المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الفصل الحادى عشر: عصر الدولة الحميرية ‌ ‌مدخل … الفصل الحادي عشر: عصر الدولة - دراسات في تاريخ العرب القديم

[محمد بيومى مهران]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأول: مصادر التاريخ العربي القديم

- ‌أولًا: المصادر الأثرية

- ‌ثانيًا: المصادر غير العربية

- ‌أولًا: الكتابات اليهودية

- ‌ التوراة:

- ‌ كتابات المؤرخ اليهودي يوسف بن متى:

- ‌ثانيًا: كتابات الرحالة اليونان والرومان

- ‌ثالثًا: الكتابات المسيحية

- ‌ثالثًا: المصادر العربية

- ‌ القرآن الكريم:

- ‌ الحديث:

- ‌ التفسير:

- ‌ كتب السير والمغازي:

- ‌ الأدب الجاهلي:

- ‌ كتب اللغة:

- ‌ كتب التاريخ والجغرافية:

- ‌الفصل الثاني: تاريخ البحث العلمى في العصر الحديث في تاريخ العرب القديم

- ‌مدخل

- ‌أولًا: في جنوب شبه الجزيرة العربية

- ‌ثانيًا: في شمال شبه الجزيرة العربية

- ‌ثالثا: في شرق شبه الجزيرة العربية

- ‌مدخل

- ‌ البحرين:

- ‌ قطر:

- ‌ دولة الإمارات العربية:

- ‌ دولة الكويت:

- ‌الفصل الثالث: جغرافية شبه الجزيرة العربية

- ‌ موقع بلاد العرب:

- ‌التقسيم اليوناني والروماني لبلاد العرب

- ‌العربية الصحراوية

- ‌ العربية الصخرية:

- ‌ العربية السعيدة:

- ‌التقسيم العربى

- ‌مدخل

- ‌ اليمن:

- ‌ تهامة:

- ‌ الحجاز:

- ‌ نجد:

- ‌ العروض:

- ‌مظاهر السطح

- ‌مدخل

- ‌ الحرار:

- ‌ الدهناء:

- ‌ النفوذ

- ‌التضاريس:

- ‌ الجبال:

- ‌ الأنهار والأودية:

- ‌المناخ:

- ‌الموارد الطبيعية:

- ‌ المعادن:

- ‌ النبات:

- ‌ الحيوان:

- ‌طرق القوافل:

- ‌الفصل الرابع: لفظة العرب مدلولها وتطورها التاريخي

- ‌الفصل الخامس: العرب البائدة

- ‌مدخل

- ‌طبقات العرب:

- ‌العرب البائدة

- ‌مدخل

- ‌ عاد:

- ‌ ثمود:

- ‌ طسم وجديس:

- ‌ أميم:

- ‌ عبيل:

- ‌ جرهم:

- ‌ العمالقة:

- ‌ حضوراء:

- ‌ المديانيون:

- ‌الفصل السادس: بلاد العرب فيما قبل العصر التاريخي

- ‌الفصل السابع: دولة معين

- ‌ معين والمعينيون:

- ‌ عصر دولة معين:

- ‌ ملوك معين:

- ‌ أهم المدن المعينية:

- ‌موقع حضر موت:

- ‌الفصل التاسع: دولة قتبان

- ‌الفصل العاشر: دولة‌‌ سبأ

- ‌ سبأ

- ‌السبئيون والآراء التي دارت حول موطنهم الأصلي:

- ‌أدوار التاريخ السبئي الأربعة الرئيسية

- ‌مدخل

- ‌أولًا: عصر المكاربة

- ‌ثانيًا: عصر ملوك سبأ

- ‌ثالثًا: ملوك سبأ وذو ريدان

- ‌دويلات أوسان وسمعاي وأربع وجبان ومهأمر:

- ‌الفصل الحادى عشر: عصر الدولة الحميرية

- ‌مدخل

- ‌الاحتلال الحبشي لليمن:

- ‌اليمن في العهد الحبشي:

- ‌حركة التحرير والسيطرة الفارسية:

- ‌الفصل الثاني عشر: مكة المكرمة

- ‌ مكة: نشأتها وتطورها

- ‌ مكة في عصر قصي:

- ‌ مكانة مكة:

- ‌الفصل الثالث عشر: المدينة المنورة

- ‌مدخل

- ‌سكان المدينة

- ‌مدخل

- ‌ اليهود:

- ‌ العرب:

- ‌ غلبة الأوس والخزرج على يهود يثرب

- ‌من مدن الحجاز

- ‌الطائف

- ‌ تيماء:

- ‌ دومة الجندل:

- ‌ الحجر "مدائن صالح

- ‌الفصل الرابع عشر: الأنباط

- ‌مدخل

- ‌ملوك الأنباط:

- ‌البتراء:

- ‌الفصل الخامس عشر: اللحيانيون

- ‌الفصل السادس عشر: التدمريون

- ‌ مدينة تدمر وتطورها التاريخي:

- ‌ أذينة:

- ‌ الزباء:

- ‌الفصل السابع عشر: الغساسنة

- ‌مدخل

- ‌ملوك الغساسنة:

- ‌الفصل الثامن عشر: المناذرة

- ‌ مدينة الحيرة:

- ‌ ملوك الحيرة:

- ‌الفصل التاسع عشر: مملكة كندة

- ‌ كندة قبل عهد الملكية:

- ‌ ملوك كندة:

- ‌المراجع المختارة

- ‌المراجع العربية

- ‌ المراجع المترجمة إلى اللغة العربية

- ‌ المراجع الأجنبية

- ‌اختصارات

- ‌فهرس الموضوعات

- ‌للمؤلف

الفصل: ‌ ‌الفصل الحادى عشر: عصر الدولة الحميرية ‌ ‌مدخل … الفصل الحادي عشر: عصر الدولة

‌الفصل الحادى عشر: عصر الدولة الحميرية

‌مدخل

الفصل الحادي عشر: عصر الدولة الحميرية

يتميز هذا العصر من عصور التاريخ السبئي بأن الملوك قد حملوا فيه لقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات"، وهذا يعني أن حضرموت قد أصبحت من هذا العصر الرابع، جزءًا لا يتجزأ من مملكة سبأ، أما "يمنات""يمنت" فهي لفظة جديدة لم تصل إلينا من قبل، ومنها -فيما يرى البعض- ولدت كلمة "اليمن" التي توسع مدلولها في العصور الإسلامية حتى شملت أرضين واسعة لم تكن تعد من اليمن فيما قبل الإسلام1، ومن ثم فقد قيل إن حدود اليمن إنما تقع بين عمان ونجران، ثم تلتوي على بحر العرب إلى عدن إلى الشحر، حتى تجتاز عمان فتنقطع عند بينونة، وقيل حد اليمن من وراء تثليث وما سامتها إلى صنعاء، وما قاربها إلى حضرموت والشحر وعمان إلى عدن أبين، وما يلي ذلك من التهائم والنجود، واليمن يجمع ذلك كله2.

واليمن -في رأي آخر- اسم عام أطلق على السواحل الجنوبية3، وهي -في رأي ثالث- كلمة عامة تشمل الأرضين الواقعة جنوب غرب شبه الجزيرة العربية، من باب المندب وحتى حضرموت، وتتكون من عدة مخاليف، يحكمها أقيال وأذواء شبه مستقلين، إذ كانوا يخضعون لنفوذ "ظفار" أو "ميفعة"، ولعل أشهر مدنها "Oceiis" عند باب المندب "ميناء الجبانيين"، فضلا عن "عدن"

1 جواد علي 2/ 531، ياقوت 5/ 447-449، الهمداني: المرجع السابق ص48.

2 ياقوت 5/ 447.

3 انظر فيما بعد ص348-349، وكذا P.K. Hitti، Op. Cit.، P.60

ص: 299

و"قنا" في حضرموت1، وهي -في رأي رابع- القسم الجنوبي من حضرموت، وقد كانت "ميفعة" عاصمة لها في ذلك الوقت2.

ويذهب المسعودي إلى أن اليمن، إنما سمي يمنًا لأنه على يمين الكعبة، أو ليمنهن أو لأن الناس حين تفرقت لغاتهم ببابل تيامن بعضهم يمين الشمس وهو اليمن3، أو لأن الناس لما تكاثروا بمكة وتفرقوا عنها التأمت بنو يمن إلى اليمن، وهو أيمن الأرض، أو لأنها سميت يمنًا نسبة إلى يمن بن قحطان4.

وعلى أي حال، فإن عصر الدولة الحميرية هذا، إنما تميز كذلك بأن لقب الملوك سرعان ما تغير مرة أخرى، فأصبح الواحد منهم يلقب بلقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات، وأعرابها في المرتفعات وفي التهائم"، كما تميز كذلك بدخول اليهودية والمسيحية إلى بلاد اليمن، ومحاولة زحزحة الديانة الوثنية- والتي كانت تدور حول عبادة النجوم والكواكب والشمس- وقد بدأت المسيحية على المذهب المنوفيزي، القائل بالطبيعة الواحدة للسيد المسيح، تأخذ طريقها من الشام إلى اليمن، وكانت بيزنطة تهدف من وراء ذلك أغراضًا سياسية أكثر منها دينية، فقد شجع الحميريون اليهودية، رغبة منهم في مقاومة المسيحية، دين عدوهم السياسي والاقتصادي5.

ولعل من الأفضل هنا أن نتوقف قليلا -قبل الاستطراد في الحديث عن العصر الحميري- لنشير في اختصار إلى الحميريين أنفسهم:

كانت قبيلة حمير قبيلة قوية لها نفوذ كبير في العربية الجنوبية في أخريات أيام سبأ، وقبل ظهور المسيحية، ولهذا ظل اسمها يتردد دائمًا في كتابات المؤرخين الرومان وفي كتابات العرب، وأصبح اسمها صفة لكل ما يعثر عليه في جنوب شبه

1 جواد علي 2/ 531 وكذا

E. Glaser، Punt Und Die Sudarabischen Reiche، Mvg، 1899، P.99

2 Le Museon، 1964، 3-4، P.456

3 المسعودي: مروج الذهب 2/ 3.

4 ياقوت 5/ 447، البكري 4/ 1401، صبح الأعشي 5/ 6، اللسان 13/ 462، 464.

5 محمد مبروك نافع: المرجع السابق ص65.

ص: 300

الجزيرة العربية، وصار اسم النقوش التي بدأ العلماء في حلها هو "النقوش الحميرية"، بل إن كلمة الحضارة الحميرية أصبحت علمًا على كل شيء في بلاد العرب قبل الإسلام1.

هذا وقد أطلق الكتاب القدامى من الأغارقة والرومان على الحميريين اسم "Homeritai""Omyritai "2Hamiroei" "Omeritae"، هذا وقد اعتبر "بليني" الحميريين من أكثر الشعوب عددًا، وأن عاصمتهم هي مدينة "سيفار "3Sapphar""أي ظفار"، وقد جاءت في التوراة تحت اسم "سفار"4، وهي مدينة في الداخل، على مبعدة مائة ميل إلى الشمال الشرقي من "المخا" وعلى الطريق إلى صنعاء، وقد احتلت في تلك الفترة مكانة "مأرب" عاصمة سبأ، و"قرناو" عاصمة معين، ولا تزال آثارها ماثلة للعيان على قمة تل مستدير بجوار بلدة "يرم" الحديثة5

وهذا وقد عرف الحميريون عند الأحباش باسم "6Hemet"، كما أشار "بليني" إلى مدينة دعاها "مسلة 7Mesaia"- والتي رأى فيها "جلازر" المشالحة الحالية إلى الشرق من "مخا" -بينما ذهب "سبرنجر" على أنها "مأسل الجمع"، وأن المقصود بـ "Homeritae" هنا، جماعة أخرى دعاهم "Nomeritae" وأن التحريف إنما جاء من النساخ8.

