المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ مكة: نشأتها وتطورها - دراسات في تاريخ العرب القديم

[محمد بيومى مهران]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأول: مصادر التاريخ العربي القديم

- ‌أولًا: المصادر الأثرية

- ‌ثانيًا: المصادر غير العربية

- ‌أولًا: الكتابات اليهودية

- ‌ التوراة:

- ‌ كتابات المؤرخ اليهودي يوسف بن متى:

- ‌ثانيًا: كتابات الرحالة اليونان والرومان

- ‌ثالثًا: الكتابات المسيحية

- ‌ثالثًا: المصادر العربية

- ‌ القرآن الكريم:

- ‌ الحديث:

- ‌ التفسير:

- ‌ كتب السير والمغازي:

- ‌ الأدب الجاهلي:

- ‌ كتب اللغة:

- ‌ كتب التاريخ والجغرافية:

- ‌الفصل الثاني: تاريخ البحث العلمى في العصر الحديث في تاريخ العرب القديم

- ‌مدخل

- ‌أولًا: في جنوب شبه الجزيرة العربية

- ‌ثانيًا: في شمال شبه الجزيرة العربية

- ‌ثالثا: في شرق شبه الجزيرة العربية

- ‌مدخل

- ‌ البحرين:

- ‌ قطر:

- ‌ دولة الإمارات العربية:

- ‌ دولة الكويت:

- ‌الفصل الثالث: جغرافية شبه الجزيرة العربية

- ‌ موقع بلاد العرب:

- ‌التقسيم اليوناني والروماني لبلاد العرب

- ‌العربية الصحراوية

- ‌ العربية الصخرية:

- ‌ العربية السعيدة:

- ‌التقسيم العربى

- ‌مدخل

- ‌ اليمن:

- ‌ تهامة:

- ‌ الحجاز:

- ‌ نجد:

- ‌ العروض:

- ‌مظاهر السطح

- ‌مدخل

- ‌ الحرار:

- ‌ الدهناء:

- ‌ النفوذ

- ‌التضاريس:

- ‌ الجبال:

- ‌ الأنهار والأودية:

- ‌المناخ:

- ‌الموارد الطبيعية:

- ‌ المعادن:

- ‌ النبات:

- ‌ الحيوان:

- ‌طرق القوافل:

- ‌الفصل الرابع: لفظة العرب مدلولها وتطورها التاريخي

- ‌الفصل الخامس: العرب البائدة

- ‌مدخل

- ‌طبقات العرب:

- ‌العرب البائدة

- ‌مدخل

- ‌ عاد:

- ‌ ثمود:

- ‌ طسم وجديس:

- ‌ أميم:

- ‌ عبيل:

- ‌ جرهم:

- ‌ العمالقة:

- ‌ حضوراء:

- ‌ المديانيون:

- ‌الفصل السادس: بلاد العرب فيما قبل العصر التاريخي

- ‌الفصل السابع: دولة معين

- ‌ معين والمعينيون:

- ‌ عصر دولة معين:

- ‌ ملوك معين:

- ‌ أهم المدن المعينية:

- ‌موقع حضر موت:

- ‌الفصل التاسع: دولة قتبان

- ‌الفصل العاشر: دولة‌‌ سبأ

- ‌ سبأ

- ‌السبئيون والآراء التي دارت حول موطنهم الأصلي:

- ‌أدوار التاريخ السبئي الأربعة الرئيسية

- ‌مدخل

- ‌أولًا: عصر المكاربة

- ‌ثانيًا: عصر ملوك سبأ

- ‌ثالثًا: ملوك سبأ وذو ريدان

- ‌دويلات أوسان وسمعاي وأربع وجبان ومهأمر:

- ‌الفصل الحادى عشر: عصر الدولة الحميرية

- ‌مدخل

- ‌الاحتلال الحبشي لليمن:

- ‌اليمن في العهد الحبشي:

- ‌حركة التحرير والسيطرة الفارسية:

- ‌الفصل الثاني عشر: مكة المكرمة

- ‌ مكة: نشأتها وتطورها

- ‌ مكة في عصر قصي:

- ‌ مكانة مكة:

- ‌الفصل الثالث عشر: المدينة المنورة

- ‌مدخل

- ‌سكان المدينة

- ‌مدخل

- ‌ اليهود:

