.

3 انظر كتابنا "إسرائيل" ص334-337.

4 انظر كتابنا "إسرائيل" ص37-342.

5 نجيب ميخائيل: مصر والشرق الأدنى القديم 3/ 182-183.

6 أحمد فخري: المرجع السابق ص124.

ص: 188