ويذهب صاحب كتاب "الطواف حول البحر الأرتيري" إلى أن الحميريين إنما كانوا يحكمون منطقة واسعة تمتد من ساحل البحر الأحمر وساحل المحيط حتى حضرموت، فضلا عن ساحل "عزانيا" الأفريقي، وأن ملكهم، كان يسمى

1 أحمد فخري: المرجع السابق ص126.

2 جواد علي 2/ 510، وكذا Pliny، Vi، 28

3 Ei، 2، P.310، 3، P.292. وكذا Pliny، Vi، P.104

وكذا Zdmg، 31، 1877، P.69. وكذا Le Museon، 1964، 3-4، P.429، 438

4 تكوين 10: 30.

5 P.K. Hitti، Op. Cit.، P.56

6 جواد علي 2/ 510-511. وكذا Le Museon، Lxxvii، 3-4، 1964، P.429

7 Le Museon، 1964، 3-4، P.446. وكذا Pliny، Vi، 32، 158

8 Pliny، Vi، Xxxii، 158. وكذا E. Glaser، Op. Cit.، Ii، P.137

ص: 301

"كرب إيل" وأن ظفار كانت عاصمة لهم 1، وأن اسمهم قد جاء في ألقاب "عيزانا" ملك أكسوم، حيث نقرأ في لقبه "ملك أكسوم وحمير وريدان وحبشة والسبئيين وصلح وتهامة2"، ومن الغريب أن الكتاب المسيحيين والبيزنطيين إنما عدوهم من القبائل الحبشية3.

وقد شغل الحميريون في الكتب العربية صفحات، ربما كانت أكثر مما شغلته بقية دول العربية الجنوبية مجتمعة، وقد نسبوهم إلى "زيد" الذي لقبوه "حمير" ثم جعلوه ابنا لسبأ، فهو -فيما يزعمون- "حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان"4، وأنه أول من توج بالذهب، وقد ورث أباه في عرشه- ولمدة خمسين عامًا على رأي، وخمسة وثمانين على رأي أخر- وأنه في أثناء ذلك مد حكمه إلى حدود الصين، كما أخرج ثمودًا من اليمن إلى الحجاز، وأنه عاصر الخليل عليه السلام "أو على الأقل هو في درجته من النسب"، ومن ثم فهو الذي سير جرهما إلى الحرم وأرض الحجاز، حيث التقوا بهاجر وولدها إسماعيل الذي تزوج منهم، وهكذا ذهب بعض الإخباريين إلى أنه إنما كان قبل عاد وثمود بدهور طويلة، فضلا عن أنه هو الذي بنى سد مأرب، أو أكمله بعد أبيه سبأ، ثم مات بعد عمر طال إلى ثلاثة قرون كاملة، تاركًا وراءه بنين كثيرين، وإن رأى البعض أنهم ستة تفرعت منهم قبائل حمير، والتي لم يربط الود بينها، بقدر ما دقت طبول الحرب، ويضيف البعض إلى ذلك، أنه لما مات وثب أخوه "كهلان" على الملك فاغتصبه، ولكن أبناء حمير سرعان ما استردوه، ومن ثم فقد بقيت "كهلان" على الحدود، فيما يلي الصحراء5.

1 Ei، 2، P.310

2 فريتز هومل: التاريخ العربي القديم ص108.

3 Ei، 2، P.310

4 ابن كثير: البداية والنهاية 2/ 157، ابن حزم: المرجع السابق ص329، 432، تاريخ ابن خلدون 2/ 50، تاريخ اليعقوبي 1/ 195، مروج الذهب 1/ 48، المعارف ص271، ياقوت 2/ 306-307، أبو الفداء 1/ 66.

5 تاريخ ابن خلدون 2/ 47، الإكليل 1/ 98-2-1، تاريخ اليعقوبي 1/ 59، تفسير روح المعاني 22/ 126، ملوك حمير وأقيال اليمن ص12-18، محمد مبروك نافع: المرجع السابق ص66، وقارن: تفسير البيضاوي 2/ 259، تفسير القرطبي 14/ 486، تفسير الفخر الرازي 25/ 251، تفسير الطبري 22/ 78-80.

ص: 302

وأما لماذا سمي باسمه هذا؟ فالجواب عند بعض الأخباريين، لأنه كان يلبس حلة حمراء، وإن وقف البعض الآخر موقفًا محايدًا إزاء هذه التفسيرات، فرأى أن هذه الأسماء مثل حمير -وكذا اسمه الآخر العرنج أو العرنجج- لا نقف لها على اشتقاق، لأنها قد بعدت قدم العهد بمن كان يعرفها1.

وبدهي أن هذه الروايات لا شك أن الكثير منها، إنما هو أقرب إلى الأساطير منه إلى حقائق التاريخ، وأن حمير -إن كان هناك من يدعى حمير- لم يمد حدوده إلى الصين؛ ذلك لأن التاريخ لا يعرف أن العرب قد وصلوا إلى تلك البلاد غزاة فاتحين، طوال تلك العصور الغابرة، وإني لأظن -وليس كل الظن إثمًا- أن هؤلاء الكتاب الإخباريين إنما كانوا متأثرين بالفتوحات الإسلامية في تلك المناطق، فخيل إليهم أن للأمر سوابق خلت، فإذا كان ذلك كذلك، فتلك مأساة، إذ يصبح الإخباريون بعيدين عن تلك الروح التي تمت بها الفتوح الإسلامية، والتي لم ولن يعرف التاريخ لها مثيلا، وذلك حين خرج المسلمون من بلاد العرب ينشرون التوحيد والهداية والنور في جميع أنحاء الدنيا، لا يبغون من وراء ذلك بلادًا يستعمرونها، أو إمبراطورية يتربعون على عرشها، أو أسلابا يغنمونها، وإنما كانوا يبغون أولًا وأخيرًا، وجه الله، وهداية الناس -كل الناس- إلى الإسلام، دين الله الحنيف.

والأمر كذلك بالنسبة إلى إخراج ثمود من اليمن إلى الحجاز؛ ذلك لأن الثموديين2 -كما تدل آثارهم- إنما كانوا أصلا من شمال بلاد العرب، وليس من جنوبها، وقد انتشرت آثارهم في مناطق واسعة، امتدت من الجوف شمالا، إلى الطائف جنوبًا، ومن الأحساء شرقًا، إلى يثرب فأرض مدين غربًا، وفي المسالك المؤدية إلى العقبة والأردن وسورية، ولعل في هذا تفسيرًا لذكر القرآن الكريم لهم دون غيرهم من شعوب بلاد العرب، ممن هم كانوا أكثر منهم شهرة في مجال التجارة أو المدنية أو القوة، كالديدانيين والأنباط واللحيانيين3، فضلا

1 اللسان 4/ 215، الاشتقاق 2/ 523.

2 انظر عن "الثموديين" الفصل السابع من كتابنا "دراسات في التاريخ القرآني"، ومقال: الدكتور خالد الدسوقي "قوم ثمود بين روايات المؤرخين ومحتويات النقوش"، مجلة كلية اللغة العربية، العدد السادس -الرياض 1976، والفصل الخامس من كتابنا هذا.

3 أحمد حسين شرف الدين: اللغة العربية في عصور ما قبل الإسلام ص61.

ص: 303

عن العظة من قصة النبي الكريم سيدنا صالح عليه السلام، هذا إلى أن الثموديين إنما كانوا يقيمون في شمال بلاد العرب في القرن الثامن ق. م، كما تدلنا على ذلك النصوص الآشورية1، بينما نحن الآن نتحدث عن حمير في فترة تقرب من الميلاد بقليل أو كثير، وأما أنه كان في عصر إبراهيم عليه السلام، فتلك مبالغة، بخاصة إذا ما علمنا أن الخليل كان يعيش في الفترة "1940-1765ق. م"2، والأمر كذلك بالنسبة لمن جعلوه قبل عاد وثمود، وكذا بالنسبة إلى الفترة التي عاشها في هذه الدنيا.

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى لقب "تبع" -وجمعه التبابعة- والذي ظهر في تلك الفترة، من تاريخ اليمن القديم، وهو لقب مجهول الأصل كان يطلق على الملوك3، ومن ثم فقد أصبح المؤرخون والمفسرون في حيرة من تفسير المراد به، فهناك من يرى أن الملوك قد سموا به لأنهم إنما كانوا يتبعون بعضهم البعض الآخر في الملك وفي السيرة، وهناك من يرى أن "التبع" ملك يتبعه قومه ويسيرون تبعًا له، أو لكثرة أتباعه أو من التتابع4، ولست أظن أنهم كانوا في ذلك يختلفون عن غيرهم من الملوك، فالملكية بطبيعتها نظام وراثي، ثم إن الملك إنما يتبعه قومه، لأنه صاحب الأمر فيهم، كما أن أتباعه لا بد وأن يكونوا من الكثرة بحيث يكونون ممكلة.

وهناك من يفرق بين لقب "تبع" ولقب "ملك"، فذهب إلى أن اللقب الأول لا يلقب به إلا من يملك اليمن والشحر وحضرموت، وقيل حتى يتبعهم "بنو جشم بن عبد شمس"، فإن لم يكن كذلك فهو ملك، وليس تبعًا5، وأن أول من حمل لقب "تبع" إنما كان "الحارث بن ذى شم""الرائش"، وأن هذا اللقب قد استمر حتى زال سلطانهم حين استولت الحبشة على اليمن6، ولعلهم في هذا

1 انظر: Anet، P.287 وكذا A. Van Den Branden Histoire De Thamoud،

وكذا Les Textes Thamoudeens De Philby، 1956،

وكذا Les Inscriptions Thamoudeens، 1950.

2 انظر عن عصر إبراهيم كتابنا إسرائيل ص171-177.

3 تفسير القرطبي 16/ 114، الإكليل 8/ 69-70، وكذا

F. Hommel، Explorations In Arabia، P.727-41

4 تاج العروس 5/ 387، اللسان 8/ 31، حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص82، تاريخ ابن خلدون 2/ 50-51، تفسير البيضاوي 2/ 377.

5 ابن كثير 2/ 159، تاج العروس 5/ 287، الإكليل 2/ 55.

6 صبح الأعشي 5/ 480.

ص: 304

إنما يقصدون أن لقب "تبع" إنما هو أعظم من لقب "ملك"، ومن ثم فإنهم في هذا لم يجانبوا الصواب كثيرًا بالنسبة إلى تاريخ اليمن، فلقد رأينا من قبل -كما في أربع وسمعاي وغيرهما- كثيرًا من مشايخ القبائل والمشيخات الصغيرة، الذين انتحلوا لقب "ملك"، دون أن يكون لديهم شيئًا من مقومات الملكية المعروفة.