- ‌ العرب:

- ‌ غلبة الأوس والخزرج على يهود يثرب

- ‌من مدن الحجاز

- ‌الطائف

- ‌ تيماء:

- ‌ دومة الجندل:

- ‌ الحجر "مدائن صالح

- ‌الفصل الرابع عشر: الأنباط

- ‌مدخل

- ‌ملوك الأنباط:

- ‌البتراء:

- ‌الفصل الخامس عشر: اللحيانيون

- ‌الفصل السادس عشر: التدمريون

- ‌ مدينة تدمر وتطورها التاريخي:

- ‌ أذينة:

- ‌ الزباء:

- ‌الفصل السابع عشر: الغساسنة

- ‌مدخل

- ‌ملوك الغساسنة:

- ‌الفصل الثامن عشر: المناذرة

- ‌ مدينة الحيرة:

- ‌ ملوك الحيرة:

- ‌الفصل التاسع عشر: مملكة كندة

- ‌ كندة قبل عهد الملكية:

- ‌ ملوك كندة:

- ‌المراجع المختارة

- ‌المراجع العربية

- ‌ المراجع المترجمة إلى اللغة العربية

- ‌ المراجع الأجنبية

- ‌اختصارات

- ‌فهرس الموضوعات

- ‌للمؤلف

الفصل: ‌ مكة: نشأتها وتطورها

‌الفصل الثاني عشر: مكة المكرمة

.

1-

‌ مكة: نشأتها وتطورها

.

ليس من شك في أن مكة المكرمة أهم مواضع الحضر في الحجاز على الإطلاق، وأنها ربما ترجع في نشأتها الأولى إلى عهد الخليل وولده إسماعيل، عليهما السلام، وأن سكانها من الإسماعيليين، إلى جانب قبائل عربية، لم يذكر لنا المؤرخون عنها معلومات دقيقة، كالعماليق وجرهم وخزاعة1، وأن الإسماعيليين -أو العدنايين كما يسميهم المؤرخون المسلمون- كانوا يتكلمون اللغة العربية التي لم تصلنا بها نقوش مكتوبة، ربما بسبب عدم وجود خط متميز لهم قبل الإسلام -كخط المسند في الجنوب- وربما لأن طبيعة السكان في الحجاز لم تكن تميل إلى الكتابة2، وإن وجدت كتابات لغير الإسماعيليين في الحجاز.

ويختلف المؤرخون في اشتقاق كلمة "مكة"، فذهب فريق إلى أنها إنما سميت كذلك، لأنها تمك الجبارين، أي تذهب نخوتهم، وذهب فريق ثان إلى أنها إنما تقع بين جبلين مرتفعين عليها، وهي في هبطة بمنزلة المكوك، وذهب فريق ثالث إلى أن الكلمة مشتقة من "أمتك" من قولهم: أمتك الفصيل ضرع أمه، إذا مصه مصا شديدا، ولما كانت مكة مكانا مقدسا للعبادة فقد أمتكت الناس، أي جذبتهم من

1 الأغاني 19/ 94، المعارف ص313.

2 النويري 2/ 278، كشف الظنون 1/ 25-26، أصل الخط العربي ص7، عبد المنعم ماجد: التاريخ السياسي للدولة العربية 1/ 77، وكذا E. Gibbon، Op. Cit.، 5، P.220

ص: 349

جميع الأطراف1، إلى غير ذلك من التفسيرات المألوفة عند الأخباريين في تفسير الأسماء القديمة التي لا علم لهم بها.

غير أن اسم مكة لما كان سابقا لتفسيرات الأخباريين هذه، ولما كان الجنوبيون قد سكنوا مكة مع الإسماعيليين، فإن هناك من يرجح أن الاسم إنما أخذ من لغة الجنوب، مستندا إلى البيت الحرام، فمكة أو "مكرب" -في رأي هذا الفريق من العلماء- كلمة يمنية مكونة من "مك" و "رب"، ومك بمعنى بيت، فتكون "مكرب" بمعنى "بيت الرب" أو "بيت الإله"، ومن هذه الكلمة أخذت مكة -أو بكة بقلب الميم باء على عادة أهل الجنوب- ويرى "بروكلمان" أنها مأخوذة من كلمة "مقرب" العربية الجنوبية، ومعناها "الهيكل"2.

