الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تدمر، إنما أصبحت مقاطعة رومية تماما، وإنما كانت حكومة شبه مستقلة، تدير شئونها الإدارية بنفسها، ولكنها تخضع لإشراف روما عليها1.
وانتهزت تدمر فرصة انشغال روما بغزوات الجرمان التي كانت تهدد دولتهم في أوروبا الغربية، وأخذت توسع رقعتها، وإن ظلت وفية للروم، وهكذا أصبحت دولة تدمر تشمل عددا من المدن الصغيرة التابعة لها، مثل "دورا" و"الرصافة"2، وقد استخدمت "دورا" كمعقل لحماية تجارة تدمر الناشئة، وقد وجدت فيها بقايا أبنية ذات زخارف نافرة تمثل جنودا تدمريين، وأما "الرصافة" فقد دعيت في كتابة أثرية أشورية تعود إلى أخريات القرن التاسع قبل الميلاد باسم "رصابا Rasappa" وهي نفس المدينة التي جاءت في التوراة3 تحت اسم "رصف" بمعنى "الجمر المتوهج" وهدمها "سنحريب""705-681ق. م" في أوائل القرن السابع ق. م، وقد عرفت فيما بعد باسم "سرجيوس بولس" نسبة إلى قديسها المحلي "سرجيوس" الذي استشهد في عهد دقلديانوس" "284-305م"4.
1 فيليب حتى: المرجع السابق ص435-436.
وكذا G.A. COOKE، OP. CIT.، P.250، 312 وكذا CAH، XI، P.139، XII، P.18
2 عب العزيز سالم: المرجع السابق ص249.
3 ملوك ثان: 19: 12، أشعياء 27:12.
4 فيليب حتى: المرجع السابق ص436، وكذا EB، 17، P.162
2-
أذينة:
ارتفعت أسرة أذينة التي كان يتصدر اسمها كلمة "سبتميوس" إلى مكان الزعامة في تدمر في منتصف القرن الثالث الميلادي، وهناك ما يشير إلى أن جد "أذينة" الكبير كان يدعى "ناصر""نصرو" والد "وهب اللات""وهبلات"، وأن هذا الأخير إنما هو والد "خيران" أبو "أذينة"1، وهناك كتابة ترجع إلى عام 235م ورد فيها اسم "أذينة بن خيران بن وهب اللات بن نصرو"، وأنه كان عضوا
1 جواد علي 3/ 90-91، وكذا FRANZ ALTHEIM AND RUTH STIEHL، OP. CIT.، P.252
وكذا J. CANTINEAU، INVENTAIRE DES INSCRIPTIONS DE PALMYRE، 8، 1936، NO.55
وكذا J. CANTINEAU، PALMYRENIEN DU TEMPLE DE BEL، P.138
وكذا SYRIA، XII، 1931
بمجلس الشيوخ الروماني1، كما أن أباه "خيران" كان يحمل لقب "سبتميوس خيران"، وأنه كان "رأس" تدمر، وعضو مجلس شيوخها الممتاز، وأنه قد تمكن من تثبيت حكم أسرته، ومن الهيمنة على شئون المدينة، ومن توسيع تجارتها، فاكتسب بذلك منزلة كبيرة عند أهل تدمر وعند الرومان2.
وفي عهد "خيران" هذا، أخذت تدمر دورها في القضايا الدولية، وما أن قامت الدولة الساسانية في عام 226م، تحت زعامة "أردشير بن بابك بن ساسان""226-241م"3، حتى بدأ الشرق يضطرب بالصراع بين الروم والفرس، وكان على التدامرة أن يختاروا الانضمام إلى إحدى القوتين الكبيرتين، فآثروا الإنضمام إلى الروم بسبب العلاقات القديمة، ولأن الأمبرطور الروماني بسبب بعد روما، إنما هو أقل خطرا عليهم من الإمبرطور الساساني القريب منهم، واغتنم أهل تدمر فرصة نجاج "سابور""241-272م" ملك فارس في التوغل في سورية، والقبض على الإمبراطور الروماني "فاليران""253-260م" بعد هزيمة مخجلة للجيوش الرومانية قرب "ايسا" في عام 260م، كسب الساسانيون من ورائها شهرة عريضة، فضلا عن أسر ستين ألفا من جنود الرومان، واستيلاء الفرس على آسيا الصغرى وشمال سورية4.
وكان أذينة له ثأر عند الرومان، منذ أن قتل قائدهم "روفينوس" أباه "أذينة الأول" وعدم موافقة الإمبراطور فاليران على أن يأخذ له بثأر أبيه من "روفينوس"، ومن ثم فإنه ما أن علم بهزيمة الروم في عام 260م، وأسر "فاليران" حتى أسرع بالاتصال بالفرس، مقدما لهم الهدايا، وعارضا عليهم صداقته، إلا أن الإمبرطور الفارسي، الذي كان يحس في ذلك الوقت أنه ملك الشرق والغرب جميعا، احتقر العرض التدمري، وأمر بإلقاء الهدايا في النهر، وتوعد أذينة بسوء المصير.