على أن أسوأ ما في الأمر، مبالغة الأخباريين فيمن أرسلهم الله، سبحانه وتعالى، من المصطفين الأخيار للتبابعة، فيذهب البعض منهم إلى أنهم كانوا اثني عشر ألف نبي، وإن تواضع البعض، فجعلهم ثلاثة عشر نبيًّا1، وأن واحدًا من التبابعة قد صنع "الماذيات" من الحديد، قيل إن الحديد إنما قد سخر له، شأنه في ذلك شأن داود عليه السلام2.

هذا وقد تحدث القرآن الكريم عن التبابعة، فقال سبحانه وتعالى:{أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} 3، وقال:{وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ} 4، إلا أن القرآن الكريم لم يحدد اسم هذا آل "تبع"، ومن ثم فقد اختلف المفسرون فيه، فرأى بعضهم أنه من حمير، وأنه حَيَّرَ الحيرةَ، وأتى سمرقند فهدمها، وذهب بعض آخر إلى أن "تبعًا" إنما كان رجلا صالحًا من العرب، وإنه لما دنا من اليمن ليدخلها حالت حمير بينه وبين ذلك؛ لأنه فارق دينهم، وانتهى الأمر بأن تحاكموا إلى النار، فانتصر الرجل على قومه الوثنيين، ومن ثم فقد تهودت حمير، وهدم تبع "بيت رئام"5، على أن الرواية نفسها، إنما رويت كذلك عن "تبان أسعد أب كرب"6 وعلى أي حال فإن هناك من يروي عن مولانا وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم

1 ابن كثير 2/ 159.

2 تفسير ابن كثير 4/ 142، تفسير الطبرسي 25/ 115، تفسير الخازن 4/ 115، اللسان 8/ 31.

3 سورة الدخان: آية 37، وانظر تفسير الطبري 25/ 128-129 طبعة الحلبي 1954، تفسير القرطبي 16/ 144-147 دار الكاتب العربي - القاهرة 1967 تفسير البيضاوي 2/ 376-377 طبعة الحلبي 1968.

4 سورة ق: آية 14.

5 تفسير الطبري "25/ 128-129، تفسير البيضاوي 2/ 376-377، تفسير القرطبي 16/ 146، تفسير الجلالين "نسخة على هامش البيضاوي" 2/ 376، 414، قارن ملوك حمير وأقيال اليمن ص113.

6 ابن كثير: البداية والنهاية 2/ 164-166.

ص: 305

وسلم- أنه قال: "لا تسبوا تبعًا فإنه كان قد أسلم"1. ومن يروي أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- قال: "ما أدري أكان تبعٌ نبيًّا أم غير نبي"2.

ولعل من الغريب أن نصوص المسند لم يرد فيها ذكر لكلمة "تبع"، بمعنى "ملك"، أو حتى بمعنى آخر يفيد معنى الرياسة، وإنما كان القوم يستعملون بدلا عنها كلمة "ملك"، ومن ثم فقد ذهب بعض العلماء إلى أن كلمة "تبع"، ربما كان المقصود بها "بتع" -وهو اسم لقبيلة همدانية3- ثم حرفت الكلمة إلى "تبع"4، على أننا لا نستطيع أن نطمئن إلى هذا الاتجاه، فقد تكشف الحفريات عن نصوص ترد فيها هذه اللفظة بالمعنى المتعارف عليه، أو بمعنى آخر.

وأما موطن الحميريين، فقد كان إلى الشرق من القسم الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية، حيث يكون جزءًا من أرض قتبان، فيقع إلى الجنوب من أرض "رشاوي" و"حبان" وإلى الغرب من حضرموت، وإلى الشرق من "ذياب" وتكون أرض "يافع" الموطن القديم للحميريين قبل هجرتهم حوالي عام 100 قبل الميلاد، إلى مواطنهم الجديدة، حيث حلوا في أرضين" "دهس" ،"رعين" مكونين حكومة "ذي ريدان"، ومتخذين من "ظفار" عاصمة لهم، وأما المصادر العربية فيفهم منها أن الحميريين إنما كانوا يقطنون منطقة "لحج" في ظفار، وفي "سرو حمير" و"نجد حمير5".

ورغم أن هناك من يرى أن الحميريين فرع من السبئيين6، أو على الأقل يمتون إليهم بصلة قوية، وأن لغتهم ليست إلا لهجة من لغتي سبأ ومعين7، فإن

1 ابن كثير 2/ 166، تفسير الطبري 25/ 128-129، 26/ 97، تفسير القرطبي 16/ 144-146، قارن: ملوك حمير وأقيال اليمن ص122.

2 تفسير البيضاوي 2/ 377، تفسير القرطبي 16/ 144-147، تفسير النيسابوري "حاشية على تفسير الطبري" 25/ 86، قارن: تفسير الطبري 25/ 129-129.

3 انظر عن قبيلة بتع: جواد علي 2/ 407-409.

4 Ency. Of Islam، 2، P.311

5 جواد علي 2/ 518-520، وكذا Ei، 2، P.310

وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner، Op. Cit.، P.48، 66، 73

6 جرجي زيدان: المرجع السابق ص126.

7 P.K. Hitti، Op. Cit.، P.56

ص: 306

العلاقات بين سبأ وحمير كان يسودها طابع العداء في أغلب الأحايين، وكثيرا ما أشارت الكتابات السبئية إلى ذلك1.

وعلى أي حال، فهناك ما يشير على أن الحميريين قد استولوا على مأرب -العاصمة السبئية العتيقة-، وربما استغلوا فرصة الضعف التي سادت البلاد في أعقاب حملة "إليوس جالليوس" الفاشلة، على رأي، وفي حوالي عام 110م، على رأي آخر، ومن ثم فقد غير أحد ملوكهم-مجاراة، وربما منافسة لملوك سبأ الشرعيين- لقبه من "ذي ريدان" إلى "ملك سبأ وذي ريدان"، وأعادوا إليه لقبه ونفوذه، وإن ظل الحميريون محتفظين بلقبهم الجديد، ومن ثم فقد رأينا ملكين -الواحد سبئي والآخر حميري- وكل منهما يزعم أنه "ملك سبأ وذي ريدان"2، هذا ويذهب "فون فيسمان" -اعتمادًا على نقش جام 653- إلى أن الحميريين قد أعادوا الكرة واستولوا على مأرب مرة أخرى، حوالي عام 200م، أو عام 210م3.

وأما أول من حمل لقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات" فهو "شمر يهرعش" حوالي عام 290، ويبدو أن الرجل قد اتصل بالحكم منذ أيام أبيه "ياسر يهنعم"، كما تشير إلى ذلك نصوص كثيرة، ومنها نص يرجع إلى عام 276م، كما تدلنا كذلك النصوص التي ترجع إلى أيام أبيه، على أنه قد شارك في الحرب التي نشبت في تلك الفترة.

ويحتل "شمر يهرعش" في قصص الأخباريين مكانة قد تفوق مكانة أبيه، فهو عندهم "تبع" الذي جاء ذكره في كتاب الله الكريم، لأنه "لم يقم للعرب قائم قط أحفظ لهم منه، فكان جميع العرب -بنو قحطان وبنو عدنان- شاكرين لأيامه، وكان أعقل من رأوه من الملوك، وأعلاهم همة وأبعدهم غورًا، وأشدهم مكرًّا لمن حارب، فضربت به العرب الأمثال"4.

1 Le Museon، 1964، 3-4، P.451

2 جواد علي 2/ 520، وكذا Le Museon، 1964، 3-4، P.451

3 Le Museon، 1964، 3-4، P.498

4 وهب بن منبه: كتاب التيجان في ملوك حمير ص222.

ص: 307

ويزعم الأخباريون أن صاحبنا "شمر يهرعش"، علم أن الصفد والكرد وأهل نهاوند ودينور، قد هدموا قبر أبيه "ناشر النعم" فأقسم "ليرفعن ذلك القبر بجماجم الرجال حتى يعود جبلا منيفًا شامخًا كما كان"، وهكذا زحف بجيوشه إلى أرمينية وهزم الترك وهدم المدائن بدينور وسنجار، ودخل مدينة الصفد وراء جيحون وهدمها فسميت "شمركند" -أو "شمر كنداي" عند الفرس، من "شمر" أي خرب، في زعمهم- ثم عربت إلى سمرقند، أو لأن شمر هدمها، ثم أمر ببنائها فسميت به1.

ويبلغ الخيال بالإخباريين، حين يزعمون أن "شمهر يهرعش"- أو شمر يرعش كما يدعونه2، قد وصل بفتوحاته إلى الصين، وأنه ترك هناك بعضًا من جنوده، ثم ينتقلون به فجأة من الصين إلى مصر فالحبشة، ثم يعودون به مرة ثانية إلى المشرق، حيث يقيم فترة في مدينة "شداد بن عاد"، التي لا ندري عنها شيئًا، وأخيرًا يعودون به إلى اليمن، فيقيم في قصر غمدان، وبعد ذلك كله، لا يرضى له الإخباريون إلا بملك الأرض كلها، وإلا بعمر لا يقل عن ألف وستين عامًا3.

هذا إلى أن الرجل -فيما يزعمون- كان أول من أمر بصناعة "الدروع السوابغ المفاضة التي منها سواعدها وأكنها وهي الأبدان"، فضلا عن آلاف الدروع التي فرضها على الفرس والروم واليمن، وكذا على بابل وعمان والبحرين، ولم ينس الإخباريون أن يتحدثوا عن حكمته وشعره، بل إن البعض منهم قد ذهب به الخيال إلى الحد الذي رأى في أهل التبت، وكأنهم بقية من جنود شمر يهرعش، فزيهم زي العرب، وأخلاقهم أخلاق العرب، وهم معترفون بأنهم من العرب ثم من اليمن4.

1 وهب بن منبه المرجع السابق ص223، أخبار عبيد بن شريه ص429، البكري 3/ 754-755، ياقوت 3/ 247، قارن: ملوك وأقيال اليمن ص93-94.

2 يروى الأخباريون أنه سمي "يرعش" بسبب ارتعاش مسه من شرب الخمر، أو لأنه أصابه الفالج في آخر عمره فكان يرتعش منه، أو لأنه كان "يرعش" "بضم الياء وكسر العين" كل من رآه هيبة "انظر: وهب بن منبه: المرجع السابق ص220، ملوك حمير وأقيال اليمن ص93".

3 ياقوت 3/ 247، تاريخ ابن خلدون 2/ 52، وهب بن منبه: المرجع السابق ص222-236، ملوك حمير وأقيال اليمن ص94-95.

4 نشوان الحميري المرجع السابق ص93، وهب بن منبه، المرجع السابق ص، الإكليل ص211.

ص: 308

وبدهي أن كل هذا من اختراع، "ابن منبه" ومن نحا نحوه من الأخباريين، فليس في آثار اليمن نفسها -والتي ترجع إلى عهد شمر يهرعش- ما يدل على ذلك، كما أن الأمم الأخرى التي تحدث عنها الإخباريون، وكأنها قد خضعت له، لم يعرف تاريخها حتى اسم "شمر يهرعش" هذا، بل إن النصوص لتشير إلى أن "امرأ القيس بن عمرو" ملك الحيرة، قد هدد "شمر يهرعش في دولته ذاتها، حتى أن قواته قد وصلت إلى نجران، كما سوف نشير فيما بعد، ومع ذلك فربما كانت هذه الروايات عن فتوحاته في المشرق والمغرب، إنما هي تعبير عن أصداء فتوحاته في اليمن في سبيل توحيدها تحت سلطانه1.