ويطلق القرآن الكريم على مكة عدة أسماء، منها "بكة" لقوله تعالى:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدىً لِلْعَالَمِين} 3، وهنا يحاول الأخباريون أن يفرقوا بين مكة، وبكة، فالأولى هي القرية كلها، والثانية إنما المراد بها موضع البيت الحرام، أو أن "بكة" هي موضع البيت، ومكة ما سوى ذلك4.

ومنها "أم القرى" لقوله تعالى: {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} 5، ولعل هذه التسمية إنما تشير إلى أن مكة هي أعظم مدن الحجاز؛ ولأنها تضم بيت الله، أول

1 ياقوت 1/ 181-182، ابن هشام 1/ 125-126، عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص4391.

2 أحمد إبراهيم الشريف: المرجع السابق ص97-98، كارل بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية 1/ 33، وكذا Gerald De Gaury، Rulers Of Mecca، London 1951، P.24.

3 سورة آل عمران: آية 96 "وانظر: تفسير الطبري 7/ 19-37 "دار المعارف"، تفسير مجمع البيان للطبرسي 4/ 144-150، تفسير المنار 4/ 1-14، تيسير تفسير ابن كثير 1/ 291-295 "بيروت 1972"، تفسير ابن كثير 2/ 73-74، تفسير النسفي 1/ 170-171، في ظلال القرآن 4/ 431-436 "دار الشروق، بيروت 1974" تفسير القرطبي 4/ 137-139، الكشاف 1/ 446-447، الدرر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي 2/ 52-55.

4 الأزرقي 1/ 188، ياقوت 5/ 182، 1/ 475، نهاية الأرب 1/ 227-228، نزهة الجليس 1/ 27، صبح الأعشي 4/ 248، تاريخ الكعبة المعظمة ص33، تاج العروس 7/ 179، تفسير الطبري 7/ 23-26، تفسير المنار 4/ 7، تفسير الكشاف 1/ 446، تفسير البيضاوي 1/ 172.

5 سورة الأنعام: آية 92، وانظر: تفسير القرطبي 7/ 38، تفسير الطبري 11/ 530-532 "دار المعارف" تفسير روح المعاني 7/ 1136، 1147-1148، تفسير ابن كثير 3/ 54-56، تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير 2/ 33-34، وانظر: تفسير سورة الشورى: آية7.

ص: 350

بيت وضع للناس، فيه هدى وفيه البركة، وفيه الخير الكثير، جعله الله مثابة أمن للناس1، وللأحياء جميعًا، ومنه خرجت الدعوة العامة لأهل الأرض، ولم تكن هناك دعوة عامة من قبل، وإليه يحج المؤمنون بهذه الدعوة من كل الأجناس2، وصدق الله العظيم حيث يقول:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيق} 3.

ومن أسماء مكة كذلك "البلد" لقوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} 4، ومنها:"البلد الأمين"5 لقوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، وَطُورِ سِينِينَ، وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِين ِ} 6.

وأما أقدم ذكر للبلد الحرام في النصوص القديمة، فإنما يرجع إلى القرن الثاني الميلادي، إذ يحدثنا الجغرافي اليوناني بطليموس "138-165م" عن مدينة دعاها

1 هناك رواية تنسب إلى الإمام علي -كرم الله وجهه- أن رجلا سأله عن البيت الحرام: أهو أول بيت، فقال: لا، قد كان قبله بيوت، ولكنه أول بيت وضع للناس مباركًا، وأول من بناه إبراهيم الخليل "انظر: تفسير الكشاف للزمخشري 1/ 446، تفسير الطبري 3/ 69، 7/ 19، قارن 7م 20، 22، البداية والنهاية 2/ 299".

2 في ظلال القرآن 7/ 1148، 25/ 3142.

3 سورة الحج: آية 27.

4 سورة البلد: آية 102، وانظر تفسير الطبري 30/ 193-195، تفسير البيضاوي 2/ 557، تفسير الفخر الرازي 31/ 180-181، تفسير القرطبي 20/ 59-61، تفسير روح المعاني 30/ 133-134.