1 F. ALTHEIM AND R. STIEHL، OP. CIT.، P.252
2 جواد علي 3/ 91، المشرق، الجزء 13 عام 1898 ص50
وكذا F. ALTHEIM AND R. STIEHL، OP. CIT.، P.252
3 انظر: آرثر كريستنس: إيران في عهد الساسانيين، ترجمة الدكتور يحيى الخشاب ص72-83.
4 آرثر كريستنس: المرجع السابق ص210-212، عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص251،
وكذا A. MUSIL، PALMYRENA، P.247
جزاء وفاقا على جرأته على مخاطبة ملك الملوك "شاهنشاه إيران وأنيران، أي ملك ملوك إيران وغير إيران"، وهو لا يعدو أن يكون شيخا لمدينة صغيرة في بيداء قاحلة، لا أهمية لها ولا نفع منها1.
وكان هذا التصرف الأحمق من ملك الفرس، سببا في أن يجمع أذينة القبائل بظاهر تدمر تحت إمرة ولده "هيرودوس"، والفرسان تحت قيادة "زيدا"، والقواسة ورماة السهام تحت قيادة "زباي"، وأن يضمم إلى أولئك وهؤلاء فلول جيش "فالريان"، وأن يخرج بكل هذه الجموع إلى "المدائن" للانتقام من "سابور"، ولإنقاذ "فالريان" من الأسر، وهناك على ضفاف الفرات تدور رحى الحرب بين أذينة والفرس، وتنتهي المعركة الضارية بهزيمة منكرة للفرس، يصل مداها إلى أن يترك "سابور" حريمه وأمواله غنيمة في أيد التدمريين، وأن يفر بالبقية الباقية من فلول جيشه إلى ما وراء الفرات ثم لا تستطيع هذه البقية أن تعبر النهر إلا بشق الأنفس وإلا بعد خسائر فادحة في الأرواح، بل وتذهب بعض الروايات إلى أن "أذينة" قد طارد المهزومين حتى أسوار عاصمتهم "اصطخر"2 -التي خلفت مدينة "برسيبوبوليس" القديمة- وإن لم ينجح في فك أسر الإمبراطور السجين، ولكنه استولى على الكوخ ونصيبين، بل وامتد نفوذه إلى الشام، وبعض أقاليم آسيا الصغرى الرومية3.
ويكتب "أذينة" إلى الإمبراطور الروماني الجديد "جالينيو""260-268م" بن فالربان، بكل هذه الأحداث، فيطرب الأخير لسماع هذه الأخبار، ويطلب من أذينة الاستمرار في الحرب، حتى ينقذ "فالريان"، ثم ينعم عليه في عام 262م بلقب "زعيم الشرق""Dux Orientis"، مما جعله أشبه بنائب الإمبراطور
1 جواد علي 3/ 93، آرثر كويستنس: المرجع السابق ص210
وكذا W. Wright، Op. Cit.، P.115. وكذا E. Gibbon، Op. Cit.، P.236
2 بدأ الفرس في إنشاء مدينة "اصطخر" على أيام الملك "دارا الأول""522-486ق. م" ولكن ذلك لم يتم إلا على أيام "ارتختشتا" الأول، حوالي عام 460ق. م "انظر: أحمد فخري: المرجع السابق ص229، آرثر كريستنس: المرجع السابق ص80"
3 فيليب حتى: السابق ص437، آرثر كريستنس: المرجع السابق ص80، 210.
وكذا Malalas، Xxiii، 5،2 وكذا W. Wright، Op. Cit.، P.118-120
وكذا A. Musil، Palmyrena، P.247
الروماني في الشرق1، وكان "فالريان" قد أنعم عليه في عام 258م، بمرتبة "القنصلية"2.