وعلى أي حال، فالرجل عظيم ما في ذلك من شك، وأنه أدى دورًا من أهم الأدوار في تاريخ اليمن القديم، ما في ذلك من شك كذلك، وأن الأحداث التي ترجع إلى أيامه، إنما تدل بوضوح على أنه كان كذلك، ولعل من الأفضل لنا أن نقسمها إلى قسمين، الواحد: يتصل بالفترة التي كان يلقب فيها بلقب "ملك سبأ وذي ريدان"، والآخر: يرجع إلى تلك الفترة التي حمل فيها لقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات".

وهناك من الفترة الأولى نقش عرف بـ "جلازر 542"ويتصل بالتشريعات الخاصة بأهل مأرب ومجاوراتها، فيما يتصل ببيع المواشي والرقيق، فلقد حددت تلك التشريعات فترة شهر يصبح بعدها البيع نهائيًّا، كما حددت كذلك فترة تتراوح ما بين عشرة أيام وعشرين يومًا يجوز فيها رد المبيع للبائع، فإن هلك الحيوان بعد أيام سبعة من شرائه، وجب على المشتري دفع ثمنه كاملا2.

ويشير نص "شرف الدين 42" أن واحدًا من قواد "شمر يهرعش""لعله ريمان ذو حزفر"، قد غزا مناطق على ساحل الخليج العربي كانت تخضع وقت ذاك لفارس، وأعني بذلك قبائل تنخ أو تنوخ في الإحساء الحالية، وقطو، أي القطيف

1 سعد زغلول عبد الحميد: المرجع السابق ص196.

2 جواد علي 2/ 540-541، وكذا J.B. Philby، Op. Cit.، P.110

ص: 309

في الوقت الحاضر1، إلا أن مكتشف النص- الزميل الأستاذ أحمد حسين شرف الدين- يذهب إلى أن الملك "شمر يهرعش" نفسه، هو الذي قاد جيشه إلى الشمال، فعبر بلاد الأزد، واجتمع مع ملكها "مالك بن الكلاع"، ثم سار إلى الشمال حتى بلغ "قط وصف" و"كوك" حاضرتي مملكة فارس وأرض تنوخ2، وفي هذا الوقت كان "أذينه" ملك تدمر، يقوم بحملاته ضد "سابور الأول" 241-272م" ملك فارس، وحاصر المدائن "طيسفون" التي أشير إليها في النص الآنف الذكر باسم "قط وصف"، ومن ثم فربما استعان "أذينة" -الموالي للروم- بالملك "شمر يهرعش" في محاربة الفرس الذين تغلبوا على الروم في معركة "اديسا" عام 260م3.

وعلى أي حال، فإننا نستطيع أن نستنتج من النص عدة نتائج، منها "أولًا" أن شمر يهرعش يجب أن يكون -طبقًا لرواية الأستاذ شرف الدين- قد بدأ حكمه قبل عام 260م4، ومنها "ثانيًا" أنه لابد وأن يكون على علاقات طيبة بأعراب "نجد" -وبخاصة سادة كندة- ذلك لأن أعراب نجد هؤلاء كانوا يقيمون وقت ذاك في الخرج والأفلاج، كما أن الأخيرة كانت تعد من مواطن كندة منذ أيام "شعر أوتر" في حوالي عام 180م، وحتى أيام "الشرح يحصب" الثاني في حوالي عام 210م -طبقًا لتقدير فون فيسمان- كما أن "بليني" قد تحدث عن "آل ثور في عين الجبل"، و"آل ثور" هم "كندة فيما يرى الأخباريون5، ومنها "ثالثًا" لعل هذه الأحداث ربما كانت هي السبب في أن الروايات العربية ذهبت إلى أن الرجل قد غزا فارس، وإن كانت هذه الروايات قد بالغت بدرجة غير مقبولة، حتى غدت أقرب إلى القصص منها إلى حقائق التاريخ، بخاصة وأن هناك من يعتبر الحملة إنما كانت مهمة سياسية أكثر منها حربية6.

1 Le Museon، 1964، 3-4، P.487. وكذا Le Museon، 1967، 3-4، P.505، 508

2 A.H. Sharafaddin، Selscted Arabic Inscriptions، P.31

3 أحمد حسين شرف الدين: اللغة العربية في عصور ما قبل الإسلام ص43.

4 نفس المرجع السابق ص44-45.

5 Le Museon، 1964، 3-4، P.487-88. وكذا Pliny، Vi، 158

6 مظهر علي الإرياني: المرجع السابق ص91.

ص: 310

وأيًّا ما كان الأمر، فإننا نقرأ في نقش "Cih 407" عن حرب شنها "شمر يهرعش" على قبائل تهامة في غربي اليمن، والتي شملت عسير وصبية -بين بيش ووادي سهام -وأن جيوش الملك الحميري قد انتصرت على هذه القبائل برًّا، ثم سرعان ما طاردتهم في البحر، حيث أوقعت بهم خسائر فادحة، وربما كان ذلك يشير إلى أن أولئك المهزومين إنما كانوا من الأحباش الذين كانوا يحكمون ساحل تهامة، وأن المعركة إنما دارت في البحر الأحمر1، وأن "شمر يهرعش" قد استعان بقبيلة "سردود" في قتالهم، وأن هذه المعارك ربما كانت السبب في تدخل الأكسوميين مرة أخرى في شئون العربية الجنوبية، كما يفهم من دراسة النقود، وإن كانت النقوش لا تقدم لنا عونًا في تفهم الأحداث وقت ذاك2، وأخيرًا فهناك نصوص أخرى، ومنها "جام 649-951-953"، تشير إلى حروب انتصر فيها "شمر يهرعش" على المناوئين لحكمه3.

وفي النصف الثاني من عهد "شمر يهرعش" نرى أن الملك الحميري يطلق على نفسه لقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات"، ويدل هذا اللقب الجديد على أن "شمر يهرعش" قد استولى على حضرموت، أو على الأقل على الجزء الأكبر منها4، أما يمنات -فكما أشرنا من قبل- ربما كانت اسمًا عامًا أطلق على السواحل الجنوبية5، وربما كانت الأرضون التي تكون القسم الجنوبي من مملكة حضرموت، ويعتمد "فون فيسمان" -في رأيه هذا- على وجود عاصمتين لحضرموت وقت ذاك، الواحدة "شبوة"، والأخرى "ميفعة"، مما يدل على انقسام الدولة إلى قسمين، شمالي ويدعى حضرموت، وجنوبي ويدعى "يمنات""اليمن"6.

هذا وقد حكم "شمر يهرعش" في الفترة" 270-310م"7، وإن كان

1 H. Von Wissmann And M. Hofner، Op. Cit.، P.119

وكذا Ra، Xxxv، 1899، P.25 وكذا A. Jamme، Op. Cit.، P.369

وكذا Le Museon، 1964، 3-4، P.485. وكذا Rep، Epig، 189، I، Iii، P.150

2 عبد المجيد عابدين: المرجع السابق ص32-33.

3 A. Jamme، Op. Cit.، P.151-160، 369

وكذا: جواد علي 2/ 542-547.

4 عبد المجيد عابدين: المرجع السابق ص32، وكذا Le Museon، 1964، 3-4، P.485

5 P.K. Hitti، Op. Cit.، P.60

6 Le Museon، 1964، 3-4، P.485

7 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص395.

ص: 311

"فون فيسمان" يذهب إلى أن النصف الثاني من عهده، إنما كان في الفترة "285-291"، أو في الفترة "310-316م"، وأنه كان يعاصر "امرأ القيس بن عمرو" ملك الحيرة "288-328م" وصاحب نقش النمارة1، والذي أخضع عدة قبائل منها "مذحج ومعد وأسد ونزار"، حتى وصل إلى نجران2.

ولعل من الأفضل هنا أن نعود إلى النص نفسه، حيث نقرأ "تي نفس مر القيس بر عمرو ملك العرب كله ذو أسر التج، وملك الأسدين ونزار وملوكهم، وهرب محجو عكدي وجا بزجي في حبج نجرن مدينت شمر، وملك معدو، وبين بنيه الشعوب، ووكلهن فرسو لروم، فلم يبلغ ملك مبلغه، عكدي هلك سنت 223 يوم 7 بكسلول، بلسعد ذو ولده".

وترجمته إلى لغة مفهومة قد تكون على النحو التالي: "هذا جسمان امرئ القيس بن عمرو ملك العرب جميعًا، الذي عقد التاج وملك قبيلتي أسد ونزار وملوكهم، وصد بني محج؟ حتى اليوم، وجاء بنجاح إلى حصار نجران عاصمة شمر، وملك قبيلة معد، وقسم على أبنائه الشعوب، وجعلها فرسانًا للروم، فلم يبلغ ملك مبلغه حتى اليوم، ومات سنة223، يوم 7 من شهر كسلول، السعادة لأولاده"3.

ومن أسف أن النص لا يشير إلى بقية "اسم "شمر" صاحب مدينة نجران، لنعرف من كان "شمر" هذا، وإن كان قد أشار إلى أن قتالا دار حول نجران بين قوات امرئ القيس وقوات شمر، وأن النصر كان من نصيب الأولين، فإذا كان صحيحًا ما ذهب إليه "فون فيسمان" من أن "شمر يهرعش" كان يعاصر امرئ القيس ملك الحيرة، فإن هذا يعني -فيما يرى الدكتور جواد علي- أن بلاد العرب

1 نقش النمارة: اكتشف هذا النقش "رينيه ديسو وفردريك ماكلر" عام 1901م، على مبعدة كيلو متر واحد من النمارة، القائمة على أنقاض مخفر روماني شرقي جبل الدروز، وهو في خمسة أسطر محفورة على حجر من البازلت على قبر امرئ القيس المتوفى في 7 ديسمبر 328م، وموجودة الآن بمتحف اللوفر في باريس، وواضح أن كاتبه نبطي، فالخط المستعمل هو الخط النبطي، واللغة العربية المستعملة تعرضت هي أيضًا لتحريفات نبطية.

2 جواد علي 2/ 548، وكذا Le Museon، 1964، 3-4، P.456، 486

وكذا F. Altheim، Geschichte Der Hunnen، I، 1959، P.127

وكذا Rep، Epig، 483

3 حسن ظاظا: المرجع السابق ص165-166.

ص: 312

كانت في أوائل القرن الرابع الميلادي ميدانًا للتسابق بين هذين الرجلين القويين، وأن العرب قد انقسموا إلى حزبين: عرب شماليين، وعرب جنوبيين، وأن امرأ القيس، كان قد توغل في بلاد العرب حتى بلغ نجران، وأعالي العربية الجنوبية، وأخضع القبائل العربية المذكورة في النص، التي يرى النسابون أنها قبائل عدنانية في غالبيتها، وأن وصول امرئ القيس إلى حدود العربية الجنوبية من ناحية الشمال، قد جعله وجهًا لوجه أمام "شمر يهرعش"، ومن ثم فقد بدأ النزاع بين الرجلين1.

وعلى أي حال، فليس بعيدًا أن يحدث صدام بين امرئ القيس وشمر يهرعش، أو بأي ملك آخر يملك نجران، ما دام الأول قد حكم قبائل معد التي تسكن الحجاز ونجد، وتتصل منازلها بتخوم نجران، وقد خضعت معد لنفوذ الحيرة، لأن نص شمعون من "بيت رشام" يذكر الأعراب الشماليين والمعديين في معسكر المنذر الثالث ملك الحيرة، والأمر كذلك بالنسبة إلى نص "مريغان"2.