5 راجع أسماء أخرى في: ياقوت 1/ 457، 5/ 181-182، العقد الثمين 1/ 35-36، ابن هشام 1/ 125-126، تاريخ الخميس ص125، تاريخ مكة ص38، النويري 1/ 313-314، بلوغ الأرب 1/ 228، القاموس 1/ 235، 239، 3/ 97، 329، كتاب الإعلام بأعلام بيت الله الحرام ص18 "طبعة ليبزج 1857م"، صبحي الأعشي 4/ 248، تفسير البيضاوي 3/ 559، تفسير القرطبي 20/ 59-60، تفسير الفخر الرازي 31/ 180، تفسير الطبري 7/ 19-26 "دار المعارف"، 30/ 193-194 "طبعة الحلبي".

6 سورة التين: آية 1-3، وانظر: تفسير روح الماني 30/ 173-175، تفسير الطبري 30/ 238-246، تفسير البيضاوي 2/ 556، تفسير القرطبي 20/ 110-113، تفسير الفخر الرازي 32/ 8-10، مجمع البيان في تفسير القرآن للطبرسي 30/ 177-181" بيروت 1961"، الكشاف 4/ 268، تيسير العلي القدير 4/ 405-406، تفسير ابن كثير 7/ 323-324 "دار الأندلس" الدرر المنثور في التفسير بالمأثور 6/ 365-366، في ظلال القرآن 6/ 3932 "بيروت 1974" تفسير النسفي 4/ 366-367، تفسير أبي السعود "إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم" 5/ 271-272.

ص: 351

"ماكورابا""مكربة""Macoraba"، رأى العلماء أنها مكة المكرمة1، هذا ويذهب "أوجست ميلر" وغيره، إلى أن المعبد الذي ذكره "ديودور الصقلي"- "من القرن الأول الميلادي" في أرض قبيلة عربية دعاها "Bizomeni"، إنما يعني به "بيت مكة"، أمر غير مقبول، فهو يقع بعيدًا عن مكة في "حسمي" في مكان دعاه "ألويس موسل" باسم "عوافة"، حيث بنت قبيلة ثمود، فيما بين عام 166، وبداية عام 169م معبدا هناك2، وربما كان هذا المعبد هو الذي أشار إليه "ديودور" على أنه المعبد الذي يقدسه العرب3.

على أن تاريخ المدينة إنما يعود إلى ما قبل عصر بطليموس بكثير، فهناك من يرى أنها سابقة لكتابة أسفار العهد القديم "التوراة"4، فإنما هي "ميشا" المشار إليها في سفر التكوين5، وهي "ميشا" التي يقول الرحالة "برتون" أنها كانت بيتًا مقصودا لعبادة أناس من الهند، ويقول الرحالة الشرقيون أنها كانت كذلك بيتًا مقصودا للصابئين، الذين أقاموا في جنوب العراق قبل الميلاد بأكثر من عشرة قرون6.

على أنه من الغريب أن بعض المؤرخين العرب إنما يذهب إلى أن تأسيس المدينة المقدسة، إنما كان في منتصف القرن الخامس الميلادي7، ومن ثم فإنه يتأخر بتاريخها حوالي ثلاثة وعشرين قرنًا، لسبب لا أدريه، وإن كان يخيل إلي أنه اعتبر تاريخ مكة لا يبدأ إلا بقصي بن كلاب، الذي حدد له القرن الخامس

1 كارل بروكلمان: المرجع السابق 1/ 33

وكذا Ptolemy، Vi، 7، 32. وكذا Gerald De Gaury، Op. Cit.، P.24

2 انظر عن معبد العوافة:

J.B. Philby، The Land Of Midian، Meg، 9، 1955، P.127f

وكذا Van Den Branden، Histoire De Thamoud، P.15،

وكذا Bior، 15، 1958، P.8-9

3 جواد علي 4/ 9-10

وكذا C.H. Oldfather، Diodorus Siculus، Bibliotheca، Book، Iii، Xxxi،

وكذا Gerald De Gaury، Op. Cit.، P.12

4 انظر: عن تاريخ كتابة أسفار التوراة "كتابنا إسرائيل" ص24-45.