وبدأ "أذينة""أودينات Odenathus" يسترجع أرض الإمبراطورية الرومية من الفرس، فنجح في استرداد نصيبين -كما أشرنا آنفا- وحران، واستقبل هناك استقبال الأبطال، ثم سرعان ما اتجه في عام 264م، نحو "طيسفون" وضرب الحصار حولها، وكاد الإمبراطور الفارسي أن يستسلم، لولا أن المؤامرات الرومية قد لعبت دورا خطيرا في إفساد نجاح أذينة، ذلك أن القائد الروماني "مكريانوس" -الذي كان سببا في هزيمة الروم ووقوع فالريان في الأسر- قد أعلن الثورة على "جالينو"، ونصب نفسه امبراطورا على القسم الشرقي من الإمبراطورية الرومانية "آسيا الصغرى والشام ومصر"، ومن ثم فقد اضطر أذينة إلى أن يرفع الحصار عن الفرس، وأن يعود لإخماد هذه القتنة الجديدة، إلا أنه ما أن بدأ يعد العدة لمواجهة "مكريانوس" حتى علم بقتله، ثم اتجه إلى حمص للقضاء على ولده "كياثوس"، وبعد أن شدد الحصار على المدينة، قتل "كاليستوس" سيده "كياثوس"، ورمى برأسه من فوق السور تحت قدمي أذينة، وفتح الأبواب والتمس الأمان منه، وبذا انتهت ثورة القائد "مكريانوس"، غير أن "كاليستوس" سرعان ما عاد إلى الثورة من جد، ومن ثم فقد أمر أذينة بعضا من رجاله باغتيال "كاليستوس" وعاد الهدء إلى هذه المنقطة الهامة من الإمبراطورية الرومانية بفضل جهود "أذينة"3.
وفرح جالينيو" بالقضاء على الثورة، ومن ثم فقد أمر عام 264م بمنح أذينة لقب "Imperator Touyius Orientis" أي "إمبراطور جميع بلاد الشرق"، وعهد إليه بالإشراف على جميع القوات الرومية في الشرق، والقضاء على فلول
1 المشرق، الجزء 13، عام 1898م ص639، وكذا W. Wright، Op. Cit P.120
وكذا E. Gibbon، Op. Cit.، P.236 وكذا Eb 23، P.494
وكذا P.K. Hitti، Op. Cit.، P.75
2 Eb، 17، P.162. وكذا G.A. Cooke، Op. Cit.، P.286
وكذا Franz Altheim And Ruth Stiehl، Op. Cit.، Ii، P.253
3 جواد علي 3/ 96، المشرق، السنة الأولى، الجزء 15، عام 18989م ص687، ثم نظر: ياقوت 4/ 55، وكذا F. Altheim And R. Stiehl، Op. Cit.، P.250
جيش "مكريانوس" غير أن أذينة لم يكتف بكل هذا، فلقب نفسه بلقب "ملك الملوك" تقليدا لملك الفرس، كما أمر بأن تنقش صورته بجوار صورة الإمبراطور الروماني على النقود التي أخذت غنيمة من الفرس، أضف إلى ذلك أن مجلس الشيوخ الروماني قد منحه لقب "أغسطس"، وهكذا صار أذينة مساويا لإمبراطور روما نفسها1.
وفي عام 265م، اتجه أذينة، أو ملك الملوك، إلى محاربة الفرس من جديد، ربما لأنه لم ينس إهانة "سابور" له، يوم مزق رسالته أما رسله، وربما رغبة منه في التودد إلى الرومان، ونيل الحظوة عند "جالينو"، وأيأ ما كان السبب فإننا نرى أذينة يترك ولده البكر من زوجته الأولى، ويدعى "سيبتميوس هيرودوس" نائبا عنه في تدمر، ثم يخرج على رأسه جيشه إلى "طيسفون"، فيضرب الحصار عليها، ويضطر "سابور" إلى أن يظهر استعداده لعقد محالفة مع أذينة، إلا أن الأخير طلب فك أسر "فاليران، وهو شرط في نظر الفرس جد عظيم، ومن ثم فقد أوقفت المفاوضات بين الطرفين2.
وهنا يتغير الموقف -للمرة الثانية- في مصلحة الفرس، إذ يعبر "القوط" البحر الأسود، منتهزين فرصة غياب أذينة عن آسيا الصغرى والشام، وينزلوا بميناء "هرقلية" ويتجهوا نحو "قبادوقيا"، ومن ثم فإن أذينة سرعان ما يضطر إلى رفع الحصار عن مدينة الفرس، والعودة لقتال الغزاة الجدد، إلا أن القوط سرعان ما علموا بعودة أذينة، فعادوا إلى مياء هرقلية، ثم أبحروا منها عائدين إلى بلادهم3.
وهنا، وفي هذه اللحظات التي وصل فيها أذينة إلى ذروة مجده، وبينما كان يجهز لجولة أخيرة مع الفرس، يفتح فيها "طيسفون"، يذهب البطل العربي- وكذا ولده هيرودوس- ضحية الغدر والخيانة في أحوال غامضة في عام 266م "أو 267م"، يلعب فيها ابن ماجه "معنى بن خيران" الدول الأول، وإن كان الروم
1 Eb، 17، P.162. وكذا E. Gibbon، Op. Cit.، P.241
وكذا Cah، 12، P.1745 وكذا F. Altheim And R. Stiehl، Op. Cit.، P.253
وكذا P.K. Hitti، Op. Cit.، P.75. وكذا Syria، Xviii، 1937، P.2
2 جواد علي 3/ 98.
3 جواد علي 3/ 98-99، المشرق، السنة الأولى، الجزء15، عام 1898م ص691.