هذا وقد استدل بعض الباحثين من نص "ريكمانز 535" أن "مر القيس بن عمرو ملك خصصتين" إنما هو "امرؤ القيس البدء" ملك الحيرة، كما أن هناك من يرى أن "شمر ذي ريدان" المذكور في النص، إنما هو "شمر يهرعش"، اعتمادًا على ورود الاسمين "شمر ذي ريدان، وشمر يهرعش" في وثيقتين مدونتين في معبد الإله المقة بأوام في مأرب، ومؤرختين بسنتي "تبع كرب بن ودد إل بن حزفر"، الثالثة والسادسة، ومن ثم فإن "مالك" ملك كندة كان معاصرًا لكل من امرئ القيس وشمر يهرعش3، وبالتالي فإن هذه النتائج تتعارض وما ذهب إليه الأستاذ "شرف الدين" من أن "شمر يهرعش" قد حكم قبل عام 260م، وأنه ساعد "أذينة" ملك تدمر في حروبه ضد الفرس4- كما أشرنا من قبل-

وأيًّا ما كان الأمر، فإننا لا نملك دليلا على أن حربًا دارت رحاها بين امرئ القيس ملك الحيرة، وشمر يهرعش، غير أن نص "جام 658"، فيما يرى البعض،

1 جواد علي 2/ 549، وكذا Oriens Antiques، Iii، 1964، P.81،

2 جواد علي 2/ 549، وكذا F. Altheim And R. Stiehl، Op. Cit.، Ii، P.321

3 J. Pirenne، Op. Cit.، P.30، 166، 168 وكذا Le Museon، 69، 1956، P.139

وكذا A. Altheim And R. Stiehl، Op. Cit، I، P.322، Iv، P.272

وكذا جواد علي 2/ 549-550، مظهر علي الإرياني: المرجع السابق ص95-96.

4 أحمد حسين شرف الدين: المرجع السابق ص44-45.

ص: 313

إنما يشير إلى حرب بين الرجلين دارت رحاها في "وادي عتود"1، هذا ورغم أننا لا نعرف كذلك كيف استطاع "شمر يهرعش" ضم حضرموت إلى سبأ؟ فإن هناك من يرى أن ذلك قد تم في القرن الرابع الميلادي، وقبل استيلاء الحبشة على العربية -للمرة الأولى-2 بزمن قصير، كما أن نقش "جام 656" قد أشار إلى حرب استعر أوارها بين حضرموت، و"شمر يهرعش" في "وادي السر""سررن" -على مبعدة سبعة كيلو مترات من وادي شبام- وأن شمر يهرعش قد لقب في هذا النص بلقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات"، وأن نص "جام 662" يشير إلى أن "شبوه" كانت تحت سيادة سبأ، وأن الملك السبئي قد عين عليها حاكمًا من أشراف سبأ، وأن نص "Cih 948" يشير إلى انتصار "شمر يهرعش" على "شرح إيل" ملك حضرموت، كما أن اسم "شمر يهرعش" جاء في النص شمر يرعش، كما يكتبه الأخباريون3.

ويختلف المؤرخون فيمن خلف "شمر يهرعش"، فذهب "فلبي" إلى أنه "يرم يهرحب" وأنه حكم حوالي عام 310م، وربما كان ابنًا له4، وأما "فون فيسمان" فالرأي عنده أنه ولده "ياسر يهنعم"، ولقبه بالثالث، تمييزًا له عن جده، وعن "ياسر يهنعم" الأول، الذي عاش قبله بفترة5، هذا ويذهب "ريكمانز" أن "ياسر يهنعم، ولقبه بالثالث، تمييزًا له عن جده، وعن "ياسر يهنعم" هذا لم يكن ابنًا لشمر يهرعش، وإنما كان أخوه، وأنهما قد حكما معا حكمًا مشتركا، ثم انفرد "شمر يهرعش" بالعرش، وعند وفاته عاد العرش مرة ثانية إلى أبيه، فأشرك معه ابنه الآخر "ثران أيفع"، ثم ابنه الثالث "ذرأ أمر أيمن"، ويعارض "فون فيسمان" هذا الاتجاه فهو أمر لم يسبق له مثيل "أولًا"، ولأن "ياسر يهنعم" يكون قد عاش فترة طويلة، "ثانيًا"6،

وعلى أي حال، فلقد رأى "فون فيسمان" أن "ياسر يهنعم" وابنه "ثاران أيفع"

1 Le Museon، 1964، 3-4، P.486-7

2 يرى "ريكمانز أن ذلك كان في الفترة ما بين عامي 335-370م.

"انظر: "J. Ryckmans، Op. Cit.، P.338

3 جواد علي 2/ 553-555، وكذا A. Jamme، Op. Cit.، P.96، 163، 372-3،

4 J. Philpy، Op. Cit.، P.143

5 Le Museon، 1964، 3-4، P.489

6 Le Museon، 1964، 3-4، P.489، 498

ص: 314

قد حكما في الفترة من "310-320م" ثم خلفهما "ثاون يركب""320-330م"، وأما "ألبرت جام" فقد ذهب إلى ما ذهب إليه "ريكمانز" من قبل، مع قليل من التغيير في الفترة التي تلت موت "شمر يهرعش"، وتقديم فترة اشتراك حكم "ذرأ أمر أيمن" مع أبيه، على فترة اشتراك أخيه "ثاران أيفع" مع أبيه كذلك، وأن الفترة الأولى كانت "305-320م" وأن الثانية كانت "320-325م"1.

ونقرأ في نقش "جام 665" عن حرب خاض غمارها أعراب من سبأ ومن كندة، فضلا عن أشراف من "أبعل" و"نشق" و"نشان"، بأمر من الملكين "ذرأ أمر أيمن" وأبيه "ياسر يهنعم"- اللذين جاء اسم كل منهما في النقش -في أرض حضرموت، وقد اشترك معهم 750 من راكبي الجمال، وسبعون من الفرسان، فضلا عن المشاة، وقد تمكن قائد الحملة "سعد تالب" من إحراز النصر في عدة مواقع -في أرك ودهر ورخيت وأعين خرص2- وربما تشير هذه الحروب إلى انفصال حضرموت وسهرت "سهرتن" عن سبأ، هذا وقد استعان الجيش، كذلك السيطرة على سواحل جنوب غرب الجزيرة العربية، كما أن رؤساء القبائل قد انتهزوا فرصة الاضطرابات هذه فأقاموا حكومات إقطاعية، مما يدل على أن هذا العهد، إنما كان من عهود الضعف في حكومة "سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات"3.

وهذا ويذهب "ألبرت جام" إلى أن "كرب إيل وتار يهنعم" قد خلف "ثاران أيفع" وحكم في الفترة "325-330م"، ثم جاء بعده "ثاران يركب ""330-335م"، ثم "ذمار علي يهبر الثاني "335-34/" ثم "ثاران يهنعم" الذي تلاه "ملكيكرب يهأمن"، ثم "أب كرب أسعد و"ذرأ أمر أيمن"4.

وأما "فون فيسمان" فقد وضع ذمار علي يهبر" بعد "ثاران يركب"، ثم عاد فوضع "ذمار علي يهبر" مع ابنه "ثاران يهنعم"، وحددها لهما فترة حكم مشترك

1 Le Museon، 1964، 3-4، P.498. وكذا A. Jamme، Op. Cit.، P.392

2 جواد علي 2/ 559-561 وكذا Le Mueosn، 1964، 3-4، P.490

وكذا A. Jamme، Op. Cit.، P.375. وكذا A. Sprenger، Op. Cit.، P.189

ثم قارن: نقش الكهالي رقم 32 رقم ص164-169 من كتاب "في تاريخ اليمن" لمظهر الإرياني.

3 Le Museon، 1964، 3-4، P.490

4 A. Jamme، Op. Cit.، P.393

ص: 315

"340-350م"، ثم "ثاران يهنعم" مع ابنه "ملكيكرب يهأمن"، ثم "ملكيكرب يهأمن"، مع ابنيه "أب كرب أسعد"و"ذرأ أمر أيمن"، ثم انفرد "أب كرب أسعد" مع ابنه "حسن يهأمن"، حوالي عام 400م1.

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن نصوص "جام 669، 670، 671"، هي آخر النصوص التي نقرأ فيها اسم الإله الموقاة، إله سبأ الكبير، وقد عثر عليها في معبده المعروف بـ "أوام" في مأرب، وترجع إلى أيام "ثاران يهنعم" وابنه "ملكيكرب يهأمن"2، وليس من شك في أن هذا إنما يشير إلى إعراض القوم منذ ذلك العهد -وبداية عصر الديانات السماوية، بل إن الملك "ملكيكرب يهأمن" قد تجاهل المقة ولم يتقرب إليه -كما كان يفعل أسلافه- وإنما بدأ يتقرب إلى الإله "ذي سموي""رب السماء"، مما يدل على أن عقيدة التوحيد إنما بدأت تأخذ طريقها إلى ملوك سبأ، منذ اختفاء الآلهة الوثنية، أمام رب السموات، الأمر الذي لم يحدث فجأة، وإنما كان عبارة عن تطور يتصل بالمعبود الذي كان يقدس إلى جانب "تالب"، واسمه "ذو سماوي"، وكذا "الله" سيد السموات والأرض، ثم بعد ذلك سرعان ما يظهر "الرحمن" في صورة لا تعدلها تلك الصورة التي نجدها في اليهود المتأخرة3.

وعلى أي حال، فهناك رواية تذهب إلى أن هذا التطور الخطير في الديانة، إنما حدث منذ أيام "ثاران يهنعم" اعتمادًا على رواية "Phiiostorgios" التي ذهب فيها إلى أن "ثيوفيلوس" قد نجح في تنصير الحميريين، وبناء كنائس في ظفار وعدن، وأن الإمبرطور البيزنطي "قسطنطين الثاني""350-361م" هو الذي أرسل الرسل إلى اليمن للدعوة إلى النصرانية، ومن ثم فإن "ثاران يهنعم" -طبقًا لهذه الرواية- هو الذي هجر دينه الوثني واعتنق النصرانية4، اعتمادًا على أن

1 Le Museon، 1964، 3-4، P.498

2 Ibid.، P.451

3 فريتز هومل: المرجع السابق ص108، جواد علي 2/ 567.

4 جواد علي 2/ 567-568.

وكذا Le Museon، 1964، 3-4، P.492 وكذا J. Ryckmans، Op. Cit.، P.22

ص: 316

الكتابة التي جاء فيها اسم الإله "ذي سموي"، والتي عثر عليها خارج "ظفار"، إنما ترجع إلى عهد قريب من عهد "ثاران يهنعم"، أي إلى حوالي عام 378، أو عام 384، وبعبارة أخرى إلى عهد ابنه "ملكيكرب يهأمن"، وقد جاء فيها اسم ولديه "أب كرب أسعد"و"ذرأ أمر أيمن" كشريكين له في العرش1.

وعلى أي حال، فهناك من يذهب إلى أن "ثيوفيلوس" لم يكتب له نجحا يستحق التقدير في مهمته في اليمن بسبب تدخل الفرس -أعداء الروم- في تلك الفترة في شئون اليمن، وتحريضهم اليمنيين على مقاومة نفوذ الرومان في بلادهم2.