5 التوراة: سفر التكوين 10: 30.

6 عباس العقاد: مطلع النور ص113.

7 حسن إبراهيم: تاريخ الإسلام السياسي، 1/ 45، صبح الأعشي 4/ 250.

ص: 352

الميلادي1، وطبقًا لرواية الأخباريين التي ذهبت إلى أن مكة لم يكن بها بناء غير الكعبة إلى أن تولى أمرها "قصي بن كلاب"، ذلك لأن جرهم وخزاعة- فيما يزعمون- لم يكونوا براغبين في إقامة بيوت بجوار بيت الله الحرام2، وكأنما يريد هؤلاء الإخباريون أن يقولوا لنا أن مكة ظلت على بداوتها، منذ أن أقام بها إسماعيل، عليه السلام، في القرن التاسع عشر ق. م، وحتى أصبح أمرها بيد "قصي بن كلاب" في القرن الخامس الميلادي، وتلك مبالغة -فيما أظن- غير مقبولة.

هذا وقد ذهبت آراء أخرى إلى أن تأريخ مكة، إنما يرجع إلى القرن الأول ق. م، اعتمادًا على رواية "ديودور الصقلي" -الآنفة الذكر- ورغم أن ديودور لم يذكر تاريخ واسم المعبد، إلا أن أصحاب هذا الاتجاه إنما رأوا أن وصف ديودور للمعبد بأنه كان محجة للعرب جميعًا، لا ينطبق إلا على الكعبة المشرفة3، ولكن "ديودور" لم يحدد لنا بدء سكنى المدينة المقدسة، فضلا عن تحديد تاريخ بناء المعبد نفسه، ومن ثم فربما اعتمد المؤرخون في تحديدهم للقرن الأول ق. م، كبداية لسكني مكة، على أنه العصر الذي عاش بعده ديودور الصقلي.

ويذهب "دوزي" إلى أن تاريخ مكة إنما يرجع إلى أيام داود عليه السلام، حيث أقام بني شمعون بن يعقوب -والذين يسميهم الأخباريون جرهم- الكعبة4، في القرن العاشر ق. م5، وتلك أكذوبة كبرى لأسباب، منها "أولًا" أن قبيلة شمعون الإسرائيلية لم تهاجر أبدًا إلى مكة، وإنما كل ما جاء عنها -وطبقًا لرواية التوراة نفسها6- أنها هاجرت على أيام حزقيا ملك يهوذا "715-687ق. م" إلى الجنوب الغربي من واحة معان، ثم تابعت سيرها حتى نهاية الجنوب الغربي لجبل سعير، حيث قضوا على بقايا ضعيفة، أو جيوب صغيرة للعماليق هناك7، ومنها

1 حسن إبراهيم: المرجع السابق ص46.

2 تاريخ اليعقوبي 1/ 197.

3 جواد علي 4/ 12، وكذا R. Dozy، Die Israeliten Zu Mekka، P.13

وكذا E. Gibbon، Op. Cit.، P.50

وكذا Caussin De Perceval، Op. Cit.، I، P.174

4 R. Dozy، Op. Cit.، P.15

5 انظر عن تاريخ داود، كتابنا إسرائيل ص417-417.

6 أخبار أيام ثان 4: 41-43.

7 ألويس موسل: شمال الحجاز ص509، وكذا D.S. Margoliouth، Op. Cit.، P.51

ص: 353

"ثانيًا" أن قبيلة شمعون هذه كانت أضعف القبائل الإسرائيلية حتى عشية موت سليمان، عليه السلام، في عام 922ق. م، وانقسام الدولة بعد ذلك مباشرة، إلى يهوذا وإسرائيل، ويكاد يجمع المؤرخون اليهود أنفسهم على أن قبيلة شمعون إنما كانت دائمًا وأبدا تعيش على هامش القبائل الإسرائيلية، وأنها أبدًا لم تحتل المكانة التي تجعلها تقوم بدور مستقل في العصر التاريخي الإسرائيل1، فضلا عن أن تقوم بهجوم ساحق على بلاد العرب وتستولي على مكة.

ومنها "ثالثًا" أن التوراة نفسها تكاد تتجاهل سبط شمعون، دون غيره من أسباط إسرائيل، ربما لضآلة شأنه، حتى إنها لا تكاد تتعرض لذكر هذا السبط، إلا عند دخول بني إسرائيل أرض كنعان2، وإلا بعد طلب يهوذا3، ثم مرة أخرى، عند رحيله من جنوب يهوذا إلى واحة معان، في أخريات القرن الثامن وأوائل القرن السابع ق. م، كما أشرنا من قبل، مما دفع بعض الباحثين إلى أن يذهبوا بعيدًا، فيرون أن سبط شمعون لم يكن له وجود في عالم الحقيقة4.

ومنها "رابعًا" أن هذا الرأي إنما يؤمن بغير حدود بما ذهب إليه بعض المستشرقين من أن الخليل عليه السلام، لم يذهب إلى الحجاز، وبالتالي لم يقم مع ولده إسماعيل ببناء الكعبة، وهو زعم لا يعتمد إلا على التعصب ضد العرب، وعلى معارضة الحقائق التاريخية، فضلا عما جاء في القرآن الكريم بشأن هذه الأحداث الثابتة5، ومنها "خامسًا" أنه يتأخر بتاريخ مكة المكرمة، قرابة قرون تسعة.

وهناك رواية إخبارية يزعم أصحابها أن العماليق إنما كانو يعيشون في مكة والمدينة وبقية مدن الحجاز، وأنهم قد عاثوا في الأرض فسادا، ومن ثم فقد أرسل إليهم، موسى، عليه السلام، جيشا قضى عليهم، وسكن اليهود المنطقة بدلا عنهم6

1 M. Noth، The History Of Israel، P.23

2 يشوع 19: 1-9.

3 قضاة 1: 3.

4 C.F. Burney، Israel's Settlement In Canaan، P.37-58

وكذا إسرائيل ولفنسون: تاريخ اليهود في بلاد العرب ص3.

5 انظر كتابنا إسرائيل ص183-189، وكتابنا "دراسات في التاريخ القرآني"، الفصل السابع -من الجزء الأول-

6 جواد علي 4/ 13، الأعلاق النفيسة ص60 وما بعدها.

ص: 354

ولا ريب في أن هذا زعم مكذوب من أساسه -الأمر الذي سوف نناقشه بالتفصيل عند الحديث عن المدينة المنورة- وعلى أي حال، فإن موسى إنما كان يعيش في القرن الثالث عشر ق. م، وأنه خرج بالإسرائيليين من مصر حوالي عام 1214ق. م، كما حددنا ذلك في كتابنا إسرائيل1.

والرأي عندي أن تاريخ مكة إنما يرجع إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر قبل الميلاد، ذلك أننا نعرف -تاريخيًّا ودينيا- أن الخليل عليه السلام، قد أتى بولده إسماعيل وزوجه هاجر من فلسطين، وأسكنهما هناك في هذه البقعة المباركة2، طبقًا لصريح القرآن الكريم، حيث يقول {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ 3 تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} 4، وإذا ما تذكرنا أن الخليل عليه السلام، كان يعيش في الفترة "1940-1765ق. م"5، وأنه قد رزق بولده إسماعيل، وهو في السادسة والثمانين من عمره6، فإن إسماعيل يكون قد ولد حوالي عام 1854ق. م، ولما كان قد عاش 137 عامًا7، فإنه يكون قد انتقل إلى جوار ربه الكريم، حوالي عام 1717ق. م، ومن ثم فإنه قد عاش في الفترة "1854-1717ق. م" وإذا كان صحيحًا ما ذهب إليه بعض المؤرخين من أنه قد شارك أباه

1 انظر كتابنا: إسرائيل ص268-303.

2 تاريخ الطبري 1/ 251-259، ابن الأثير 1/ 102-105، ابن كثير 1/ 154-154، المقدسي 3/ 60، تاريخ ابن خلدون 2/ 36-37، شفاء الغرام 2/ 3، تاريخ الخميس ص106، تاريه اليعقوبي 1/ 25، تفسير روح المعاني 13/ 236-237، تفسر الطبري 13/ 230-233، تفسيرالفخر الرازي 19/ 136، الأزرقي 1/ 54-56.