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن "سد مأرب" قد أصابه تصدع أدى إلى سقوط أجزاء منه، وأن المكان "ثاران يهنعم" قد قام بإصلاحه، وإعادته إلى حالته الأولى3.

هذا ونشير كذلك إلى أن اسم "ملكيكرب يهأمن" قد جاء محرفًا في المصادر العربية، فهو عند "حمزة الأصفهاني""كلي كرب بن تبع" وقد حكم 35 عامًا4، وهو عند "ابن جرير""ملكي كرب تبع بن زيد بن عمرو بن تبع"5، وهو عند القلقشندي "كليكرب بن تبع الأقرن"، وقد حكم ثلاثًا وخمسين سنة أو ثلاثًا وستين سنة، بعد "شمر مرعش""شمر يهرعش" وأن اسمه "زيد بن شمر"، وقد عرف بالأقرن لشامة كانت في قرنه6، وهو عند ابن الأثير "ملكيكرب تبع زيد بن عمرو بن تبع"7، وهو عند المسعودي، "كليكرب بن تبع"8، وهو عند اليعقوبي "ملكيكرب بن تبع"9، وهو عند نشوان الحميري "ملكي كرب" وهو الرائد بن تبع الأقرن بن شمر يرعش10.

1 Le Museon، 1950، 3-4، P.270، 1964، 3-4، P.492

2 عبد المجيد عابدين: المرجع السابق ص39.

3 جواد علي 2/ 568.

وكذا Jamme 671. وكذا Le Museon، 1964، 3-4، P.491، 498

4 حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص85.

5 تاريخ الطبري 2/ 566-567.

6 صبح الأعشي 5/ 23.

7 ابن الأثير 1/ 276، الاشتقاق 2/ 532.

8 مروج الذهب 2/ 50.

9 تاريخ اليعقوبي 1/ 196.

10 ملوك حمير وأقيال اليمن ص117-118.

ص: 317

وأيًّا ما كان الأمر، فلقد جاء بعد "ملكيكرب يهأمن" هذا، ولده "أب كرب اسعد" وربما كان هو "أسعد كامل تبع" الذي يروي الإخباريون أنه أول من تهود من التبابعة، ثم نشر اليهودية بين اليمنيين في قصة طريفة، يذهبون فيها إلى أنه كان قد قدم المدينة المنورة غازيا بعد عودته من المشرق، ربما لأن القوم قد قتلوا ولده الذي كان قد خلفه فيهم وهو في طريقه إلى المشرق، وربما لأن رجلا من بني عدي ابن النجار عدا على رجل من أصحابه فقتله، وربما لأنه جاء لنصرة الأوس والخزرج من أبناء عمومته على اليهود، وهنا جاءه "حبران من يهود بني قريظة" ينهيانه عن تدمير المدينة، لأنها سوف تكون مهاجر نبي سوف يخرج من قريش -دعوه أحمدا مرة، ومحمدا مرة أخرى- وهكذا صرف الحبران تبعا عن تدمير المدينة، فضلا عن إيمانه بدينهما، وقوله شعرًا في النبي صلى الله عليه وسلم متمنيا فيه أن يعيش حتى يراه، فيكون له وزيرا وابن عم، فضلا عن القتال إلى جانبه، لأنه كان على علم بما سيلاقيه الرسول عليه الصلاة والسلام من قومه من أذى، ثم أودع هذا الشعر عند أهل يثرب ودفعه إلى كبيرهم، وأن القوم كانوا يتوارثونه كابرا عن كابر إلى عهد النبوة1.

ويتجه "أب كرب أسعد" صوب مكة في طريقه إلى اليمن، حتى إذا ما كان بين "عسفان" و"أمج" أتاه نفر من "هذيل" يغرونه بسلب البيت الحرام، ويستفتي "تبع" أحبار يهود فيصدقونه النصح قائلين:"ما نعلم بيتًا لله عز وجل اتخذه في الأرض لنفسه غيره"، ومن ثم فإنه إن سلبه كان هلاكه فيه، ويعلم الرجل أن الصدق ما نصحا به الحيران اليهوديان، فينتقم من هذيل، ثم يمضي إلى مكة فيطوف بالبيت وينحر الذبائح، ثم يقيم بمكة ستة أيام، يرى أثناءها -فيما يرى النائم- وكأنه يكسو البيت الحرام، وتتكرر الرؤيا ثلاث ليال، ويفعل "تبع" ما أمر به في منامه، ومن ثم يصبح أول من كسا البيت، ثم يعود إلى اليمن فتتكرر قصة تهوده

1 الأزرقي 1/ 132-134، ابن كثير: البداية والنهاية 2/ 163-164، تفسير ابن كثير 4/ 142، تاريخ الطبري 2/ 105-106، بلوغ الأرب 2/ 107، 240-241، ابن هشام 1/ 25-27، وفاء الوفا 1/ 121، ملوك حمير وأقيال اليمن ص122-123، أخبار عبيد بن شريه ص460، مروج الذهب 1/ 82، تاريخ ابن خلدون 2/ 53، تاريخ اليعقوبي 1/ 197-198، تفسير القرطبي 16/ 145.

ص: 318

مرة ثانية، وهنا يروي الأخباريون حديثا نسبوه -عن طريق أبي هريرة- إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يقول فيه:"لا تسبوا أسعد الحميري، فإنه أول من كسا الكعبة"1، ثم وصفوه بعد ذلك بأنه كان ملكًا عظيمًا، شاعرا فصيحًا، عارفا بالنجوم، وهو أحد المعمرين، عمر ثلاثمائة وإحدى وخمسين سنة، وكان ملكه ثلاثمائة وستة وعشرين سنة، وكان مؤمنا بالله2.

وليس من شك في أن رواء هذا القصص، وغيره من أساطير تمتلئ بها الكتب العربية، كعب الأحبار ووهب بن منبه، وغيرهما من مسلمة أهل الكتاب، وهنا لعل سائلا يتساءل: أكان "تبع" هذا يقول الشعر بلغة قريش، ونحن نعرف -من دراستنا للنصوص القديمة- أنها تختلف كثيرًا عن لغة حمير، حتى ذهب الأمر بعلماء العربية في الإسلام إلى إخراج الحميرية واللهجات العربية الأخرى من العربية، التي جعلوها مقصورة على العربية التي نزل بها القرآن الكريم، وحتى قال بعضهم: "ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا3.

ثم كيف عرف الحبران اليهوديان أن هناك نبيا سوف يبعث من قريش، ومبلغ علمي أن التوراة -وكذا التلمود- لم يرد فيهما نص صريح بذلك، صحيح أن هناك نصوصًا تشير إلى مبعث نبي من العرب، وأن الإرهاصات بمولد المصطفى صلى الله عليه وسلم كثيرة، وأن البشارات بمولد النبي الاعظم عليه الصلاة والسلام أكثر من أن تحصى، بل إن كان ما في بلاد العرب يكاد يشير بالتغيير المنتظر، على يد رسول الله وخاتم النبيين -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- ولكن صحيح كذلك أنها لم تشر إلى أنه من قريش بالذات، وأنه سوف يهاجر إلى المدينة كذلك

1 ابن كثير 2/ 164-167، تاريخ الطبري 2/ 107-111، تفسير الطبري 27/ 154، تفسير الخازن 4/ 115، 175، تفسير القرطبي 16/ 145، تاريخ اليعقوبي 1/ 198، ابن هشام 1/ 27-30، العقد الثمين 1/ 71، وفاء الوفا 1/ 134، تاريخ ابن خلدون 2/ 53-54، الأزرقي 1/ 249، تفسير الطبرسي 25/ 66، ملوك حمير وأقيال اليمن ص134-135، الفتح الكبير للنبهاني 3/ 324، ثم قارنك المعارف ص275-276، مروج الذهب 2/ 51، تفسير الطبري 25/ 128-129، تفسير البيضاوي 2/ 376-377، وصايا الملوك ليحيى الوشاء ص30.

2 ملوك حمير وأقيال اليمن ص122.

3 محمد بن سلام الحجمي: طبقات فحول الشعراء ص4 وما بعدها

وكذا Igance Goldziher، History Of Classical Arabic Literature، P.2

ص: 319

بالذات، وأما نص التوراة الذي تحدث عن البشارة بمبعث نبي من العرب، فهو "أقيم لهم نبيًّا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي، أنا أطالبه"1.

ثم أليس من المضحك المبكي، أن يكون اليهود أشد حرصًا على الحفاظ على الكعبة، وأكثر توقيرًا لها، من العرب أنفسهم، بل ألا يتأنى هؤلاء الرواة حين يجعلون من اليهود بالذات، هداة ملوك العرب إلى مكانة الكعبة المشرفة بالذات كذلك، وأن يصرحوا -كما يزعم هؤلاء الرواة- أن الله لم يتخذ له بيتًا في الأرض غيرها، فإذا كان ذلك كذلك، فلم لم يحج اليهود إليها، كما كان يفعل العرب؟ ثم ما هو موقف اليهود بالنسبة إلى هيكلهم المشهور بهيكل سليمان2، والذي يزعمون له ما يزعمون من قداسة، ما بعدها قداسة؟.

ثم من أين عرف "تبع" هذا، أن النبي صلى الله عليه وسلم سوف يسمى "أحمدا" كما جاء في الشعر المنسوب إليه؟ بل إنه يسميه كذلك "المصطفى"3، على أن رواية ثالثة تسميه "محمدا"4، ومبلغ علمي أن ذلك لم يرد في نص من النصوص العربية -التي سبقت عصر الرجل أو عاصرته- وإنما جاء ذلك في الإنجيل، كما قال سبحانه وتعالى في القرآن الكريم -على لسان المسيح عليه السلام:{يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} 5.

1 انظر: سفر التثنية 18: 15-19، سفر أشعياء 42: 1-13، إبراهيم خليل أحمد: محمد في التوراة والإنجيل والقرآن "مكتبة الوعي العربي، القاهرة 1964" محمد رضا: محمد رسول الله، بيروت 1975 ص45 وما بعدها، عماد الدين خليل: دراسة في السيرة، جامعة الموصل، بيروت 1974 ص319 وما بعدها.

2 انظر عن: هيكل سليمان: كتابنا إسرائيل ص464-371.

3 ملوك حمير وأقيال اليمن ص122، قارن: وصايا الملوك ليحيى الوشاه ص30.

4 السمهودي: وفاء الوفا 1/ 133.

5 سورة الصف: آية6، وانظر: تفسير الطبري 28/ 87، تفسير الطبرسي 28/ 60-62، تفسير الكشاف 4/ 98-99، تفسير البيضاوي 2/ 473-474، تفسير روح المعاني 28/ 85-87، تفسير ابن كثير 6/ 646-648، "دار الأندلس"، تفسير القرطبي 18/ 83-8، تفسير أبي السعود 5/ 161، تفسير الجلالين "نسخة على هامش البيضاوي 2/ 473-474، الدر المنثور في التفسير بالمأثور 6/ 213-214.

ص: 320

ثم كيف آمن "تبع" برسول الإسلام الأعظم صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه بنحو من سبعمائة عام- كما يروي الأخباريون1- ألمجرد أن الحبرين اليهوديين قد أخبراه أن يثرب سوف تكون مهاجرًا لنبي يخرج من قريش؟ لا أظن أن ذلك سببًا كافيًا لإيمانه بنبي كان حتى تلك اللحظة ما يزال في ضمير الغيب، أضف إلى ذلك أن الفترة بين عهد "أب كرب أسعد" وبين مبعث المصطفى، صلى الله عليه وسلم، ليست سبعة قرون بحال من الأحوال، فإذا كان الرجل قد مات في حوالي عام 415م- أو عام 420م، أو حتى عام 430م- كما سوف نرى، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم، قد انتقل إلى الرفيق الأعلى في يونية 632م2، فإن الفرق بين وفاتهما لا تصل إلى أكثر من قرنين من الزمان.

ومن ثم فأكبر الظن، أن هناك -بجانب الإسرائيليات في هذه الروايات -هدفًا من ورائها، يقصد منه رفع شأن القحطانيين إبان النزاع السياسي بينهم وبين العدنانيين، ومن ثم فإن هذه الروايات جد حريصة على أن تقدم لنا "تبعًا" وقومه في صورة أفضل من صورة العدنايين بصفة عامة، والقرشيين بصفة خاصة، فهم -أي القحطانيين- كانوا "أولًا" أول من قال الشعر في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم، فعل ذلك سبأ، كما أشرنا من قبل، ويفعله الآن "تبان أب كرب أسعد" وهم "ثانيًا" كانوا على علم باسم المصطفى -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- وبعثته، بينما لم يكن العدنانيون يعرفون ذلك حتى ظهور الإسلام، وهم "ثالثًا" قوم مؤمنون، كسوا البيت وعمروه أكثر من مرة، قد قدروا مكانته قبل ظهور الإسلام بقرون، حتى إن كان اليهود هداتهم إلى ذلك.

1 تفسير ابن كثير 4/ 144.

2 أرجح الآراء فيما نظن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ولد في 9 ربيع الأول" 20 أبريل 571/" وانتقل إلى الرفيق الأعلى في 12 أو 13 ربيع الأول عام 11هـ "7 أو 8 يونية 632م" "انظر: محمود باشا الفلكي: التقويم العربي قبل الإسلام ص38، محمد عبد الله دراز: مدخل إلى القرآن الكريم ص22، 31، 32، عبد المنعم ماجد: المرجع السابق ص95-96، تاريخ الطبري 2/ 154-155، ابن الأثير 1/ 457-358، ابن كثير البداية والنهاية 2/ 261-262

وكذا Caussin De Perceval، Essi Sur L'histoire Des Arabes، I، P.286f

وكذا P. Lammens، Age De Mohammad، P.209f

وكذا R. Blachere، La Probleme De Mohamet، P.15

ص: 321

وأخيرًا فإن هذا الإلحاح على أن التبابعة قوم مؤمنون بالله وبرسالة محمد، صلى الله عليه وسلم، ثم الإلحاح على عدم جواز سبهم، إنما قد يدل على أن هناك من كان يسب التبابعة ويلعنهم، وربما كان هذا السب وذلك اللعن، لم يكن موجها بالذات إلى التبابعة، وإنما كان موجها إلى اليمنيين بخاصة، والقحطانيين بعامة، ومن هنا كان هذا الإلحاح على عدم السب، بل ربما قد وضعت -فيما يرى الدكتور جواد علي- هذه الأحاديث على لسان النبي عليه الصلاة والسلام للرد على هذه الحملة العدنانية ضد القحطانيين1، أضف إلى ذلك أن هذا الإلحاج ربما كان الهدف منه كذلك، إلقاء ظلال من شك على رواية تاريخية تذهب إلى أن "حسان بن عبد كلال" قد أقبل بجيش من اليمن يزيد نقل حجارة الكعبة الشريفية من مكة إلى اليمن، غير أن حملته هذه انتهت بالفشل2 -كما سوف نشير فيما بعد- فضلا عن حملة أبرهة على مكة، والتي شاركت فيها بعض البطون اليمنية.

وأيًّا ما كان الأمر، فإن المصادر العربية إنما تذهب إلى أن "أب كرب أسعد" قد خرج من اليمن حتى وصل إلى جبلي طيئ فسار يريد الأنبار، فلما انتهى إلى موضع الحيرة تحير وكان الوقت ليلا فأقام مكانه، فسمي ذلك المكان بالحيرة، وخلف به قومًا من الأزد ولخم وجذام وعاملة وقضاعة، فبنوا وأقاموا به، ثم انتقل إليهم بعد ذلك ناس من طيئ وكلب والسكون وبلحرث بن كعب وإياد، ثم توجه إلى الموصل، ثم إلى أذربيجان، فلقي الترك فهزمهم، ثم عاد إلى اليمن، فهابته الملوك وأهدوا إليه، ومنها هدايا من الهند التي علم أنها من الصين، ومن ثم فقد غزاها3.

وليس من شك في أن "أبا كرب أسعد" قد كتب له نجحا كبيرًا في توسيع ملكه، وأنه قد بلغ البحر الأحمر والمحيط الهندي، والأقسام الجنوبية من نجد، وربما كان قد استولى على جزء كبير من الحجاز، ومن ثم فإن في روايات الأخباريين عن فتوحاته أساسًا من الصحة4، إلا أن عنصر المبالغة فيها إنما قد أفسدها إلى حد كبير، وإن كانت تدل في الوقت نفسه على قوة شخصيته، التي مكنته من إتمام هذه الفتوح، ومن السيطرة على الأعراب، وبالتالي فقد أضاف إلى لقبه "ملك سبأ وذي

1 جواد علي 2/ 515-516.

2 الإكليل 2/ 357-359، تاريخ الطبري 2/ 2626-263، جواد علي 2/ 585،

3 ابن الأثير 1/ 276-277، تاريخ الطبري 1/ 556-567، البكري 2/ 479.

4 جواد علي 2/ 575.

ص: 322

ريدان وحضرموت ويمنات" جملة "وأعرابها في الجبال والتهائم"، وهكذا ترك الرجل أثرًا عميقًا في الأجيال القادمة، فأضافت إلى فتوحاته، ما شاء لها الخيال أن تضيف.

وقد اختلف العلماء في فترة حكم "أب كرب أسعد"، فذهب فريق إلى أنها إنما كانت في الفترة "400-415 أو 420م"1، وذهب آخرون إلى أنها في الفترة "385-420م"2، على أن هناك فريقًا ثالثًا ذهب إلى إنها في الفترة "378-415م"3، ويتجه الدكتور جواد علي إلى أنها استمرت حتى عام "430"م4، ولعل السبب في ذلك أن نص "ريكمانز 534"، والذي جاء فيه ذكر "أب كرب أسعد" وستة من أولاده، إنما يرجع إلى عام 428م أو عام 434م5، وهذا يعني أن حكم "أب كرب أسعد" قد جاوز عام 428م، وربما عام 430م، فإذا ما تذكرنا أن الرجل قد ذكر مع والده في نص يرجع إلى عام 378، أو عام 384، فإن حكمه يكون عندئذ قد جاوز نصف القرن من الزمان، ولو افترضنا أنه كان شابًا في العشرين من عمره، فإن الرجل يكون قد عاش حوالي السبعين عامًا، وربما أكثر من ذلك بقليل6.

هذا وقد أشرنا من قبل إلى أن "أبا كرب أسعد" قد أضاف إلى لقبه "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات" جملة "وأعرابها في الجبال والتهائم"، فكان بذلك أول من حمل هذا اللقب7، ولعل السبب في ذلك إنما هو ظهور قوة الأعراب وأهميتهم، وبخاصة أعراب الهضاب وجنوب نجد وقبائل تهامة، ومن ثم فقد أصبح لهم تأثير في الشئون، الداخلية، ربما قد يصل إلى إحداث تغيير في التنظيم السياسي

1 J.B. Philby، Op. Cit.، P.116، 143. وكذا D. Nielsen، Op. Cit.، P.104

2 فريتز هومل: المرجع السابق ص108.

3 J.B. Philby، Note On The Last Kings Of Saba، In Le Museon، 1950، Lxiii، 3-4، P.269

4 جواد علي 2/ 571.

5 جواد علي 2/ 574. وكذا F. Altheim And R. Stiehl، Op. Cit.، Iv، P.273

وكذا Le Museon، 1964، 3-4، P.492، 1955، P.308

6 Le Museon، 1964، 3-4، P.492

وكذا F. Altheim And R. Stiehl، Op. Cit.، P.273

7 Le Museon، 1964، 3-4، P.492

ص: 323

نفسه، وهكذا أضاف "أب كرب أسعد" اسمهم إلى لقبه، دلالة على سيطرته عليهم وعلى خضوعهم له، وهو في هذا إنما يتبع سنة أسلافه في تغيير ألقابهم، كلما أخضعوا أرضًا جديدة، مضيفين إلى لقبهم ما يدل على الوضع الجديد1، ومن ثم فإن اللقب الجديد إنما يدل على أن حكم "أب كرب أسعد" قد امتد إلى التهائم -بأعرابها وقراها- وإلى قبائل "معد" التي تمتد منازلها من نجران إلى مكة ونجد2.

وقد عثر "جون فلبي" في وادي مأسل الجمح -على الطريق بين مكة والرياض- على كتابة دونت بمناسبة إقامة حصن في هذا المكان، عرفت بـ "فلبي 227"3، وقد استطاع العلماء أن يستخلصوا منها نتائج عدة، منها "أولًا" أن هذا المكان من جملة الأرضين، التي تخضع للملك "أب كرب أسعد"، ومن ثم فإن نفوذه قد تجاوز اليمن حتى بلغ تلك المنطقة من "نجد"، والتي كانت تعد من منازل "معد"4. معقلا لقوات سبئية تحمي هذا الطريق، الذي يربط اليمن بنجد وبشرق الجزيرة العربية، من هجوم القبائل التي كانت تغير على قوافل التجارة5، ومنها "ثالثًا" أن الهمداني كان قد ذكر أن "ماسل الجمح" إنما كان من مواضع "نمير"، وهو اسم قريب من اسم قبيلة "Nomeritae" التي ذكرها بليني، ومن ثم فقد ذهب البعض إلى أن "مأسل الجمح" إنما كانت من مواضع "نمير" على أيام "بليني" "32-79م" وبعده6، ومنها "رابعًا" أن النص إنما يذكر أن اسم والد "أب كرب أسعد" إنما هو "حسان ملكيكرب يهأمن"، وليس "ملكيكرب يهأمن"، ومن ثم فقد تساءل البعض: هل نحن أمام ملك واحد، أم أمام ملكين مختلفين7؟

1 انظر: مثال لذلك من تاريخ مصر الفرعونية من عهد "منوحتب الأول" من الأسرة الحادية عشرة، حيث غير الملك لقبه ثلاث مرات "راجع كتابنا "حركات التحرير في مصر القديمة"- دار المعارف، الإسكندرية 1976 ص96-98".

2 جواد علي 2/ 571-572، وكذا Die Araber، Ii، P.321، Iv، P.274

3 Le Museon، 1951، 1-2، P.99، 1953، 3-4، P.303

وكذا J.B. Philby Motor Tracks

And Sabaean Inscriptions In Najd، Gj، Cxvi، 1950، P.211-215

4 جواد علي 2/ 573، وكذا Le Museon، 1964، 3-4، P.492

5 J.B. Philby، In Gj، 1950، Cxvi، 4-6، P.214

6 H. Von Wissmann And M. Hofner، Op. Cit.، P.120

7 جواد علي 2/ 573-574.