3 تذهب كتب التفسير إلى أن الله سبحانه وتعالى لو قال: "أفئدة الناس" ولم يقل: {أَفْئِدَةً مِنَ النَّاس} ، لازدحم عليهم الفرس والروم والناس كلهم، ولحجت اليهود والنصارى والمجوس، ولكنه قال:{أَفْئِدَةً مِنَ النَّاس} فاختص به المسلمون "انظر: تفسير ابن كثير 4/ 142، تفسير البيضاوي 1/ 533، تفسير القرطبي 9/ 373، التفسير الكبير للفخر الرازي 19/ 137، تفسير النسفي 3/ 264، تفسير روح المعاني 13/ 238-239، تفسير الطبري 13/ 233-234.

4 سورة إبراهيم: آية 37، وانظر: تفسير روح المعاني 13/ 236-241، مجمع البيان للطبرسي 13/ 224-230 تفسير الطبري 13/ 229-235، تفسير ابن كثير 4/ 141-142، تفسير الكشاف 2/ 380.

5 انظر كتابنا: إسرائيل ص171-177.

6 تكوين 16/ 16

7 تكوين 25: 18.

ص: 355

في بناء الكعبة، وهو في الثلاثين من عمره1، تصديقا لقوله تعالى:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} 2، فإن بناء الكعبة حينئذ يكون حوالي عام 1824ق. م، وهذا يعني أن مكة قد عمرت منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر ق. م، وهو تاريخ يجعلها واحدة من أقدم مدن بلاد العرب الجنوبية والشمالية سواء بسواء.

وعلى أي حال، فلقد عاش إسماعيل بجوار بيت الله الحرام، وتزوج من امرأة مصرية على رواية التوراة3، ومن يمنية على رواية الأخباريين4، وقد أنجب من زوجته المصرية أو اليمنية، لست أدري على وجه التأكيد، أولاده الاثني عشر، وهم -طبقًا لرواية التوراة5- "بنايوت وقيدار وأدبئيل ومبسام ومشماع ودومه ومسا وحدار ويطور ونافيش وقدمه" وقد نقلهم الأخباريون في كتبهم بشيء قليل أو كثير من التحريف6.

وأيا ما كان الأمر، فإن إسماعيل قد ظل -بعد إبراهيم- يدعو الناس إلى عبادة الله في مكة ومجاوراتها، حتى إذا ما انتقل إلى جوار ربه الكريم، قام بنوه من بعده على السلطة الزمنية في مكة، وعلى خدمة البيت الحرام، غير أن "جرهم"- طبقا لرواية الإخباريين -سرعان ما تولت أمر البيت، وأبناء إسماعيل مع أخوالهم لا يرون أن ينازعوهم الأمر، لخوؤلتهم وقرابتهم، وإعظاما للحرمة أن يكون بها

1 مروج الذهب 2/ 22، وانظر مقالنا "قصة الطوفان بين الآثار والكتب المقدسة" مجلة كلية اللغة العربية، العد الخامس، ص383-457 "الرياض "1975".

2 سورة البقرة: آية 127، وانظر: تفسير الطبري 3/ 57-73، الكشاف 1/ 311، تفسير روح المعاني 1/ 383-384، تفسير البحر المحيط 1/ 387-289، تفسير النسفي 1/ 74، الدرر المنثور في التفسير بالمأثور 1/ 125-137 "طبعة طهران 1377هـ"، تفسير القرطبي 2/ 120-126، تفسير أبي السعود 1/ 124-125، في ظلال القرآن 1/ 109-113 "دار الشروق، بيروت 1973".

3 تكوين 21: 21.

4 ابن كثير 1/ 2-1-193، تاريخ الطبري 1/ 314، ابن كثير 1/ 4-1-105، 125، الأزرقي 1/ 86، مروج الذهب 2/ 20-21، تاريخ ابن خلدون 1/ 37، المعارف ص16.

5 تكوين 25: 14-16.

6 ابن الأثير 1/ 125، تاريخ الطبري 1/ 314، ابن كثير 1/ 193، مروج الذهب 1/ 21-22، تاريخ ابن خلدون 2/ 39، الأخبار الطوال ص9، تاريخ الخميس ص111، جمهرة أنساب العرب ص7، 9-15، شفاء الغرام 2/ 17-18.

ص: 356