ص: 324

بقيت نقطة أخيرة تتصل بذلك الطريق البري، الذي يربط المناطق المرتفعة الزراعية بالمناطق الشمالية، حيث يصل إلى شمال الطائف، ويتصل بطريق الحجاز، ويعرف بـ "درب أسعد كامل" -نسبة إلى الملك أب كرب أسعد- والطريق دون شك، يعد تحولا خطيرا في الطرق البرية القديمة، التي كانت منتشرة في حافة الصحراء الشرقية المتصلة بالجوف، إذ يشير إلى تحول هذا الطريق من الأراضي السهلة إلى الهضاب التي يعيش عليها المزارعون، الذين يعيشون على الزراعة التي تعتمد على المطر، وقد شمل هذا التحول فيما شمله طريق البخور واللبان القديم1.

ويروي الأخباريون أن الذي خلف "أب كرب سعد"، إنما هو "ربيعة بن نصر اللخمي"، وأنه قد رأى رؤيا هالته فسار بأهله إلى العراق وأقام بالحيرة وحكم فيها، ومن عقبه كان "النعمان بن المنذر" ملك الحيرة2، ثم عاد الملك إلى "حسان بن تبان بن كرب"، وهو -فيما يرى البعض- أخو زرقاء اليمامة التي صلبت على باب مدينة "جو"، والتي سميت فيما بعد "اليمامة" نسبة إليها3، الأمر الذي ناقشناه من قبل.

على أن "جون فلبي" قد جعل العرش بعد وفاة "أب كرب أسعد" لشقيقه "ورو أمر أيمن""415-425م"، ثم إلى ابن أخيه "شرحبيل يعفر" والذي حكم في الفترة "425-455م" على رأي "فلبي"4 وفي الفترة "420-455م" على رأي هومل5. وإن كان "فلبي" عاد مرة أخرى فحدد له الفترة التي حددها "هومل"6- ولعل من الغريب أن يتجاهل "فلبي" "حسان يهأمن" ابن "أب كرب أسعد"- رغم أنه ذكر في نص "فلبي 227" ونعت بأنه "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات وأعرابها في الجبال وفي التهائم"7.

1 جواد علي 2/ 576-577، وكذا LE MUSEON، 1964، 3-4، P.423، 493

2 ابن الأثير 1/ 418-420، صبح الأعشي 5/ 23.

3 ابن كثير 2/ 167، أخبار الزمان ص124-126، ياقوت 5/ 442-447، البكري 2/ 407، المعارف ص274-275، مروج الذهب 2/ 111-119، تاريخ ابن خلدون 2/ 24-25، المقدسي 3/ 178، ملوك حمير وأقيال اليمن ص142-143.

4 J.B. PHILBY، OP. CIT.، P.143

5 جواد علي 2/ 577، وكذا HANDBUCH، P.104

6 LE MUSEON، 1961، 1-2، P.174. وكذا J.B. PHILBY، ARABIAN HIGHLANDS، P.460

7 جواد علي 2/ 578.

ص: 325

ويروي الأخباريون أن "حسان" قد سار بأهل اليمن يريد أن يطأ أرض العرب والعجم، فلما كان بالعراق كرهب قبائل اليمن المسير معه، فكلموا أخاه عمرا في قتله وتمليكه من بعده، وهكذا قتل عمرو أخاه، غير أنه بمجرد عودته إلى اليمن قد أصيب بمرض نفسي جعله يفقد القدرة على التحكم في الأمور، مما أدى به في نهاية الأمر إلى أن يقتل كل من أشار عليه بقتل أخيه، ثم لم يلبث أن هلك1، ويزعم الإخباريون أن الحميريين قد تفرقوا بعد هلاك عمرو، فاغتصب العرش رجل من غير الأمراء، دعوه "لختيعة تنوف ذو شناتر" فقتل خيار القوم، وعبث بأعراض الناس، حتى قتله "ذو نواس"- في رواية مزرية سجلها الإخباريون في كتبهم -ثم جلس على العرش من بعده2.

وعلى أي حال، فإذا ما عدنا مرة أخرى إلى عهد "شرحبيل" يعفر"، لوجدنا أنفسنا أمان نص خطير "جلازر 554"، يتحدث عن تصدع سد مأرب، وما قام به الملك إزاء هذا الحادث الخطير، حيث نقر في النص أن "شرحبيل يعفر" قد قام بتجديد بناء السد وترميمه على مقربة من "رحب" وعند "عبرن"، فضلا عن إصلاح أجزاء منه حتى موضع "طمحن" "طمحان"، وحفر مسايل المياه وبناء القواعد والجدران بالحجارة وتقوية فروعه، وبناء أقسام جديدة بين "عيلان" و"مفكول" و"مفلل" وتجديد سد "يسرن"، ويذكر النص أن هذه الأعمال قد تمت في عام 564/ 565 من التقويم الحميري، الموافق عام 449/ 450 من التقويم الميلادي3.

1 ابن كثير 2/ 167، ابن الأثير 1/ 420-421، تاريخ الطبري 2/ 115-117، أبو الفداء 1/ 68، الميداني 1/ 73-74، الاشتقاق 2/ 533، المقدسي 3/ 178، ملوك حمير وأقيال اليمن ص142-145.

2 ابن كثير 2/ 167-168، تاريخ الطبري 2/ 117-119، المعارف ص227، ابن الأثير 1/ 424-445.

3 جواد علي 2/ 579-581، وانظر الفصل التاسع من كتابنا "دراسات في التاريخ القرآني" -الجزء الأول- وكذا E. GLASER، MVG، II، 1897، P.372-379

وكذا A. SPRENGER، OP. CIT. P.13

وكذا J.B. PHILBY، THE BACKGROUND OF ISLAM، 1947، P.118

وكذا LE MUSEON، 1964، 3-4، P.493-494

ص: 326

هذا ويتحدث النص كذلك عن انتشار عقيدة جديدة، فهو يشير إلى ظهور "رب السماء والأرض"، حيث نقرأ فيه "بنصر وردا إلهن بعل سمين وأرضن" أي "بنصر وبعون الإله رب السموات والأرض"، وهي عقيدة ظهرت عند أهل اليمن بعد الميلاد بتأثير اليهودية والنصرانية ولا شك1.

وينتقل العرش بعد "شرحبيل يعفر" إلى "عبد كلال" والذي حكم في الفترة "445-460م" علي رأي "فلبي" و"هومل"2، وإن كان "فلبي" قد رأى أن الرجل كان كاهنًا وشيخًا لقبيلة، نجح -بمساعدة الأحباش- في اغتصاب العرش لمدة خمس سنين3، هذا وقد ذكره الأخباريون بين ملوك حمير، وأنه كان يدين بالنصرانية سرًّا، وبالمصطفى -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- قبل مبعثه- شأنه في ذلك شأن سبأ، وأب كرب أسعد- وإن من ولده "الحارث بن عبد كلال"، وهو أحد الذين وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم فأفرشهم رداءه4، غير أنهم يرونه قد تولى العرش بعد وفاة "عمرو بن تبان أسعد"، فملك أربعًا وتسعين سنة -وهو تبع الأصغر- ثم خلفه أخوه "مرثد"، وقد ملك سبعة وثلاثين عامًا5، وقد أدى تشابه الاسمين "عبد كلال الذي جاء في نص جلازر7، وعبد كلال عند الأخباريين" إلى أن يرى بعض العلماء أن الاسمين لرجل واحد، وأنه كان ملكًا6.

ويروي الهمداني أن "حسان بن عبد كلال" أقبل من اليمن، "في حمير وقبائل من اليمن عظيمة، يريد أن ينقل أحجار الكعبة من مكة إلى اليمن، ليجعل حج البيت عنده، وإلى بلاده"، فأقبل حتى نزل "نخلة"، فخرج إليه القرشيون بقيادة فهر بن مالك، حيث دارت بينهم معركة ضارية، انتهت بانتصار قريش، وأسر "حسان بن عبد كلال"7، فإذا كان ذلك كذلك، فإن حملة أبرهة على مكة كانت لها سابقة يمنية من قبل، ثم إذا ما تذكرنا أن هناك من يرى -كما أشرنا

1 جواد علي 2/ 82، وكذا D.S. MARGOLIOUTH، OP. CIT.، P.68

2 J.B. PHILBY، OP. CIT.، P.143

3 J.B. PHILBY، ARABIAN، HIGHLANDS، P.260

4 منتخبات ص93، ملوك حمير وأقيال اليمن ص170، الإكليل 2/ 130.

5 وهب بن منبه: المرجع السابق ص299، صبح الأعشي 5/ 23.

6 جواد علي 2/ 584.

7 الإكليل 2/ 357-359، تاريخ الطبري 2/ 262-263

ص: 327

آنفًا- أن "عبد كلال" إنما اغتصب عرشه بعون من أكسوم، فهل هذا يعني أن الحبشة النصرانية كانت وراء تلك الحملة؟ لست أدري، فتلك أخبار لا يوثق بها كثيرًا، ثم إن الهمداني يرفض القصة من أساسها، وإن كان هناك من يتهمه بأنه يمني متعصب، لا يؤيد حربًا تنتصر فيها قريش على اليمن، ثم يضع تبعة نقل حجارة الكعبة من مكة إلى اليمن على عاتق "هذيل بن مدركه" أحد سادات مكة1، وإن لم يبين لنا لماذا فعل" ذلك؟ وما الفائدة التي تعود عليه من فعله هذا؟

وعلى أي حال، فلقد جاء بعد ذلك "شرحب إيل يكف""460-470م" فولداه "معد يكرب يهنعم" و"لحيعث ينوف""470-495م" على رأي هومل2، و"نوف""470-480م"، ثم "لحيعث ينوف""480-500م" علي رأي فلبي3، وربما كان الأخير هو "لختيعة تنوف ذو شناتر" عند الأخباريين، والذين رأوا أنه حكم سبعا وعشرين سنة4، ثم جاء "مرثد ألن ينوف""495-515م" ثم "ذو نواس""515-525م"، وهو "زرعة ذو نواس بن تبان أسعد أب كرب" والذي سمي "يوسف" بعد تهوده، وإن ذهب البعض إلى أنه من غير الأسرة المالكة5، وأن السبب في تسميته "ذي نواس" أن كانت له ذؤابتان تنوسان على عاتقه6، وعلى أي حال، فهو الملك الذي احتل الأحباش اليمن في عهده، وبقوا فيها قرابة نصف قرن من الزمان، وإن كانت هذه ليست هي المرة الأولى التي يغزو الأحباش فيها اليمن، فذلك أمر له سوابق خلت من قبل7- كما رأينا آنفًا-.

1 الإكليل 2/ 359، جواد علي 2/ 585.

2 جواد علي 2/ 587، وكذا HANDBUCH، P.105

3 J.B. PHILBY، THE BACKGROUND OF ISLAM، P.143

وكذا LE MUSEON، 1961، 1-2، P.174

4 تاريخ الطبري 2/ 117، صبح الأعشي 5/ 24، تاريخ اليعقوبي 1/ 199.

5 ابن الأثير 1/ 425، المعارف ص311، مروج الذهب 2/ 52، وهب بن منبه: المرجع السابق ص300.

6 تاريخ اليعقوبي 1/ 199، المعارف ص277، تفسير القرطبي 19/ 293.

7 A. GROHMANN، ARABIAN، 1963، P.29. وكذا P.K. HITTI، OP. CIT.، P.61

ص: 328